القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
يقدم التسبيب ضمانة ثمينة جدا للمرتفقين إذ يسمح لهم بمعرفة الاعتبارات التي اتخذت على أساسها الإدارة القرار، كما أنه يضمن قبل كل شيء أن تقوم الإدارة بدراسة ملفاتهم، فهو يستبعد قيام الموظفين بمعالجة القضايا بطريقة عاجلة وسطحية، اللذين من أجل إنهاء واجباتهم وسرعة التخلص منها فإنهم لا يجدون أمامهم -حسب تعبير Céline WINER– سوى كلمة “لا” “Non” أو طلب مرفوض”demande rejetée”.
وإلزام الإدارة بتسبيب قرارتها كفيل بوضع حد لتصرفات رجل الإدارة التحكمية، إذ يصبح التسبيب شرطا شكليا لصحة القرار الإداري، وهو بذلك يكفل اطلاعا واقيا للفرد على أسباب اتخاذ القرار الذي يخاطبه، ويسهل عليه اتخاذ الموقف المناسب اتجاهه.
كما أنه يبين للمواطن مركزه القانوني الذي على أساسه صدر القرار برفض طلبه إذا كان موضوع القرار رفض طلب لافتقاده إلى شرط من الشروط القانونية لإجابة طلبه؛ وبالتالي تنبيهه إلى السعي من أجل تحصيل ذلك الشرط في الفرص المقبلة.
والتسبيب يحيط المواطن علما تاما بأسباب القرار الإداري مجانا ودون اللجوء إلى القضاء وما يتطلبه من تكاليف، ثم إنه يسهل عليه عملية الإثبات أمام القضاء في ظل إلقاء عبء الإثبات عليه وموازاة مع استئثار الإدارة بالأوراق وتمتع قراراتها بقرينة الصحة.
كما أن التسبيب يمثل من الناحية الإدارية مظهرا من مظاهر ثقافة التشاور وتبادل وجهات النظر بين الإدارة والأفراد، وهو ما اتجهت إليه فرنسا حديثا خصوصا في المجال الاقتصادي.
ورغم تقديم جانب هام من الفقه العديد من المبررات المؤيدة لمبدأ عدم وجوبية التسبيب؛ والتي يمكن إجمالها في أن:
– التسبيب يشكل زيادة في عبء العمل على عاتق السلطة الإدارية ويقتضي مجهودا ووقتا يؤدي إلى عرقلة النشاط الإداري.
– يؤدي التسبيب إلى كشف معلومات يجب الاحتفاظ بسريتها، إما لأنها تتعلق بأمن الدولة، أو مصالح الغير، أو صاحب الشأن نفسه.
– كما أن من شأنه المساهمة في بطء الإجراءات، وتوفير مناخ ملائم للمنازعات، وكبح حرية الموظفين واستقلالهم إذا خطر لأذهانهم أن آراءهم سوف يطلع عليها الآخرون.
– لا مبرر لتسبيب القرار الإداري ما دام هذا الأخير سينفذ ولو بالقوة، وإرادة الأفراد المستهدفة بالإقناع ليست لازمة لتكوين القرار الإداري ولا لتنفيذه.
– إذا لم يقتنع الأفراد بالقرار الإداري فإن لهم اللجوء إلى القاضي المختص الذي يكفل لهم رقابة الأسباب التي تسمو على الرقابة الشكلية للتسبيب، فعدم وجود التزام بالتسبيب لا يعني عدم وجود التزام أن يكون القرار قائما على أسباب.
ورغم الوجاهة الظاهرة لمبررات مبدأ عدم وجوبية التسبيب؛ إلا أنها لا تصمد أمام الأهمية العملية للتسبيب للإدارة فالتسبيب يدفع الإدارة للتروي قبل إصدار قراراتها تجنبا للوقوع في عدم المشروعية، فهو يذكر الإدارة باستمرار بضرورة احترام القانون؛ وبذلك لا يكون مجرد ضمانة شكلية بل هو ضمانة موضوعية أيضا لها تأثيرها على مضمون القرار الإداري.
ومن الناحية التربوية الإدارية فإن إلزام الإدارة بالتسبيب يساهم في تنمية حس الرقابة الذاتية لمتخذ القرار، فيحمله على التروي والتدبير والاستفادة من وجهات النظر المختلفة.
وفي التسبيب وقاية من الاستعمال التحكمي للسلطة التقديرية الممنوحة لرجال الإدارة للمصلحة العامة، كما يجعل العمل الإداري أكثر شفافية، مما يولد ثقة لدى الأفراد بمشروعية وصدقية نشاطاتها وهذا يؤدي حتما إلى قلة لجوء الأفراد لمقاضاتها التي تكلفها الكثير من الوقت والمال والجهد.
ومادام كل قرار يجب أن يقوم على سبب خاص به، قائم وموجود وقت صدور القرار، ومعنى التسبيب هو إلزام الإدارة بالتعبير عن هذه الأسباب، وبالتالي فإن هذا التعبير لا يعرقل العمل الإداري بأي حال من الأحوال، اللهم إلا إذا حاولت اختراع أسباب شكلية لا علاقة لها بالأسباب الحقيقة، وفي هذه الحالة فإنه من العدل أن تتحمل هي ذلك وليس الفرد.
كما أن التسبيب يقوم على الإقناع، ولذلك متى كان كافيا وواضحا فسوف يكون من شأنه صرف المعنيين عن اللجوء إلى القضاء، ويجعل من تنفيذ القرار الإداري أكثر سهولة، بل إن عدم التسبيب هو الذي يؤدي إلى الغموض والشك في مدى قيام أسباب صحيحة للقرار وبالتالي لجوء المعنيين للقضاء وعرقلة العمل الإداري واستنزاف المزيد من الوقت والجهد والمال من الإدارة.
وكما يقول Serge SUR فإن: “التسبيب يعطي الإدارة إحساسا دائما بالخضوع للقانون، فهي تستمد سلطاتها من نصوص قانونية، وليس من مبدأ السلطة التي تعتبر السرية التي تحيطه مظهرا مؤسفا، وهو يدفع بالإدارة إلى الكف عن اعتبار النصوص القانونية عوائق شكلية تعرقل نشاطها، بل تعتبرها أساسا لحقها في التصرف أو التزامها بالتصرف”.
وفوق كل ذلك فإن التسبيب لا يهدف فقط إلى حماية حقوق الأفراد، لكنه يتوخى حماية سابقة للمشروعية، إنه يذكر الإدارة باستمرار بضرورة التصرف وفقا للقانون، وهذا ما لا يمكن تحقيقه عن طريق رقابة القاضي على السبب.
وتعبر Céline WIENER عن هذا المعنى بقولها: “لكن التسبيب كذلك ضمانة من أجل الفحص الدقيق لظروف السبب… إن ضرورة الشرح القانوني والواقعي لدوافع القرار في كل الأحوال تضمن تصحيحه؛ وطبعا تفادي عدم الشرعية… وتحث بالنتيجة الإدارة على التصرف الأسباب وغايات شريفة… وفي الأخير فإن التسبيب ضمانة سابقة ضد القرارات غير المشروعة، وضمانة لاحقة لفعالية الطعون، وهو بذلك مفيد للأفراد؛ ولكنه يشكل من جهة أخرى أمرا مفيدا للإدارة الحسنة في الخلاصة هو مفيد للمصلحة العامة” .