القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
نظرا لخصوصيات النزاع الإداري، وما يكتنف العلاقة بين أطرافه من اختلال، ونظرا للطبيعة الموضوعية لدعوى الإلغاء فقد اعتمد القضاء الإداري النظام الحر في الإثبات، مع مراعاة بعض القيود التي تقتضيها المبادئ العامة التي تحكم القضاء، ومنها حقوق الدفاع وواجب الحياد، ولقد ساعد اعتناق هذا النظام قاضي الإلغاء على القيام بدور مهم في إعادة تصحيح الاختلال الحاصل بين أطراف الخصومة الإدارية من حيث الإثبات.
ونظرا للموقف الصعب الذي يقفه المدعي في دعوى الإلغاء فقد ثار جدل فقهي حول مدى وجود قاعدة البينة على من المدعي أمام القضاء الإداري عموما وقاضي الإلغاء خصوصا.
فالإدارة الحائزة للوثائق والمستندات اللازمة للإثبات تشغل في جميع الأحوال مركز المدعى عليه، بسب قرينة سلامة القرارات الإدارية وامتياز الأسبقية والتنفيذ المباشر، بينما يشغل الفرد مركز المدعي المطالب بالإثبات في جميع الأحوال، مع افتقاره لأدلته اللازمة، وفي ظل هذا الوضع لا يماري أحد بأنه من غير العدل تطبيق هذه القاعدة بالشكل الذي تطبق فيه أمام القاضي العادي.
ومع وجاهة أسانيد الفقه القائل بعدم وجود قاعدة البينة على المدعي أمام القضاء الإداري، وبأن القاضي هو المتكفل بتوزيع عبء الإثبات بين أطراف الخصومة الإدارية، إلا أن صعوبة تحديد معيار يوزع القاضي على أساسه هذا العبء، جعلت من بعض الفقه يرى أن القاعدة مطبقة أمام القاضي الإداري لكن مع مراعاة خصوصية النزاع الإداري وما يعتريه من الاختلال بين مراكز أطرافه من حيث القوة.
والحقيقة أن الاختلاف بين الفريقين يؤدي إلى نفس النتائج؛ فالاتفاق منعقد على وجود خصوصية في تطبيق قاعدة “البينة على من ادعى” أمام القاضي الإداري، إذ أنها تتكيف مع طبيعة النزاع الإداري ويظهر ذلك من خلال الصفة الإيجابية للإجراءات القضائية الإدارية، والتي تعتمد على دور القاضي الإداري الذي يقدر مدى تدخله في الإثبات وحدود هذا التدخل حسب كل قضية وفي ضوء ما يكتنفها من ظروف تتعلق بسلوك الإدارة ومدى تعاونها، ومدى ممارستها لسلطة تقديرية في إصدار القرار، ومدى توافر مستندات إدارية كأدلة إثبات، والضابط هو تحقيق العدالة وحماية المشروعية.
ولقد عمل المشرع سواء في الجزائر أو في فرنسا على التخفيف من عدم التوازن الحاصل بين مراكز أطراف دعوى الإلغاء في مجال الإثبات؛ فعلى مستوى ما يطلق عليه الإجراءات الإدارية غير القضائية، أقر المشرع بحق المواطن في الاطلاع على الوثائق الإدارية، ووجوبية تسبيب القرارات الإدارية الفردية الضارة بالمواطن، وإلزام الإدارة ببعض الإجراءات والشروط قبل اتخاذ قراراتها مثل احترام مبدأ الوجاهية في القرارات الإدارية ذات الطابع العقابي.
أما على مستوى الإجراءات الإدارية القضائية فقد عمل المشرع على تقنين أكثر للإجراءات القضائية الإدارية، والنص من خلالها على كيفية تنظيم وإدارة الإثبات أمام جهات القضاء الإداري، بحيث أثرت تأثيرا بالغا ولعبت دورا كبيرا في إعادة التوازن المفقود بين طرفي النزاع في دعوى الإلغاء.
ورغم أهمية هذه التدخلات التشريعية في تخفيف عبء الإثبات على المدعي، إلا أن دور قاضي الإلغاء على مستوى إجراءات الإثبات وعلى مستوى موضوعه لا يمكن الاستغناء عنه من أجل هذه المهمة بل يجب الحرص عليه وتعزيزه أكثر، وهذا هو موضوع الباب الثاني من هذ البحث.