القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
لا يجوز للقاضي الاستناد في حكمه إلى مستند أو ورقة لم يعط أحد الأطراف فرصة الاطلاع عليها، وأول ما يترتب على هذا العنصر من عناصر المواجهة الحق في الاطلاع على المذكرات وهذا هو العنصر الأساسي والجوهري لمبدأ الوجاهية، كما يترتب عليه أيضا حق الأطراف في الاطلاع على صورة من مختلف أوراق الملف، حتى يتمكنوا من الإحاطة بصورة كافية بكل الوقائع والعناصر المنتجة في الدعوى.
وعلى هذا فإنه لا يمكن اعتبار الدعوى قد تهيأت للفصل فيها إلا إذا تم إخطار طرفيها بكافة المستندات الموجودة بالدعوى، حيث يجب أن يعلم المدعى عليه بكافة المستندات التي يقدمها المدعي كما يجب أن يعلم المدعي بكافة المستندات التي يقدمها المدعى عليه، حتى يتمكن كل واحد منهما من دحض مستندات خصمه أو التسليم بها، فإذا لم يتحقق ذلك فإن الحكم يكون قابلا للإبطال لبطلان الإجراءات لمخالفتها لحقوق الدفاع.
وتبلغ نسخ الوثائق والمستندات المرفقة بالعرائض والمذكرات بنفس الأشكال المقررة لتبليغ المذكرات، وعندما يحول عددها أو حجمها أو خصائصها دون استخراج نسخ عنها يبلغ جرد مفصل عنها للخصوم أو ممثليهم للاطلاع عليها بأمانة الضبط، أو أخذ نسخ عنها على نفقتهم (المادة 841)، كما يجوز لرئيس المحكمة الإدارية أن يرخص في حالة الضرورة الملحة بتسليم هذه الوثائق مؤقتا إلى الخصوم أو ممثليهم خلال أجل يحدده (المادة 842). وهذا ما عليه العمل أمام جهات القضاء الإداري الفرنسي حسب ما نصت عليه المادة R.6116-5 C.J.A..
ويضطلع قاضي الإلغاء بتنظيم كيفية ومواعيد الاطلاع بما يضمن تحقيق الهدف من المواجهة، ولا يلتزم باطلاع الأطراف الأعلى المستندات والوثائق التي قدمت قبل إنهاء التحضير؛ حيث يعتمد عليها في الحكم أما المستندات والوثائق التي قدمت بعد انتهاء التحضير والتي لا يعتمد عليها القاضي في الحكم ليست محلا لهذا الالتزام من القاضي وكذلك الوثائق الخالية من أي عنصر جديد أو لم تخل من الجديد لكن المحكمة لم تستند إليها في الحكم الصادر عنها؛ فإن عدم تبليغها للأطراف ليس فيه أي مساس بمبدأ الوجاهية.
وتجدر الإشارة إلى أن تقرير مفوض الحكومة في فرنسا يقدم قراءة في الجلسة ولا مجال للاطلاع عليه قبل الجلسة، وكذلك تقرير المستشار المقرر بما أنه يتضمن نتائج مناقشة وفحص الأدلة بكل حياد، فإن اطلاع الأطراف عليه ليس حقا ما لم ينص القانون على ذلك.
لقد برر ذلك الأستاذ Rene CHAPUS بأن تقرير المستشار المقرر ليس مجرد وثيقة عمل داخلية للجهة القضائية الإدارية، ولكنه التعبير عن كيفية حل النزاع من وجهة نظر محرره؛ الذي هو عضو في تشكيلة الحكم، وهذا يعني أن الاطلاع عليه يعد خرقا لمبدأ سرية المداولات، أما إفلات تقرير مفوض الحكومة من مبدأ المواجهة فقد برره مجلس الدولة الفرنسي بأن هذا التقرير لا يتعلق بالتحقيق الكتابي، كما أن محرره ليس طرفا من أطراف الدعوى، بل يشغل وظيفة تتسم بالاستقلالية والحياد.
لقد أقرت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان هذا الوضع، وذلك بمناسبة نظرها في قضية السيدةKRESS إذ اشتكت هذه الأخيرة من عدم تمكينها من الاطلاع قبل الجلسة على استنتاجات مفوض الحكومة، ومن عدم تمكينها من الرد عليها، كما أنها نازعت في أن مفوض الحكومة الذي كان قد استنتج رفض دعواها حضر في مداولة المحكمة، وهذا مناقض لمقتضيات المحاكمة العادلة وفقا لأحكام المادة 6 من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان.
لكن المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان استبعدت بالإجماع الحجة المستندة إلى عدم إطلاع السيدة KRESS بصورة مسبقة على استنتاجات مفوض الحكومة، ذلك لأن المحامون بإمكانهم أن يطلبوا من مفوض الحكومة اطلاعهم على توجه ملاحظاته، وثانيا لأن الأطراف يستطيعون الرد بمذكرة مكتوبة أثناء الجلسة على ملاحظات مفوض الحكومة، وأخيرا فإنه من واجب القاضي عندما يثير مفوض الحكومة أمرا لم يشر إليه الأطراف أن يمكن هؤلاء من مناقشته، بينما أيدت المحكمة الأنسة KRESS في حجتها الثانية.
وفي الجزائر يعرض محافظ الدولة تقريره المكتوب في الجلسة كما يقدم ملاحظاته الشفوية قبل غلق باب المرافعة حسب نصي المادتين 898 و 899، ويجوز للخصوم تقديم ملاحظاتهم الشفوية أثناء الجلسة، ولا تلتزم المحكمة بالرد عليها ما لم تؤكد بمذكرة جوابية. بينما يودع تقرير مفوض الحكومة في مصر ضمن ملف الدعوى، ويلتزم القاضي باطلاع الأطراف عليه وتمكينهم من الحصول على صورة منه.
وأخيرا فإنه تجدر الإشارة إلى أنه عندما تستبدل الإدارة أثناء الخصومة القرار المطعون فيه بقرار آخر، فالمبدأ أنها ملزمة بإعلام المدعي بهذا القرار الجديد تحت طائلة قبول ملاحظاته الإضافية ضد القرار الجديد في أي وقت.
إن أهمية الاطلاع بالغة في الإثبات والوصول إلى حقيقة ادعاءات الأطراف، فمن نتائجه أنه يمكن لأطراف الدعوى تقديم ما لديهم من مستندات وإبداء ما يعن لهم من ملاحظات كتابية أو شفهية يبدونها أمام المستشار المقرر أو المحكمة؛ لكن وحتى لا تؤدي طلبات الاطلاع غير المبررة إلى إعاقة الفصل في الدعوى فإن القاضي باعتباره موجها لإجراءاتها أن يقصر ذلك على المستندات والوثائق المنتجة فيها، أي تلك التي يكون القاضي اقتناعه على أساسها.
وعلى هذا يكون الحكم صحيحا رغم عدم إطلاع أحد الخصوم؛ إذا كان الهدف من عدم استخدامه الحق في الاطلاع ذريعة للمماطلة واطالة أمد الفصل في الدعوى من خلال إحجامه عنه رغم منحه فرصة لذلك، فلا يجوز للخصم أن يعرقل سير الدعوى لمصلحة يبتغيها لنفسه.
وفي هذا الصدد نص قانون الإجراءات المدنية والإدارية على أنه يجوز لرئيس تشكيلة الحكم أن يوجه إعذارا برسالة مضمنة مع الإشعار بالاستلام إلى الخصم الذي لم يحترم الأجل الممنوح له لتقديم مذكرة أو ملاحظات، ، كما يجوز منح أجل جديد وأخير في حالة القوة القاهرة أو الحادث الفجائي (المادة 849)، كما نصت المادة 851 على أن المدعى عليه إذا لم يقدم رغم إعذاره أية مذكرة يعتبر قابلا بالوقائع الواردة في العريضة (المادة 851).
وفي المقابل فإنه وإن كان المبدأ أن القاضي هو الذي يحدد الآجال والمواعيد التي يجب على الأطراف إيداع مذكراتهم ومختلف الردود والوثائق خلالها وآجال الاطلاع؛ تماشيا مع الالتزام المفروض على الجهات القضائية بالفصل في آجال معقولة الذي جاء النص عليه في المادة 03 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية، إلا أنه ومراعاة لمبدأ الوجاهية المنصوص عليه بنفس المادة يلتزم القاضي في مقابل ذلك أن تكون هذه الآجال كافية حتى يتسنى من خلالها احترام مبدأ الوجاهية. وفي هذا الصدد فإن مجلس الدولة الفرنسي اعتبر أن تحديد أجال غير كافية يعد إهمالا لهذا المبدأ.
ثالثا- تمكين الأطراف من تقديم ملاحظاتهم بشأن المستندات والوثائق المودعة:
يقتضي مبدأ الوجاهية أن يمكن الأطراف من مناقشة أي وثيقة يمكن أن يعتمد عليها القاضي في حكمه، وعلى هذا الأساس لا يمكن للقاضي أن يأخذ بعين الاعتبار الوثائق التي لم يطلع عليها الأطراف وكذلك التي لم يتمكنوا من مناقشتها.
ويتسم دور القاضي في هذا الشأن بالمرونة، وتقدم ملاحظات الأطراف وردودهم في الأصل كتابة تمشيا مع الصفة الكتابية للإجراءات الإدارية، ما عدا إيضاح بعض البيانات الذي يمكن أن يكون شفهيا، والقاضي هو المنوط به تحديد مواعيد إبداء تلك الملاحظات في ضوء كل حالة على حدة.
ومع ذلك فإن الملاحظات الشفوية التي يبديها الأطراف أثناء الجلسة لا تكون إلا تدعيما لطلبات كتابية، كما أنها لا تكون مستوجبة للرد ما لم تدعم بمذكرة إيجابية، مراعاة للصفة الكتابية لإجراءات التقاضي الإدارية، وهذا ما نصت عليه المادة 884 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري.
الفرع الثاني: مرونة مبدأ الوجاهية.
يمكن استثناءًا الخروج على مبدأ الوجاهية، استنادا إلى اعتبارات تهدف إلى صيانة بعض الأسرار من الاطلاع عليها حماية المصلحة عامة أو خاصة، كما يمكن ممارسته بمرونة مراعاة لاعتبارات تهدف إلى سرعة الفصل في الدعوى وتراعي الدور الإيجابي للقاضي الإداري في الدعوى.