أهمية الوقائع

الفرع الثاني: رقابة قاضي الإلغاء على أهمية الوقائع وخطورتها.

يبلغ دور القاضي منتهاه في إثبات عيب السبب عندما يراقب تقدير الإدارة لأهمية الوقائع في القرار الإداري، وهو الدور الذي عبر عنه Edouard SAUVIGNON بالحد من السلطة التقديرية عن طريق حرية البحث عن أهمية الأسباب، ويراقب القاضي ما إذا كانت الوقائع على جانب من الخطورة تكفي لتبرير الإجراء المتخذ بحقها أو في مواجهتها.

ولقد مارس مجلس الدولة الفرنسي هذه الرقابة على قرارات الضبط التي تمس الحريات العامة، وبصفة خاصة الإجراءات الصادرة عن سلطات الضبط المحلية، فإذا كان من حق العمد اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحفاظ على النظام والأمن فإن شرط مشروعية هذه الإجراءات أن تكون ضرورية لكفالة النظام العام، وذلك حرصا من قاضي الإلغاء على تضييق نطاق السلطة التقديرية للإدارة في هذا المجال المهم المتعلق بحريات وحقوق الإنسان، وهذا ما أدى إلى تفهم الفقهاء لهذه الرقابة.

ويعد حكم مجلس الدولة في قضية Benjamin الانطلاقة الحقيقية لهذه الرقابة، وتتلخص وقائعه في أن عمدة Nevers منع المحاضر Benjamin من إلقاء محاضرة عامة بسبب تخوفه من الاضطرابات التي قد تتسبب فيها هذه المحاضرة، ومع اعتراف مجلس الدولة بالمخاطر التي قد تنجم عنها وما يستتبع ذلك من مساس بالنظام العام، فإنه أكد على أن تلك المخاطر المحتملة لا تبلغ درجة من الخطورة بحيث يعجز معها العمدة -بما لديه من وسائل – من السيطرة عليها أو منع حدوثها إذا سمح بهذه المحاضرة.

وقد اضطرد قضاء مجلس الدولة الفرنسي بعد هذه القضية على وجوب التزام سلطات الضبط باحترام حرية الأفراد في عقد الاجتماعات والتوفيق بينها وبين ضرورة الحفاظ على النظام العام، وبالتالي عدم التعرض لهذه الحرية وغيرها من الحريات إلا في حالة وجود اضطرابات خطيرة تهدد النظام العام لا يمكن تفاديها إلا بمنع عقد مثل هذه الاجتماعات.

غير أنه وإن كان المجال الخصب الذي مارس فيه القضاء الإداري هذا الشكل من الرقابة هو دعاوى إلغاء قرارات الضبط الإداري، التي لم يقتصر فيها القاضي على رقابة الوجود المادي للوقائع وتكييفها، ولكنه بسط رقابته على مدى وجود تناسب بين الخطر الذي يهدد النظام العام وبين إجراء الضبط الذي اتخذته الإدارة، إلا أن مجلس الدولة الفرنسي مارس هذا النوع من الرقابة في مجالات أخرى، وهكذا قدر مجلس الدولة الفرنسي أن أفعال سكر قديمة، لا تحول دون الالتحاق بوظيفة تلميذ مراقب سجن Elève surveillant de prison وقضى في المقابل أنه بالإمكان رفض دخول مسابقة مفتش شرطة بالنسبة لمرشح شارك في مظاهرات عامة عدة مرات جرح فيها وتم استجوابه بمناسبتها.

كما بسط مجلس الدولة المصري أيضا رقابته على تقدير أهمية الوقائع، وفي هذا الصدد قضت محكمته الإدارية العليا بما يلي: ” القانون قد يفسح للإدارة قدرا من الحرية تستقل من خلاله بوزن مناسبات إصدار القرار وتقدير ملاءمة إصداره، غير أنه إذا كانت الإدارة حرة في تقدير مناسبة القرار الإداري وملاءمة أو عدم ملاءمة إصداره، فإن ثمة التزاما عليها أن تضع نفسها في أفضل الظروف وأنسب الحلول للقيام بهذا التقدير وأن تجریه بروح موضوعية بعيدا عن البواعث الشخصية وبشرط أن يكون لديها العناصر اللازمة لإجرائه، ومؤدى ذلك أن تقدير الملاءمة يجب أن يقوم على أسباب مقبولة تخضع فيها الجهة الإدارية لرقابة قاضي الإلغاء الذي لا يتعرض لتقدير الجهة الإدارة في ذاته وإنما للظروف التي أحاطت به”.