سلطات قاضي الإلغاء في التحقق من صحة الوثائق

إن الوثائق المرفقة بملف الدعوى أو التي يطلبها القاضي أو أحد الطرفين تلعب دورا مهما في الإثبات، وحتى يمكن اعتمادها يجب أن يكون القاضي والأطراف مطمئنين إلى صحتها؛ ومتى ثار الشك بشأنها سواء من طرف القاضي أو الأطراف وجب التحقق من صحتها قبل الاستناد إليها.

ولا ينتظر القاضي ليمارس هذا الدور أن يطعن أحد الخصوم بالتزوير في الوثيقة المودعة إذا كانت رسمية، أو أن ينكرها أو ينكر الخط أو الختم أو بصمة الأصبع أو التوقيع إذا كانت عرفية، ولكنه ملزم قبل أن يعتمد عليها بالتأكد من أن مظهرها يبعث على الاطمئنان إليه كدليل إثبات.

أولا- سلطة قاضي الإلغاء في الرقابة على مظهر الوثائق:

إن أحد أهم الواجبات الملقاة على عاتق القاضي هو التأكد من أن مظهر الوثيقة المقدمة يبعث على الثقة والطمأنينة إليه كدليل إثبات في الدعوى، ولقد خول المشرع المصري في المادة 28 من قانون الإثبات القاضي أن يقدر ما يترتب على الكشط والمحو والتحشير؛ وغير ذلك من العيوب المادية فيه من إسقاط قيمته أو إنقاصها، كما أعطت للقاضي الحق في دعوة الموظف أو الشخص الذي حرر الوثيقة ليوضح له حقيقة الأمر.

كما خولته المادة 58 من نفس القانون الحق في الحكم برد وبطلان الوثيقة من تلقاء نفسه، ودون اشتراط ادعاء أحد الخصوم أمامه لتزويرها؛ إذا تأكد وظهر له بجلاء ووضوح وجود تزوير في المحرر بشرط أن:

  • أن لا يقر الخصم بصحة الوثيقة صراحة أو ضمنا.

  • أن يكون التزوير ظاهرا وجليا بالعين المجردة لا يحتاج إلى تحقيق

ويتحقق القاضي الإداري الفرنسي بنفسه مباشرة من مدى أصلية القرار الإداري، وكذا من مدى صحة التوقيع ودقة التاريخ، ويمارس ذلك وفقا لما خولته له المادة 1-624.R من قانون القضاء الإداري.

أما المشرع الجزائري فقد أكتفي بالإشارة إلى حجية صور الوثائق الرسمية في المادة 326 التي نصت: “يكون الصور الرسمية الأصلية تنفيذية كانت أو غير تنفيذية حجية الأصل متى كان مظهرها الخارجي لا يسمح بالشك في مطابقتها للأصل”.

إننا نفهم بمفهوم المخالفة أنه إذا كان المظهر الخارجي للصورة الرسمية الأصلية يبعث على الشك فإن القاضي لا يمكنه الاعتماد عليها كدليل إثبات له حجية الأصل، وأن عليه طبقا لواجب الفصل في القضية على دراية كاملة أن يبحث مدى صحتها حتى وإن لم يطعن فيها الخصم، أو استبعادها كوسيلة إثبات.

ثانيا – سلطة قاضي الإلغاء إزاء الطعن بالتزوير:

لقد تبنى المشرع الجزائري في قانون الإجراءات المدنية والإدارية سياسة تبسيط الإجراءات وتقليص تكاليف الدعوى، ومراعاة لهذه السياسة أوكل للقاضي الإداري على غرار القاضي المدني النظر في الطعن بالتزوير، بمناسبة نظره في نزاع من اختصاصه.

وأحالت المادة 871 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية إلى أحكام الطعن بالتزوير الواردة ضمن الكتاب الأول المتعلق بالإجراءات أمام جميع الجهات القضائية بقولها: ” تطبيق الأحكام المتعلقة بالتزوير المنصوص عليها في المواد من 175 إلى 188 من هذا القانون أمام المحاكم الإدارية”، وهكذا نصت المادة 180 من نفس القانون على أنه: ” يثار الادعاء الفرعي بالتزوير بمذكرة تودع أمام القاضي الذي ينظر في الدعوى الأصلية”.

ورغم خلو نصوص قانون مجلس الدولة المصري من الإشارة إلى مسألة الطعن بالتزوير إلا أن أحكام المحكمة الإدارية العليا قد جرت منذ أول عهدها على اختصاصها بنظر الطعن بالتزوير فيما يقدم أمامها من مستندات وأوراق مع إتباع القواعد الخاصة بقانون الإجراءات المدنية بشأنه.

أما المشرع الفرنسي فقد أوكل إلى القاضي العادي نظر الطعن بالتزوير في الوثائق المقدمة كأسانيد للإثبات أمام قاضي الإلغاء، ويكون بذلك قد سلك مسلكا مخالفا إذ ألزم القاضي الإداري الذي تودع أمامه أوراق يطعن فيها أحد الخصوم في التزوير بأن يخير الطرف الذي قدم الوثيقة محل الطعن بين سحبها أو تسجيل الطعن بالتزوير ضدها قبل اعتمادها دليلا للإثبات، فإذا اختار سحتها استبعدها القاضي من أدلة الإثبات، أما إذا تمسك بها وجب على القاضي الإداري التوقف عن الفصل في الدعوى لحين حكم المحكمة المختصة في مدى ثبوت التزوير.

لكن يثور التساؤل عن الطعن بالتزوير في القرارات الإدارية التي لها حجية الوثيقة الرسمية هل تخضع لنفس الأحكام أم لا؟

لقد عرف القضاء الإداري الفرنسي بشأنها تطورا كبيرا؛ فبعد أن كان يطبق بشأنها نفس النصوص المطبقة على المستندات الرسمية؛ لاعتبارها مستندات حائزة على حجية لحين الطعن فيها بالتزوير، وبالتالي يتوقف القاضي الإداري عن الفصل في الدعوى لحين صدور حكم القاضي الجزائي بصدد دعوى التزوير الفرعية، تغير الأمر بعد ذلك تدريجيا ابتداء من حكم Jammes ثم حكم Ferrandi واستقر قضاء مجلس الدولة الفرنسي أخيرا على أن القرارات الإدارية ليست محلا للطعن فيها بالتزوير، وأنه هو المختص بالنظر في مدى صحة ما ورد بها في قضية Paloque وحكمه أيضا في قضية Mondat، وكذلك الأمر بالنسبة للأحكام القضائية الإدارية، كما في حكم Athias.

وهكذا فإن قضاء مجلس الدولة الفرنسي استقر على أنه فيما عدا الحالات الاستثنائية التي ينص فيها القانون صراحة على أن القرار الإداري يحوز حجية لحين الطعن فيه بالتزوير، فإن القاضي الإداري هو الذي يتحقق بنفسه من صحة الطعن الموجه للقرار الإداري. لقد أثار الفقه بعض التحفظ من هذا التوجه لمجلس الدولة الفرنسي، بسبب مساسه بمبدأ الاستقلالية بين القضاء الإداري والقضاء العادي.

غير أن التخوف من سهولة إنكار البيانات الواردة في هذه القرارات غير مبرر، فهي ذات طبيعة إدارية محاطة بضمانات وشكليات عديدة، كافية للثقة في صحتها وعدم التساهل في فحص مدى صحة الطعن في صحتها، فعلى القاضي اشتراط أدلة قوية وقاطعة للطعن فيها، وبذل جهد دقيق في التحقق من مدى صحة بياناتها.

وفي رأينا أن مسلك المشرع الجزائري والقضاء الإداري المصري كان موفّقا من حيث تبسيطه لإجراءات التقاضي وتقليصه لوقت الفصل في الدعوى وتكاليفه، ومبررا استنادا إلى أن الادعاء بالتزوير لا يعدو أن يكون وسيلة دفاع في نفس موضوع الدعوى، فالتحقيق فيه هو إجراء من إجراءات الخصومة الأصلية، شأنه في ذلك شأن أي منازعة عارضة، كالمنازعة في واقعة من وقائع الدعوى يحتاج إثباتها إلى تحقيق يتوقف عليه الحكم.

لقد ميزت الأحكام المحال إليها من طرف المادة 871 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية بين الحالة التي يكون فيها محل الطعن بالتزوير ورقة عرفية والحالة التي يكون فيها محل التزوير ورقة رسمية، ففي حالة الطعن بالتزوير في ورقة عرفية فإن القاضي حسب نص المادة 175 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية يتبع بشأنه إجراءات مضاهاة الخطوط المنصوص عليها في المادة 165 وما يليها من نفس القانون.

أما إذا كان محل الطعن بالتزوير ورقة رسمية فإن المادة 180 من نفس القانون نصت على وجوب أن يكون هذا الطعن بموجب مذكرة مستقلة، تتضمن بدقة الأوجه التي يستند إليها المدعي، تحت طائلة عدم قبول الادعاء.

ولقد خلت المادة 181 من نفس القانون سلطات واسعة للقاضي إزاء هذا الطعن، إذ يجوز له أن يصرف النظر عنه، متى رأى أن الفصل في الدعوى لا يتوقف على الوثيقة المطعون فيها، أما إذا كان الفصل في الدعوى يتوقف عليها فإنه يدعو الخصم الذي قدمها إلى التصريح عما إذا كان يتمسك بها، فإذا أجاب بعدم التمسك بالوثيقة المطعون فيها استبعدت من أدلة الإثبات، وإذا تمسك بها دعاه القاضي إلى إيداع أصلها أو نسخة مطابقة عنها بأمانة الجهة القضائية خلال أجل لا يزيد عن ثمانية أيام، وإلا تم استبعادها.

كما أن للقاضي أن يأمر الموظف المودع لديه أصل هذه الوثيقة بتسليمه إلى أمانة الجهة القضائية، متى كان هذا الأصل مودعا بمحفوظات عمومية.

ولا يجوز بحث الطعن بالتزوير إلا إذا كان منتجا في الفصل في النزاع؛ وذلك حتى لا ينشغل القضاء عن الفصل في الدعوى بمسائل لا علاقة لها بها، أو غير مفيدة للفصل فيها، مما يؤدي إلى إطالة أمد الدعوى.