التفريق بين الزوجين للغيبة

د. عبد العزيز بن محمد بن عثمان الربيش

أستاذ الفقه المشارك بجامعة الملك سعود – فرع القصيم

ملخص البحث

يحمل البحث عنوان “التفريق بين الزوجين للغيبة ” .

جعله الباحث في مقدمة وخاتمة وأربعة مباحث :

المبحث الأول : في تعريف وتحديد مصطلح “الغيبة” وقد حدد الباحث مصطلح “الغيبة” الذي يدور عليه البحث وهو من غادر موطنه إلى موطن آخر ولم يعد إليه لفترة وحياته معلومة ومكانه معروف ويمكن الاتصال به وهذا هو “الغائب” أو الغيبة غير المنقطعة الذي سيكون محل الدراسة ، ولذا لا يدخل فيه المفقود ونحوه.

المبحث الثاني : في اختلاف الفقهاء في التفريق بين الزوجين للغيبة وتبين للباحث رجحان قول من قال بالتفريق بين الزوجين للغيبة إذا تضررت الزوجة من هذه الغيبة وطالبت بالفرقة وتوفرت شروط التفريق .

المبحث الثالث : في شروط التفريق بين الزوجين للغيبة عند من يقول بجوازها وتوصل الباحث إلى أن الذين قالوا بالتفريق بين الزوجين للغيبة وهم المالكية والحنابلة اشترطوا شروطاً لابد من توفرها قبل التفريق منها شروط اتفقوا عليها ، ومنها ما اشترطه الحنابلة ومنها ما اشترطه المالكية والحنابلة واختلفوا فيها ، كما ترجح لدى الباحث رجحان قول المالكية ، وهو أنه لا يشترط للتفريق أن تكون الغيبة لعذر .

المبحث الرابع : في نوع الفرقة للغيبة.وتبين للباحث رجحان قول من قال إن الفرقة فسخ وليس طلاقاً . واللَّه أعلم بالصواب.

***

المقدمة

الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فهذا بحث في ” التفريق بين الزوجين للغيبة ” .

جعلته في مقدمة وأربعة مباحث ، وخاتمة بينت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها في البحث .

أما مباحثه الأربعة فهي كالتالي :

الأول : في تعريف وتحديد مصطلح ” الغيبة ” .

والثاني : في اختلاف الفقهاء في التفريق بين الزوجين للغيبة .

والثالث: في شروط التفريق بين الزوجين للغيبة عند من يقول بجوازها.

والرابع : في نوع الفرقة للغيبة .

هذا ولا يخفى أهمية هذا البحث وخاصة لأولئك الذين يسافرون إلى غير بلادهم بدون زوجاتهم ويمكثون فيها مدة طويلة لأي سبب من الأسباب فإن البحث يجيب عن كثير من الأسئلة الفقهية التي تدور في أذهانهـم . أسأل اللَّه سبحانه أن أكون قد وفقت في طرح الموضوع ومعالجة مباحثه ، كما أسأله جل شأنه السداد والإخلاص .

وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

المبحث الأول : تعريف وتحديد مصطلح الغيبة

تعريف الغيبة :

الغيبة في اللغة :

الغيب : الشك ، وكل ما غاب عنك وكل ما غاب عن العين فهو غيْب .

والغيبة – فتح الغين – : مصدر غاب ومعناها في اللغة : البعد وتستعمل بمعنى التواري ، يقال: غابت الشمس إذا توارت عن العين ، وامرأة مُغيب ومُغْيب ومُغيبة غاب بعلها أو أحد من أهلها وأغابت المرأة فهي مُغيب ([1]) .

الغيبة في اصطلاح الفقهاء :

معنى الغيبة عند الفقهاء لا يخرج عن المعنى اللغوي ويقصدون بالغياب ” انتقال الزوج بدون زوجتـــه إلى موطن آخر غير الموطن الذي كان فيه بيت الزوجية ” ([2]) . وحياته معلومة ومكانه معروف ويمكن الاتصال به ([3]).

تحرير وتحديد مصطلح الغيبة :

من المهم قبل دراسة مسائل الموضوع أن أحرر وأحدد مصطلح “الغيبة” الذي ستكون مسائله وأبحاثه ميداناً للبحث بحيث لا يدخل فيه ما ليس منه ولا يخرج عنه ما يعتبر داخلاً فيه .

لقد تبين لنا من تعريف الغيبة أن الغائب : هو من غادر موطنه إلى موطن آخر أي سافر من بلده إلى بلد آخر ولم يعد إليه لفترة وحياته معلومة ومكانه معروف ويمكن الاتصال به فهذا هو الغائب والذي سيكون محل الدراسة والبحث لا غير ، أما من غادر مكانه ولم يعد إليه وجهلت حالته فهو المفقود ولا شك أنه يختلف عن الغائب وله أحكام تختلف عن أحكام الغائب ولذا لن يكون محلاً للدراسة والبحث .

وعند بعض الفقهاء يطلقون مصطلح ” فقدان الزوج ” على الغائب والمفقود ويفرقون بينهما بأن الغائب هو ” الغيبة غير المنقطعة ” أي : انتقال الزوج ولكنه معروف المكان ويمكن الاتصال به ، والمفقود يطلقون عليه ” الغيبة المنقطعة “([4])، ولذا سواء أطلقنا عليه ” الغائب ” أو ” الغيبة غير المنقطعة ” فإنه هو ميدان البحث لا غير ، ولن أتطرق للمفقود أو غيره ، وبالله التوفيق.

 

المبحث الثاني : اختلاف الفقهاء في التفريق بين الزوجين للغيبة

اختلف الفقهاء في جواز التفريق بين الزوجين للغيبة إلى قولين في الجملة([5]):

القول الأول :

عدم جواز التفريق بين الزوجين للغيبة مطلقاً ، حتى لو تضررت الزوجة من عدم الوطء وطلبت التفريق.

قال بذلك الشافعية ([6]) .

القول الثاني :

جواز التفريق بين الزوجين للغيبة إذا طلبت الزوجة التفريق .

قال بذلك المالكية ([7]) ، والحنابلة ([8]) ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية([9]).

أما الحنفية ([10]) فإنهم وسط بين القولين ، فيقولون : لا يجوز التفريق بين الزوجين لغيبة الزوج وترك مباشرته لزوجته بالجملة.

أما التفصيل : فإنهم يقولون : يسقط حق المرأة في الوطء قضاءاً إذا وطئها الزوج مرة فلا يجوز التفريق بينهما ، أما إذا لم يصبها مرة واحدة فإن القاضي يؤجله سنة ثم يفسخ العقد ([11]) .

الأدلة والمناقشة :

اختلاف الفقهاء في هذه المسألة مبني على اختلافهم في حق دوام الوطء هل هو حق للرجل فقط وليس للزوجة فيه حق أو أنه حق للزوجة أيضاً مثل ما هو حق للزوج ؟

فمن ذهب إلى أنه حق للزوج فقط وليس للزوجة فيه حق الشافعية ؛
قالوا إذا ترك الزوج وطأ زوجته مدة لم يكن ظالماً لها أمام القاضي وإذا طلبت التفريق لتضررها بعدم الوطء لا يفرق القاضي بينهما سواء أكان حاضراً أم غائباً، طالت غيبته أو لا ، لكن يستحب عند الشافعية أن لا يعطلها؛ لأنه إذا عطلها لم يأمن الفساد ([12]).

أما من ذهب إلى أنه حق للزوجة أيضاً مثل ما هو حق للزوج واستدامة الوطء واجب للزوجة على زوجها قضاء إذا لم يكن عند الزوج عذر وهم المالكية والحنابلة ([13]) ، قالوا إذا غاب الزوج عن زوجته مدة وتضررت من ترك الوطء وطلبت التفريق من القاضي فإنه يفرق بينهما ([14]). أمَّا الحنفية فتقدم قولهم في المسألة ([15]).

ولهذا سيكون الاستدلال في مسألة الغيبة هو الاستدلال لمسألة الوطء هل يعتبر حقاً للزوجة كما أنه حق للرجل أو أنه ليس بحق لها.

 

أدلة القول الأول :

الدليل الأول :

أن الوطء حق للزوج فلا يجب عليه كسائر حقوقه فيجوز له تركه كسكنى الدار المستأجرة ([16]) .

ويناقش : بالتسليم بذلك فيما لو كان الوطء حقاً من حقوق الزوج فقط ولكن الصحيح أنه حق للزوجة أيضاً كما هو حق للزوج كما سيتبيّن لنا من أدلة القول الثاني .

الدليل الثاني :

أن الداعي إلى الاستمتاع الشهوة والمحبة فلا يمكن إيجابه ([17]).

ويناقش : بأن الإيجاب هنا من أجل تضرر الزوجة والخشية عليها من الوقوع في الزنا ، فالإيجاب حماية للزوجة من الوقوع في المحرم وليس لمجرد الإيجاب ، ولذا الذين يقولون بإيجاب الوطء واستمراره على الزوج يقولون إذا لم تتضرر الزوجة من عدم الوطء ولم تطالب به فلن يُلزم الزوج به ولذلك شرع الزواج ومن مصالحه وأهدافه عفة الزوج والزوجة من الوقوع في المحرم وقضاء الوطر فيما أحله اللَّه . كما أن الزوج روعي فيه، فالذين يقولون بإيجابه واستمراره على الزوج قيدوه بما إذا لم يكن بالزوج عذر يمنعه من الوطء([18]) .

فيتبين لنا ضعف هذا الدليل .

 

أدلة القول الثاني :

الدليل الأول :

حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما- ، قال : قال لي رسول اللَّه r : ” يا عبد اللَّه ألم أُخْبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ فقلت : بلى يا رسول اللَّه ، قال : فلا تفعل ، صم وأفطر ، وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقاً ، وإن لعينيك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً … “الحديث متفق عليه ([19]).

فبين النَّبِيّ r في هذا الحديث أن للزوجة على زوجها حقاً ([20]) .

الدليل الثاني :

قصة المرأة التي جاءت تشكي زوجها إلى عمر -رضي اللَّه عنه- وعنده كعب بن سور-رضي اللَّه عنه-.

وأخرج القصة عبدالرزاق ([21]) بسنده عن الشعبي قال : ” جاءت امرأة إلى عمر فقالت : زوجي خير الناس ، يقوم الليل ، ويصوم النهار . فقال عمر: لقد أحسنت الثناء على زوجك ، فقال كعب بن سور : لقد اشتكت فأعرضت الشكية ، فقال عمر : اخرج مما قلت . قال : أرى أن تنزله بمنزلة رجل له أربع نسوة له ثلاثة أيام ولياليهن ، ولها يوم وليلة ” .

قال ابن قدامة -رحمه اللَّه – : ” هذه قضية اشتهرت فلم تنكر ، فكانت إجماعاً ” اهـ([22]).

الدليل الثالث :

إن الوطأ حق للزوجة ” لأنه لو لم يكن حقاً للمرأة لم تستحق فسخ النكاح لتعذره بالجب والعنة ” ([23]).

الدليل الرابع :

إن الوطأ حق للزوجة ” لأنه لو لم يكن حقاً للمرأة لملك الزوج تخصيص إحدى زوجتيه به كالزيادة في النفقة على قدر الواجب ” ([24]).

الدليل الخامس :

إن الوطأ ” حق واجب بالاتفاق إذا حلف على تركه ، فيجب قبل أن يحلف، كسائر الحقوق الواجبة يحقق هذا أنه لو لم يكن واجباً لم يصر باليمين على تركه واجباً ، كسائر ما لا يجب ” ([25]) .

الدليل السادس :

” إن النكاح شرع لمصلحة الزوجين ، ودفع الضرر عنهما وهو مفضٍ إلى دفع ضرر الشهوة عن المرأة كإفضائه إلى دفع ذلك عن الرجل، فيجب تعليله بذلك، ويكون النكاح حقاً لهما جميعاً “([26]) .

الدليل السابع :

إنه لو لم يكن للمرأة في الوطء حق لما وجب استئذانها في العزل([27]).

الترجيح :

تبين لي مما تقدم ترجيح القول الثاني ، وهو أن للمرأة حقاً في الوطء كما أن للرجل حقاً في ذلك لقوة أدلتهم وضعف أدلة القول الأول وما أورد عليها من مناقشة ، ولأن القول الثاني هو الذي يتوافق مع التشريع الإسلامي الذي جعل من أهداف الزواج ومصالحه إعفاف الزوجين خاصة إذا ألحق تركه ضرراً بالزوجة وقد جاء الإسلام بدفع الضرر لقوله r : ” لا ضرر ولا ضرار “([28]).

وينبنـي على هذا أن القول بالتفريق بين الزوجين للغيبة إذا تضررت الزوجة من ذلك وطالبت بالفرقة وتوفرت شروط التفريق ، هو القول الراجح ، واللَّه أعلم .

 

المبحث الثالث : أسباب وشروط التفريق بين الزوجين للغيبة عند من يقول بجوازها

قلنا في المبحث السابق إن الفقهاء مختلفون في التفريق بين الزوجين للغيبة إلى قولين : الجواز ، وعدمه . وفي هذا المبحث سنتحدث عن أسباب وشروط التفريق بين الزوجين للغيبة عند من يقول بجوازه وهم المالكية والحنابلة ومن تبعهم ، وعند استعراض هذه الشروط والأسباب نجد أن منها ما هو محل اتفاق بين المالكية والحنابلة ، ومنها ما اشترطه الحنابلة فقط ، ومنها ما اشترطه المالكية والحنابلة ولكنهم اختلفوا فيه لذا سيكون الحديث عن هذه الشروط مقسم إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول : الشروط والأسباب المتفق عليها بين المالكية والحنابلة :

أ – الأسبـاب :

1/1 – النفقة :

فيجب على الزوج الغائب أن ينفق على زوجته من ماله حال غيابه وإذا لم ينفق عليها وطلبت التفريق فإنه يفرق بينهما لعدم النفقة ([29]) .

2/2 – أن تخشى الزوجة على نفسها الضرر بسبب هذه الغيبة :

والضرر هنا فسره المالكية([30]) بخشية الوقوع في الزنا، وليس اشتهاء الجماع فقط.

والحنابلة ([31]) أطلقوا الضرر ولكنهم يريدون به خشية الزنا كالمالكية([32])، وهذا واضحٌ ؛ لأن المرأة لا تطلب من القاضي التفريق إلاَّ إذا خافت على نفسها من الوقوع في الحرام .

ب – الشروط :

3/3 – الكتابة إلى الزوج الغائب :

أن يكتب القاضي إلى الزوج الغائب بالرجوع إلى زوجته أو نقلها إليه أو تطليقها ويمهله مدة مناسبة وهذا إذا كان له عنوان معروف وعلم مكانه وأمكن الوصول إليه وإن أبى ذلك كله أو لم يرد بشيء وقد انقضت المدة المضروبة أو لم يكن له عنوان معروف فإن القاضي يفرّق بينهما ([33]).

4/4 – أن تطلب الزوجة التفريق :

لا يفرِّق القاضي بينهما لغيبة الزوج إلاَّ إذا رفعت الزوجة أمرها إلى القاضي وطلبت التفريق([34]) لأنه لحقها فلم يجز من غير طلبها كالفسخ للعنة([35]).

القسم الثاني : ما اشترطه الحنابلة فقط :

5/1 – أن تكون الغيبة لغير عذر :

اشترط الحنابلة للتفريق بين الزوجين للغيبة أن تكون غيبة الزوج بغير عذر فإن كانت هذه الغيبة لعذر مثل الحج والجهاد وطلب الرزق له ولأولاده ([36])، وطلب العلم ([37]) ، فإنه لا يفرق بينهما .

قال صاحب الإنصاف ([38]) : ” قد صرح الإمام أحمد – رحمه الله – بما قال. فقال في رواية ابن هانىء ، وسأله عن رجل تغيب عن امرأته أكثر من ستة أشهر؟ قال : إذا كان في حج، أو غزو ، أو مكسب يكسب على عياله ، أرجو أن لا يكون به بأس، إن كان قد تركها في كفاية من النفقة ومحرم رجل يكفيها”اهـ.

أما المالكية فإنهم لا يشترطون ذلك ولهذا للزوجة حق طلب التفريق للغيبة سواء أكانت لعذر أو لغير عذر ([39]) .

الترجيح :

الناظر إلى المسألة بعين بصيرة يجد أنها تدور بين حق الرجل وحق المرأة فالحنابلة عندما فرقوا بين الغيبة للعذر والغيبة لغير العذر قالوا بذلك من أجل أن لايتضرر الزوج ، فإذا غاب من أجل طلب الرزق له ولأولاده أو لطلب العلم ونحو ذلك لا يفرق بينهما وإن طلبته الزوجة .

أما إذا كان سفره لغير حاجة أو بدون عذر كالسياحة مثلاً فإن الزوجة تجاب إلى طلب التفريق ؛ لأنه ليس له عذر في غيابه .

أما المالكية فإنهم نظروا إلى تضرر الزوجة من غياب زوجها ولو كان غيابه لعذر ، فإذا طلبت الزوجة التفريق فإنها تجاب إلى طلبها خشية عليها من الضرر وهو الوقوع في الحرام .

فالزوج معذور فيما بينه وبين اللَّه عندما تكون غيبته لعذر ، ولكن للزوجة حقاً في التفريق .

لذا فإني أميل إلى ترجيح قول المالكية عملاً بالقواعد الفقهية ” درء المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح ” ، ” والضرر يزال ” ، و ” ارتكاب أخف الضررين”([40]).

خاصة وأن المالكية يرون أنه لا يفرق بينهما للغيبة إلا إذا كانت الغيبة طويلة حددوها في المعتمد عندهم بسنة ([41]) .

وهذا كافٍ للزوج في قضاء مصالحه في غيبته ، فإن زادت عن ذلك فيكون التفريق مراعاة لمصلحة المرأة ودفع الضرر عنها ، واللَّه أعلم .

القسم الثالث : ما اشترطه المالكية والحنابلة واختلفوا فيه :

6/1 – أن تكون غيبة الزوج طويلة :

فاشترط المالكية والحنابلة للتفريق بين الزوجين للغيبة أن تكون الغيبة طويلة ولكنهم اختلفوا في تحديد مدة هذه الغيبة .

فذهب المالكية ([42]) ، في المعتمد عندهم إلى أن هذه المدة سنة وللفرياني وابن عرفة من المالكية أن السنتين والثلاث ليست بطول بل لابد من الزيادة عليها.

وذهب الحنابلة إلى ([43]) أن توقيت هذه المدة ستة أشهر .

قال ابن قدامة ([44]) : ” … فإن أحمد ذهب إلى توقيته بستة أشهر، فإنه قيل له: كم يغيب الرجل عن زوجته ؟ قال : ستة أشهر ، يكتب إليه فإن أبى أن يرجع فرق الحاكم بينهما … ” اهـ.

واستدل الحنابلة لهذا التوقيت بما أخرجه سعيد بن منصور([45])، والبيهقي([46])، عن زيد بن أسلم قال : بينما عمر بن الخطاب يحرس المدينة فمر بامرأة في بيتها وهي تقول :

تطاول هذا الليل واسود جانبه                       وطال على أن لا خليل أُلاعبه

ووالله لولا خشيـة الله وحــده                  لحُرِّك من هذا السرير جوانبــــه

فسأل عنها عمر، فقيل له : هذه فلانة ، زوجها غائب في سبيل الله فأرسل إليها امرأة تكون معها ، وبعث إلى زوجها فأقفله، ثم دخل على حفصة، فقال: يا بنية ، كم تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت : سبحان الله ، مثلك يسأل مثلي عن هذا ‍‍ فقال : لولا أني أريد النظر للمسلمين ما سألتك . قالت : خمسة أشهر أو ستة أشهر فوقّت للناس في مغازيهم ستة أشهر، يسيرون شهراً، ويقيمون أربعة، ويسيرون شهراً راجعين ([47]).

 

المبحث الرابع : نوع الفرقة للغيبة

اختلف الفقهاء الذين قالوا بجواز التفريق بين الزوجين للغيبة في نوع هذه الفرقة إلى قولين :

القول الأول :

ذهب المالكية ([48]) إلى أن هذه الفرقة طلاق بائن ؛ لأن المالكية يقولون إن كل فرقة يوقعها القاضي تكون طلاقاً بائناً إلا الفرقة للإيلاء أو الإعسار بالنفقة فإنه يكون رجعياً والسبب في كونه طلاقاً بائناً عند المالكية أنهم يقولون : إن المراد رفع الضرر عن المرأة ، وهو لا يرتفع إلا بالبينونة ([49]) .

ويجاب عن ذلك :

بأن الضرر يرفع عن المرأة بغير البينونة مثل الفسخ .

القول الثاني :

ذهب الحنابلة ([50]) ، إلى أن هذه الفرقة فسخ لأنها فرقة من جهة الزوجة والفرقة من جهة الزوجة عند الحنابلة فسخاً ([51]) ، والفسخ عندهم بينونة صغرى.

دليل القول الثاني :

لأن الزوج ترك حقاً عليه تتضرر منه الزوجة ([52]) ، فيفرق بينهما بالفسخ لأنه يحقق المقصود ولا يحسب من الطلاق .

الفرق بين الطلاق والفسخ :

الطلاق : إنهاء الزواج واحتسابه من الطلقات الثلاث التي يملكها الزوج على زوجته .

أما الفسخ : فهو منع لاستمرار العقد ولا يحتسب من عدد الطلاق ([53]) .

الترجيح :

أرى – والله أعلم بالصواب- أن الراجح في نوع الفرقة للغيبة هو قول الحنابلة حيث يقع فسخاً لا طلاقاً ” لأنه أقرب إلى روح التشريع ومقاصده، ذلك التشريع القائم على السهولة والتيسير والمصلحة ورفع الحرج … وهذا يظهر واضحاً جلياً فيما إذا عاد الزوج الغائب إلى زوجته بعد وقوع الفرقة فمن قال إنها فسخ – وهم الحنابلة – لم يحتسبه طلقة وهذا يعطي الزوج الغائب الفرصة الكافية ليعود إلى زوجته مرة ثانية ؛ لأنه لو كان قد طلق امرأته تطليقتين ثم فرق القاضي بينهما للغياب ثم عاد وأراد أن يتزوجها فله ذلك ؛ لأن اعتبار التفريق للغياب فسخاً لم يضاف إلى الطلقتين ولم يحسب طلقة وفي هذا محافظة على بناء الحياة الزوجية واستمرارها .

أما من قال إنه طلاق فليس للزوج – والحالة هذه – حق مراجعتها حتى تنكح زوجاً غيره لأن بالتفريق كملت الطلقات الثلاث فيجب عليه الامتثال لقوله تعالى : ) فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره (([54]) ، وفي هذه الحالة الثانية تفكك للأسرة وتشريد للأطفال وضياعهم وما إلى ذلك من أمور ليست في مصلحة أحد من الزوجين ([55]).

الفرق بين التفريق والطلاق :

حيث ورد في البحث مصطلح التفريق فيحسن هنا أن أوضح الفرق بينه وبين الطلاق : من المعروف أن الطلاق يقع باختيار الزوج وإرادته أما التفريق : فيقع بحكم القاضي ، لتمكن المرأة من إنهاء الرابطة الزوجية جبراً عن الزوج، إذا لم تفلح الوسائل الاختيارية من طلاق أو خلع ([56]).

 

الخاتمــة

وفي ختام هذا البحث أحمده سبحانه على أن أمدني بعونه وتوفيقه حتى انتهيت منه ولما كان لكل شيء ثمرة فإني أذكر في نهايته أهم النتائج التي توصلت إليها :

1 –  إن أبحاث هذا البحث تخص الغائب الذي غادر موطنه إلى موطن آخر ولم يعد إليه لفترة وحياته معلومة ومكانه معروف ويمكن الاتصال به.

2 –  إن الراجح من قولي العلماء هو القول بالتفريق بين الزوجين للغيبة إذا تضررت الزوجة من هذه الغيبة وطالبت بالفرقة وتوفرت شروط التفريق.

3 –  إن الذين قالوا بالتفريق بين الزوجين للغيبة وهم المالكية والحنابلة اشترطوا شروطاً لابد من توفرها قبل التفريق منها شروط اتفقوا عليها ، ومنها ما اشترطه الحنابلة فقط، ومنها ما اشترطه المالكية والحنابلة واختلفوا فيه .

4 –  أنني أميل إلى ترجيح رأي المالكية في عدم اشتراط العذر للتفريق للغيبة دفعاً لتضرر الزوجة من طول الغياب وهو خشية الوقوع في الزنا وعملاً بالقواعد الفقهية “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح” ، و”الضرر يزال”، و”ارتكاب أخف الضررين” خاصة وأن المالكية يرون أنه لا يفرق بينهما للغيبة إلا إذا كانت الغيبة طويلة حددوها بسنة على المعتمد في المذهب وهذا كافٍ للزوج لقضاء مصالحه – حتى ولو كان سفره بعذر – فإذا زاد عن ذلك فالتفريق بينهما إذا طلبته الزوجة لمراعاة مصلحة المرأة ودفع الضرر عنها الحاصل من طول الغياب .

5 –  إن الراجح من القولين قول من قال إن الفرقة فسخٌ وليست طلاقاً لأن القول بأنه فسخ أقرب إلى روح التشريع ومقاصده المبنية على السهولة والتيسير والمصلحة ورفع الحرج .