استنباط القرائن القضائية

دور قاضي الإلغاء في استنباط القرائن القضائية والأخذ بها:

للقاضي دور هام في استنباط القرائن القضائية، فقد سميت قضائية للدلالة على الدور الذي يلعبه القضاء فيها، ولكن لا يهم أن يقوم القاضي بنفسه بعملية الاستنباط، أو يقوم بها أحد الخصوم، وللقاضي سلطة تقديرية في قبول الاستنباط الذي توصل إليه الخصم من عدم قبوله، فإذا أقره القاضي نسب إليه ولم ينسب إلى الخصم.

والسؤال الذي يثور في هذا الشأن هو: هل يحظى القاضي بحرية مطلقة في اختيار الواقعة أساس الاستنباط وفي استخلاص واستنتاج حدوث الواقعة المرتبة للأثر القانوني، أم أن هناك قيودا ترد على حريته في ذلك. ثم هل أن القاضي ملزم بالأخذ باستنباطات الخصوم التي تبدو معقولة أم أن له مطلق الحرية في الأخذ بها أو ردها؟

1- سلطة قاضي الإلغاء في اختيار الواقعة أساس الاستنباط:

يحظى القاضي بحرية مطلقة في اختيار الواقعة التي يتخذها أساسا لاستنباطه، فيمكن أن يختارها من الوقائع التي كانت محلا للمناقشة بين الخصوم، أو في ملف الدعوى، أو حتى من تحقيقات باطلة.

كما يمكن للقاضي أن يستنبط القرينة من واقعة امتناع الخصم عن الحضور للجلسة المحددة للاستجواب، أو واقعة امتناع الإدارة عن تقديم المستندات المطلوبة منها، أو رفض الإجابة عن الأسئلة الموجهة أثناء الاستجواب، أو رفض تقديم التوضيحات المطلوبة، أو رفض الإدارة لإجراء التحقيقات الإدارية المطلوبة منها…

وكل ما على القاضي هو أن يتحقق ما إذا كانت واقعة معينة ثابتة في الدعوى، ولا يهم الطريق الذي ثبتت به هذه الواقعة؛ ما دام ثبوتها يقينيا على سبيل الجزم بحيث لا تحتمل الشك، فلا يتقيد بأن تكون هذه الواقعة مستمدة من أوراق الدعوى أو من أوراق أخرى خارجة عنها، كتحقيق أجري في دعوى أخرى أو أمام جهة إدارية، كما لا يتقيد بقيود الإثبات العادية في تقديره إن كانت تلك الواقعة ثابتة في الدعوى أم لا، فله أن يعتبرها ثابتة ما دام قد اقتنع بوجودها، وإن شهد بها شاهد أمام الخبير دون أن يؤدي اليمين؛ مادام القاضي مقتنعا بشهادته.

2- سلطة قاضي الإلغاء في عملية الاستنباط:

إن عملية الاستنباط عملية عقلية تعتمد على فهم القاضي لوقائع الدعوى، وتقدير صلتها بوقائع النزاع، ولهذا فإن نتيجة عملية الاستنباط تختلف من قاض إلى آخر، وذلك لتفاوت شخصيات القضاة، وتبعا لما يتمتع به كل قاض من ذوق وتقدير وفطنة وفراسة، ولهذا فقد ترك المشرع للقاضي الحرية الكاملة في الاستنتاج، ولم يقيده بأي شرط، فيحكم القاضي وفق ما اقتنع به وبما أملاه عليه ضميره، لا يخضع في عمله هذا لرقابة محكمة النقض، ما دام قد تقيد بقواعد العقل والمنطق في استنباطه واحترمها بحيث يكون انتقاله من المعلوم إلى المجهول انتقالا سليما، ومتى لم تكن عملية الاستخلاص متناقضة مع ما هو ثابت في الأوراق، وكانت مستساغة عقلا ومنطقا مع المبني عليه في غالب الأحوال.

وتستدعي عملية الاستنباط تقرير أن الواقعة الثابتة يرجح قيام الواقعة المسببة للأثر القانوني المتنازع فيه، وللقاضي الإداري أيضا سلطة تقديرية واسعة في ذلك، فقد يقيم من واقعة واحدة قرينة على قيام الواقعة محل النزاع، وقد يرفض أن يقيم من عدة وقائع قيام هذه الواقعة، دون رقابة المحكمة النقض عليه.

إن المادة 1353 من القانون المدني الفرنسي تنص على أن: “القرائن التي لم ينص عليها القانون تترك لنظر القاضي وتقديره، ولا يجوز أن يؤخذ إلا بقرائن قوية الدلالة، ودقيقة التحديد، ظاهرة التوافق…”.

وهكذا يبدو أن المشرع الفرنسي لم يجعل حقوق المتخاصمين لمطلق تقدير القاضي، ولكنه بعد أن أعطى للقاضي حرية في إعمال فكره وعقله في استنباط المجهول من المعلوم، قيده بأن يكون ذلك على قدر كبير من الدقة والتحديد وقوة الحجة.

وعلى هذا الأساس فإنه ولكي تصح استنباطات القاضي كقرائن يستند إليها في إصداره لحكمه، فإنه يتعين أن تتوافر في تلك القرينة المستخلصة قضائيا الوضوح وسلامة الاستخلاص، والاتصال الوثيق بالواقعة محل الإثبات.

وهذه الشروط وإن لم ينص عليها المشرع الجزائري إلا أنها مطلوبة على أساس أن مصطلح الاستنباط يأخذ معناه العلمي، ولا يكون كذلك إذا لم تتوافر فيه هذه الشروط؛ فيجب أن تكون القرينة واضحة لاعتبارها أحد وسائل الإثبات أمام القضاء الإداري والتي يمكن للقاضي الاستناد إليها في حكمه.

وقد تكون القرينة التي يعتمد عليها قاضي الإلغاء واحدة وواضحة بحيث يراها كافية وقوية بذاتها، ومن ثم يمكنه تأسيس حكمه استنادا إليها وحدها، وقد تتضافر عدة قرائن بحيث يشكل اجتماعها قوة في الإثبات الأمر الذي يجعل القاضي يعتمد عليها في حكمه.

كما يجب أن يكون الاستخلاص سليما سائغا ومعقولا ومنطقيا، بالنظر إلى الوقائع التي استنتجت منها القرينة. وأخيرا فإنه يلزم لصحة القرينة أن يكون هناك اتصال وثيق بين القرينة والواقعة محل الإثبات.