الوجود المادي للوقائع

الفرع الأول: رقابة قاضي الإلغاء تكييفها على الوجود المادي للوقائع وتكييفها

إلى غاية سنة 1914 لم يبحث مجلس الدولة الفرنسي المسائل المتعلقة بالوقائع، ولم يكن حتى ذلك الحين أقره إلا في حالات استثنائية، وبمناسبة حكمه في قضيةGomel  أقر بحقه في الرقابة على التكييف القانوني للوقائع وبالضبط رقابته لتكييف الموقع الذي شيد عليه المبنى هل يعد موقعا تذكاريا، والطبيعة الفنية والجمالية للمنشآت التذكارية والمواقع، حيث كان الأمر يتعلق بمعرفة ما إذا كانت ساحة Beauvau في باريس جادة تذكارية في مفهوم النصوص المتعلقة بالمدينة، ولقد فصل مجلس الدولة في ذلك بعكس ما أخذت به الإدارة من تكييف لهذه الساحة. كما راقب تكييف الإدارة للطبيعة الفنية لإحدى هيئات الموظفين، وما إذا كانت بعض العروض أو المنشورات تمثل خطرا على الشباب، كما مارس رقابته على تكييف الإدارة لمفهوم إعالة أسرة. ومدى اعتبار عقوبات أنها ذات طابع سياسي.

غير أن الخطأ في التكييف القانوني للوقائع لا يؤدي بالضرورة إلى الحكم بعدم مشروعية القرار الإداري وإلغائه، فقاضي الإلغاء يمكنه استبدال هذا السبب بأسباب أخرى صحيحة.؟

وبعد عامين من حكم Gomel الذي أقر فيه مجلس الدولة حقه في الرقابة على التكييف القانوني للوقائع أقر هذا الأخير بمناسبة حكمه في قضية Camino سلطته في الرقابة على الوجود المادي للوقائع والتي لم تظهر إلا بعد ظهور سلطة الرقابة على التكييف القانوني للوقائع؛ وقد يستغرب البعض ذلك؛ لأن إلغاء قرار يستند إلى واقعة لم تحدث أسهل من إلغائه بسبب قيامه على واقعة حدثت ولكن الإدارة أخطأت في تكييفها.

لكن القضاء الإداري الفرنسي كان يعتبر ولعهد طويل أنه حتى باعتبار الغلط في الواقع ثابتا فإن ذلك لا يعد تجاوزا للسلطة، استنادا إلى أن الشرعية لا تشمل إلا مسائل القانون وليس لوجود الأفعال من عدمه أي دور فيها وبالتالي فإن الإدارة وحدها المختصة ببحث مادية الوقائع، وليس للقاضي أن يحل محلها في هذا البحث.

ولقد شبهت رقابة مجلس الدولة الفرنسي على الوقائع في هذه الحالة برقابة قضاء النقض؛ الذي يبحث فقط مدى تطبيق القانون دون البحث في الوقائع ما إذا كانت صحيحة أم لا، غير أن قاضي النقض وإن كان يتخلى عن الرقابة على مادية الوقائع فذلك لأن قاضي الموضوع قد سبقه إليها، وقاضي الموضوع يمكن الركون إليه في هذه المسألة نظرا لحياده أولا، ونظرا للإجراءات القضائية وما فيها من ضمانات ثانيا، أما قاضي الإلغاء فليس له شيء من هذا القبيل؛ لأن الذي سبقه إلى بحث مادية الوقائع هو رجل الإدارة الذي أصدر القرار، وهو رجل ليس له حياد القاضي، وإجراءاته ليست فيها الضمانات القضائية.

وهكذا فإن مجلس الدولة الفرنسي أدرك عدم منطقية هذه التبريرات فقرار ما لا يمكن أن يكون قانونيا إلا إذا استند إلى واقعة ما وغياب هذه الواقعة يجعله غير مطابق للقانون، كما أن اختصاص الإدارة لا يستبعد اختصاص القاضي بمراقبة مدى مشروعية ممارستها لهذا الاختصاص.

لقد عد M. Long et autres حكم Camino البذرة الأولى لكل القضاء اللاحق الذي ييسر مهمة المدعي في الإثبات، والذي وصل إلى إلزام الإدارة بالإفصاح عن أسباب قرارها في وقت لاحقة.

وهكذا تلاحقت قرارات مجلس الدولة الفرنسي التي تقر بحقه في الرقابة على الوجود المادي للوقائع؛ إذ تعززت بقرار سنة 1922 ويتعلق الأمر بحكم مجلس الدولة في قضية Trepont ، والتي تتلخص وقائعها في أن المدعي تمت إحالته على التقاعد بموجب قرار أشير فيه إلى أن هذه الإحالة جاءت بناء على طلبه، وقام المدعي برفع دعوى لإلغاء هذا القرار لعدم صحة واقعة تقديم الطلب، وفي معرض ردها على دفوعات المدعي اتخذت الإدارة من واقعة استدعاء الوزير للطاعن، ومحادثته شفويا بخصوص الإحالة على التقاعد، وموافقة هذا الأخير على الإجراء سببا يقوم مقام الطلب ويبرر قرار الإحالة.

لقد أشار مفوض الدولة في تقريره المقدم بمناسبة هذه القضية إلى أن فكرة الاتفاق تحظى بقسط من المرونة وليس لها نفس المعنى عندما تقوم بين الند والند أو بين الموظف والوزير، وبالتالي فإن الموظف قبل باعتباره موظفا عليه واجب الاحترام لإجراء لا يستطيع دفعه، وهذا لا يمكن أن يقوم مقام الطلب.

ولم يتردد مجلس الدولة في تبني تقرير مفوض الدولة في حكمه الذي جاء فيه: “…وأنه بإصدار القرار مؤسسا على أنه تم بناء على طلبه، فإن الوزير يكون قد أقامه على واقعة غير صحيحة ماديا … ومن ثمة يكون هناك محل لإلغائه لمجاوزة السلطة”.

ولقد واصل مجلس الدولة هذا التوجه خاصة في إلغاء قرارات الإحالة إلى التقاعد التي كانت تدعي الإدارة أنها جاءت بناء على طلب المعني، ويتبين بعد طلب إلغائها عدم وجود واقعة الطلب، كما مثلت القرارات التأديبية مجالا فسيحا هي الأخرى لمثل هذه الرقابة حيث يتبين في العديد من القضايا أن الإدارة تصدر قراراتها التأديبية استنادا إلى أخطاء يثبت بعد ذلك أنها لم ترتكب.

غير أنه -ورغم أهمية رقابة قاضي الإلغاء على الوجود المادي للوقائع وتكييفها – إلا أن دوره في تخفيف عبء الإثبات لا يكمن في هذه الدائرة من الرقابة لأن إثبات عدم وجود واقعة أو الخطأ في توصيفها وفقا للقانون أمر سهل مقارنة بإثبات عدم شرعية قرار إداري من حيث سببه إذا كان هذا السبب موجود ماديا وتكييفه القانوني صحيح، وكل ما في الأمر أنه ليس من الخطورة بحيث يستوجب تدخل رجل الإدارة.