القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
الفرع الثاني: مكانة القرائن القضائية في الإثبات الإداري ودورها في إثبات الانحراف بالسلطة.
إن إثبات الوقائع القانونية يبقى حقيقة نسبية، فهو إثبات ترجيحي وليس إثبات يقيني، فيكتفي بإثبات ما يرجح حدوث الواقعة محل النزاع أو انتفاؤها، وهذا ما يسمى بالقرينة، ولقد قص الله عز وجل علينا في كتابه الكريم استعمال هذه الوسيلة في الأمم السالفة في قوله تعالى:” وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم”. واستدل جمهور فقهاء الإسلام بهذه الآية وآيات أخريات بالإضافة إلى مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة على مشروعية الأخذ بالقرائن كأدلة إثبات.
ولم يرد تعريف للقرينة القضائية في القانون المدني الجزائري ولا قانون الإجراءات المدنية والإدارية، شأنه في ذلك شأن المشرع المصري الذي لم يورد لها تعريفا أيضا لا في القانون المدني ولا في قانون الإثبات، إلا أن المشرع الفرنسي عرف القرائن بموجب المادة 1349 من القانون المدني بأنها: “النتائج التي يستخلصها القانون أو القاضي من واقعة معلومة لمعرفة واقعة مجهولة”.
ولقد أشارت المادة 340 من القانون المدني الجزائري إلى القرائن القضائية بقولها: “يترك لتقدير القاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون، ولا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بالبينة”.
كما أشارت إليها المادة 100 من قانون الإثبات المصري بقولها: ” يترك لتقدير القاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون، ولا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بشهادة الشهود”.
والمادة 1353 من القانون المدني الفرنسي بقولها:” القرائن التي لم ينص عليها القانون تترك لنظر القاضي وتقديره، ولا يجوز أن يؤخذ إلا بقرائن قوية الدلالة، ودقيقة التحديد، ظاهرة التوافق….
و لقد اجتهد الفقه في وضع تعريفات للقرينة تمحورت حول معنى واحد وهو أن: القرينة استنباط القاضي الأمر غير ثابت من أمر ثابت بناء على الغالب من الأحوال، أو أنها: علاقة منطقية يستنتجها القاضي بين واقعة معلومة وأخرى مجهولة يريد إثباتها.
وتسمى الوقائع المعلومة بشواهد الحال أو الدلائل، وتشكل العنصر المادي للقرينة، بينما يتمثل العنصر المعنوي في استنباط الوقائع المجهولة.
أولا- مكانة القرائن في الإثبات الإداري:
إن الأهمية الواسعة للقرائن كوسيلة من وسائل الإثبات في مجال القضاء هي جعلت الفقيه الكبير غارو يقول:” إن القاضي يعيش ويتحرك في جو من القرائن”.
وتشكل القرائن القضائية وسيلة إثبات في غاية الخطورة لكونها لا تمثل في أحيان كثيرة الحقيقة الكاملة، فمن الممكن وقوع القاضي في الغلط في استنباطاته، وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل الفقه الكلاسيكي لا يعترف بها كوسيلة للإثبات في القانون الإداري؛ إضافة إلى اعتقاد فقهاء هذه الفترة بخصوصية الإجراءات التنازعية أمام مجلس الدولة.
فقد سكت هؤلاء الفقهاء عن أي دور احتمالي للقرائن في إنشاء القانون من قبل القاضي الإداري، فالقانون الإداري القضائي أساسا، هو قانون عصري، ومجلس الدولة حامي الحريات العامة، يستند على القانون والمبادئ العامة للقانون ولا يمكن له أن يترك مكانا لوجود القرائن التي تعتبر وسائل قديمة وأقل أمانا.
لقد مر الاعتراف بالقرائن كوسيلة للإثبات لدى الفقه الإداري الفرنسي بعدة مراحل، فابتداء من 1950 اكتشف فقه القانون الإداري القرائن واهتم أساسا بالهدف الذي تلعبه في إنشاء القانون الإداري، فصرح الفقيه Rivero بأن قرينة الشرعية تسيطر على القانون الإداري الفرنسي برمته، وقبله نبه الفقيه Horiou عن وجود نفس القرينة.
أما الأستاذ Charlier فإنه أول من لجأ إلى القرائن في دراسة له متعلقة بالمرافق العامة الصناعية والتجارية. وبعد عدة سنوات دعا Latournerie في دراسة خاصة بالدفاع عن فرضية المرفق العام إلى استعمال القرائن لإيجاد حل للمشاكل العويصة التي تطرح على القاضي والمتقاضي.
وأهم عمل حول الإثبات بالقرائن في المنازعات الإدارية هو رسالة الدكتوراه لـــ Louis de costoines بعنوان: ” les presomptions en droit administratif” تحت إشراف الفقيه Delaubadere.
واليوم تعتبر القرائن القضائية في مقدمة طرق الإثبات أمام القضاء الإداري، إذ يستطيع القاضي القضاء في ضوء ما يتمتع به من حرية في الإثبات أن يدحض بها الادعاء أو يثبته. فعندما يخلو ملف الدعوى من أدلة الإثبات الكافية، أو عندما يتعذر على الطرف المكلف بالإثبات تقديم المستندات المؤيدة لطلبه، يلجا القاضي إلى تأسيس حكمه على القرائن المستقاة من الأمارات والشواهد التي تنبئ عنها الأوراق والتي تشكل في مجملها قرائن قضائية إذا بلغت من القوة درجة تخلخل قرينة الصحة التي تتمتع بها القرارات الإدارية، بحيث تنشأ قرينة قضائية على صحة الادعاء ناقلة لعبء إثبات العكس إلى عاتق الإدارة.
ويرجع Pactet هذه الأهمية للقرائن القضائية إلى ما يلي:
اتساع السلطة الممنوحة للقاضي الإداري أثناء نظر الدعوى فهو لا يتقيد بدليل معين، وهو ما يبرره اعتناق مذهب الإثبات الحر.
أن معظم وقائع القانون الإداري وقائع مادية.
أنها تقوم بين طرفين غير متساويين، ومن ثمة يقتضي الأمر إطلاق يد القاضي في استنباط القرائن التي تعين المدعي في دعواه وتخفف عبء الإثبات الملقى على عاتقه.
وهكذا فإن القوانين أصبحت تترك للقاضي استنباط أي قرينة لم يقررها القانون، فالقرينة القضائية هي علاقة بين واقعتين إحداهما ثابتة في الدعوى والأخرى مجهولة يستدل عليها بالأولى، فللقرائن القضائية عنصرين: العنصر الأول وهو العنصر المادي الذي يتكون من وقائع ثابتة تسمى الدلائل أو الأمارات، والثاني هو العنصر المعنوي الذي يتمثل في عملية الاستنباط أو الاستخلاص التي يقوم بها القاضي ليصل من هذه الدلائل والأمارات إلى ثبوت للوقائع المجهولة، ويتمتع القاضي في شأن العنصرين المادي والمعنوي بسلطة تقديرية مطلقة، إذ يترخص في اختيار الوقائع الثابتة التي يستنبط منها القرينة، بالإضافة إلى حريته في تكوين عقيدته. والقرائن القضائية يجوز كأصل عام إثبات عكسها بجميع طرق الإثبات ومنها القرائن.
وإذا كانت القرائن القضائية دليلا مقيدا، أمام القضاء العادي فلا يمكن الإثبات بواسطتها في غير الأحوال التي يجوز الإثبات فيها بشهادة الشهود. فإن الأمر يختلف أمام قاضي الإلغاء، فالقانون لم يحدد الأدلة المقبولة أمام قاضي الإلغاء، وهو يتمتع بسلطة تقديرية واسعة في وزن وتقدير ما يقدم إليه من أدلة وعناصر، دون أن يكون لأي منها حجية أو قوة محددة في الإثبات تفضل غيرها طالما أن المشرع لم يحدد ذلك، ومن ثمة فإن تقدير الأدلة خاضع أصلا لوزن وتقدير القاضي، ولهذا فإن القرائن القضائية تعتبر في مقدمة طرق الإثبات أمام قاضي الإلغاء.
وما المستندات وغيرها من الأوراق الإدارية إلا قرائن مكتوبة قابلة لإثبات العكس، تتآلف مع بعضها البعض لإثبات الوقائع المتنازع عليها، لذلك كان من الطبيعي أن يقيم القاضي حكمه في الكثير من الأحيان على القرائن القضائية وحدها ودون اشتراط دليل آخر.
وهكذا فإنه عندما يخلو ملف الدعوى من الإثبات أو يتعذر على المدعي تقديم ما يؤيد طلباته من مستندات، يتجه القضاء الإداري إلى تأسيس حكمه على الأمارات، والشواهد والدلائل التي تظهر من مختلف أوراق الملف، وبذلك يستخلص قاضي الإلغاء القرائن القضائية، التي تؤدي إلى نقل عبء الإثبات إلى عاتق الطرف الآخر.
وتؤدي القرائن القضائية التي يستخلصها القضاء الإداري على هذا النحو إلى تيسير عبء الإثبات الملقى على عاتق رافع دعوى بالإلغاء لأنه هو المدعي دوما. ويؤدي ذلك غالبا إلى إعفائه بصفة مؤقتة من عبء الإثبات إلى أن تقدم الإدارة ما يفند القرائن القائمة لصالحه.
وتظهر أهمية هذه القرائن وفعاليتها على وجه الخصوص في الحالات التي يتعذر أو يصعب فيها الحصول سلفا على أدلة الإثبات أو بالنسبة للوقائع التي ليس من شأنها عدم الرصد في الأوراق الإدارية.