القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
تحرص الدول المتقدمة إداريا على اتباع سياسة الوضوح الإداري، وفي سبيل ذلك اعترفت بحق المواطن في الاطلاع على الوثائق الإدارية. ولم تكتف بالنص على هذا الحق، بل سعت إلى تكريسه من خلال وضع منظومة قانونية متكاملة تحيط بكافة جوانب الموضوع بالشكل الذي يمكن المواطن من الاستفادة منه بفعالية.
والجزائر كباقي الدول تعترف بالحق في الاطلاع على الوثائق الإدارية، إلا أن المواطن لا يستفيد من هذا الحق لأسباب كثيرة منها ما هو غير مبرر ويتعلق الأمر بعقلية الكثير من رجال الإدارة التي تنزع إلى ما يسمى بالطقوس الإدارية السرية المورثة عن مفهوم الدولة البوليسية، ومنها ما هو مبرر فعلا ويعود إلى تعارض هذا الحق بالفعل مع بعض مقتضيات السير الحسن للإدارة والذي يقتضي أن تكون بعض المعلومات في منأى عن اطلاع المواطنين لأسباب تتعلق بالسرية الإدارية أو أسرار الدفاع الوطنية أو حرمة الحياة الخاصة، لكن هذا التعارض يمكن أن يعالج من خلال منظومة قانونية متكاملة تسعى إلى التوفيق بين مقتضى ضمان حق المواطن في المعلومة من جهة وبين مقتضى حماية المعلومات المشمولة بالسرية والتي يحميها القانون من جهة أخرى.
إن دور المشرع في التخفيف على المدعي في دعوى الإلغاء من خلال تكريسه للحق في الاطلاع على الوثائق الإدارية، يكمن في تمكينه من الحصول على المعلومات التي يبني عليها ادعاءاته، غير أن ذلك لا يكون بصفة فعلية إلا إذا كان تكريس هذا الحق متكاملا.
نحاول في هذا المطلب التعرف على مدى تكريس هذا الحق من طرف المشرع في الفرع الأول وإلى مدى كفاية هذا التكريس وفاعليته في ضمان حصول المواطن على المعلومة التي يعتمد عليها في مخاصمة الإدارة ويستند إليها كدليل إثبات في الفرع الثاني.
الفرع الأول: التكريس التشريعي لحق الاطلاع على الوثائق الإدارية.
رغم أن القانون 88/ 09 المؤرخ في 26 يناير 1988 المتعلق بالأرشيف الوطني نص فيه مادتيه 10 و11 على حق العامة في الاطلاع على الأرشيف والذي يتضمن فيما يتضمن الوثائق الإدارية، إلا أن ذلك لا يكون إلا بعد 25 سنة من إنتاجه، وبالتالي يكون أول اعتراف للجزائر بحق الاطلاع عن طريق المرسوم رقم: 88/131، المؤرخ في 04 جويلية 1988 المتعلق بتنظيم العلاقة بين الإدارة والمواطن والذي نظم كيفية إطلاع المواطن على الوثائق الإدارية، وذلك مساهمة منه في خلق جو من الشفافية بين الإدارة والجمهور، حيث نصت المادة العاشرة منه على أنه: ” يمكن للمواطنين أن يطلعوا على الوثائق والمعلومات الإدارية، مع مراعاة أحكام التنظيم المعمول به في مجال المعلومات المحفوظة والمعلومات التي يحميها السر المهني ويتم هذا الاطلاع عن طريق الاستشارة المجانية في عين المكان و/ أو تسليم نسخ منها على نفقة الطالب بشرط ألا يتسبب الاستنساخ في إفساد الوثيقة أو يضر بالمحافظة عليها.
ويجب على كل مواطن يمنع من الاطلاع على هذه الوثائق أن يشعر بذلك بمقرر مبين الأسباب.”
أما الدستور الجزائري فلا توجد فيه أي إشارة إلى الحق في الاطلاع على الوثائق الإدارية، لكن المادة 32 منه نصت على أن: “الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والمواطن مضمونة”.
ولقد صادقت الجزائر على مختلف المواثيق والمعاهدات الدولية التي تكفل هذا الحق، وآخر ما صادقت عليه الجزائر في هذا الشأن الميثاق الإفريقي لقيم ومبادئ الخدمة العامة والإدارة بموجب المرسوم الرئاسي 12/415 المؤرخ في 11 ديسمبر 2012، والذي نصت المادة 06/1 منه على: “تقوم الإدارة العامة بتوفير المعلومات الضرورية للمستخدمين حول التدابير والإجراءات الشكلية المتصلة بتقديم الخدمة العامة، تقوم الإدارة العامة بإبلاغ المستخدمين بكل القرارات المتخذة بخصوصهم وبيان أسبابها وكذلك آليات الطعن القانونية المتاحة لهم”.
كما نصت الفقرة 03 من نفس المادة على أنه: ” تقوم الإدارة العامة بوضع نظم إجراءات اتصال فعلية بقصد ضمان إعلام العموم حول الخدمة العامة وتحسين وصول المستخدمين إلى المعلومات، وتلقي آراءهم ومقترحاتهم وشكاواهم”، ونصت المادة 07/5 منه على ما يلي: “تتخذ الإدارة العامة الإجراءات اللازمة لإرساء وتعزيز الثقة بين أعوان الخدمة العامة والمستخدمين”.
وكما نعلم فإن المادة 132 من الدستور الجزائري تنص على أن المعاهدات المصادق عليها وفقا للدستور تسمو على القانون، وهكذا فإن المعاهدات الدولية المتضمنة لهذا الحق والمصادق عليها من طرف الجزائر، تمثل نصوص قانونية يجب على الإدارة احترامها في هذا المجال، كما يحق للمواطن التمسك بأحكامها أمام الإدارة، والاستناد إليها في مطالبته بهذا الحق سواء أمام الإدارة أو أمام القضاء الإداري.
وهكذا فإننا نجد السند القانوني العام للاطلاع على الوثائق الإدارية، في المعاهدات والمواثيق الدولية التي تضمنت النص على هذا الحق من جهة، كما نجده أيضا في أحكام المرسوم 88/131، المؤرخ في 04 جويلية 1988 المتعلق بتنظيم العلاقة بين الإدارة والمواطن.
غير أن المشرع الجزائري ضمن بعض النصوص المنظمة لمختلف أوجه نشاط الإدارة هذا الحق، ونكتفي هنا بالإشارة إلى القوانين المتعلقة بالإدارة المحلية؛ إذ أفرد القانون 11/10 المؤرخ في 22 جوان 2011 المتعلق بالبلدية الباب الثالث من القسم الأول لمشاركة المواطنين في تسيير شؤون البلدية، حيث جاءت ضمنه المادة 11 التي نصت على أن: ” تشكل البلدية الإطار المؤسساتي لممارسة الديمقراطية على المستوى المحلي والتسيير الجواري، يتخذ المجلس الشعبي البلدي كل التدابير لإعلام المواطنين بشؤونهم واستشارتهم حول خيارات وأولويات التهيئة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حسب الشروط المحددة في هذا القانون، ويمكن في هذا المجال استعمال على وجه الخصوص الوسائط والوسائل الإعلامية المتاحة، كما يمكن المجلس الشعبي البلدي تقديم عرض عن نشاطه السنوي أمام المواطنين.”
كما جاءت المادة 14 صريحة في النص على الحق في الاطلاع بقولها: “يمكن كل شخص الاطلاع على مستخرجات مداولات المجلس الشعبي البلدي وكذا القرارات البلدية، ويمكن كل شخص ذي مصلحة الحصول على نسخة منها كاملة أو جزئية على نفقته، مع مراعاة أحكام المادة 56”.
إن نشاطات البلدية والولاية كإدارة محلية تخضع لضوابط العلاقة بين الإدارة المواطن التي جاءت بها أحكام المرسوم 88/131، وبالتالي فإن الحق في الاطلاع يكون ممكنا ما دامت المعلومات الوثائق المعنية بالاطلاع لم تصنف ضمن الوثائق المشمولة بالسرية بحكم القانون، وهكذا نصت المادة 10 على أن الحق في الاطلاع يجب أن يراعي أحكام التنظيم المعمول به في مجال المعلومات المحفوظة والمعلومات التي يحميها السر المهني، كما أشارت المادة 11 من نفس المرسوم على أنه لا يجوز للإدارة المسيرة أن تنشر أو تسلم أية وثيقة أو أي خبر، مهما يكن سندها في ذلك، إذا كانت الوثيقة والخبر يتصلان بحياة الفرد الخاصة أو يرتبطان بوضعيته الشخصية، بصرف النظر عن أحكام المادة 10 السالفة الذكر، ما لم يرخص بذلك التنظيم المعمول به أو تكن ثمة موافقة من المعنى.”
وفي حالة رد الإدارة بالرفض، يجب أن يكون قرارها بالرفض مسببا، حتى يتسنى للمواطن التأكد من مدى جدية الأسباب ومشروعيتها، وبالتالي إمكانية المطالبة القضائية بإلغاء قرار الرفض في حالة عدم جدية أو مشروعية الأسباب.
وحتى لا تعمل الإدارة عن طريق أعوانها على تعطيل هذا الحق فإن المرسوم 88/ 131 أعتبر كل فعل يأتيه الموظف ويتسبب في تعطيل أحكامه الرامية إلى تحسين العلاقة بين الإدارة والمواطن جريمة تأديبية، تستوجب العقاب التأديبي، دون المساس بالعقوبات المدنية والجزائية، هكذا نصت المادتان 30 و 40 من هذا المرسوم على ما يلي:
المادة 30: يجب على الموظفين أن يؤدوا واجباتهم طبقا للتشريع والتنظيم المعمول بهما ولا يقبل منهم أي تذرع خصوصا فيما يأتي:
رفض خدمة، أو تسليم عقد إداري يحق للمواطن الحصول عليهما قانونا.
اعتراض سبيل الوصول إلى وثائق إدارية مسموح بالاطلاع عليها.
رفض إعطاء معلومات.
التسبب في تأخير تسليم العقود والأوراق الإدارية أو المماطلة في ذلك دون مبرر.
المطالبة بأوراق أو وثائق لا ينص عليها التشريع والتنظيم الجاري بهما العمل.
فعل ما يمس احترام المواطن وكرامته، وسمعة الإدارة.
وكل إخلال بأحد الواجبات المنصوص عليها أعلاه عمدا يمكن إن ينجز عنه تطبيق إحدى عقوبات الدرجة الثانية على مرتكبيه، وفي حالة العود يمكن تطبيق إحدى عقوبات من الدرجة الثالثة.
المادة 40: يتعرض الموظفون لعقوبات تأديبية قد تصل إلى العزل مع الحرمان من حق المعاش في حالة اعتراضهم لسبيل التدابير المتخذة لتحسين العلاقات بين الإدارة والمواطنين. وهذا دون المساس بالعقوبات المدنية والجزائية التي يتعرضون لها طبقا للتشريع الجاري بها العمل بسبب أخطائهم الشخصية.