بحث عن الاثبات الإداري

الباب الأول: الاثبات الإداري

ومساهمة المشرع في التخفيف من صعوبته

مرحلة الإثبات هي أهم وأصعب مرحلة من مراحل الخصومة القضائية، بل هي محورها حيث يقدم كل خصم فيها الأدلة المؤيدة لطلباته، وعلى أساس نتائج هذه المرحلة يتم الفصل في طلبات الخصوم التي تمثل الهدف النهائي لرفع الدعوى.

والإثبات من الموضوعات التي تناولها فقهاء القانون بالبحث والتحري سواء في المجال المدني أو التجاري أو الجنائي أو الإداري نظراً لأهميته ومكانته في القانون والواقع.

وتصاغ نظرية الإثبات في كل فرع من فروع القانون بالمراعاة لخصوصيات هذا القانون، وطبيعة العلاقات التي ينظمها، ونظرا للخصوصية التي يتميز بها القانون الإداري، واستثنائية العلاقة التي تربط الإدارة بالأفراد، فإن النزاعات التي تنشأ عن هذه العلاقة، تتم معالجتها في ظل القواعد الاستثنائية التي يعرفها القانون الإداري.

وفي ظل الامتيازات التي تتمتع بها الإدارة فإن دعوى الإلغاء يكون المدعي فيها في جميع الأحوال هو الفرد، ويكون بذلك هو المكلف بعبء الإثبات؛ وفي ظل عدد من الاعتبارات القانونية والواقعية التي تجعله من إثباته لما يدعيه ضد الإدارة من الصعوبة بمكان؛ نظرا لافتقاره لأدلة الإثبات الموجودة في حوزة الإدارة، أو الصعوبة إثبات خروج الإدارة عن القانون إذا مارست سلطاتها استنادا إلى اختصاص تقديري، وهكذا يتضح أن الإثبات في دعوى الإلغاء يتسم بطابع استثنائي؛ شأنه شأن باقي مواضيع القانون الإداري.

نحاول في هذا الباب التعرف على خصوصية الإثبات الإداري في الفصل الأول، وإلى مساهمة المشرع في التخفيف من صعوبته في الفصل الثاني.

 

الفصل الأول: خصوصية الإثبات الإداري.

تمرّ الخصومة القضائية بعدّة مراحل تبدأ برفع الدعوى وتنتهي بالفصل فيها، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بعد المرور بأصعب مرحلة وهي مرحلة الإثبات، وإن كان متفقا على صعوبة هذه المرحلة في جميع أنواع الدعاوى، إلاّ أنّها أكثر ما تكون في دعوى الإلغاء لخصوصيتها.

لقد كانت خصوصية النزاع الإداري التي تتجلى في عدم تساوي مراكز أطرافه وسعي أحدهما للمصلحة العامة بينما يسعى الطرف الآخر لمصلحته الخاصة مبررا لازدواجية القانون، كما كانت مبررا لازدواجية القضاء وخصوصية قواعد الاجراءات القضائية المتبعة أمام القضاء الإداري ومن ضمنها قواعد الإثبات.

ولقد ترتب عن خصوصية عدم توازن العلاقة بين أطراف النزاع الإداري أهم خصوصية للاثبات الإداري وهي صعوبته، ونظرا لخصوصية دعوى الإلغاء بين الدعاوى الإدارية فإن خصوصية الإثبات تكون فيها تكون أشد.

نتطرق في هذا الفصل إلى خصوصية قواعد الإثبات الإداري في المبحث الأول، وإلى عناصر الموقف الصعب للمدعي بالإلغاء في المبحث الثاني.

المبحث الأول: خصوصية قواعد الإثبات الإداري.

يقف المدعي في الدعوى الإدارية عموما ودعوى الإلغاء خصوصا موقفا استثنائيا من حيث الإثبات مقارنة بموقفه في مختلف الدعاوى القضائية الأخرى، وهو ما يجعل إخضاع هذا الموقف الاستثنائي في الإثبات إلى القواعد العادية في هذا الموضوع متسمة باللاعدالة. ويستوجب خصوصية في قواعد الإثبات الإداري مراعاة لخصوصية الدعوى الإدارية.

إن خصوصية قواعد الإثبات الإداري تمثل مظهرا من مظاهر خصوصية الإجراءات التي ينتمي إليها، كما أنها في نفس الوقت نتيجة من نتائجها، ولهذا ارتأينا التذكير بأهم خصائص الإجراءات القضائية الإدارية في مطلب أول.

ثم التطرق إلى القواعد العامة في الإثبات، وبحث مدى تطبيقها في الدعوى الإدارية. في المطلبين الثاني والثالث من هذا المبحث، ويتعلق الأمر بمسألتين مهمتين هما:

قاعدة عبء الإثبات  ( المطلب الثاني)

أنظمــــــــــــــــة الإثبات  (المطلب الثالث)

المطلب الأول: خصوصية الإجراءات القضائية الإدارية.

لم يخصص المشّرع الجزائري قانونا مستقلاً لإجراءات التقاضي في المنازعات الإدارية؛ بل اكتفي بتخصيص الكتاب الرابع من القانون رقم: 08/09 المؤرخ في 25 فيفري 2008 والمتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية لأحكام الإجراءات المطبقة أمام الجهات القضائية الإدارية؛ إلاّ أن مجرد تفحّص بسيط لأحكام هذا الكتاب يعطينا فكرة عن مدى حرص المشرّع في هذا القانون على إبراز خصوصية الإجراءات المتبعة أمام المحاكم الإدارية ومجلس الدولة مراعاة لخصوصية النزاع الإداري.

إنّ تفحّص مواد الكتاب الرابع من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري يبرز لنا أن إجراءات التقاضي الإدارية بالنسبة للقاضي الإداري وسيلة لتحقيق التوازن بين الطرفين، ومن ثمة فإنها وسيلة لتحقيق العدالة وليست أداة للمبارزة بين الخصوم.

ويتحقق ذلك من خلال سمتين أساسيتين تتسم بهما إجراءات التقاضي الإدارية:

– الصفة الإيجابية للإجراءات القضائية الإدارية (الفرع الأول).

– الصفة الكتابية للإجراءات القضائية الإدارية (الفرع الثاني).

الفرع الأول: الصفة الإيجابية للإجراءات القضائية الإدارية.

بينما يقوم القاضي العادي بالاختيار بين الأطراف على أساس الحجج التي يقدّمونها وإعلان المنتصر، يلعب القاضي الإداري دور مدير اللعبة، فبمجرّد تحريك الدعوى يلقى العبء عليه لتسيير الخصومة، فهو الذي يضمن إخطار المدّعى عليه بالعريضة والبدء في إجراءات تحقيق القضية دون انتظار طلب ذلك من طرف الخصوم. وهو لا يقوم بهذا الدور خدمة لمصالح أطراف النزاع؛ وإنما كموظف مكلف بتسيير قضية بأيسر وأبسط الطرق وأسرعها للوصول إلى الحل الضروري، وذلك في إطار حرية واسعة لا يحدها إلى احترام حقوق الأطراف من جهة، والالتزام بعدم الأمر بإجراءات تحقيق يكون القصد منها المغالطة أو المماطلة من جهة أخرى.

وفي فرنسا ابتداء من قانون 22 جويلية 1889 فإن إجراءات التقاضي الإدارية مسيرة من طرف القاضي، وتظهر ايجابيتها من خلال الدور الذي يقوم به القاضي في الدعوى منذ رفعها وإلى غاية الحكم فيها؛ فهو الذي يهيمن على إجراءاتها بشكل يقترب فيه من دور القاضي الجزائي، ومرجع ذلك في دعوى الإلغاء يعود إلى الطبيعة الموضوعية لهذه الدعوى واتصالها بالصالح العام من ناحية، ووضع أطرافها غير المتوازن من ناحية أخرى.

إن النقص الشديد في نصوص قانون الإجراءات الإدارية في بداية تطور القضاء الإداري، كان هو الآخر أحد مبررات الدور الإيجابي للقاضي الإداري، الذي يجد نفسه مطالبا بالقيام بدور فعال إذا ما تعارضت نصوص قانون الإجراءات المدنية التي يلجأ إليها في حالة عدم وجود نصوص خاصة بقانون الإجراءات الإدارية مع طبيعة الدعوى الإدارية.

إن المتفحص للكتاب الرابع من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري، تبدو له بجلاء مظاهر الدور الإيجابي للقاضي الإداري في الخصومة الإدارية منذ رفع الدعوى وإلى غاية الحكم فيها، حيث يضمن القاضي الإداري إخطار أطرافها بالدعوى وإجراءاتها، ويأمر بالاطلاع على المستندات، ويحدد المواعيد الخاصة بذلك، كما يحدد مواعيد إيداع الردود والمذكرات لضمان حضورية الإجراءات، ويحدد وسائل تحضير الدعوى وتحقيقها، كالأمر بتقديم المستندات وأمر الإدارة بتقديم القرار المطعون فيه في أول جلسة ويستخلص النتائج المترتبة عن امتناعها عن تقديمه. والأمر بمختلف وسائل الإثبات، كالخبرة والانتقال للمعاينة وسماع الشهود دون الإلتزام بالاستجابة لما يطلبه الأطراف في هذا الشأن، كما أن له أن يقرر في أي وقت، وفي حالة الضرورة جدولة أي قضية للجلسة للفصل فيها، حتى وإن لم يعلن الأطراف انتهاءهم من تبادل مذكرات الدفاع، كما يجوز له في حالة الضرورة أن يقرر إعادة السير في التحقيق بموجب أمر غير مسبب وغير قابل لأي طعن، و يحدد التاريخ الذي يختتم فيه التحقيق، ويمكن له أن يأمر بأن لا محل للتحقيق حينما يبدو له من الوهلة الأولى أن مضمون الحكم في الدعوى واضح، كما يقوم بإخطار الأطراف بكل ما يراه مفيدا في حل القضية، دون أن يكون ملزما بالتزام السكوت، بل إذا تبين له أن حل القضية يمكن أن يكون مؤسسا على وجه مثار تلقائيا، يعلم الخصوم قبل جلسة الحكم بهذا الوجه ويحدد لهم أجلا لتقديم ملاحظاتهم على الوجه المثار، وهذا منتهى الدور التدخلي فهو يعني أن القاضي يستطيع إثارة وجه تلقائيا لم يثره الأطراف، ولا يتعلق الأمر هنا-كما هو الحال في فرنسا- بدعوى الإلغاء ذات الطبيعة الموضوعية فقط، ولكن الأمر ينصرف لجميع الدعاوى الإدارية بما فيها دعاوى القضاء الكامل التي تقوم على حق شخصي.

ويمكن للقاضي الإداري أن يوجه إنذارا إلى الطرف المتقاعس، بحيث إذا التزم الصمت حتى فوات الميعاد المحدد يعتبر متنازلا عن دعواه إذا كان مدعيا، أو مسلّما بصحّة ادعاءات المدعي إذا كان مدعا عليه، أما في مصر فيمكن للقاضي بصفة عامة توقيع غرامة على الطرف المتراخي في تنفيذ المطلوب. وللقاضي اتخاذ ما يراه لازما أن القانون يلزمه بالفصل في القضية في آجال معقولة.

وتتم الاستيفاءات والإخطارات التي يباشرها القاضي بمعرفة كتابة ضبط الجهة القضائية المرفوعة أمامها الدعوى، بالطرق الإدارية والعادية التي تراها مناسبة، ولا تتم من طرف الأطراف أنفسهم عن طريق المحضرين القضائيين كما هو معروف في الإجراءات المدنية.

ولا توجد صيغة أو شكلية أو وسيلة محددة لها، فقد يأمر القاضي بالإجراء في محاضر الجلسات، أو بتأشيره على ورقة من أوراق الملف، أو على غلاف القضية، وقد يتم ذلك بالمراسلات الموجهة إلى الجهة الإدارية مباشرة، وقد تتم بالاتصال التلفوني مع إثبات ذلك في أوراق الملف.

وعلى العموم يمكن القول أن القاضي هو الذي يسيطر على سير إجراءات الدعوى التي تتطلب التدخل والعناية المستمرة من جانبه، ويوجه إلى الأطراف التعليمات والتوجيهات المناسبة التي لا تعني المساس باستقلال الإدارة.

إن الصفة الإيجابية للإجراءات لا تظهر في السلطات الممنوحة للمستشار المقرر فحسب، وإنما يساهم فيها كذلك محافظ الدولة من خلال دوره الإيجابي جدّا، خاصة في مجال إثبات أوجه الإلغاء في القرار الإداري.

إن دور محافظ الدولة يبدأ عندما يسلمه المستشار المقرر الملف الذي يحتوي عرائض ومذكرات الأطراف والوثائق المرفقة بها، وتقرير القاضي المقرر الذي يكون قد درس الملف، والذي يتولى دراسة الملف ثانية، ليقدم التماساته في شكل تقرير مكتوب وفي أجل شهر من استلام الملف من القاضي المقرر.

إن الدور الإيجابي لمحافظ الدولة في الإجراءات يتجسد في مضمون هذا التقرير، الذي حرص المشرع على تحديد عناصره ومواصفاته، بحيث لا يجوز له أن يختزل طلباته في عبارات موجزة كتفويض الرأي إلى المحكمة، أو طلب تطبيق القانون، بل ألزمه المشرع بأن يتضمن الوقائع والقانون والأوجه المثارة ورأيه حول كل مسألة مطروحة والحلول المقترحة، للفصل في النزاع مع اختتامه بطلبات محددة.

رغم كل هذا الدور التدخلي للقاضي الإداري فإن أستاذنا الدكتور مسعود شيهوب، يرى أنه مازال مقيدا، ولم يبلغ الحد المعروف في فرنسا بسبب انعكاسات النظام الإجرائي الذي يتّسم في عمومه بطابع موحد، ولا أدل على ذلك من سلسلة الإحالات التي طالت أغلب المواد المنظمة لوسائل التحقيق في الدعاوى المرفوعة أمام المحاكم الإدارية إلى أحكام المواد المتعلقة بنفس الموضوع أمام المحاكم العادية، وإن كانت هذه الأخيرة أيضا اتجهت أكثر نحو منح القاضي المدني دورا تدخليا له مبرراته؛ بل إن مفهوم دور القاضي المدني في لحاق بمفهوم دور القاضي الإداري، وإن كتب للنظامين الإجرائيين الاستمرار في التميز فإن ذلك لا يعود حسب الأستاذ René CHAPUS إلى روحهما ولكن إلى الكيفيات التي يمارس بها هذا الدور.

إن من شأن هذا الدور الذي يقوم به القاضي التخفيف من آثار عدم التوازن بين أطراف الدعوى الإدارية عموما، ودعوى الإلغاء خصوصا، كما أن من شأنه تبسيط الإجراءات، وتجنب تكبيد الأطراف تكاليف كبيرة، لعدم الحاجة للاستعانة بمحضرين قضائيين، أو لتقديم مذكرات لا جدوى منها على النحو الذي يقدره القاضي.

وأخيرا فإنه وكما يقول أستاذنا الدكتور مسعود شيهوب بحق، لا يتعين على القاضي الإداري فقط تكريس هذه السلطات التي منحها له المشرع، بل عليه أن يتوسع فيها ويضيف إليها حالات أخرى لضمان حد أدنى من التوازن بين أطراف الدعوى، فكما أن حماية المجتمع ليست مهمة الضحية في الدعوى الجزائية بل هي مهمة القاضي، فحماية مبدأ المشروعية أيضا ليست مهمة المدعي في دعوى الإلغاء وحده بل هي مهمة القاضي الإداري أيضا.

خلاصة القول أن حياد القاضي المدني يختلف عن حياد القاضي الإداري، ويعود في رأينا ذلك إلى سببين أساسيين يتعلق الأول بطبيعة دعوى الإلغاء الموضوعية، التي تستوجب البحث عن حقيقة مفادها مدى مشروعية القرار محل دعوى الإلغاء، وهو هدف موضوعي -لا يستهدف حماية حق شخصي للطاعن – فلا يكون إذا هو المتكفل الوحيد بالبحث عنه، ويعود السبب الثاني إلى خاصية عدم توازن القوة بين مراكز أطراف دعوى الإلغاء وما يتطلبه ذلك من دور إيجابي للقاضي من أجل كفالة هذا التوازن.

الفرع الثاني: الصفة الكتابية للإجراءات القضائية الإدارية.

إن نص المادة التاسعة من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري ألغي أي تمييز بين الإجراءات المدنية والإجراءات الإدارية من حيث هذه الصفة بقوله: “الأصل في إجراءات التقاضي أن تكون مكتوبة”، وينصرف هذا النص إلى جميع إجراءات التقاضي التي يتعلق بها هذا القانون، لأن المادة التاسعة جاءت ضمن باب الأحكام التمهيدية.

ومع ذلك وحتى وإن لم تعد الصفة الكتابية ميزة تتميز بها الإجراءات الإدارية عن الإجراءات المدنية، إلا أنها تبقى صفة من صفات الإجراءات الإدارية، التي لها مبرراتها وآثارها، ولهذا يمكن أن نقول أنه وإن كانت الإجراءات المدنية قد اكتسبت الصفة الكتابية بعد البلوغ والنضج، فإن الكتابية صفة أصيلة في الإجراءات الإدارية، لصيقة بها منذ الميلاد، ولهذا يرجع بعض الفقه الصفة الكتابية للإجرءات الإدارية إلى الأصل الإداري للمنازعات الإدارية.

وهناك من الفقه من يرد هذه الصفة إلى طبيعة أطراف الدعوى الإدارية؛ حيث تكون الإدارة دوما طرفا فيها، وهي شخص معنوي يعتمد في إثبات تصرفاته على الأوراق والكتابة، باعتبار أن الكتابة هي وسيلة التعبير العادية للإدارة.

كما أنه ولكون الهدف من الدعوى الإدارية حماية مبدأ المشروعية تطلب الأمر تحديد الوقائع والحجج بالأوراق ودراستها حتى يتسنى إنزال حكم القانون على الوجه الصحيح. ولهذا فإن الإجراءات أمام القاضي الإداري، خصوصا في مرحلة التحضير تكون في الأصل كتابية وليست شفهية.

والصفة الكتابية لعناصر الإثبات تناسب مبدأ وجاهية الإجراءات الذي يمثل أصلا عاما في التقاضي، بموجبه يتم الفصل في الدعوى على أساس ما قدم فيها من أوراق ومستندات كانت تحت نظر طرفيها، وكان بوسعهم الاطلاع عليها ومناقشتها.

وإذا كان المشرع الجزائري نص صراحة في قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري على هذه الصفة الكتابية لإجراءات التقاضي، فإن هذه الصفة تستفاد في القانون المصري من نص المادة 25 من قانون مجلس الدولة على ضرورة إقامة الدعوى بعريضة تعلن بمرفقاتها إن وجدت إلى الجهة الإدارية المعنية، وإلى ذوي الشأن في موعد لا يجاوز سبعة أيام من تاريخ تقديمها. ونص المادة 26 من نفس القانون على أنه على الجهة الإدارية المعلنة بعريضة الدعوى الرد عليها بأن تودع قلم كتاب المحكمة خلال 30 يوما من إعلانها بها مذكرة بالبيانات والملاحظات المتعلقة بالدعوى مشفوعة بما يؤيدها من مستندات.

غير أنه وإن كانت الصفة الكتابية أصلا في الإجراءات الإدارية إلا أن ذلك لا يعني حرمان الأطراف من إبداء ملاحظاتهم الشفوية أثناء الجلسة؛ فقد نصت المادة 884 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري على أنه: “…يجوز للخصوم تقديم ملاحظاتهم الشفوية تدعيما لطلباتهم الكتابية” ويترتب على عبارة “تدعيما لطلباتهم الكتابية” نتيجتين مهمتين وهما:

  • أن الطرف الذي لم يودع مذكرة مكتوبة ليس له الحق في إبداء ملاحظات شفوية، وهذا ما قضى به مجلس الدولة الفرنسي.

  • وفي هذا أيضا دلالة على أن هذه الملاحظات لا تكون إلا من أجل التنبيه على بعض النقاط في العرائض المكتوبة التي أودعها الأطراف، وليس من أجل المرافعة، كما هو عليه الحال أمام القاضي العادي.

إن القاضي لا يمكنه حرمان الخصوم من تقديم ملاحظاتهم الشفهية لكونها حق لهم بموجب النص الصريح للمادة التي نصت على أنه يجوز للخصوم تقديم ملاحظاتهم الشفوية، ولم تنص على أنه يجوز للقاضي السماح للخصوم بتقديم ملاحظاتهم الشفوية، كما هو الشأن في الفقرة الموالية المتعلقة بسماع أعوان الإدارة ودعوتهم لتقديم توضيحات أو سماع أي شخص حاضر يرغب أحد الخصوم سماعه، فهذه الحالات ربطها المشرع بإرادة القاضي، بقوله: “يمكن لرئيس تشكيلة الحكم”، بينما ربط الحالة الأولى بإرادة الخصوم وحدهم بقوله: “يجوز للخصوم”.

ومما يؤكد ذلك أن المشرع نظم كيفية الاستماع لملاحظات الخصوم الشفوية بنص المادة 887 بقولها: “يتناول المدعى عليه الكلمة أثناء الجلسة بعد المدّعي، عندما يقوم هذا الأخير بإبداء ملاحظات شفوية”.

إن الأمر على خلاف ذلك في القانون المصري، إذ قررت المحكمة الإدارية العليا أن نظام إجراءات التقاضي الإدارية يقوم أساسا على مبدأ المرافعات التحريرية في مواعيد محددة منضبطة يستطيع ذوو الشأن فيها أن يقدموا مذكراتهم كتابة مع مستنداتهم، وعلى تحضير الدعوى بمعرفة هيئة مفوضي الدولة، و ليس من حق ذوي الشأن الإصرار أمام المحكمة على طلب المرافعة الشفوية، وإنما لرئيس المحكمة أن يطلب إليهم أو إلى المفوض ما يراه لازما من إيضاحات”، و يرى الدكتور ماهر أبو العينين في هذا الحكم مساسا بمبدأ دستوري؛ هو مبدأ علنية الجلسات الذي لا تكون له قيمة ما لم تكن المرافعة مسموحا بها أمام المحكمة.

إن منطق الصفة الكتابية للإجراءات القضائية الإدارية يقودنا إلى اعتبار أن القاضي الإداري ليس ملزما مبدئيا وفي غياب النص بأن يطلب من تلقاء نفسه من الأطراف أن يبدو ملاحظاتهم، أو ينبههم إلى ذلك، وهذا يقود أيضا إلى اعتبار أن عدم حضور المدعي إلى الجلسة لا يعتبر خطأ، كما أن حضور المحامي ليس لازما.

ويثور الإشكال في هذا الصدد حول مدى إلزام القاضي بالرد على الأوجه المقدمة شفويا بالجلسة، لقد أجاب مجلس الدولة الفرنسي على ذلك في العديد من أحكامه بأنه وفي جميع الأحوال فإن الملاحظات الشفوية المقدمة لا تجب الإجابة عليها أو حتى الإشارة إليها في الحكم؛ ما لم يؤكد عليها بمذكرة مكتوبة أثناء الجلسة، وهذا يعني أن هذه الملاحظات لا تمثل خروجا فعليا عن الصفة الكتابية لإجراءات التقاضي الإدارية. وعلى هذا يكون المظهر الوحيد للشفهية في الإجراءات القضائية الإدارية حسب الأستاذ René CHAPUS هو تلاوة مفوض الحكومة لتقريره المكتوب.

إن هذا الحل هو الذي اعتمدته المادة 886 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية. الجزائري يقولها: “… غير أن القاضي غير ملزم بالرد على الأوجه المقدمة شفويا بالجلسة ما لم تؤكد بمذكرة كتابية”.

وأخيرا تجدر الإشارة إلى أنه وإن كان القاضي غير ملزم مبدئيا وفي غياب النص بأن يطلب من تلقاء نفسه من الأطراف أن يبدوا ملاحظاتهم، إلا أنه يجوز له طلب بيان ما غمض في المذكرات والوثائق، على أن لا يتجاوز ذلك حدود الإيضاح والبيان، ولا يعتبر ذلك حسب الدكتور أحمد كمال الدين موسى من قبيل المرافعات الشفهية، إذ أن الحجج والوقائع يتعين سردها بالتفصيل في مذكرات ترفق بالملف، وتكون تحت نظر الخصوم قبل الفصل في الدعوى، ويستند إليها القاضي في حكمه.

وهكذا يمكن القول أن بعض مظاهر الشفهية المنصوص عليها في قانون الإجراءات المدنية، لا تمثل خروجا عن مبدأ كتابية الإجراءات القضائية الإدارية، فما هي إلا وسائل تكميلية -إن صحت التسمية- وليست أساسية في الدعوى؛ فالتوضيحات الشفوية لا تكون إلا من أجل تدعيم طلبات كتابية، وهي فوق ذلك غير مستوجبة للرد ما لم تدعم بمذكرة كتابية أثناء الجلسة، وتلاوة المستشار المقرر ومحافظ الدولة لتقريريهما ما هو إلا مجرد قراءة لما هو مكتوب أصلا على أسماع الحاضرين.

إن الصفة الكتابية للإجراءات الإدارية تمنح مزايا عديدة في صالح العدالة، فهي تعطي القاضي فرصة للدراسة الوافية والعميقة لملف الدعوى من واقع ما أودع به من مستندات، أو مذكرات أو ملاحظات مكتوبة دون حاجة إلى الاعتماد على الذاكرة لاسترجاع ما قيل من دفاع شفهي أثناء الجلسة، وبعيدا عن انفعالات الجلسة وظروفها الطارئة، كما أنها تمنح لكل طرف الرد بدقة وهدوء على أوجه الدفاع المثارة من الطرف الآخر؛ فالكتابة هي وسيلة الإبداع وجمع وتحليل الأفكار بعمق، كما أنه بفضل كتابية الإجراءات الإدارية فإن الخصوم يعلمون مقدما وجهات النظر المختلفة لبعضهم البعض، حيث تسمح الصفة الكتابية للإجراءات لكل من القاضي والأطراف أن يكونوا على اتصال تام وكامل ودائم بمجريات سير التحقيق عن طريق المذكرات المقدمة سلفا، وهكذا يمكنهم تجنب عنصر المفاجأة التي تتسم بها المرافعات الشفوية ؛ وإذا كانت الشفوية أكثر ملاءمة لمتطلبات الوجاهية فإن الكتابية أكثر ملاءمة لمتطلبات الأمان.

وتصب الكتابة أيضا في هدف تبسيط الإجراءات ورفع الكلفة عن المتقاضين، فمن شأنها التيسير على أطراف الخصومة بتجنيبهم مشقة الانتقال إلى المحكمة، حيث يكفي إرسال المستندات وملاحظات الدفاع.

إن اتسام الإجراءات الإدارية بالصفتين الكتابية والإيجابية له الأثر الكبير في الحكم على مدى تطبيق القاعدة العادية في الإثبات في مجال الإثبات الإداري، كما له الأثر الكبير أيضا في تحديد نظام الإثبات المعتمد أمام القاضي الإداري وهو موضوع المطلبين القادمين من هذا المبحث.

 قاعدة عبء الإثبات .

مرحلة الإثبات هي أهم وأصعب مرحلة من مراحل الخصومة القضائية، بل هي محورها حيث يقدم كل خصم فيها الأدلة المؤيدة لطلباته، وعلى أساس نتائج هذه المرحلة يتم الفصل في طلبات الخصوم التي تمثل الهدف النهائي لرفع الدعوى.

والإثبات من الموضوعات التي تناولها فقهاء القانون بالبحث والتحري سواء في المجال المدني أو الجنائي أو الإداري نظراً لأهميته ومكانته في القانون، ولذلك كثرت التعاريف التي ذكرها الفقهاء للإثبات.

قبل التطرق إلى القاعدة العادية في عبء الإثبات في الفرع الثاني، وقبل التطرق إلى مدى تطبيقها في دعوى الإلغاء في الفرع الثالث، يجدر بنا التطرق إلى تعريف الإثبات وبيان أهميته في الفرع الأول.

الفرع الأول: تعريف الإثبات وأهميته.

عرف الدكتور عبد الرزاق السنهوري الإثبات بأنه: “إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون على وجود واقعة قانونية ترتب آثارها”.

كما عرفه الدكتور جلال العدوي بأنه: “إقامة دليل يرجح وجود أو انتفاء واقعة قانونية يتوقف على وجودها أو انتفائها تقرير وجود أو انتفاء أثر قانوني متنازع عليه وذلك بالقيود التي يفرضها القانون”.

وتشترك مجمل التعريفات التي أوردها الفقه للإثبات في ثلاثة عناصر هي:

1) الإثبات يعني إقامة الدليل.

2) الإثبات لابد وأن يتم من خلال الطرق التي حددها القانون.

3) لابد أن ينصب الإثبات على واقعة قانونية تترتب عليها أثار.

وفي الشريعة الإسلامية يعرف الإثبات بأنه: “إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددتها الشريعة على حق أو على واقعة معينة تترتب عليها أثار”، كما عرف بأنه:” إقامة الحجة أمام القضاء بالطرق التي حددتها الشريعة على حق أو واقعة تترتب عليها آثار شرعية”.

ويستنتج من هذا التعريف العناصر التالية للإثبات في الشريعة الإسلامية وهي:

1 إقامة الدليل: يعني تقديمه إلى من يراد إقناعه بالأمر، ولا يعني إنشاؤه.

2 أمام القضاء: وهذا قيد ضروري في الاثبات القضائي، ويفهم منه أن الإثبات ينصب على أمر متنازع فيه مرفوع أمام القضاء ليبت في شأنه.

3 بالطرق التي حددتها الشريعة: وهذا يعني أن أحكام الإثبات أحكام شرعية لا يجوز إقامة الدليل أمام القضاء على حق إلا بالوسائل التي حددتها الشريعة.

4 على حق أو واقعة: وهذا الحق أو الواقعة هو محل الإثبات.

5 تترتب عليها آثار شرعية: وهذا هو الهدف والغاية من الإثبات، فلا يصح إثبات أمر أو واقعة لا يترتب عليه أثر من الآثار.

وللإثبات أهمية بالغة، فهو الذي يثبت به الحق المتنازع عليه، وتثبت به المراكز القانونية، ونظريته تطبق يوميا أمام المحاكم، ويتحقق به حقن الدماء، وصيانة الأعراض، ورد الحقوق إلى أصحابها، واستتباب الأمن في المجتمع، وسيادة الطمأنينة والنظام.

والإثبات هو الذي يبعث الروح في الحق ويجعله قابلا للاستفادة منه أو المطالبة به، وهو للحقوق النشر للقوانين؛ فمتى اعتدي على الحق الثابت كان للمعتدي على حق اللجوء إلى القضاء لكي يطالب به، ويحاول بما يملك من أدلة إقناع القاضي بالحكم لصالحه، وذلك قصد حماية هذا الحق؛ لأن الحق إذا لم يدعم بوسائل إثبات يصبح هو والعدم سواء.

وفي هذا المعنى تقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للقانون المدني المصري رقم 25 لسنة 1968: “إن الحق يتجرد من كل قيمة إذا لم يقم الدليل على الحادث الذي يستند إليه، فالدليل هو مقصد حياته ومقصد النّفع فيه، ومن ثم صدق القائل بأن الحق مجرداً من دليله يصبح عند المنازعة فيه هو والعدم سواء”.

ويقول Planiol : ” إن الإثبات يبعث الحياة في الحق، ويجعله مفيدا، وهذا ما يكشف عن الأهمية العلمية للمسائل المتعلقة بالإثبات لمن يريد الحصول على الاعتراف بحق معين”.

ويقول الدكتور محمد الزحيلي: “وتتأكد أهمية الإثبات أنه عام في جميع الحقوق، سواء أكانت من الحقوق العامة، أم من الحقوق الخاصة، وسواء في ذلك الحقوق المالية والحثوث العائلية، وسواء الحقوق المادية والحقوق المعنوية والأدبية، وإن وظيفة الإثبات يومية ودائمة على مر الزمان والعصور، ويلجأ إليه الأفراد في كل نزاع، ويستخدمه القاضي في كل قضية، ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على إحدى المحاكم لنرى مئات الأشخاص وآلاف الدعاوى تتوقف كلها سلبا وإيجابا على الإثبات”.

الفرع الثاني: القاعدة العادية في عبء الإثبات.

عبء الإثبات اصطلاحا هو تكليف أحد الخصوم بإقامة الحجة والدليل على دعواه. ولذلك يجب تحديد من يكلف بعبء الإثبات.

إن الذي يقوم بالإثبات هو الخصوم في ظل مبدأ حياد القاضي وعدم قضاءه بعلمه الشخصي، ومنه فإن تكليف أحد الخصوم بإقامة الحجة والبيئة على الشيء المتنازع عليه أمر في غاية الخطورة لأنه يؤثر في سير الدعوى وفي نتيجتها ويجعل الخصم الذي يلقى عليه عبء الإثبات في مركز دون مركز خصمه، إذ يكلف بالقيام بعمل إيجابي تتوقف عليه نتيجة الدعوى؛ بينما يكتفي خصمه بأن يقف من الدعوى موقف سلبيا.

وقد لا يكون الحق ثابتا بوضوح لأي من الطرفين، بل قد يكون الحق متراوحا بينهما، ولهذا فإن القاضي إزاء هذا الموقف يفتقر إلى ما يرجح أحد الادعاءين ولا يستطيع الترجيح إلا بمرجح أصلي أو بتقديم الحجة والدليل والا كان ترجيحه بدون مرجح وهو باطل.

وقد يتوقف مصير الدعوى في أحيان كثيرة على تحديد من يقع عليه عبء الإثبات، ولذلك كانت قواعد عبء الإثبات هي أولى قواعد الإثبات وأهمها، حيث أن إلقاء عبء الإثبات على أحد الخصمين معناه أن يحكم له أو لخصمه.

وتظهر أهمية تحديد المكلف من الخصوم بعبء الإثبات في الصعوبة العملية التي تكتنف الإثبات سواء في تعذر الحصول على الدليل أو في خضوع هذا الدليل للتنفيذ والتشكيك من الطرف الأخر في الخصومة أو في السلطة التقديرية المقررة لمحكمة الموضوع في تقدير دلالة الدليل المقدم على الواقعة محل الإثبات.

يقول الدكتور محمد مصطفى الزحيلي: “إن معرفة القواعد في عبء الإثبات ذات أهمية عظيمة، لأنه يترتب على تكليف أحد الخصمين بالإثبات حكم ضمني من القاضي بتصديق الطرف الثاني، وترك محل الإثبات في يده والاكتفاء بقوله، وترجيح جانبه على جانب الأول، فإذا تعذر على المكلف بالإثبات إقامة الحجة على دعواه، أو قدم دليلا ضعيفا، خسر حقه مع احتمال صدقه”.

وهكذا فإن الخصم الذي يكلف بعبء الاثبات يكون في موقف صعب وحرج لأنه نتيجة للعجز عن تقديم الدليل يعرض حقه للضياع و خسارة الدعوى بخلاف الطرف الآخر الذي يعفي من عبء الاثبات فيكتفي باتخاذ موقف سلبي من النزاع.

وعبه الإثبات بالإضافة إلى كونه واجبا فهو حق لصاحبه، فإن من يرفع الدعوى ويطالب بالحق من غيره يحق له أن يثبت دعواه ويقيم الدليل عليها ليحكم له بها.

أولا: قاعدة البينة على المدعي.

من القواعد المتفق عليها في القانون وفي الشريعة الإسلامية أن عبء الاثبات يقع على المدعي، ففي الفقه الاسلامي اتفق فقهاء الشريعة الاسلامية على أن البيئة على المدعي ودليلهم في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: ” البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه”، وقال كذلك: “لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم و لكن البينة على المدعي”.

ولقد كرّس المشرع الجزائري هذه القاعدة بموجب أحكام المادة 323 من التقنين المدني بقوله: “على الدائن اثبات الالتزام وعلى المدين إثبات التخلص منه”

وتنص المادة “1315 ” من القانون المدني الفرنسي على أن ” من يطلب تنفيذ التزام عليه إثباته، وعلى من يدعي التخالص إثبات الوفاء أو الواقعة التي أدت إلى التخالص من الالتزام “

وتنص المادة الأولى من قانون الإثبات المصري رقم 25 لسنة 1968 على أن: ” على الدائن إثبات الالتزام وعلى المدين إثبات التخلص منه “

إن معنى هذه القاعدة أن الذي يلقي عليه عبء الإثبات هو المدعي، فمن يدعي أمرا يلزمه إقامة الدليل عليه. والحكمة في جعل البينة في جانب المدعي هي أن جانبه ضعيف لأنه يدعي خلاف الظاهر فكانت البينة عليه لإظهار ما خفي وكشف ما استتر واثبات أن هذا الأمر الظاهر الذي يبدو معهودا للكافة ليس على حقيقته وإنما هناك أمر خفي عليهم، أما المدعى عليه فلا يكلف بإقامة بينة لأن قوله مؤيد بالظاهر، وإذا أقام المدعي البيئة وجب على القاضي أن يحكم له بها مادامت كافية لإثبات الحق.

وحتى لو تكفل المدعى عليه بإثبات حقه على الشيء المدعي وأخفق في ذلك فلا يحكم للمدعي لمجرد عدم استطاعة المدعى عليه التدليل على عدم صحة الدعوى لأن ذلك يخالف قاعدة البينة على من أدعي، أما إذا أقام المدعي البيئة وثبت للمحكمة فوق ذلك عدم استطاعة المدعي عليه التدليل على عدم صحة الدعوى فحكمت للمدعي، فإن حكمها لا يكون قائما على عدم استطاعة المدعى عليه نفي صحة الدعوى و إنما يكون الحكم مؤسسا على بينة المدعي.

ثانيا: المقصود بالمدعي في مجال الإثبات.

رغم أن الإجماع قائم على أن الذي يقوم بالإثبات ويتحمل عبئه هو المدعي؛ إلا أن الأمر من الصعوبة بمكان؛ إذ يصعب في الكثير من الأحوال تمييز المدعي من المدعى عليه؛ وبالتالي تعيين من يكلف بإقامة الحجة؛ ولهذا وجب تحديد من هو المدعي والمقصود به.

ولا شك أن من يذهب أولا إلى ساحة القضاء ليرفع دعوى قضائية ضد الطرف الآخر بعد مدعيا وهو الذي يكلف خصمه بالحضور ويبدأ إجراءات رفع الدعوى، والطرف الآخر هو المدعى عليه؛ إلا أنه من ناحية قاعدة الإثبات لا يكفي لتحديد المدعي معرفة من ذهب أولا إلى ساحة القضاء؛ لأن المدعى عليه وإن كان له الحق في الوقوف موقفا سلبيا إلا أن هذا الموقف السلبي ينتهي إذا ما اثبت المدعي دعواه، فله الحق في دفع ادعاءات المدعي وفقا لمبدأ المجابهة بالدليل، ويكون بذلك مدعيا بدوره في إثبات ما يدعيه.

و نظرا لصعوبة التمييز بين طرفي الدعوى في نطاق قانون الإجراءات المدنية اجتهد فقهاء القانون المدني في وضع المعايير التي يستطيع القاضي أن يميز بها بينهما؛ فوضعوا مبدأ عاما مقتضاه أن البينة على من ادعى خلاف الظاهر؛ وفسروا الظاهر بثلاث أنواع: ظاهر أصلا وظاهر عرضا وظاهر فرضا.

وعلى هذا الأساس نقول أن المدعي هو من يدعي واقعة على خلاف الوضع الثابت أصلا و هو ما كان موافقا في الغالب لطبيعة الأشياء، أو عرضا وهو ما أثبته خصمه أو فرضا و هو ما افترضه المشرع بقرينة قانونية قابلة لإثبات العكس.

الفرع الثالث: مدى وجود قاعدة عبء الإثبات في دعوى الإلغاء.

إن التزام القاضي المدني للحياد وتركه لعبء الإثبات ينتقل بين الخصوم إلى غاية استقراره عند أحد الأطراف يعد وضعا منطقيا؛ يجد مبرراته في تساوي مراكز الأطرف، إلا أن الاختلال الحاصل في مراكز الخصوم في دعوى الإلغاء يستوجب من قاضي الإلغاء أن يراعي هذه الخصوصية، فهل مراعاة قاضي الإلغاء لوضعية عدم التوازن بين أطراف الدعوى له أثر على مبدأ “حياد القاضي” وبالتالي على الأصل العام في التقاضي الذي يجعل “البينة على المدّعي”؟، سوف نعرض إلى ذلك من خلال تناول مبدأ حياد القاضي ومفهومه من جهة، ومدى احترام قاضي الإلغاء لقاعدة إلقاء عبء الإثبات على المدعي – وهو الفرد في دعوى الإلغاء- من جهة أخرى.

أولا: مبدأ حياد القاضي.

الحياد بصفة عامة هو اتخاذ موقف وسط بين طرفين، فلا يكون المحايد منحازا لأي طرف، ويعتبر مبدأ حياد القاضي أحد أهم المظاهر الرئيسية لمبدأ نزاهة القضاء. ويقوم الحياد على عنصرين، عنصر نفسي Impartialité Subjective، وعنصر موضوعي Impartialité Objective.

ويقصد بالعنصر النفسي للحياد أن لا يكون القاضي متحيزا لأحد الخصوم، وألا يحكم في الدعوى بناء على أهوائه الشخصية وما يحمل من مشاعر حيالها، ولضمان هذا العنصر من عناصر الحياد سمحت مختلف التشريعات الإجرائية للقاضي بالتنحي من تلقاء نفسه عن الفصل في الدعوى، كما سمح للخصوم بطلب رد القضاة.

أما العنصر الموضوعي فمعناه ألا يبني القاضي حكمه إلا على الوقائع والأدلة المطروحة في الدعوى، كما ينبغي أن يوضح المصادر التي استقى منها معلوماته بصدد الواقعة محل النزاع. ولهذا فإن تسبيب الحكم هو الوسيلة التي يمكن من خلالها التأكد من الحياد الموضوعي للقاضي وأنه لم يكون اقتناعه إلا على أساس الأدلة التي قدمها الخصوم وتجادلوا بشأنها.

إن التفسير الضيق لهذا العنصر من عناصر الحياد جعل دور القاضي سلبيا للغاية قاصرا على مراعاة أتباع قواعد المرافعة، والفصل في الدعوى على ضوء البراهين التي قدمها الخصوم، يعمل على مراقبة سير المباراة ليعلن نتيجتها النهائية بعد ترجيح أدلة أحد أطرافها.

وهكذا فإن دوره في ظل هذا الفهم الضيق لا يعدو أن يكون متلقيا للأدلة التي يقدمها الخصوم الإثبات حقوقهم، دون أدنى تدخل من جانبه، إنما يقدر هذه الأدلة طبقا للقيمة التي حددها القانون لكل دليل، فإذا رأى الدليل ناقصا أو مبهما فليس له أن يطلب إكماله أو توضيحه، بل يجب أن يأخذه بحالته كما قدمه الخصوم.

ورغم أن هذا المفهوم لا زال له أثره الواضح فقها وقضاء، إلا أن القاضي – بناء على الاجتهاد القضائي الحديث، ومختلف التشريعات الحديثة لم يعد مشاهدة صامتا للمنازعة القضائية ليس له إلا الحكم فيها. بل أصبح مخولا بسلطات مستقلة في البحث عن الدليل، وهو غير خاضع بصفة كلية لميول و رغبات الأطراف، ولهذا فإن مفهوم الحياد أضحى يختلف عن مفهوم السلبية.

لقد اتجهت التشريعات الحديثة نحو العمل على زيادة فاعلية دور القاضي في إدارة الدليل متخذة خطوات جدية بسن قوانين لتحقيق هذا الهدف سواء بالنسبة للقاضي المدني أو الإداري، وإن كان ذلك أكثر وضوحا بالنسبة للقاضي الإداري.

وهذه هي النظرة الحديثة للحياد والتي أصبحت معروفة ليس في الخصومة الإدارية فحسب بل حتى في الخصومة المدنية والتي باعتبارها تهدد استقرار المجتمع وتوازنه أوجبت أن يزود القاضي بسلطات ومكنات تعينه على تحقيق الاستقرار في المراكز القانونية، ولهذا اتجهت التشريعات على اختلاف مذاهبها إلى منح القاضي دورا فعالا ونشطا في الدعوى، يشارك فيها ويعمل فكره وتقديره في إدارة الدليل، لكي يصل إلى الحقيقة الموضوعية.

ورغم كل ذلك فإنه مهما بلغت سلطات القاضي الإيجابية فإنها تدور في نطاق الوظيفة القضائية، حيث تقف عند الموازنة والترجيح بين ما يقدم له من أدلة وعناصر وما يودع في الملف من أوراق والربط بين الوقائع واستخلاص الحقائق، مع تيسير دور الطرفين في الدعوى والأمر بما يلزم من إجراءات الإثبات.

ثانيا: مدى احترام القاعدة العادية لعبء الإثبات في دعوى الإلغاء.

إن أول مسألة تطرح على القاضي وهو بصدد نظر المنازعة الإدارية ليست طريقة الإثبات وإنما عبئه؛ فتعيين من يحمل عبء الإثبات يكاد يتوقف عليه في كثير من الأحيان مصير الدعوى من الناحية العملية، إذ قد يكون الحق متراوحة بين طرفي الخصومة لا يستطيع أي منهما أن يثبته أو ينفيه، فإلقاء عبء الإثبات على أحدهما معناه حكم عليه وحكم تخصمه.

وفي مجال التقاضي بين الأفراد فإن القانون هو الذي يحدد على من يقع عبء الإثبات ويبين وسائل الإثبات ومدى حجيتها، وما على القاضي المدني إلا أن يركز حكمه على المعلومات والدلائل التي يقدمها المتقاضون وفقا للطرق والإجراءات التي هي محددة بمقتضى القانون، ودور القاضي يقتصر على الفصل دون البحث عن الدليل. إلا أن هذا النهج لا يتفق وطبيعة النزاع الإداري عموما ودعوى الإلغاء خصوصا.

ولقد عبر الفقيه Charles DEBBASCH عن هذا الوضع بقوله: ” في الإجراءات المدنية تتحدث عن الإثبات وإدارته، وفي الإجراءات الإدارية القضائية، دوما نكون بصدد مسألة التحقيق”. “En procédure civile, on parle plutôt de de la preuve et de son administration. En procédure administrative contentieuse, il est toujours question de l’instruction”

وعلى الرغم من تأييد جانب مهم من الفقه لمبدأ إلقاء عبء الإثبات على عاتق المدعي حتى في الدعوى الإدارية فإن هناك من يرى توزيع هذا العبء بين طرفيها، بحيث يتحمل كل طرف منها بنصيب يحدده القاضي الإداري، وذلك لتعذر إلقائه على طرف بمفرده.

وهكذا فإن السؤال المطروح هو: هل تطبيق قاعدة البينة على المدعي أمام قاضي الإلغاء في ظل الدور الإيجابي الذي يقوم به القاضي في الإثبات؟

يميل جانب من الفقه الفرنسي، وكذا جانب من الفقه العربي والقضاء الإداري في مصر إلى القول بوقوع الإثبات على المدعي، طبقا للأصل العام الذي يسري في مجال القانون الخاص والعام، مع قيام القاضي الإداري بدور إيجابي ملموس يساعد على الوفاء بهذا العبء؛ فعبء الإثبات عملية ذات شقين، الأول قيام الخصم المكلف بالإثبات بتقديم الدليل، والثاني استنتاج القاضي اقتناعه من هذا الدليل. ودور القاضي في الدعوى الإدارية هو نفسه دور القاضي في الدعوى المدنية، والقاضي لا يكلف بالإثبات في الأصل، وانما يكلف الخصوم، حيث أن المدعي ملزم بأن يقنع القاضي بصحة دعواه.

لكن تطبيق الأصل العام القاضي بإلقاء عبء الإثبات على المدعي يجب أن يتكيف مع ظروف دعوى الإلغاء التي تتميز بأن طرفها المدعى عليه يحوز عادة الدليل الرئيسي الذي لا يستطيع المدعي الحصول عليه وتقديمه؛ مما يتطلب تطبيق الأصل العام لكن مع مراعاة ذلك الوضع الذي يؤثر في الإثبات تأثيرا جوهريا، فدعوى الإلغاء تتميز بأنها دعوى موضوعية واجب القاضي فيها البحث عن مدى مشروعية القرار المطعون فيه، ولا يتأتى له ذلك إلا عن طريق إعمال سلطته التحقيقية بعيدا عن مصالح أطراف النزاع، وهذا ما يظهر الإثبات في دعوى الإلغاء بمفهوم مخالف لما هو معروف في باقي الدعاوی.

وخلاصة القول لدى هذا الجانب من الفقه هو تطبيق الأصل العام الذي يعني إلقاء عباء الإثبات على المدعي مع مساندة المشرع له في تسهيل هذا العبء عن طريق القرائن القانونية والقاضي عن طريق دوريه الإجرائي والموضوعي.

غير أن جانبا من الفقه في مصر وفرنسا يرى أن عبء الإثبات في الخصومة الإدارية موزع على المدعي والمدعى عليه، ويعتبر أن قاعدة البيئة على المدعي غير مطبقة أمام القاضي الإداري عموما وقاضي الإلغاء خصوصا، وأن الأمر يتعلق بتوزيع الإثبات وليس إلقاؤه على طرف واحد. إن الكثير من تعبيرات الفقهاء تندرج في سياق تبني هذا الرأي.

فالدكتور مصطفى كمال وصفي يرى أنه: “من العسير أن يقال أنّ الجهاز القضائي -المفوض والمحكمة – يتحمل عبء الإثبات، لأن تحمل عبء الإثبات إنما يستلزم الاقتناع سلفا بموضوع الدعوى، وهو ما لا ينسب لجهاز القضاء الإداري، لذلك ففي كثير من الأحيان لا يكون ثمة عبء للإثبات يتبادله الأطراف، بل كثيرا ما تخضع الدعوى لإجراءات من التحقيق يقوم بها القاضي كدور إيجابي يباشر به ولايته في الفصل، وهو في ذلك يقوم بتوزيع أعباء الإثبات على الطرفين”.

ويذهب GUSTAVE Peiser إلى أن الصفة الإيجابية للإجراءات القضائية تنعكس على نظام الإثبات، فالقاضي الإداري لا يؤسس حكمه على الأدلة الموضوعة تحت نظره فقط، “فالبحث عن الدليل إذن هو قبل كل شيء مسألة خصوصية خاضعة لتقدير وشعور وإحساس القاضي، ومن المستحيل وضع قاعدة عامة للإثبات أمام جهات القضاء الإداري”.

وعند Lermasurier فإن القاعدة المدنية التي تلقي بعبء الإثبات على عاتق المدعي ليس لها المفهوم نفسه أمام القاضي الإداري؛ نزولا على الصفة الإيجابية للإجراءات الإدارية، وأن المسألة لا تتعلق بإلقاء عبء الإثبات على أحد الطرفين بل تتعلق بتوزيعه بينهما، وإلى نفس الرأي يذهب christian BERGERES Mourice في مقال له حول عبء الثبات في القانون الضريبي.

كما يذهب Jean-Philippe COLSON إلى نفس الرأي بقوله: ” إن الأصل هو وجود قدر أدني للإثبات من جانب المدعي، الذي يتطلب منه القاضي توافره حتى يمارس دوره الإيجابي في البحث عن الحقيقة، ومن الناحية العملية فإنه في حالة تخلف الادعاء المحدد من المدعي الذي يعتبر بداية بسيطة للإثبات فإن القاضي الإداري لا يتدخل ولا يمارس نشاطه في مساعدة المدّعي”.

وفي هذا الصدد أيضا يقول Jean Lappane Joinville: “إن خصوصية الإثبات أمام الجهات القضائية الإدارية تكمن في أن القاضي لا ينتظر الطرف الملقى عليه عبء الإثبات حتى يأتي هو بالإثبات، وانما هو بإدارته للتحقيق يأمر بالإجراءات اللازمة لتكوين الاقتناع والتي تزوده بالعناصر اللازمة لهذا التكوين”.

ويرى الأستاذ Bernard PACTEAU أن خصوصية الإجراءات الإدارية جعلت من مسألة استقلالية مفهوم عبء الإثبات الإداري يأخذ معنى متميزا بحيث يلاحظ عليه الاتجاه بشكل محسوس وبصفة اتساقية ونظامية systématique نحو توزيع عبء الإثبات بين الأطراف.

ويمكن إجمال المبررات المنطقية التي تؤيد هذا الاتجاه في أنه:

1- لا توجد أي قاعدة في القانون الإداري تنص على أن عبء الإثبات ملقى على عاتق المدعي، كما لا توجد نصوص تبين ما هي طرق الإثبات الإداري ووسائله، أو تلزم القاضي أو الأطراف بترتيب معين بين هذه الوسائل، فالأمر متروك إذا للقاضي الذي يقرر على من يقع عبء الإثبات، وما هي الطرق والوسائل التي يقبل الإثبات بها، ويقدر قيمة كل وسيلة في ضوء طبيعة النزاع وظروفه.

2- أن تطبيق القاعدة العامة في الإثبات على الدعاوى الإدارية يضع الفرد الذي يخاصم القرار الإداري في دعوى الإلغاء في مركز المدعي وهو المركز الصعب من حيث الإثبات، بينما تشغل الإدارة بصفة عامة المركز الخاص بالمدعى عليه، والمعفي من الإثبات على الرغم من أنها الحائزة على أدلته والقادرة عليه، وهذا الوضع لا يستقيم ومقتضى العدل.

3- دعوى الإلغاء التي تهاجم القرار الإداري، ويكون المدعي فيها في وضعية المدعي دوما، وهو المكلف بالإثبات حسب قاعدة البينة على المدعي، تكون في ظل مجموعة الامتيازات التي تتمتع بها الإدارة وعلى رأسها احتكارها للوثائق الإدارية، مما يجعل تطبيق هذه القاعدة يؤدي فعليا في الأخير إلى القول بأن الإدارة غير قابلة للمنازعة.

4- إلزام الفرد كمدّعي بكل عبء الإثبات، وما فيه من مخاطر يبدو مجافيا للمنطق، كما أنه يتنافى والعدالة، فالفرد الذي يبدو شكليا أنه يهاجم، هو يدافع في الحقيقة -في ظل نظرية امتياز التنفيذ المباشر- في مواجهة قرار تتخذه الإدارة في الغالب بإرادتها المنفردة (عن طريق امتياز الأسبقية)، فمن المناسب إذا ومن أجل أقل قدر من الشرعية أن تساهم الإدارة -على الأقل – في الإثبات.

5- تحمل الفرد -الذي يكون هو المدعي دوما في دعوى الإلغاء- للإثبات غير مقبول على الإطلاق خصوصا إذا تعلق الأمر بقرار يتضمن عقوبة، أو إجراءاً ضبطيا، لأنه يكون مطالبا بإثبات انتقاء وجود وقائع، وهو مع صعوبته يتنافى ومبدأ قرينة البراءة. وبالتالي يكون من الأجدر في المنازعات الإدارية قلب عبء الإثبات أو على الأقل يعاد تنظيمه وجعله مرنا بحيث تراعى فيه مواقف الأطراف.

6- لأجل كل هذه الاعتبارات بالإضافة إلى اعتبار كون دعوى الإلغاء دعوى موضوعية الهدف منها ليس إنصاف الشخص فقط وإنما إرساء المشروعية؛ فإن M. D. LEGER يرى أن المهمة الأساسية المنوطة بالقاضي الإداري في إطار تحرير نظام الإثبات هي القضاء على التفاوت بين الأطراف الذي تتسم به المنازعة الإدارية، والمسؤول عن وضع دائم تقريبا للفرد في موقف المدعي والإدارة في موقف المدعى عليه.

وهكذا وتأسيسا على خصوصية النزاع الإداري عموما ودعوى الإلغاء خصوصا يمكن القول بتضافر الآراء على وجود خصوصية أيضا في تطبيق قاعدة “البينة على من ادعى” أمام القاضي الإداري الذي يقوم بدور كبير في توزيع عبء الإثبات بين الفرد والإدارة؛ لكن ما هي المعايير التي يستند إليها في هذا التوزيع؟

لقد ذهب بعض الفقه إلى التمييز بين عبء الادعاء الذي يقع في جميع الأحوال على المدعي، وبين عبء الإثبات الذي يتولى القاضي بمقتضى دوره الإيجابي توزيعه بين الطرفين في ضوء طبيعة القرار المطعون فيه، ومدى ممارسة الإدارة بشأنه سلطة تقديرية، ومدى مبادرتها بالتصرف في موضوع المنازعة.

وعلى هذا الأساس يتم توزيع عبء الإثبات بين الطرفين بمعرفة القاضي الإداري، كما يتحمل هو الآخر واجب القيام بإدارة الإثبات عن طريق سلطاته التحقيقية. بحيث يكلف القاضي المدعي بتقديم ادعاءات أو ما يمكن أن نسميه بدايات أو منطلقات إثبات « commencement de preuve » تحت طائلة رفض دعواه لعدم التأسيس، ومعنى ذلك أن على المدعي أن يقدم ادعاءات بوجود أدلة كافية ودقيقة يستند إليها طعنه -دون أن يقدم الدليل- والقاضي يستعمل سلطاته في التحقيق للبحث عن الحقيقة، إن هذه الادعاءات أو عناصر الإثبات التي يقدمها المدعي يجب أن تكون من طبيعتها كما يعبر الفقيه Charles DEBBASCH أن تقيم الشك في ذهن القاضي، وهذا هو عبء الإثبات الملقى على عاتق المدعي، فإذا ما تشكل الشك في ذهن القاضي حرك هذا الأخير سلطاته التحقيقية في البحث عن الحقيقة، وهذه أحد أهم أشكال مساهمة القاضي في الإثبات، كما يساهم القاضي في الإثبات من خلال دورة المتحرر في الأمر بوسائل التحقيق وتقدير نتائجها، والرقابة على مدى صحة المستندات الموضوعة أمامه كأدلة للإثبات، والعمل على وضع حدود منطقية على السلطة التقديرية للإدارة في اتخاذ قراراتها.

لكن الاجتهاد القضائي لم يضع صيغة عامة لطبيعة بدايات الإثبات التي على المدعي تقديمها، إن الاجتهاد يحكمه في هذا الشأن اعتبارين: فحسب صعوبة الحصول على أدلة الإثبات أو سهولتها، يقبل القاضي بسهولة أو بصعوبة بدايات إثبات، وبحسب جسامة الوسائل المدعى بها من طرف المدعي ضد القرار المطعون فيه يبدي القاضي أقل أو أكثر قسوة.

لقد حاول الدكتور مصطفى كمال وصفي وضع بعض الضوابط في هذا الشأن، يقول: “والذي نراه في ذلك كله أنه يجب أن تفرق بين أمرين:

الوقائع الإدارية التي تقع في محيط العمل الإداري، والوقائع غير الإدارية وهي التي تقع خارج هذا المحيط وتتصل بالحياة العامة، فأما الأولى فإن دور المدعي لا يعدو أن يكون مجرد الإرشاد؛ إذ تكون أصول الوثائق ووسائل الإثبات في هذه الأمور في حوزة الإدارة ويطرفها، كدفتر الحضور والانصراف ودفاتر العهدة ونحو ذلك، ولا يكون لدى الفرد سوى رقم أو تاريخ ونحو ذلك من الدلالات الإرشادية… أما بالنسبة للوقائع غير الإدارية، وهي التي تحصل خارج مجال الإدارة- وذلك كواقعات الانتقام والهوى والأغراض الخاصة ونحوها مما يقوم عليه الطعن بالتعسف، وما يستمد من المركز الذاتي لصاحب الشأن، فإن ذلك كله يكون عبء إثباته على المدعي وليس على الإدارة”.

وتساهم الإدارة في الإثبات من خلال تعاونها الفعلي في سير التحقيق، والإجابة على ادعاءات المدعي، تحت طائلة معاقبتها على السكوت وعدم التعاون باستنتاج قرائن تؤدي إلى قلب عبء الإثبات على عاتقها.

إن الدكتور أحمد كمال الدين موسى ينتقد هذا الاتجاه من حيث أنه يزيد مسألة تنظيم عبء الإثبات صعوبة ودقة، وهذا ليس في مصلحة المدعي بل يزيد من حدة عدم التوازن بين طرفي الدعوى الإدارية، وأن تطبيق الضوابط التي وضعها الفقه المؤيد لهذا الاتجاه، مؤداه الرجوع إلى القاعدة الأصلية التي تلقي بعبء الإثبات على المدعي مع قيام القاضي الإداري بدور إيجابي.

إننا وإن كنا نوافق الدكتور أحمد كمال الدين موسى في هذا الرأي إلا أن ذلك لا يعني أن القاعدة العامة في عبء الإثبات مطبقة بنفس الشكل الذي تطبق به في الدعاوى العادية، بل إنها تتكيف مع طبيعة النزاع الإداري ويظهر ذلك من خلال الصفة الإيجابية للإجراءات القضائية الإدارية؛ والتي تعتمد على دور القاضي الإداري الذي يقدر مدى تدخله وحدوده حسب كل قضية على حدة، وفي ضوء ما يكتنفها من ظروف تتعلق بسلوك الإدارة ومدى تعاونها، ومدى ممارستها لسلطة تقديرية في إصدار القرار، ومدى توافر مستندات إدارية كأدلة إثبات… وبعبارة أجمع فإن هذا الدور الإيجابي هو نفسه يتمثل في توزيع عبء الإثبات وفقا للضوابط التي يراها الجانب الثاني من الفقه وحتى تلك التي غفل عنها وتبدت للقاضي في قضية معينة، فالضابط هو تحقيق العدالة وحماية المشروعية.

وهكذا فإننا نرى أن الاختلاف بين الفريقين اختلاف شكلي يؤدي إلى نفس النتيجة، وهي اضطلاع القاضي الإداري عموما وقاضي الإلغاء خصوصا بدور إيجابي في تحديد من يتحمل عبء الإثبات، جاعلا نصب عينيه تحقيق العدالة وحماية المشروعية.

المطلب الثالث: نظام الاثبات.

تصاغ نظرية الإثبات في كل فرع من فروع القانون بحيث تتفق مع قواعد هذا الفرع وأهدافه، وهكذا فإن قواعد الإثبات في القانون المدني – وإن كانت الشريعة العامة للإثبات- تختلف عن قواعد الإثبات في القانون التجاري، وقواعدهما تختلف اختلافا بينا عن قواعد الإثبات في القانون الجنائي التي تختلف بدورها عن قواعد الإثبات في القانون الإداري؛ وما ذاك إلا لما أسلفنا من اختلاف في طبيعة قواعد هذا عن ذاك، واختلاف أهداف ذلك عن أهداف هذا.

الفرع الأول: تصنيف أنظمة الإثبات.

يختلف نظام الإثبات باختلاق المجال القانوني الذي يعالج في إطاره بما يتلاءم مع طبيعته وخصوصياته. ويذهب الفقه إلى تأسيس الاختلاف في أنظمة الإثبات المعتمدة في مختلف فروع القانون على أساس هدف كل نظام، فهناك من الأنظمة ما يهدف إلى تحقيق العدالة والوصول إلى الحقيقة المطلقة (الموضوعية) وبكافة الطرق، وهناك من يهدف إلى الحفاظ على استقرار المعاملات والوصول إلى الحقيقة الشكلية (الإجرائية)، ويسمى النظام الأول بنظام الإثبات الحر، بينما يسمى الثاني بنظام الإثبات المقيد.

إني لا أرى صحة هذا التأسيس، ذلك أن كل أنظمة الإثبات تهدف قدر المستطاع إلى الوصول إلى الحقيقة وهي عنوان العدالة، إلا أن بعض فروع القانون -مثل القانون المدني- لا يمكن تحقيق نسب نجاح كبيرة في الوصول عند تطبيقها إلى الحقيقة، إلاّ برسم طرق وكيفيات محددة وتحديدا لقيمة كل دليل من الأدلة من طرف المشرع تساعد في غالب الأحيان بتحقيق أكبر نسبة ممكنة من الوصول إلى الحقيقة، نظرا لطبيعة قواعد ذلك الفرع من القانون، بينما تقتضي طبيعة قواعد بعض الفروع من القانون -مثل القانون الجنائي- من أجل أن يحقق فيها القاضي أكبر نسبة نجاح في الوصول إلى الحقيقة، أن تترك له حرية في اختيار طرق الإثبات وتقدير قيمة كل دليل. ويسمى النظام الذي يكون صالحا للتطبيق على منازعات الفروع الأولى من القانون بنظام الإثبات المقيد، بينما يسمى النظام الذي يصلح للتطبيق في منازعات الفروع الثانية من القانون بنظام الإثبات الحر، ويمكن عند تحليل طبيعة هذه الفروع أن نتكلم عن استقرار المعاملات كعامل مؤثر -ليس وحده- في الأخذ بنظام معين.

لكننا في الواقع لا نجد فرع من فروع القانون يعتمد على نظام صرف للإثبات، وإنما نجد أحكام الإثبات في جميع فروع القانون تأخذ من سمات النظام المقيد والنظام الحر، ولكن تغلب في كل فرع سمات نظام من أنظمة الإثبات، فنسمي نظام الإثبات فيه باسم النظام الغالب مجازا، وإلا فإن الحقيقة أن جميع فروع القانون تأخذ بنظام مختلط للإثبات.

أولا- نظام الإثبات المقيد:

ويسمى أيضا بنظام الإثبات الشرعي أو القانوني، لأن القانون هو الذي يحدد طرق الإثبات المقبولة أمام القاضي وقيمة كل منها؛ بحيث لا يستطيع المدّعي إثبات حقه بغير هذه الطرق والقاضي مقيد بها وبمراتبها التي حددها القانون، ودور القاضي في هذا النظام محايد وعليه أن يقضي في حدود الأدلة التي قدمها له الطرفان.

وعليه فإن دعائم هذا النظام هي:

  • تحديد طرق الإثبات الجائزة قانونا، بحيث لا يجوز للخصم أن يستند إلى دليل خارج عن الأدلة المحددة سلفا.

  • تحديد قوة كل دليل من هذه الأدلة وحجيته في الإثبات.

  • تحديد من يقع عليه عبء الإثبات.

  • غل يد القاضي وجعله أسيرا لمبدأ الحياد، بحيث يمتنع عليه القضاء بعلمه الشخصي، ولا يحكم إلا بما ظهر له من إجراءات الدعوى، ولا يجوز له استجماع الأدلة ويقتصر على ما يعرض عليه منها، وهكذا يكون دوره قاصرا على الفصل في النزاع في ضوء الطلبات والأدلة التي يستند إليها الخصوم.

وهذا النظام على ما جاء فيه من دقة تكفل ثبات التعامل، فإنه لا يمكن الأخذ به في جميع فروع القانون لأنه يباعد في بعض الحالات بين الحقيقة الواقعية والحقيقة القضائية، فقد تكون الحقيقية الواقعية -كما يعبر العلامة السنهوري – ملء السمع والبصر؛ ولكنها لا تصبح حقيقة قضائية إلا إذا استطيع إثباتها بالطرق التي حددها القانون.

ويؤخذ بهذا النظام خاصة في منازعات القانون المدني؛ نظرا لاستقرار قواعدها، وقلة لجوء الأفراد إليها خلال حياتهم، وعدم خطورة النتائج المترتبة على الفصل فيها إذ تمس أهون ما يملكه الفرد وهو المال دون الأرواح والحريات والأعراض، وهي أغلى ما يملكه الفرد.

ثانيا: نظام الإثبات المطلق.

ويسمى أيضا بنظام الإثبات الحر، لأنه يعطي القاضي حرية كبيرة في تحري الوقائع التي تعرض عليه، ويبحث عن الحقيقة بكافة الوسائل، فيجيز له مباغتة الخصوم واستعمال الحيل معهم لانتزاع الحقيقة من بين أقوالهم أو من وقائع مسلكهم، كما يجيز له أن يطرح عليهم أسئلة ثم يقضي طبقا لعقيدته، والقانون في هذا النظام لا يرسم طرقا محددة للإثبات يقيد بها القاضي، بل يترك الخصوم أحرارا في تقديم الأدلة كما يترك القاضي حرا في تكوين اعتقاده، ويستطيع القيام بدور إيجابي في تحري الحقيقة بجميع الطرق التي يراها مؤدية إلى ذلك، فالأمر متوقف برمته على قناعة القاضي واقتناعه، وتقترب الحقيقة القضائية في هذا المذهب من الحقيقة الواقعية. الأمر الذي يفسح السبيل أمام القاضي إلى تحقيق العدالة قدر الإمكان. ومن هنا يظهر أن مذهب الإثبات الحر أو المطلق بما يلي:

1- ظهور الدور الإيجابي للقاضي في الدعوى واستجماع الأدلة تمكينا له من تحري الحقيقة أينما وجدت.

2- أن هذا المذهب يكفل مطابقة الحقيقة القضائية للحقيقة الواقعية.

3- أن هذا المذهب يساعد على تحقيق العدالة.

ولكن يؤخذ على هذا النظام أنه يتنافى مع الاستقرار الواجب في المعاملات لأن الخصوم لا يمكنهم معرفة ما إذا كان في وسعهم إقناع القاضي لاختلاف القضاة في التقدير، كما أن هذا النظام قد يؤدي إلى الجور والتحكم لما يمنحه القاضي من حرية مطلقة في سبيل تكوين عقيدته. غير أننا نرى أن الطريقة التي يختار بها القاضي والضمانات التي تكفل ممارسته لهذه الوظيفة واقتصار الأخذ بهذا النظام على فروع القانون التي يكون من المناسب العمل بموجبه فيها، يخفف من حدة هذا التخوفات.

ويؤخذ بهذا المذهب خصوصا في القضاء الجنائي في حدود القانون، كما أخذت به الشريعة الإسلامية في إثبات المعاملات، وأخذت به التشريعات الجرمانية والأنجلوسكسونية، خاصة القانون الألماني والقانون السويسري والقانون الإنجليزي والقانون الأمريكي، كما يطبق في الدول التي تبنت نظام الازدواجية القضائية فيما يتعلق بإثبات الدعاوى الإدارية، ومنها فرنسا وألمانيا ولكسمبورغ وبلجيكا.

الفرع الثاني: نظام الإثبات المطبق في المنازعات الإدارية.

تقتضي صعوبة الإثبات في النزاع الإداري اعتماد نظام للإثبات براعي هذه الخصوصية، ولقد اختلفت الأنظمة القانونية في تنظيم قواعد الإثبات، فهناك أنظمة جعلت نصب عينيها تحقيق العدالة بمعناها الموضوعي؛ فمنحت القاضي الحرية في استعمال جميع الوسائل والطرق للوصول إلى الحقيقة الموضوعية، وهناك أنظمة غلبت عامل استقرار المعاملات في المجتمع؛ فقدت القاضي بوسائل وطرق معينة، وألزمته باحترامها واحترام ترتيبها من حيث درجة الحجية؛ فما هو النظام الملائم اعتماده للإثبات الإداري مراعاة لخصوصية النزاع الذي يكون محلا له؟

لقد اقتصرت النصوص الإجرائية سواء في فرنسا أو مصر أو الجزائر على بيان إجراءات الإثبات دون القواعد الموضوعية للإثبات الإداري؛ وهذا يؤدي إلى القول بأن القاضي الإداري غير ملتزم بطرق معينة للإثبات محددة سلفا لبعضها قيمة أو قوة، ولهذا فإنه هو من يحدد قيمة كل منها، ويقدر مدى اقتناعه بها دون قيد أو مراعاة لأسبقيات أو الترتيب بين مختلف الطرق التي يعتمد عليها.

ولهذا فإن القاضي الإداري يستعين بطرق الإثبات المدني في الحدود التي لا تتعارض مع طبيعة الدعوى الإدارية، ويقدر مدى حجيتها دون أن تكون لإحداها قوة أو مرتبة أعلى من الأخرى، فالأدلة جميعا متساوية أمامه، ويستنبط الحقيقة من أي دليل يطمئن إليه.

ومن ثم فإن القانون الإداري يختلف عن القوانين الأخرى من ناحية الإثبات، فالقاضي الإداري له الحرية الكاملة في تكوين عقيدته من أي دليل مقبول إذ جميع الأدلة تتساوى في الإثبات في المجال الإداري، وإن كانت النصوص القانونية قد أشارت بصفة عامة إلى بعض وسائل الإثبات فقد وردت هذه الإشارة على سبيل المثال، ولذلك فإن القاضي الإداري في ممارسته لدوره تجاه الدعوى الإدارية يلتزم بمراعاة حدود الدفاع وضمانات التقاضي واحترام استقلال الإدارة، وعدم التدخل في شئونها التقديرية أو الحلول محلها من جهة أخرى فيما لا يتعارض مع سلطته في تحضير الدعوى على الوجه الذي جرى عليه القضاء الإداري.

ويرجع اعتناق القضاء الإداري لهذا النظام إلى:

أولا: الطبيعة الخاصة لتلك الدعوى التي يختل فيها التوازن بين طرفيها، والذي يؤدي غالبا إلى إخفاق المدعي في حسم الدعوى لصالحه، فالإدارة تمتلك من المستندات والبيانات ما يكفي لتأكيد حق المدعي في دعواه لكنها لا تضعها تحت نظر القاضي مختارة، لذا كان لا بد من تدخل القاضي الإداري لممارسة دور إيجابي في الدعوى حماية للطرف الضعيف فيها، وذلك من خلال اعتناقه لمبدأ حرية الاثبات.

ثانيا: موضوعية دعوى الإلغاء، والتي تعني بحث مدى احترام القرار الإداري من حيث مختلف أركانه للقانون السائد في الدولة، وهو هدف لا يناط بأحد الأطراف وحده، بل هو من صميم وظيفة السلطة القضائية، وبالتالي كان من الواجب على عضوها -القاضي – المساهمة بالقسط الأكبر في هذه المهمة.

ثالثا: بقاء الإجراءات القضائية الإدارية لمدة طويلة دون قانون مستقل، وحتى عند صدوره في الجزائر سنة 2008 بموجب القانون رقم: 09/08 المؤرخ في 25 فيفري 2008 المتعلق بقانون الإجراءات المدنية والإدارية، أحال في الكثير من مواده خاصة تلك المتعلق بوسائل الإثبات إلى أحكام وسائل الإثبات أمام القاضي المدني.

وإذا كان القاضي الإداري قد اعتنق النظام المطلق في الإثبات إلا أن سلطاته التي يتمتع بها بموجب هذا النظام ترد عليها القيود التالية:

  • إذا تطلب المشرع وسيلة معينة لإثبات واقعة معينة فإنه يجب الالتزام بهذه الوسيلة من وسائل الإثبات ولا يمكن قبول وسيلة أخرى لإثبات هذه الواقعة، ومع ذلك فإن القاضي يميل أحيانا إلى تفسير النصوص تفسيرا واسعا على أساس أنها ذات صبغة إرشادية موجهة فقط دون استبعاد الاستعانة بغيرها من الوسائل.

  • التقيد بالوقائع الثابتة بواسطة أحكام حازت قوة الشيء المقضي به.

  • عدم جواز اللجوء إلى بعض طرق الإثبات التي لا تناسب طبيعة الدعوى الإدارية، كاليمين الحاسمة.

  • الالتزام بالمبادئ العامة لأصول التقاضي وضماناته وحقوق الدفاع.

وهكذا فإن القاضي الإداري يتمتع إزاء الدعوى الإدارية بسلطات كبيرة تساعده على تكوين قناعته والتثبت من تحقيق الادعاء، ولا يحده في ذلك -كما يقول الدكتور هشام عبد المنعم عكاشة– إلاّ قدرته على ابداع الحلول المناسبة والعادلة التي توفق بين المصلحة العامة والمصلحة الفردية، فإذا ما بلغ حد المبادئ التي استقرت في نفوس الناس عنوانا للحق وضمانا للعدالة وجب عليه أن يقف دونها.

وبهذه الصورة يمكننا القول أنّ نظام الإثبات المتبع أمام القضاء الإداري هو النظام الحر، رغم بعض القيود التي ترد عليه، والتي تفرضها الأصول العامة للتقاضي، أو التي تقتضيها خصوصية الدعوى الإدارية، وهو ما يساعد على إعطاء القاضي فرصة للتدخل من أجل تصحيح الاختلال الحاصل بين مراكز أطراف الخصومة من حيث الإثبات.

المبحث الثاني: عناصر الموقف الصعب للمدعي بالإلغاء.

يقف المدعي في دعوى الإلغاء موقفا صعبا من حيث الإثبات؛ فخصمه في جميع الأحوال هو الإدارة الممثلة المصلحة العامة، والمتمتعة بأساليب السلطة العامة وامتيازاتها المقررة لها في القانون الإداري؛ لتمكينها من القيام بواجبها في تسيير المرافق العامة والإشراف عليها.

إن هذه الامتيازات متعددة ومتنوعة بقدر تعدد وتنوع نشاطات الإدارة، وتؤدي جميعا إلى هيمنة الإدارة على النشاط الإداري والقضاء لنفسها دون اللجوء للقاضي، مما يضطر المواطن لأن يكون من جهة ثانية هو المدعي دائما، وبالتالي إلقاء عبء الاثبات عليه في حين تقف الإدارة موقف المدعى عليه معفية من الإثبات طبقا لقاعدة “البينة على المدعي”؛ على الرغم من كونها الحائزة للوثائق والمستندات اللازمة للإثبات، وهذا هو السبب الثاني في صعوبة الإثبات في دعوى الإلغاء، ويمكن أن تصنف عناصر الموقف الصعب للمدعي بالإلغاء كما يلي:

– إلقاء عبء الإثبات على الفرد لكونه مدعيا؛ وذلك بسبب قرينة سلامة القرارات الإدارية والامتياز الممنوح للإدارة بحقها في الأسبقية بإنشاء مراكز قانونية أو إلغائها أو تعديلها، وتنفيذ قراراتها مباشرة دون اللجوء إلى القضاء (المطلب الأول).

– افتقار المدعي لوسائل الإثبات بسبب حيازة الإدارة للوثائق والادارية وعدم إحاطته بملابسات صدور القرار وظروفه بسبب السرية الملازمة للعمل الإداري، وعدم إلزام الإدارة بتسبيب جميع قراراتها، وبالتالي جهله بأسباب القرار المطعون فيه (المطلب الثاني).

– السلطة التقديرية الممنوحة للإدارة في تقدير الأسباب الداعية إلى اتخاذه أو في تقدير مضمونة والتي ينجم عنها صعوبة إثباته لأوجه عدم المشروعية الداخلية في القرار الإداري (المطلب الثالث).

المطلب الأول: إلقاء عبء الاثبات على المدعي.

يقصد بعبء الاثبات الالتزام بإثبات الواقعة المتنازع عليها، ومن يقع عليه عبء الاثبات يكون في مركز أضعف من مركز خصمه، إذ عليه إثبات ما يدعيه في حين يكتفي خصمه بالوقوف موقفا سلبيا، وهذا ما يفسر تسميته بالعبء لكونه تقلا ملقى على كاهل المدعي.

وبموجب ذلك يستطيع المدعى عليه الاكتفاء باتخاذ موقف سلبي لحين صدور الحكم برفض الدعوى استنادا لعدم قيام المدعي بتقديم الإثبات المقنع على صحة دعواه، أما إذا قدم المدعي الاثبات الكافي فقد حل الدور على المدعى عليه لتقديم ما يثبت عدم صحة الادعاء وإلا قضي للمدعي في مواجهته.

وفي الحالتين فإن موقف المدعى عليه أيسر وأفضل من موقف المدّعي، إذ يتولى الرد في الحالة الثانية عندما يحل عليه الدور لتقديم الإثبات اللازم، بعد أن يكون المدعي قد قدم ما لديه من مستندات؛ وبالتالي يبدأ دفاعه على أساسها؛ في حين يتخذ المدّعي موقف المبادرة.

إنه وبفضل الامتيازات التي تتمتع بها الإدارة وخاصة قرينة سلامة القرارات الإدارية، وامتياز التنفيذ المباشر، وامتياز الأسبقية، فإن دعوى الإلغاء يكون المدعي فيها في جميع الأحوال هو الفرد.

وإذا كان الفرد في بعض الدعاوى الإدارية يمكن أن يشغل موقف المدعى عليه، إلا أنه في دعوى الإلغاء يكون في جميع الأحوال مدعيا، وتطبيقا لقاعدة “البيئة على المدعي” فإن المدعي في دعوى الإلغاء يكون هو المكلف بإثبات ما يدعيه، كما أن قرينة سلامة القرارات الإدارية تستوجب على الفرد إثبات عكسها حتى يكون القرار الإداري مستحقا للإلغاء.

ودليل قاعدة “البيئة على من ادّعى” في الشريعة الإسلامية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: “لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن البينة على من ادّعي”.

كما تجد مبرراتها المنطقية في الاعتراف بصحة الأمر الواقع، واحترام الظاهر وبراءة الذمة، من أجل رعاية الحقوق المكتسبة والنظام العام واستقرار الأوضاع القانونية، فأي منازعة قضائية تقوم على عدم اتفاق الطرفين بشأن واقعة معينة وكيفية تطبيق القانون عليها، إذ يرى أحد الطرفين اكتسابه حقا أو تمتعه بمركز قانوني معين طبقا لهذه الوقائع القانونية أو المادية، في حين ينكر الطرف الآخر عليه هذا الحق، وقد أدت الرغبة في رعاية الحقوق المكتسبة والنظام العام والأمن الاجتماعي واستقرار الأوضاع القانونية إلى قيام أصل عام يفترض مطابقة الحالة القائمة بين الطرفين وقت رفع الدعوى لحكم القانون حتى يثبت العكس.

كما أن على المدعي باعتباره البادئ بتقديم الدعوى إقامة الدليل على صحة ادعاءاته؛ فهو الذي بادر إلى رفع الدعوى والخصومة هي مجرد ثمرة لنشاطه، وهكذا يجد المدعى عليه نفسه أمام القضاء نتيجة لفعل وعمل المدعي، والشخص الذي يطلب من القضاء الاستجابة لمطالبه عليه تقديم الدليل.

ولقد نصت على هذه القاعدة المادة 323 من القانون المدني الجزائري بقولها: “على الدائن اثبات الالتزام وعلى المدين اثبات التخلص منه”. كما استقر عليها الاجتهاد القضائي سواء في الجزائر أو في فرنسا أو في مصر، بحيث أصبحت مطردة في أحكامه.

إن سبب وقوف الفرد في دعوى الإلغاء في جميع الأحوال موقف المدعي هو الامتيازات التي تحوزها الإدارة والمتمثلة أساسا في قرينة سلامة القرارات الإدارية وامتياز الأسبقية والتنفيذ المباشر.

الفرع الأول: قرينة سلامة القرارات الإدارية.

يسميها بعض الفقه “قوة الشيء المقررة”، فالقرارات الإدارية مزودة بقرينة السلامة، بحيث تعد حجة على ما تضمنته حتى إثبات العكس، ولا تستثنى من هذه القرينة إلاّ القرارات المعدومة التي يبلغ فيها العيب حدًا من الجسامة يكون واضحة بصورة كافية.

ومؤدى ذلك أن جميع القرارات الإدارية المسببة منها وغير المسببة الصريحة منها والضمنية ايجابية كانت أو سلبية تعتبر قائمة على أسباب صحيحة، وهذا هو الأصل وعلى من يدعي خلاف ذلك تقديم الإثباتات على ادّعاءاتها.

وهكذا فإن القرارات الإدارية تتمتع بقرينة الشرعية المؤقتة، إلى غاية الطعن فيها بدعوى الإلغاء التي إما أن تنتهي بإثبات عدم مشروعيتها وبالتالي زوال قرينة الشرعية عنها، وإما أن تنتهي بعدم إثبات ذلك، أو لا يطعن فيها أصلا ويفوت أجل الطعن القضائي فتصبح قرينة الشرعية نهائية بعد أن كانت مؤقّتة.

وتنصب هذه القرينة على الوقائع والإجراءات والبيانات التي دونها الموظف المختص، ومنها تاريخ القرار ومكان صدوره، واسم مصدره وصفته، والإجراءات والأوضاع الشكلية التي استند إليها، ومضمون القرار وما يتضمنه من نصوص خاصة بالموضوع الذي صدر بشأنه القرار.

وتبرر قرينة السلامة في القرارات الإدارية على أساس ما يحيط بصدور القرار الإداري من ضمانات تعين على ذلك؛ كحسن اختيار الموظفين الذين يساهمون في إعداده واصداره، وخضوعهم في ذلك إلى الرقابة الرئاسية، واجتياز الكثير من القرارات الإدارية لمراحل تمهيدية قبل أن تصبح نهائية.

وهذه القرينة وإن كانت ذات طابع عملي وتستند إلى الثقة المفترضة فيمن يصدرون القرار الإداري من حيث التأهيل، ورقابة الإدارة عليهم التي تلزمهم باحترام قواعد الاختصاص والشكل، وتوخيهم غاية المصلحة العامة حال إصدارهم للقرار الإداري، إلا أن ذلك لا يجعل منها قرينة قاطعة في الإثبات بل هي قرينة بسيطة قابلة لإثبات العكس، حيث تنهار هذه القرينة في حال نجاح المدعي في زعزعة الثقة في القرار بدرجة يطمئن معها القاضي بأنه مخالف للقانون.

ولا شك أن القرينة سلامة القرارات الإدارية الدور البالغ في مجال الإثبات لأنها السبب الرئيس في وقوف الفرد موقف المدعي، بينما تقف الإدارة في موقف المدعى عليه، مع ما يعنيه ذلك من حصول عدم التوازن بين مراكز الطرفين.

الفرع الثاني: امتياز الأسبقية والتنفيذ المباشر:

فالإدارة وفي إطار تحقيق المصلحة العامة تملك الحق في إصدار قرارات إدارية تحدد فيها حقوقا والتزامات على الأفراد ومراكزهم القانونية دون مشاركتهم في إعدادها، بل ودون طلب منهم، مثل قرارات نزع الملكية وقرارات التأديب أو قرارات الضبط الإداري، وهذا ما يسمى بامتياز الأسبقية.

وإذا كان الأصل في معاملة الأفراد فيما بينهم أن صاحب الحق لا يستطيع أن يقتضي حقه بنفسه إذا ما نازعه غيره في هذا الحق، بل عليه أن يلجأ إلى القضاء ليقرر له حقه المنازع فيه، ومن ثمة يلجأ إلى السلطات المختصة لتنفّذ له حكم القضاء، فإن الإدارة تخرج عن هذا الأصل؛ حيث تصدر بنفسها قرارات تنفيذية ثم تنفذ هذه القرارات في حق المعنيين بها بمشيئتهم الخالصة ومن تلقاء أنفسهم أو تلجأ إلى تنفيذها مباشرة بسرعة وحسم ولو باستعمال القوة العمومية ودون حاجة للجوء إلى القضاء، إذا امتع الأفراد عن تنفيذها أو تماطلوا في ذلك، وهذا ما يسمى بامتياز التنفيذ المباشر.

وهكذا فإن امتياز الأسبقية هو حق الإدارة في اتخاذ موقف معين تحدد به مركزها القانوني وحقوقها ومراكز الأفراد وحقوقهم بمقتضى قرارات إدارية ودون اللجوء إلى القضاء، أما امتياز التنفيذ المباشر فهو حق الإدارة في تنفيذ هذه القرارات مباشرة ودون الحاجة إلى اللجوء إلى القضاء، ولا يمكن وقف تنفيذها إلا بحكم قضائية.

ويرجع أساس امتياز الأسبقية إلى أن وظيفة الإدارة هي إشباع الحاجات العامة للأفراد، وكفالة أمن المجتمع وسلامته، ومن أهم وسائل مباشرة هذه الوظيفة والتي تؤدي إلى رجحان كفة الإدارة على كفة الأفراد القرارات الإدارية التنفيذية.

أما امتياز التنفيذ المباشر فقد أعتبره الفقه أثرا ونتيجة من نتائج الاعتراف بقرينة السلامة للقرارات الإدارية، منح للإدارة لكفالة مقتضيات السير الحسن للنشاط الإداري، ويعتبر من أهم وأخطر الامتيازات الممنوحة للإدارة، ويعتبر أداة لتحقيق التناسق والتطابق بين النظام القانوني والآثار القانونية للقرارات الإدارية من ناحية وبين الحقيقة المادية الواقعية من ناحية أخرى، والإدارة هي المختصة بتطبيق القواعد القانونية على الحالات الفردية، ونظرا لتمتع قراراتها بقرينة السلامة، فإن عدم امتثال المعني بالقرار، وعدم وجود وسيلة لإجباره على ذلك يستدعي تزويد الإدارة بهذا الامتياز الذي يعينها على قيامها بنشاطها الإداري مع ما فيه من تقديم للمصلحة العامة على المصالح الفردية.

والسائد فقها وقضاءً أن تنفيذ الإدارة المباشر لقراراتها هو استثناء من أصل عام يتمثل في إتباع الطريق القضائي والحصول على حكم قابل للتنفيذ لحسم النزاع الحاصل بين الإدارة والأفراد، وعلى العكس من ذلك فقد ذهب البعض من الفقه إلى اعتبار لجوء الإدارة إلى تنفيذ قراراتها تنفيذا مباشرة هو أصل عام، حيث أن القاعدة في تصرفات الإدارة أن تنفذ مباشرة، وكمبدأ عام ما لم يكن هناك نص صريح يحتم عليها الالتجاء للقضاء أولا، ويرجع الاختلاف في هذا الشأن إلى محاولة التوفيق بين فكرتين متعارضتين هما السلطة والحرية.

إذ يستند الاتجاه الأول حسب الدكتور عبد العزيز عبد المنعم خليفة إلى أنّ اعتبار التنفيذ المباشر للقرارات الإدارية أصلا: “من شأنه أن يطلق يد الإدارة بلا قيود في التنفيذ المباشر لقراراتها جبرا على الأفراد مما يعصف بحقوهم وحرياتهم العامة التي يحافظ عليها القضاء الإداري، والذي لا يجوز تنحينه عن النزاعات التي تنشأ بين الإدارة والأفراد فيما يتعلق بالقرارات الإدارية الصادرة بشأنهم، وحتى لا تتحول الإدارة إلى خصم وحكم في الوقت نفسه، وإن كان ذلك مسلما به في حالتي وجود نص و توافر حالة ضرورة، فإن ذلك وضع استثنائي فرضته المصلحة العامة التي قد يتطلب تحقيقها منح الإدارة الحق في التنفيذ المباشر لقرارتها، فإنه لا يجوز أن يتحول هذا الاستثناء إلى أصل عام”.

وفي المقابل يرى القائلون بأن التنفيذ المباشر للقرارات الإدارية أنه أصل مبرّر من خلال سمو الغاية التي تهدف إليها الإدارة وهي المحافظة على مصالح المجتمع، والقاعدة أن الإدارة تنفذ تصرفاتها مباشرة ما لم يكن هناك نص صريح يحتم عليها اللجوء إلى القضاء أولا وحصولها لحكم قابل للتنفيذ.

وحين تلجأ الإدارة الاستخدام التنفيذ المباشر يكون لها منح تصرفاتها صبغة تنفيذية دون تدخل من السلطة القضائية، والإدارة لها تلك السلطة باعتبارها مهيمنة على تحقيق الصالح العام وواجب عليها أداء هذه المهمة دون إبطاء، وإلزامها بعرض منازعاتها مع الأفراد على القضاء وانتظار الفصل فيها يترتب عليه عرقلة تحقيق الصالح العام مما يؤدي إلى اضطراب المرافق العامة.

فاعتبار التنفيذ المباشر استثناء يعني في رأي الدكتور فريجة حسين عرقلة الإدارة عن القيام بنشاطاتها إلى درجة تؤدي إلى الركود؛ نتيجة بطء القضاء في عمله؛ مما يمس بمصلحة المجتمع مساسا بليغا. ويرد على الرأي المخالف الذي يحتج بأن تدخل القضاء فيه حماية للأفراد باعتبار أن القضاء يتسم بطابع العدل، وأنه إذا كان للإدارة حق فيما تدعيه فسوف يؤيدها القضاء، وبعد ذلك تنفذ تصرفاتها، بقوله أن: “الدفاع عن الحرية الفردية الذي يتمسك به البعض ينطوي على حجة خلابة في ظاهرها خطيرة في حقيقتها، إذ تؤدي إلى إهدار حرية المجموع وعرقلة مصالحه وضياع منافعه وأن العدالة البطيئة في تحققها لا تفترق كثيرا عن انعدامها وقد تكون هي الظلم”.

ونحن وإن كنا نوافق الدكتور عبد العزيز عبد المنعم خليفة في أن لجوء الإدارة إلى امتياز التنفيذ المباشر هو استثناء وليس أصلا؛ إلا أننا نرى أن تعليل ذلك لا يستند إلى كون استعمالها المطلق لهذا الامتياز يؤدي إلى تنحية القضاء الإداري عن الفصل في النزاعات التي تنشأ بين الإدارة والمواطن فيما يتعلق بالقرارات الإدارية الصادرة بشأنه، فلا وجود لرأي فقهي أو اجتهاد قضائي يرى عدم جواز نظر الدعوى من طرف القضاء في القرارات الإدارية التي كانت محل تنفيذ مباشر، ولكننا نرى أن استثنائية التنفيذ المباشر تجد مبررها في توقي عزوف المواطن من تلقاء نفسه عن مخاصمة القرارات التي نفذت تنفيذا مباشرا؛ لأنه يرى أن الوقت قد فات ما دامت القرارات قد نفذت فعلا، وأنه لا يمكن تدارك آثارها؛ ورغم ذلك فإن مثل هذه الطائفة من القرارات التي يصعب تدارك الأثار الناتجة عن تنفيذها تنفيذا مباشرة ، يجوز أن تباشر الدعوى الاستعجالية لوقف تنفيذها، وفي هذا الصدد جات أحكام المواد من 833 إلى 837 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري.

إنني أرى أن الرد الحاسم على القائلين بأن الأصل في القرار الإداري هو التنفيذ المباشر، أنهم يتكلمون أيضا عن شروط التنفيذ المباشر، ونحن نعلم أن الأصل يقرر دون شروط والاستثناء هو الذي لا يمارس إلا إذا تحققت شروطه، فمتى قرر لتصرف ما أنه لا يمارس إلا بتوافر شروط معينة فهو استثناء وليس أصلا حتى وإن كانت مساحة ممارسته الواسعة توحي بأنه أصل.

إن اللبس الحاصل بسبب المساحة الواسعة التي يمارس في شأنها امتياز التنفيذ المباشر، هو الذي جعل الموقف بشأن طبيعته يبدو متناقضا إلى درجة أن الدكتور عصام نعمة إسماعيل يقع في هذا التناقض في فقرة واحدة بقوله بعد سرد حجج الفريقين: “وفي النهاية كانت الغلبة للحقيقة الراسخة التي تقول بأن للإدارة كقاعدة عامة حق التنفيذ المباشر لقراراتها حتى تتمكن من ممارسة نشاطها، ولا يصح أن تكون ملزمة دائما باللجوء مسبقا إلى القضاء، ولكن يبقى حق التنفيذ المباشر ليس مطلقا من كل قيد؛ وإنما له شروط وقيود معينة ومحددة يجب على الإدارة مراعاتها وإتباعها قبل استخدام هذا الامتياز، فالتنفيذ المباشر هو طريق استثنائي محض، لا تستطيع الإدارة اللجوء إليه إلا في حالات محددة على سبيل الحصر”.

إننا وإن كنا نرى أن التنفيذ المباشر هو استثناء وليس أصلا، إلا أننا لسنا ضد نطاقه الواسع فهذا مقتضاه الذي يبرره الدكتور عادل سيد فهيم في بحثه القيم جدا الموسوم بالقوة التنفيذية للقرار الإداري بقوله: “…وهكذا نرى أن المبدأ المفسر والمبرر لاستخدام الجبر والإكراه، إنما يكمن في نهاية الأمر في المنطق الداخلي للقانون نفسه، فالتنفيذ الجبري هو من مقتضيات المنطق الداخلي للتنظيم القانوني، إن وظيفة الإدارة في تنفيذ القاعدة القانونية المجردة على الحالات الفردية المادية، وهناك قرينة بمشروعية القرارات التي تتخذها هذه السلطة القيام بتلك المهمة، بمطابقة القرارات الإدارية لحكم تلك القاعدة المجردة، ومن ثم لا يقبل من أحد الامتناع عن تنفيذ هذه القرارات؛ إذ المفروض أنها مطابقة للقانون، وطاعة القانون واجبة”.

إن كون التنفيذ الجبري مبررا حسب المنطق الداخلي للقانون نفسه أولا، وحسب مقتضيات المصلحة العامة ثانيا، لا يعني أنه أصل على الإطلاق، بل يبقى استثناء له مبرراته، وكل استثناء على أصل يجب أن يكون مبرّرا.

ولهذه الاعتبارات يكون من السليم اعتبار لجوء الإدارة إلى هذا الامتياز استثناء وليس أصلا، وتقييده بالحالات التي نص عليها المشرع وحالة الضرورة.

وإذا كانت الحالات التي نص عليها المشرع واضحة في النصوص، فإن حالة الضرورة والتي يحكمها مبدأي: “الضرورات تبيح المحظورات” و “الضرورة تقدر بقدرها”، وحتى لا تدعي الإدارة قيام الضرورة كلما أرادت الاستفادة من امتياز التنفيذ المباشر، فإن الاجتهاد القضائي حصر شروط قيام حالة الضرورة المخولة لامتياز التنفيذ المباشر في:

1- استناد التنفيذ المباشر إلى نص قانوني فلا يجوز سحب رخصة مخزن المشروبات الكحولية دون الاعتماد على أي حالة من الحالات المنصوص عليها قانونا.

2 حالة الضرورة، وتقوم حالة الضرورة عندما يكون من واجب الإدارة سرعة التنفيذ لدواعي الاستعجال، ومجالها في الغالب نزع الملكية للمنفعة العامة ومنها وجود مقاومة وامتناع عن تنفيذ القوانين واللوائح وانعدام الوسيلة القانونية للإجبار على احترامها.

ورغم أن امتياز التنفيذ المباشر حق للإدارة في الحالات التي نص عليها المشرع وحالة الضرورة إلا أنها قد تتنازل عنه حتى في مثل هذه الحالات، ويكون ذلك على وجه الخصوص إذا ساورها شك في سلامة تصرفها أو خشيت المسؤولية 6 بينما ليس للإدارة الحق في التنازل عن امتياز الأسبقية، فلا يمكن لها الالتجاء للقضاء لاستصدار حكم بدلا من تصرفها المباشر الذي يفرض نفسه على الإدارة والمواطن على السواء.

وهكذا فإن الإدارة تحدد حقوقها والتزامات الأفراد في مواجهتها، وتنفذها تنفيذا مباشرا طوعا أو جبرا، دون حاجة للالتجاء إلى القضاء، وعلى من ينازع في صحتها عرض الأمر على القضاء مع تحمل المركز الصعب للمدعي في دعوى الإلغاء؛ في حين تقف الإدارة موقف المدعى عليه المركز الأيسر من حيث الإثبات.

ونتيجة لذلك فإن الفرد المتضرر من القرار الإداري غير المشروع ويرفع ضده دعوى الإلغاء، بمقتضى هذه الامتيازات يقف في جميع الأحوال موقف المدعي، وهو ما يخلق ظاهرة عدم التوازن بين طرفي دعوى الإلغاء، خاصة في ظل حرمانه من أدلة الإثبات، وصعوبة إثباته لأوجه عدم المشروعية الداخلية في حالة إصدار الإدارة لقرارها على أساس السلطة التقديرية، ويتطلب ذلك قيام القاضي بدور مهم في الإثبات مستلهما ذلك من قواعد العدالة.

المطلب الثاني: افتقار المدعي الأدلة الإثبات.

إن إلقاء عبء الإثبات على كاهل المدعي في دعوى الإلغاء وإن كان يشكل أهم عناصر المركز الضعيف الذي يشغله في الإثبات، لكنه ليس العنصر الوحيد، بل يعضده عنصر آخر لا يقل عنه – إن لم نقل يفرقه- مساهمة في تعقيد وضع المدعي بالنسبة للإثبات وهو افتقاره لوسائل الإثبات، ووقوفه أعزلا في مواجهة الإدارة التي تملك الوثائق والعالمة بكل ملابسات القرار المطعون فيه وظروف إصداره، ودوافعه وغاياته الحقيقية.

إن حيازة الإدارة للوثائق الإدارية واستئثارها بها؛ كونها متعلقة بعملها وشخصيتها كما أنها الأمينة عليها، وبعد المدعي عن صنع القرار، وخاصية السرية الإدارية وعدم إلزام الإدارة بتسبيب جميع قراراتها، من شأنها كلها أن تخلق فرقا واضحا بين الإدارة والمدعي من حيث تمتعهما بالأدلة والوثائق والمستندات اللازمة للإثبات.

وهكذا فإن عائقا آخر من عوائق الإثبات يقف في وجه المدعي وهو افتقاره الأدلة الإثبات، والذي يمكن إجمال أسبابه في:

حيازة الإدارة الوثائق الإدارية (الفرع الأول).

السرية الإدارية ومبدأ عدم التسبيب الوجوبي للقرارات الإدارية (الفرع الثاني).

الفرع الأول: حيازة الإدارة الوثائق الإدارية.

تحوز الإدارة الوثائق الإدارية لكونها القائمة على سير العمل الإداري والأمينة على المصلحة العامة، لما لها من ديمومة الشخصية بفضل استقلالها عن الأفراد العاملين بها.

والوثائق الإدارية المتمثلة في السجلات والملفات والمحررات التي أعدتها المصالح الإدارية والمثبتة للوقائع المتعلقة بالعمل الإداري والتي هي ذاكرة الإدارة تعد من أهم أنواع الأدلة المعتبرة في القضاء الإداري وعليها يعول عادة في الإثبات، ذلك أن الإدارة منظمة تنظيما يعتمد كليا على الوثائق، ولا يعتمد على ذاكرة الموظفين، فالواجب على الموظف تسجيل ما يتصل بنشاطه أولا بأول في الوثائق وبالطريقة المعدة لذلك، وبهذا التسجيل تتكون على مر الأيام الذاكرة الإدارية الموضوعية التي يرجع إليها عند اللزوم، ولهذا كان الدليل الكتابي أهم الأدلة التي يعتد بها أمام القاضي الإدارية، كما يعزى ذلك أيضا لتأثير الصفة الكتابية لإجراءات التقاضي في المنازعات الإدارية.

نتطرق في هذا الفرع إلى مفهوم الوثيقة الإدارية (أولا) ثم إلى أثر استئثار الإدارة بالوثائق على موقف المدعي (ثانيا)

أولا: مفهوم الوثيقة الإدارية:

تعرف الوثائق الإدارية بأنها “محررات في حوزة الإدارة تتضمن وقائع إدارية معينة”.

وأهم مميزات الوثيقة الإدارية أنها كتابة وفي حوزة الإدارة وأن تاريخها قابل للإثبات وأنها تدل على واقعة إدارية معينة، فكما قد تكون على نماذج إدارية أو تحمل اسم الجهة التي أصدرتها أو خاتمها، أو موقعة من أحد الإداريين أو مؤشر عليها منه، فإنها كذلك قد تكون مجرد ورقة غير موقعة ولا مؤرخة ومليئة بالشطب والتحشير، يكفي توافر السمات المشار إليها فيها، ويجب أن يكون دخولها في حوزة الإدارة بمقتضى النظام المعمول به في الهيئة الإدارية.

والوعاء الطبيعي لحفظ الوثائق الإدارية هو الملفات والسجلات، وقد جرى العمل الإداري على ضم الوثائق المتعلقة بموضوع واحد في ملف واحد، ذو رقم معين، وتعنون جميع الوثائق التي يتضمنها الملف بهذا الرقم، وترقم بتسلسل، ويمكن هذا التسلسل من إثبات تاريخ الوثيقة.

وللإحاطة أكثر بمفهوم الوثيقة الإدارية يجب التعرض إلى بعض الوثائق المشهورة التي يمكن اعتبارها مما يدخل ضمن هذا المفهوم.

فمن حيث شكلها: قد تكون الوثائق الإدارية في حقيقتها أوراقا رسمية، وهي تلك التي تحتوي على تصرف قانوني يحرره ضابط عمومي أو موظف عام، ومن أشكال الوثائق الرسمية الوثائق الصادرة عن موظفي المصالح الإدارية والسندات القضائية وشبه القضائية الصادرة عن القضاة والموثقين والمحضرين القضائيين وكتاب الضبط، وقد تكون أوراقا عرفية صادرة عن الأفراد دون أن يتدخل في إصدارها موظف عام، ودون التزامها بشكلية معينة يقررها القانون، ولكنها دخلت في حوزة الإدارة وأشر على استلامها موظف بالإدارة.

كما يمكن أن تكون في شكل قرار إداري مهما كانت مرتبته، ويمكن أن تتخذ شكل عقد مودع بملف بالإدارة، أو عقد إداري، كما يمكن أن تكون من قبيل المنشورات والتعليمات الإدارية والتنظيمات الداخلية، كما قد تكون من قبل المحاضر الإدارية؛ مثل محاضر الجلسات التأديبية ومحاضر فرز الأصوات في العمليات الانتخابية أو تقارير فنية.

ومن حيث مصدرها: يمكن أن تكون الوثيقة الإدارية صادرة عن موظف عام مختص بالإدارة، كالمذكرات والتقارير والمحاضر، أو عن شخص عادي كما هو الحال بالنسبة للطلبات الواردة إلى الإدارة من شخص عادي بخطه وإمضائه، والتي تحفظ بالملفات الإدارية وتعطى رقما متسلسلا وتاريخا ويكون مؤشرا عليها من طرف الإدارة.

أما من حيث موضوعها: فقد يكون موضوع الوثيقة الإدارية إثبات تصرفات قانونية، أو وقائع مادية تتعلق بنشاط الإدارة وسير العمل بها أو بوقائع متعلقة بالموظفين أو بالمتعاملين معها، كالموردين والمقاولين، أو ممن مستهم قراراتها، أو عقودا بين الإدارة ومتعامليها أو محاضر وصفية لمجريات سير مختلف العمليات الإدارية.

ثانيا: أثر استئثار الإدارة بالوثائق على موقف المدعي:

لقد اقتضت ظروف العمل الإداري ومقتضيات حفظ الوثائق والمستندات الإدارية تحت يد الإدارة أن يكون الطريق الرئيسي للإثبات أمام القاضي الإداري هو الإثبات بالكتابة؛ وعن طريق الوثائق الإدارية، ونزولا كذلك عند الصفة الكتابية لإجراءات التقاضي الإدارية، لكن الوثائق ذات الأثر الحاسم في الدعوى تكون في حوزة الإدارة، ولا يعلم الفرد مضمونها، ومدى مراعاة تصرفات الإدارة المتعلقة به للمشروعية، ومدى استيفائها للأوضاع الشكلية، والإجراءات التي يلزمها القانون باتباعها، وبالتالي يقف المدعي أعزلاً من الدليل المنتج في الدعوى والموجود في حيازة الطرف الآخر.

إن حيازة الإدارة لهذه الوثائق والتي تعتبر الطريق الرئيسي لإثبات الوقائع الإدارية، يؤدي إلى إضعاف موقف المدعي في الإثبات، ومما يزيد من تعقيد مركزه أنه في الكثير من الأحيان لا يرتبط بالإدارة بعلاقات سابقة على إصدار القرار المطعون فيه، فلا يسهم في إعداده وإصداره حتى ولو جاء بناء على طلبه، فالعناصر الوحيدة التي يمكن للطاعن جمعها وتقديمها للقضاء مستمدة ومستخلصة من نشاط الإدارة الخارجي، وعليه لا يمكن الكشف عن العناصر الداخلية والموضوعية للقرار المطعون فيه.

وفي ظل سيادة الصبغة الكتابية لإجراءات التقاضي الإدارية التي يعتمد فيها القاضي على هذه الوثائق والملفات بشكل أساسي، وكون القاضي الإداري قاضي أوراق قبل كل شيء؛ فإن موقف المدعي يكون كموقف من يدخل الهيجاء بلا سلاح.

ومراعاة لهذه الوضعية فإن القاضي الإداري وفي إطار دوره التدخلي مخول بموجب النصوص التشريعية والاجتهاد القضائي بأن يأمر الإدارة بإيداع المستندات المتعلقة بموضوع النزاع والتي يرى أنها تفيد في حله، وفي حالة امتناعها عن ذلك يستخلص النتائج المترتبة عن هذا الامتناع، وذلك في ضوء باقي الأدلة والقرائن المستفادة من ملف القضية.

غير أن هذا الدور قد تقف في وجهه مقتضيات السرية الإدارية التي يحميها القانون، وبذلك يكون المدعي أمام سبب آخر يحرمه من المعلومات الوثائق التي يستند إليه في تقديم الإثبات.

الفرع الثاني: السرية الإدارية ومبدأ عدم وجوب تسبيب القرارات الإدارية.

في غالب الأحيان لا تكون للطاعن في القرار الإداري بالإلغاء علاقة سابقة بالإدارة، كما لا يكون على علم بظروف صدور القرار المطعون فيه وملابساته، وما هي الأسباب التي يستند إليها، ومدى التزام الإدارة بالأشكال والإجراءات التي يلزمها القانون باتباعها في مثل ذلك القرار، وبذلك يكون مفتقرا أشد الافتقار إلى المعلومات التي يمكن أن يبني على أساسها طعنه في وجه من أوجه القرار الإداري.

وحتى إذا تقدم للإدارة طالبا الاطلاع على بعض الملفات أو الحصول على بعض التوضيحات اللازمة والتي يمكن أن يؤسس عليها دعواه قد ترفض الإدارة التعاون، معللة ذلك بسرية العمل الإداري (أولا)، أو بأن المشرع لم يلزمها بتسبيب قراراتها الإدارية، وهو ما يسمى بمبدأ عدم وجوبية تسبيب القرارات الإدارية (ثانيا).

أولا- السرية الإدارية:

يعرف الدكتور ماجد راغب الحلو السرية في أعمال السلطة التنفيذية بأنها: ” إخفاء حقيقة الأعمال المتصلة بهذه السلطة، سواء كانت هذه الأعمال مادية أو قانونية، وسواء تم هذا الإخفاء باتخاذ موقف سلبي عن طريق السكوت عن ذكر الحقائق رغم وجودها، أو باتخاذ موقف إيجابي بواسطة الكذب وذكر معلومات مزيفة لتغطية الموضوع المتعلق بهذه الحقائق، وبصرف النظر عن الدافع إلى إخفاء هذه الحقيقة هل هو شريف يهدف إلى تحقيق المصلحة العامة، أم وضيع يرمي إلى تضليل المحكومين لصالح الحكام، وسواء كانت الحكومة تخفي هذه المعلومات عن جمهور المواطنين فقط، أم تخفيها حتى عن أغلب العاملين فيها”.

وتعرف السرية الإدارية: “حالة عدم العلم الكافي، أو غياب المعلومات الكاملة لدى بعض الأشخاص الذين لا يصرح لهم بالاطلاع على هذه المعلومات”.

وتتجلى السرية في القانون الإداري في نطاق العلاقة بين الإدارة والمواطن في امتناع الإدارة عن تقديم المعلومات التي يحتاجها الأفراد من تلقاء نفسها، أو عندما تمتنع عن تمكين الأفراد من الاطلاع على الملفات والوثائق الإدارية، وأيضا عندما تلتزم الصمت إزاء الافصاح عن حقائق مطلوبة منها.

وتستند السرية بالدرجة الأولى إلى ما درج عليه العمل، فهي ليست إلا مجرد إرث تاريخي للإدارة، غير أن النصوص التشريعية ضمنت القوانين الأساسية للوظيفة العمومية، وبعض القوانين الأساسية لمختلف الموظفين واجب السرّية كواجب ملقى على عاتق الموظف يلتزم باحترامه.

إن السرية الإدارية تعني الفاعلية والاستقلال، فكما يقال: “لا يجوز أن تكون الإدارة مجرد منزل من الزجاج” مكشوف للأفراد على مختلف توجهاتهم، فهي لازمة من أجل أن تتخذ الإدارة قراراتها بحرية تامة وعلى أسس موضوعية بعيدة عن تأثيرات الأفراد وظروفهم الشخصية، وبعيدا عن تأثير الرأي العام، فاتخاذ القرارات الإدارية يفترض إعداد تقارير ودراسة وصياغة مذكرات، ولا شك أن سرية الملفات تجنب الإدارة كثيرا من الضغوط التي يمكن أن تؤدي إلى التخلي عن بعض المشاريع.

كما أن هناك طوائف من أعمال الإدارة، خاصة تلك المتعلقة بالحياة الخاصة لمرتفقيها، وكذلك المتعلقة بالأسرار الدبلوماسية، والدفاع الوطني، والأسرار الطبية، والأسرار المهنية، قررت التشريعات والاجتهاد القضائي تمتعها بالصفة السرية، بل جعلت من إفشاءها جرما يستحق العقاب التأديبي أو الجنائي.

بينما تؤدي العلنية إلى بطء الإجراءات وتوفير مناخ ملائم للمنازعات، ورجال الإدارة سيعملون بقدر أقل من الحرية والاستقلال إذا ما شعروا أن أعمالهم سيطلع عليها الآخرون.

لكن السرية وإن كانت لها مبرراتها؛ فإنها تفسر في الواقع الإداري بصورة تعسفية، وتسمح غالبا بالتهاون والجمود والمحاباة، في الوقت الذي يتطلب تقبل المواطن لقرارات الإدارة وتنفيذها بإخلاص أن يكون العمل الإداري صادقا، وقائما على اطلاع أفضل للمواطنين، وهذا واحد من أدوية البيروقراطية والظلم.

وللسرية أثر كبير على ضمانات الأفراد وحرياتهم، فالفرد الذي يخاصم القرار القرار المتخذ على أساس وقائع ووثائق سرية يجد نفسه كالضال في بيداء لم يعرف بها ساكن رسما؛ أين تضيع معالم وملابسات صدور القرار الإداري التي يمكن أن يستفيد منها في بناء إثباتاته بشأن عدم مشروعية القرار المتخذ.

إنّ وطأة السرية الإدارية ليست على منطق ضمانات الأفراد وحرياتهم فحسب؛ فهي فوق ذلك تساهم في تكريس الغموض الإداري الذي يتنافى ومبادئ الإدارة الفعالة، ولهذا فإن البعض يطلق عليها مفهوم الطقوس الإدارية “Mystere administratif” الموروث عن الدولة البوليسية.

لقد أدركت الدول المتقدمة هذه الحقيقة فحرصت على اتباع سياسة الوضوح الإداري، والتي من معالمها تمكين الأفراد من التعبير عن وجهة نظرهم قبل أن تشرع في بعض العمليات، كنزع الملكية، وتمكينهم من إبداء ملاحظاتهم قبل إصدار القرارات التي تؤثر على مراكزهم القانونية، وتقرير حقهم في الاطلاع على الوثائق الإدارية والتسبيب الوجوبي لبعض أنواع القرارات.

إن هذا التسبيب لا يشمل جميع القرارات الإدارية، وبالتالي لا يمكن القول بأن هناك مبدأ وجوبية تسبيب القرارات الإدارية، وهو سبب آخر من أسباب افتقار المدعي لأدلة الإثبات.

ثانيا مبدأ عدم وجوبية تسبيب القرار الإداري

على المستوى التشريعي وقبل سنة 2006 فإن الأصل في الجزائر أن الإدارة غير ملزمة بأن تفصح في صلب قرارتها الإدارية عن أسباب إصدارها؛ إلا إذا نص القانون بشأن بعض القرارات على وجوب التسبيب؛ بهدف إحاطة من يخاطبه القرار علما بالأسباب التي بني عليها والتي دفعت الإدارة إلى إصداره، ويسمى هذا الأصل بمبدأ “لا تسبيب إلا بنص”.

ويؤثر هذا المبدأ على إمكانية إثبات عدم مشروعية القرار الإداري، يقول SUR: “إنه من الصعوبة قيام القضاء الإداري بمهمته في رقابة المشروعية الخارجية للقرار الإداري دون معرفة الأسباب والميزات التي يستند إليها هذا القرار، والإدارة لن تلتزم بالإفصاح عن أسباب قراراتها إلا بتقرير المشرع لمبدأ التسبيب الوجوبي”.

ورغم أن مبدأ عدم التسبيب الوجوبي للقرارات الإدارية لا يخلو من النقد، إلا أنه أيضا لم يفتقد لبعض التبريرات التي أثبت الواقع الإداري والقضائي أنها لا تثبت أمام مبررات مبدأ التسبيب الوجوبي.

1- مبررات مبدأ لا تسبيب إلا بنص”:

لقد صنف الدكتور محمد عبد اللطيف مبررات هذا المبدأ إلى مبررات إدارية ومبررات قانونية وهي:

أ- المبررات الإدارية: ويمكننا تلخيصها في أن مبدأ عدم التسبيب الوجوبي للقرارات الإدارية، يكفل فاعلية النشاط الإداري، أما إلزام الإدارة بتسبيب جميع قرارتها يتعارض مع تسهيل العمل الإداري من جهة ومع سريته من جهة أخرى.

فمن جهة يشكل التسبيب زيادة في عبء العمل على عاتق السلطة الإدارية، لأنه يقتضي مجهودا ووقتا يؤدي إلى عرقلة النشاط الإدارية، ولهذا يجب إعفاء الإدارة منه ولو تركب على ذلك بعض الصعوبات أمام الأفراد والقضاء بشأن الإحاطة بأسباب القرار، ضمانا لسرعة اتخاذ القرار، وقصر إلزامية التسبيب على القرارات الهامة.

ومن جهة أخرى يؤدي التسبيب إلى كشف معلومات يجب الاحتفاظ بسريتها، إما لأنها تتعلق بأمن الدولة، أو مصالح الغير، أو صاحب الشأن نفسه، كما أن من شأنه المساهمة في بطء الإجراءات، وتوفير مناخ ملائم للمنازعات، وكبح حرية الموظفين واستقلالهم إذا خطر لأذهانهم أن آراءهم سوف يطلع عليها الآخرون.

بينما يؤدي إعفاء الإدارة من تسبيب قراراتها؛ وتمكينها من الالتجاء إلى السرية ملاذا إلى تجنيبها الكثير من الضغوط المصاحبة لاتخاذ بعض القرارات المهمة خاصة بالنسبة للرأي العام.

ب- المبررات القانونية: من جهة فإن القرار الإداري -والذي نطالب الإدارة بتسبيبه – ما هو إلا نتاج الإرادة المنفردة للإدارة، وهو أهم مظهر من مظاهر السلطة العامة التي تعني الإجبار خلاف الإقناع الذي يهدف إليه التسبيب.

فالقرار الإداري يصدر من جانب واحد، ويفرض التزامات يمكن تنفيذها دون رضا الأفراد، بل وباستعمال القوة عند الاقتضاء، ولا مبرر للتسبيب ما دام القرار سينفذ ولو بالقوة، وهكذا فإن إرادة الأفراد المستهدفة بالإقناع واللازمة لتكوين العقد؛ ليست لازمة لتكوين القرار الإداري ولا لتنفيذه.

ومن جهة أخرى إذا لم يقتنع الأفراد بالقرار الإداري فإن لهم اللجوء إلى القاضي المختص الذي يكفل لهم رقابة الأسباب؛ وهي رقابة كافية وتغني عن التسبيب، والرقابة الموضوعية للسبب تسمو على الرقابة الشكلية للتسبيب، فعدم وجود التزام بالتسبيب لا يعني عدم وجود التزام أن يكون القرار قائما على أسباب.

فالقاضي الإداري يستطيع أن يطلب من الإدارة الإفصاح عن أسباب قرارها، الأمر الذي يجعل مطالبة الإدارة بتسبيب قرارها قبل المنازعة فيه أمام القاضي مجرد عرقلة للعمل الإداري، لا طائل منها، وهذا ما يرمي إليه مفوض الدولة GENTOT بقوله: “إن الذي يهم لوجود رقابة المشروعية ليس أن تكون القرارات مسببة، وإنما أن يتمكن القاضي أثناء سير الإجراءات من الإحاطة بأسباب النشاط الإداري، وأن يستخلص منه النتائج”.

إن الرقابة على السبب تبدو حسب SUR’S أفضل من التسبيب المعاصر للقرار، لأن القاضي في ضوء الأوراق، يلجأ إلى إعادة تكوين حقيقي للإجراء المتنازع فيه، إنه لا يتحسس فقط ظاهر الأمر وإنما يتعمق في باطن الموضوع، وصولا للسبب الحقيقي والمبرر الفعلي للقرار، أما في حالة السبب الشكلي، فإن القاضي يكون أمام “الشاشة” للأسباب الظاهرة التي ربما تكون في الحقيقة خادعة.

2- الرد على مبررات مبدأ “لا تسبيب إلا بنص”:

رغم تضافر جميع هذه المبررات ووجاهتها الظاهرة إلا أنها لا تصمد أمام الانتقادات الموجهة إليها فالتسبيب لا يتعارض مع تسهيل العمل الإداري، ولا مع مفهوم القرار الإداري، كما أن الرقابة على السبب لا تغني عن التسبيب.

فالتسبيب يقدم ضمانة ثمينة جدا للمرتفقين إذ يسمح لهم بمعرفة الاعتبارات التي اتخذت على أساسها الإدارة القرار، كما أنه يضمن قبل كل شيء أن تقوم الإدارة بدراسة ملفاتهم، فهو يستبعد قيام الموظفين بمعالجة القضايا بطريقة عاجلة وسطحية، اللذين من أجل إنهاء واجباتهم وسرعة التخلص منها فإنهم لا يجدون أمامهم -حسب تعبير Céline WINER سوى كلمة “لا” “Non” أو طلب مرفوض” “demande rejetée”.

ومادام كل قرار يجب أن يقوم على سبب خاص به، قائم وموجود وقت صدور القرار، ومعنى التسبيب هو إلزام الإدارة بالتعبير عن هذه الأسباب، وبالتالي فإن هذا التعبير لا يعرقل العمل الإداري بأي حال من الأحوال، اللهم إلا إذا حاولت اختراع أسباب شكلية لا علاقة لها بالأسباب الحقيقة، وفي هذه الحالة فإنه من العدل أن تتحمل هي ذلك وليس الفرد.

كما أن التسبيب يقوم على الإقناع، ومتى كان كافيا وواضحا فمن شأنه صرف المعنيين عن اللجوء إلى القضاء، وتسهيل تنفيذ القرار الإداري أكثر، وعدم التسبيب هو الذي يؤدي إلى الغموض والشك في مدى قيام أسباب صحيحة للقرار وبالتالي لجوء المعنيين للقضاء وعرقلة العمل الإداري واستنزاف زائد للوقت والجهد والمال.

والتسبيب المتضمن معنى الإقناع لا يتعارض أيضا مع مفهوم القرار الإداري الصادر عن الإرادة المنفردة للإدارة والمتضمن لمعنى الإكراه والإجبار، وما هو إلا عنصر موازن لامتياز التنفيذ المباشر الذي تتمتع به الإدارة في مواجهة الأفراد.

وكما يقول Serge SUR بحق فإن: “التسبيب يعطي الإدارة إحساسا دائما بالخضوع للقانون، فهي تستمد سلطاتها من نصوص قانونية، وليس من مبدأ السلطة التي تعتبر السرية التي تحيطه مظهرا مؤسفا، وهو يدفع بالإدارة إلى الكف عن اعتبار النصوص القانونية عوائق شكلية تعرقل نشاطها، بل تعتبرها أساسا لحقها في التصرف أو التزامها بالتصرف”.

ولقد اتجهت فرنسا حديثا إلى اتباع نهج التشاور مع الأفراد خصوصا في المجال الاقتصادي، وذلك من خلال تبادل وجهات النظر بين الإدارة وذوي الشأن.

ورقابة القاضي على الأسباب لا تغني عن التسبيب؛ لأن المدعي الذي لا يعلم أسباب القرار الإداري لا يستطيع أن ينازع فيها، فضلا عن أن التسبيب يسهّل مهمة القاضي في الرقابة على الأسباب، كما أنه يبين للطاعن مركزه القانوني الذي على أساسه صدر القرار برفض طلبه إذا كان موضوع القرار رفض طلب المدعي الذي يفتقد إلى شرط من الشروط القانونية لإجابة طلبه؛ وبالتالي تنبيهه إلى السعي من أجل تحصيل ذلك الشرط في الفرص المقبلة.

ومن ناحية أخرى فإن الرقابة على السبب وإن أدت إلى تسبيب لاحق للقرار؛ فإن هذه الأسباب قد لا تكون هي الأسباب التي بني عليها القرار في الحقيقة.

وفوق كل ذلك فإن التسبيب لا يهدف فقط إلى حماية حقوق الأفراد، لكنه يتوخى حماية سابقة للمشروعية، إنه يذكر الإدارة باستمرار بضرورة التصرف وفقا للقانون، وهذا ما لا يمكن تحقيقه عن طريق رقابة القاضي على السبب.

ويعبر Céline WIENER عن هذا المعنى بقوله: “لكن التسبيب كذلك ضمانة من أجل الفحص الدقيق لظروف السبب…إن ضرورة الشرح القانوني والواقعي لدوافع القرار في كل الأحوال تضمن تصحيحه؛ وطبعا تفادي عدم الشرعية… وتحث بالنتيجة الإدارة على التصرف لأسباب وغايات شريفة …وفي الأخير فإن التسبيب ضمانة سابقة ضد القرارات غير المشروعة، وضمانة لاحقة لفعالية الطعون، وهو بذلك مفيد للأفراد؛ ولكنه يشكل من جهة أخرى أمرا مفيدا للإدارة الحسنة؛ في الخلاصة هو مفيد للمصلحة العامّة”.

وفي الدّول التي تأخذ بطريقة تقنين الإجراءات الإدارية غير القضائية فإن التسبيب يعتبر كتقنية ل “قوننة” أو “شرعنة “juridicisation” النشاط الإداري.

يتبين مما تقدم أن حيازة الإدارة المستندات والوثائق الإدارية، وتميز العمل الإداري بالسرية وما يعنيه من عدم إحاطة المدعي علما بظروف صدور القرار الإداري وملابساته، مضافا إليه عدم إلزام الإدارة بتسبيب قراراتها يساهم كله في افتقار المدعي لأدلة الإثبات، حتى وإن كانت التشريعات من خلال بعض المواد المتفرقة في مختلف النصوص، وفي بعض الأحيان في قوانين إدارية تضع بعض الإجراءات الإدارية التي تخفف من هذه الوضعية، إلا أنها تبقى غير كافية.

المطلب الثالث: صعوبة إثبات عدم المشروعية الداخلية

في حالـــــــــــة اختصاص الإدارة التقديري

عندما ينظم المشرع اختصاصات الإدارة إما أن يمنحها اختصاصا مقيدا، وإما أن يترك لها الحرية في الكيفية التي تعالج بها الحالات الواقعية والقانونية التي تعرض لها في العمل؛ فتستطيع أن تأخذ بالحل الذي تراه مناسبا لمعالجة تلك الحالات، وتسمى هذه الحرية الممنوحة لها بالسلطة التقديرية.

ولتحديد مفهوم السلطة التقديرية دور كبير في إرشاد المدعي والقاضي الإداري إلى حدودها، ولهذا ارتأينا أن نتعرض في هذا المطلب إلى مفهوم السلطة التقديرية ومبرراتها (الفرع الأول)، وأثرها على موقف المدعي في دعوى الإلغاء في الإثبات (الفرع الثاني).

الفرع الأول: مفهوم السلطة التقديرية للإدارة ومبرراتها.

لقد بدأت السلطة التقديرية في فقه القانون الإداري كضرورة لا غنى عنها، فمن المسلم به أن الإدارة يجب أن تعمل فكرها لتواجه المواقف الجديدة، دون أن تحيل في كل الأحوال لنصوص القانون، وإذا كانت السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، فإن السلطة المقيدة بالكامل هي كذلك نوع من الفساد بما تعنيه من شلل تام لحركة الحياة.

أولا: تعريف السلطة التقديرية للإدارة:

تعرّف السلطة التقديرية بأنها: ” تمتّع الإدارة بهامش من الحرية عند قيامها بنشاطها وممارسة اختصاصاتها الممنوحة لها قانونا”.

ويحاول الدكتور سامي جمال الدين تبسيط فكرة السلطة التقديرية فيقول: ” السلطة التقديرية هي أمر يتصل بتطبيق القواعد القانونية، ومن ثم فإنها ترجع بالدرجة الأولى إلى موقف المشرع عند سن القواعد القانونية؛ فقد يتولى صياغتها في صورة جامدة بحيث لا يملك أحد سلطة تقديرية في تطبيقها، وقد يصوغها في صورة مرنة بحيث تنطبق على الحالات الخاصة وفقا للسلطة التقديرية لمن يتولى هذا التطبيق”.

إذا تكون سلطة الإدارة تقديرية حينما يترك لها القانون الذي يمنحها هذه السلطة بصدد علاقاتها مع الأفراد الحرية في أن تتدخل أو تمتنع، ووقت هذا التدخل وكيفيته، ومضمون القرار الذي تتخذه، ومثال ذلك حرية الإدارة في تقدير العقوبة التي توقعها على الموظف الذي ثبت ارتكابه لخطأ تأديبي.

ويذكر فالين في تعريفة التقدير أن رجل الإدارة -قبل أن يتخذ قرار- يستلهم الإجابة عن أسئلة ثلاثة، أولها: هل القانون يمنحه هذا الحق؟ وثانيها: هل يلتزم باتخاذ هذا القرار؟

فإذا كانت الإجابة إيجابا بالنسبة للسؤال الأول وسلبا للسؤال الثاني ثار السؤال الثالث وهو: هل يتحقق الصالح العام من وراء اتخاذ هذا القرار؟ وهنا يكمن التقدير، والسؤال الأول والثاني من مسائل القانون أما الثالث فهو مسألة إدارية تماما ولا يستطيع القاضي فرض رقابة عليها وهذا هو مجال السلطة التقديرية.

ولقد اختلف الفقه حول حدود السلطة التقديرية للإدارة، إذ ينتهج البعض في تعريف السلطة التقديرية طريقا سلبيا، فيشيرون إلى أن مصدر السلطة التقديرية هو عدم التحديد في التنظيم القانوني، ويرتبون على ذلك أن عدم الشرعية يكمن في مخالفة القاعدة. ويعلق فينيزيا على هذا الرأي بأن عدم التحديد هو مجرد ظاهرة ثانوية، ويتساءل: هل التنظيم القانوني والسلطة التقديرية فكرتان تستبعد إحداهما الأخرى؟ ويجيب على هذا التساؤل بأنه غير مقبول القول أن هناك سلطة تقديرية لأن هناك عدم تحديد في التنظيم القانوني؛ ذلك أن عدم التحديد ليس سببا للسلطة التقديرية بل هو نتيجة لها وعلامة على حدودها.

ويرى Alain BOCKEL أنه وحسب وجهة النظر التقليدية يمكن الإحاطة بمفهوم السلطة التقديرية من خلال فرضيتين:

1- السلطة التقديرية متوافرة عندما لا يحدد القانون للإدارة أسباب لممارسة الاختصاص.

2 – السلطة التقديرية متوافرة عندما يترك القانون للإدارة الحرية في الاختيار عند ممارسة اختصاصها، وأن تقدر المعطيات وعلى أساسها تتخذ الحل الذي تراه أكثر ملاءمة.

لكن هذا التعريف ورغم أهميته ورغم أنه يتيح لنا معرفة متى يمكن القول بوجود سلطة تقديرية إلا أنه عام ومجرد جدا، ويحتاج إلى تكملته من خلال البحث عن مظاهرها. والمتمثلة في سلطة تقدير التدخل من عدمه، وسلطة اختيار مضمون القرار الذي يمثل التدخل، وهذا المظهر الأخير هو الذي يثير إشكالية مدى ونطاق هذه الحرية وهل لها حدود معينة؟

لقد صنف الدكتور رمضان محمد بطيخ الآراء في تعريف السلطة التقديرية إلى صنفين هما التعريف الإيجابي والتعريف السلبي:

فالتعريف الإيجابي يقوم على أساس أن المشرع هو مصدر السلطة التقديرية، وعلى هذا الأساس تعرف السلطة التقديرية أنها: حرية التقدير التي يعطيها المشرع للإدارة لكي تحدد ما ترى فعله، وما ترى تركه، دون أن يحدد لها المبررات التي تلتزم بممارسة اختصاصها على أساسها، ولهذا فهي غير خاضعة في هذا النشاط لأي التزام قانوني، ومن ثم لا يمكن أن توصم عند إجرائه بعدم الشرعية.

أما التعريف السلبي للسلطة التقديرية فيرتبط أساسا بالقيود التي يضعها القضاء الإداري على نشاط الإدارة وهو بصدد رقابته لهذا النشاط، فالسلطة التقديرية وفقا لهذا التعريف لا تتحقق ولا يعترف بها للإدارة إلا فيما لا يخضع من تصرفاتها لرقابة القضاء الإداري.

والحقيقة أنه لا يمكن الأخذ بأحد التعريفين لوحده، فالتعريف الإيجابي يستبعد دور القاضي الإداري في خلق القواعد القانونية، وما يمكن أن يكون لهذه القواعد من دور في تقييد السلطة التقديرية للإدارة، كما أن التعريف السلبي يجعل كل من السلطة التقديرية للإدارة ورقابة القضاء تدوران مع بعضهما وجودا وعدماً، وهذا ما يلغي فائدة التعريف، ولهذا يكون من الأصوب الجمع بين التعريفين، فلا تثبت السلطة التقديرية للإدارة في جانب من جوانب القرار الإداري إلا إذا كانت القواعد التشريعية والقضائية مجتمعة لم تقيد حرية الإدارة في التصرف.

وأصوب من هذا وأدق هو قول الدكتور سامي جمال الدين:” نشير بادئ ذي بدء إلى أن هذه الحرية وتلك السلطة لا تتحدد وفقا لإرادة المشرع فحسب، وإنما يتحدد مداها إلى حد كبير تبعا لموقف القضاء الإداري من دور المشرع بصدد عناصر القرار الإداري المختلفة، وعليه فإن تحديد جوانب التقييد أو التقدير في عناصر القرار الإداري لن تخضع فقط لإرادة المشرع، وإنما ستعود كذلك إلى تفسير القاضي -وليست إرادته- لموقف المشرع أو إرادته بصدد تلك العناصر”.

ويحاول الأستاذ Réné CHAPUS أن يبسط فكرة السلطة التقديرية بضرب مثال في أشهر مجالاتها وهو مجال تأديب الموظفين، ففي شأن السلطة الممنوحة للإدارة في اختيار عقوبة من بين عشر عقوبات تأديبية كجزاء لخطأ الموظف يقول: “في خطوة أولى فإن القانون يقر بأن الإدارة المختصة حرة في الاختيار بين عشر عقوبات قانونية يمكن الحكم بها والتي تقدر أنها أكثر ملاءمة (la plus adéquate)، ولكن في خطوة ثانية فإن نطاق حرية تحديد العقوبة ينحصر بين عقوبتين أو ثلاث عندما تأخذ بعين الاعتبار جسامة الخطأ، فالإدارة هنا لها الحرية في الاختيار بين عقوبتين أو ثلاث وفي حالة الاختيار خارج هذا النطاق فإنها تمارس اختيارا غير مشروع، وهذه قضية ملاءمة في الخطوة الأولى، لكنها تصبح في الخطوة الثانية قضية مشروعية”.

ثانيا: مبررات السلطة التقديرية للإدارة:

رغم ما لترك السلطة التقديرية للإدارة من آثار على حقوق الأفراد وحرياتهم، واعتبارها استثناء من الاستثناءات على مبدأ المشروعية، فإنها تستند إلى مبررات منطقية وعلمية وقانونية عديدة عدّدها الفقه، ويمكن إجمالها فيما يلي:

  • أن تطبيق القواعد العامة التي يصوغها المشرع على الحالات المتعددة والمتشعبة التي تعرض أثناء التنفيذ، والتي لا يمكن للمشرع بحال من الأحوال أن يحيط بها مقدما، ويرتكب خطأ إذا حاول ذلك، يستوجب أن يترك رجل الإدارة قادرا على التدخل دون قيد حين تضطره الضرورات.

  • إذا كان الاختصاص المقيد يلغي التعسف فإنه أحيانا يصادر الفاعلية الإدارية والمعاني الإنسانية.

  • السلطة التقديرية ضرورية لأنه من المستحيل تنظيم الإدارة تفصيلا بقواعد القانون، والقاضي لا يمكنه أن يسلب تقدير الإدارة لقدرتها وإمكانياتها في اختيار الحلول بوسائل قد تعوز القاضي لبعده عن معترك الحياة الإدارية.

  • الخبرة والتجارب التي تكتسبها الإدارة ووسائلها الخاصة التي تستقي منها المعلومات، والروح العملية التي تستمدها من إشرافها المستمر على إدارة المرافق، تجعل من المناسب ترك السلطة التقديرية للإدارة في التصرف وكيفيته.

  • إن الفقيه المتفهم للقواعد قد لا يكون إداريا ناجحا، والشخص الذي يعرف كل معالم الطريق قد لا يكون سائقا حسنا، وهدف رجل الإدارة ليس تطبيق القانون وإنما تحقيق النتائج الحسنة.

  • السلطة التقديرية ليست خطيرة في حد ذاتها، ولكن الخطورة تكمن في ممارسة الأفراد الذين يمتلكونها.

  • المبالغة في تقييد الإدارة تجعل منها آلة عمياء بدون روح، والإداري الذي يقف عند النص الحرفي للقانون يصبح إداريا رديئا، إذا نقصت قدرته على الإبداع والتفهم الواقعي.

  • إن الإدارة ليست مجرد آلة صماء، وإنما هي منظمة تتكون من مجموعة من البشر يتصرفون باسمها ولحسابها ويعبرون عن إرادتها، ورجل الإدارة هو الذي يقدر ما هو القرار المناسب، ومتى يجب اتخاذه من عدمه.

  • كلما كانت الإدارة إيجابية كلما كان استبعاد التعسف محققا.

  • لا شك أن واجبات السلطة التنفيذية تتزايد باستمرار، فلم تعد مقتصرة على تحقيق النظام العام، وهو ما يؤدي إلى مواجهتها لكثير من المفاجآت غير المتوقعة، لا تستطيع معها التريث لحين صدور التشريع.

الفرع الثاني: أثر السلطة التقديرية على إثبات عيبي السبب والمحل.

إن القانون في حالة السلطة التقديرية لا يقيد الإدارة بالحالات الواقعية التي تدفعها لاتخاذ قرار لمواجهتها، كما لا يقيدها بحلول معدة سلفا لمواجهة هذه الحالات، وبعبارة أخرى فإنها تصدر قرارها وهي في سعة من أمرها ما دامت هي المختصة بإصداره واحترمت قواعد الشكل والإجراء، واستهدفت المصلحة العامة.

ويربط جانب من الفقه السلطة التقديرية بجميع أركان القرار الإداري، بينما يذهب اتجاه آخر إلى أن عناصر التقييد في القانون الإداري هي الاختصاص والسبب والغاية، وعناصر التقدير هي شكل القرار الإداري ومحلّه.

غير أن الصحيح أن ركني الشكل والاختصاص لا حرية للإدارة بالنسبة إليهما، بل على رجل الإدارة باستمرار أن يفرغ إرادته في الشكل الذي يحدده القانون، وأن يلتزم قواعد الاختصاص، بحيث يكون القرار باطلا-أو معدوما في بعض الأحوال – إذا تجاوز هذه القواعد.

وإذا كان القضاء قد ترك القرار دون إلغاء في بعض الأحوال -رغم ما يشوبه من عيوب الشكل والاختصاص- فليس سبب ذلك تمتع الإدارة بسلطة تقديرية في هذا الشأن، بل مراعاة للتفرقة بين عيوب الشكل الجوهرية وغير الجوهرية، واقرار بعض تصرفات الموظفين الواقعيين حماية للأفراد وضمانا لحسن سير المرافق العامة.

فالسلطة التقديرية مستبعدة في ركن الاختصاص، والإدارة من جهة ركن الشكل غير ملزمة بأن تفصح عن إرادتها في شكل معين لم يلزمها القانون به، كما أنها لا تملك سلطة تقديرية في ركن الغاية؛ فهذه الأخيرة إما أن يحددها المشرع عن طريق ما يسمى بتخصيص الأهداف، أو يترك لرجل الإدارة مطلق الحرية ولا يحدد لها هدفا معينا ولكنها تبقى ملزمة بأن تدور أهدافها في فلك المصلحة العامة ، وهكذا يمكن القول أن المجال الرئيسي للسلطة التقديرية للإدارة هو ركني السبب والمحل، فالسلطة التقديرية كما يعبر عنها الدكتور سليمان محمد الطمّاوي “ليست في حقيقتها سوى تقدير مناسبة الإجراء المتخذ الوقائع التي دفعت إلى اتخاذه”.

والسبب هو مجموعة العناصر الواقعية أو القانونية التي تبرر تدخل الإدارة وتسمح لها باتخاذ القرار، فالإدارة تتمتع بسلطة واسعة في تقدير الخطورة التي يمكن أن تنجم عنها، باعتبار أنها أقدر من غيرها على إجراء هذا التقدير. أما المحل فهو موضوع القرار الإداري، أو الأثر القانوني الذي ينتجه.

وهكذا يترتب عن السلطة التقديرية للإدارة أن الفرد الذي يخاصم القرار الإداري لا يجد في القانون حدودا لسلطة الإدارة، من حيث الأسباب الداعية لاتخاذه، ومن حيث اختيارها لمضمون معين له دون غيره، وهو ما يعني أن المدعي لا يمكنه أن يؤسس طعنه على عيب في السيب أو في المحل، وإذا حدث وأن طالب بإلغاء القرار على أساس عيب في السبب أو المحل فإنه يجد صعوبة بالغة في إثبات مخالفة الإدارة للقانون في هذين الركنين؛ لأن القانون لم يضع لها حدوداً أصلا حتى تحترمها يعتبر الخروج عنها مخالفة القانون.

صحيح أنه لا يمكن للسلطة التقديرية أن تصبح سلطة مطلقة وبدون حدود، فالإدارة عندما تتصرف في العمل بمقتضى ما لها من سلطة تقديرية لا تتمتع بسلطة تحكمية، وهي ملزمة أن تكفل في ممارستها لهذه السلطة بأن توازن بين مقتضى السير الحسن للنشاط الإداري من جهة وحقوق الأفراد وحرياتهم من جهة أخرى.

لكن هذا الالتزام الملقى على عاتق الإدارة لا يمثل حدّا واضح المعالم، ولا يمكن أن يكون محل اتفاق وإجماع يمكن إثبات الخروج عنه ببساطة، فما يراه المدعي حدا على السلطة التقديرية للإدارة لا تراه الإدارة كذلك، وهكذا نجد أنفسنا أمام صعوبة أخرى من صعوبات الإثبات في وجه المدعي في دعوى الإلغاء.

خلاصة القول أن المدعي في دعوى الإلغاء في القرار الإداري يقف موقفا صعبا مقارنة بخصمه المتمثل في الإدارة المتمتعة بأساليب السلطة العامة وامتيازاتها، والمزودة بأدلة الإثبات سلفا، بينما يكون هو مفتقرا إليها بسبب السرية الإدارية وعدم وجوبية تسبيب القرارات الإدارية رغم أن عبء الإثبات ملقى عليه لكونه مدّعيا، أضف إلى ذلك صعوبة إثباته لأوجه عدم المشروعية الداخلية إذا كان القرار متخذا على أساس السلطة التقديرية – وأغلب قرارات الإدارة كذلك-، فهل لاقت وضعيته هذه اهتماما من المشرع؟ هذا ما ستتبين بعضه في الفصل الثاني من هذا الباب.

الفصل الثاني: مساهمة المشرع في التخفيف من عبء

الإثبات في دعوى الإلغاء.

في خطوات متتالية عمل المشرع سواء في الجزائر أو في فرنسا على التخفيف من عدم التوازن الحاصل بين مراكز أطراف دعوى الإلغاء في مجال الإثبات؛ فعلى مستوى ما يطلق عليه الإجراءات الإدارية غير القضائية، أقر المشرع بحق المواطن في الاطلاع على الوثائق الإدارية، ووجوبية تسبيب القرارات الإدارية الفردية، وألزم الإدارة ببعض الإجراءات والشروط قبل اتخاذ قراراتها مثل احترام مبدأ الوجاهية في القرارات الإدارية ذات الطابع العقابي.

أما على مستوى الإجراءات الإدارية القضائية فقد عمل المشرع على تقنين أكثر للإجراءات القضائية الإدارية، والنص من خلالها على كيفية تنظيم وإدارة الإثبات أمام جهات القضاء الإداري، بحيث أثرت تأثيرا بالغا ولعبت دورا كبيرا في إعادة التوازن بين طرفي النزاع في دعوى الإلغاء.

وعليه سنعمل في هذا الفصل على إيضاح هذا الدور من خلال مبحثين:

نتعرض في المبحث الأول إلى دور المشرع على مستوى الإجراءات الإدارية غير القضائية، وفي المبحث الثاني إلى دور المشرع على مستوى الإجراءات الإدارية القضائية.

المبحث الأول: دور المشرع على مستوى الإجراءات

الإدارية غير القضائية.

يحقق التقنين الإجرائي الإداري غير القضائي مصالح كل من الإدارة والمواطن في إطار التوفيق بين ضرورات الملاءمة والمشروعية، بما يضمن الاستقرار في الأوضاع والمراكز القانونية، وعدم تركها نهبا لنزوات بعض رجال الإدارة الذين لم يفهموا رسالتهم.

وتكمن أهمية تقنين الإجراءات الإدارية غير القضائية في حماية حقوق المرتفقين والمتعاملين مع الإدارة؛ من خلال الشروط المفروضة على الإدارة لما تكون بصدد إعداد الأعمال والتصرفات الصادرة بشأنهم، كما أنها توفر ضمانات أكثر للطاعن بفتحها أوجها جديدة وأكثر وضوحا وأيسر إثباتا للطعن في القرار الإداري، بينما يؤدي عدم تقنين الإجراءات الإدارية غير القضائية إلى إثقال كاهل المدعي بأعباء صعبة في إثبات عدم مشروعية القرار الإداري.

لكن ما نعثر عليه من قواعد خاصة بالإجراءات الإدارية غير القضائية ما هو إلاّ طوائف مبعثرة من القواعد القانونية التي تفتقر إلى تقنين جامع لها، وان كانت توجد بعض التقنينات الجزئية مثلما هو الحال في فرنسا، والجزائر، رغم أن التجربة أثبتت أن الدول القوية إداريا هي الدول المكفولة فيها حقوق المرتفقين أكثر عن طريق تقنينات للإجراءات الإدارية غير القضائية، والتي تتبنى سياسة الوضوح الإداري.

والأصل في القرار الإداري أنه لا يخضع في إصداره إلى شكليات أو إجراءات معينة لم يستلزمها القانون، ولكن وكما يقول الفقيه الألماني اهرنج Ihering فإن: “الشكليات والإجراءات تعد الأخت التوأم للحرية، وهي العدو اللدود للتحكم والاستبداد”، وذلك على خلاف الشائع بين العامة من عدم أهمية القواعد الإجرائية والشكلية والنظر إليها على أنها مجموعة من التعقيدات منعدمة الفائدة.

نتعرض في هذا المبحث لبعض الشكليات والإجراءات لا من حيث كونها ركنا من أركان القرار الإداري، يرتب تخلفه تعريض القرار الإداري للإلغاء القضائي، ولكن من حيث مساعدتها للطاعن في القرار الإداري على استقاء الإثباتات اللازمة. (المطلب الأول) كما نتعرض إلى إلزام المشرع للإدارة بتمكين المواطن من الاطلاع على الوثائق الإدارية. (المطلب الثاني)

إلزام الإدارة بالشكليات والاجراءات التي توفر مصدرا للأدلة.

يميز الفقه بين قسمين مختلفين من الشكليات والإجراءات وهي الإجراءات Les procédure والشكليات Les formalités، ولأن غرضنا هو تبين مدى مساعدة هذه الشكليات والإجراءات للطاعن في استقاء الأدلة، والتخفيف من صعوبة افتقاره لها، فإننا سنتعرض لبعض الإجراءات وبعض الشكليات التي ألزم المشرع الإدارة باتباعها وإلا كان قرارها قابلا للإلغاء. والمفيدة للطاعن في استقاء بعض الأدلة، ويتعلق الأمر بإجراء المواجهة la contradiction (الفرع الأول) وشكلية التسبيب La motivation (الفرع الثاني).

الفرع الأول: إجراء المواجهة La contradiction.

ينص المشرع في كثير من الأحيان على اتباع إجراءات معينة قبل إصدار القرار الإداري، باعتبارها ضمانات أساسية لازمة لحماية الأفراد؛ ينتج عن عدم احترامها بطلان القرار الإداري، أما إذا اتبعت على النحو الذي نص عليه القانون فإنها تساهم من جهة في تلاؤم مضمون القرار مع ما يقتضيه القانون، ومن جهة أخرى فإنها تساهم إلى حد بعيد في تزويد المعني بالقرار الإداري وإحاطته أكثر بما بني عليه القرار من أسباب وما شابه من عيوب في استيفاء تلك الإجراءات تفيد كثيرا في الإثبات.

والمواجهة أحد أهم هذه الإجراءات، وتعني بصفة عامة تمكين من تتعرض حقوقه ومصالحه لتصرف ما يؤثر في مركزه القانوني، أن يحاط علما؛ حتى يستطيع إبداء دفاعه أو على الأقل تقديم وجهة نظره، قبل اتخاذ القرار، ومجالها الأصيل هو القرارات الإدارية العقابية، وخاصة منها القرارات الإدارية التأديبية.

وهي في الأصل إجراء مقتبس من الإجراءات القضائية، ويرى الدكتور محمد عبد اللطيف أن الباعث على هذا الاقتباس هو اعتبار القرار الإداري التأديبي بمثابة قضاء عقابي.

أولا- أساس المواجهة:

رغم أن محكمة النقض الفرنسية طبقت مبدأ المواجهة في مواد التأديب بالنسبة للهيئات الخاصة في زمن مبكّر، إلا أن تقدمه في المجال الإداري كان بطيئا خشية إعاقة العمل الإداري، ولهذا لم يطبق مجلس الدولة الفرنسي مبدأ المواجهة في الإجراءات الإدارية إلا إذا وجد نص.

وهكذا فقد سبق تطبيق هذا المبدأ في مادة التأديب بكثير تطبيقه في باقي القرارات الإدارية العقابية، وخاصة ذات الطابع الاقتصادي، من ذلك قرارات سحب الاعتماد وسحب التراخيص، وبالإضافة إلى خشية عرقلة العمل الإداري فإن Robert SAVY أرجع ذلك إلى اعتماد مفهوم واسع للنظام العام خاصة في المجال الاقتصادي والاجتماعية.

واعتبر Georges DELLIS المواجهة عنصرا من عناصر حق الدفاع ومقتضى من مقتضياته: “… وهكذا فإن الحق في الدفاع يقتضي بالضرورة الحق في وجوب الإعلام…”، غير أن الرأي السائد في الفقه يعتبر المواجهة مختلفة عن الحق في الدفاع.

ولقد ذهبت غالبية الفقه إلى أن أساس المواجهة هو الطبيعة الجزائية للقرارات التي تكون فيها المواجهة لازمة حتى وإن لم ينص المشرع عليها، ففي غير حالات العقاب لا تجب المواجهة في الإجراء إلا بنص كما هو الحال في النقل التلقائي، وهذا ما عبر عنه الفقيه ODENT بقوله أن: “الإدارة لا تلتزم مبدئيا بالمواجهة إلا في الحالات التي تتطلب دفاعا حقيقيا”، كما يقول CHENOT أن القانون الوضعي لا يعترف بحقوق الدفاع إلا عندما تمارس الإدارة سلطة عقابية تبدو من اختصاص القضاء، وهذا الربط بين المواجهة والعقاب يبدو واضحا لدى AUBY et DRAGO حيث يقرران أن سلطات العقاب ليست عنصرا في السلطة الإدارية لكن هذه السلطة يعترف بها للإدارة بصورة متزايدة، ومن المنطقي عند قيامها بهذا الاختصاص العقابي، أن تلتزم باحترام حقوق الدفاع، حتى دون نص وكلما كانت بصدد توقيع جزاء.

بينما يرى بعض الفقه أن المواجهة تؤسس على أساس مبدأ سماع الطرف الأخر، توسيعا لمجال تطبيق المبدأ، وعلى هذا الأساس طبق مبدأ المواجهة بالنسبة إلى إجراءات غير عقابية ولكنها تمس باعتبار الشخص، كما في قضية Négre، ولذلك فإن المواجهة إجراء تلزم به الإدارة في جميع القرارات التي تنطوي على نتائج خطيرة تمس الفرد.

ثانية- عناصر المواجهة

تخص المواجهة في القرارات الإدارية العقابية إذا تمت إحاطة المعني إحاطة كاملة بما هو منسوب إليه، وأدلة ذلك، وتمكينه -إذا كان القرار الإداري تأديبيا وكان المعني موظفا- من الاطلاع على ملفه.

1- إعلام المعني بما هو منسوب إليه:

فالإدارة ملزمة بإخطار المعني بالقرار الإداري العقابي بما هو منسوب إليه من تهم مسبقا، ومتى أصدرت القرار الإداري العقابي دون إعلام المعني فإنه يكون قابلا للإلغاء؛ حتى وإن لم ينص المشرع على ذلك لأن الإعلام عنصر من عناصر المواجهة.

ولأن القصد من هذا الإخطار بالطبع هو تمكينه من مناقشة ما هو منسوب إليه وتقديم دفاعه، فيجب أن يتم في مدة معقولة قبل تقرير الجزاء؛ أي ليس قبل الأوان ولا بعده.

ففي الجزائر مثلا نصت المادة 167 من الأمر رقم 06-03 مؤرخ في 19 جمادى الثانية عام 1427 الموافق 15 يوليو سنة 2006، يتضمن القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية على أنه: ” يحق للموظف الذي تعرض لإجراء تأديبي أن يبلغ بالأخطاء المنسوبة إليه وأن يطلع على كامل ملفه التأديبي في أجل خمسة عشر (15) يوما ابتداء من تحريك الدعوى التأديبية”.

وتتسم التشريعات بالمرونة في شأن قواعد إعلام المعني بما هو منسوب إليه طالما أن الغاية من الإعلام قد تحققت وهي علم المعني بما هو منسوب إليه، وتمكينه من إعداد دفاعه بشأنها، ويقع عبء إخطار المعني في موطنه على عاتق الإدارة، ولا يعفيها من ذلك الاستناد إلى صعوبة الإخطار إلا إذا كان عدم تسلمه للإخطار لخطأ من جانبه.

ويتيح الاطلاع على ملابسات الاتهام وأسسه ومناقشته للمعني بالقرار الإداري العقابي مصدرا هاما لاستقاء العناصر الكفيلة بإثبات مشروعية القرار.

2- حق الموظف المعني بقرار تأديبي في الاطلاع على ملفه.

تمثل قاعدة الاطلاع على الملف حسب الأستاذ R.Chapus أهم عناصر حقوق الدّفاع، وتبدو أهمية الاطلاع على الملف وضرورته في أن الحالة الوظيفية للموظف المؤدب تدخل إيجابا أو سلبا في تقرير الجزاء وتوقيعه، فالعقوبة تكون أشد في حالة تكرار المخالفة، وانما سند ذلك الملف الوظيفي.

ولقد نصت في الجزائر على هذا الحق المادة 167 المذكورة أعلاه من الأمر رقم 06-03 مؤرخ في 19 جمادى الثانية عام 1427 الموافق 15 يوليو سنة 2006، يتضمن القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية ويستفاد من هذه المادة أن الإدارة ملزمة بالسماح للموظف بالاطلاع على الوثائق والتقارير الخاصة به اطّلاعا كاملا عند شروعها في الإجراءات التأديبية، والا كان قرارها قابلا للإلغاء.

والسؤال المطروح هو: كيف يمكن للموظف أن يعرف أنه اطلع على ملفه كاملا، ما دامت الإدارة هي المسيطرة على الملف وتستطيع أن تحذف منه العناصر التي قد تفيد المعني في الإثبات؟

إن الجواب يكمن في نص المادة 93 من نفس القانون التي ألزمت الإدارة بفتح ملف شخصي لكل موظف لديها بقولها: ” يتعين على الإدارة تكوين ملف إداري لكل موظف، يجب أن يتضمن الملف مجموع الوثائق المتعلقة بالشهادات والمؤهلات والحالة المدنية والوضعية الإدارية للموظف، وتسجل هذه الوثائق وترقم وتصنف باستمرار. يتم استغلال الملف الإداري لتسيير الحياة المهنية للموظف فقط، يجب ألا يتضمن الملف الإداري أي ملاحظة حول الآراء السياسية أو النقابية أو الدينية للمعني”.

فالمادة ألزمت الإدارة بمواصفات معينة لهذا الملف وهو أن يرقم ويصنف باستمرار، وقد كانت نظيرتها الملغاة في المرسوم 85/59 تنص على أن يكون الملف مرقما ومتسلسلا، وهذا يعني أن كل تحريف أو تلاعب بالملف سيكون مفضوحا لمساسه بتسلسل الوثائق وترتيبها. لكن وفي ظل سيطرة الإدارة على الملف وفي ظل الإمكانات الممنوحة لها، يبقى الاطلاع الكامل على الملف مرهونا بحسن نية الإدارة.

ومهما يكن فإن المواصفات التي اشترطتها المادة في الملف الشخصي للموظف والمتمثلة في التصنيف والترقيم يجعل استفادة الموظف المخاصم للقرار التأديبي استفادة فعالة، لأن أي تلاعب للإدارة بهذه الوثائق أو تهاون في حفظها، يكون مفضوحا في ظل هذه المواصفات التي اشترطها هذه المادة، ويفسّر في صالح الموظف المدعي.

وبينما نصت المادة 167 من القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية في الجزائر على حق الموظف في الاطلاع على الملف فإن نظيرتها في القانون الفرنسي المادة 01 من الأمر رقم 84/961 المؤرخ في 25 أكتوبر 1984 المتعلق بالإجراءات التأديبية المتعلقة بموظفي الدولة نصت على واجب الإدارة في إعلام الموظف بحقه في الاطلاع على ملفه التأديبي، وهكذا يمكنه المطالبة بإلغاء القرار في حالة عدم إعلام الإدارة له بحقه في ذلك، بينما لا يمكن للموظف المؤدب في الجزائر المطالبة بإلغاء القرار التأديبي إذا لم يبلغ من طرف الإدارة بهذا الحق.

وفي قضاء حديث له قضى مجلس الدولة الفرنسي بحق الموظف في طلب تدخل الوزير من أجل إلزام الإدارة بوضع ملف ذو مواصفات واضحة، ومرقم بشكل مستمر ومستقر يضمن تحقيق الأهداف المرجوة من تقرير حق الاطلاع على الملف، وحكم بإلغاء قرار تأديب الموظفة التي أهملت الإدارة ذلك في تكوين ملفها الشخصي.

وخلاصة القول أن المشرع بإلزامه الإدارة باحترام مبدأ الوجاهية بعناصره، قبل اتخاذ قرارات تأديبية يكون قد أتاح للمعني بالقرار مصدرا مهما لاستقاء الأدلة، كما أتاح له أوجها إضافية وسهلة الإثبات يستطيع أن يبني على أساسها طلباته بإلغاء القرار المطعون فيه لعدم شرعيته.

الفرع الثاني: شكلية التسبيب La motivation.

لا تؤثر السرية الإدارية على ضمانات الأفراد وحرياتهم فحسب، فهي فوق ذلك تساهم في تكريس الغموض الإداري الذي يتنافى ومبادئ الإدارة الفعالة، ولقد أدركت الدول المتقدمة هذه الحقيقة فحرصت على اتباع سياسة الوضوح الإداري، والتي من معالمها تمكين الأفراد من التعبير عن وجهة نظرهم قبل أن تشرع في بعض العمليات، كنزع الملكية، وتمكينهم من إبداء ملاحظاتهم قبل إصدار القرارات التي تؤثر على مراكزهم القانونية، وتقرير حقهم في الاطلاع على الوثائق الإدارية والتسبيب الوجوبي لبعض أنواع القرارات.

و يعرف التسبيب على أنه:” بيان أو ذكر الأسس القانونية التصرف، وتوضيح الظروف الواقعية التي أدت بالسلطة الإدارية إلى القيام به”.

كما يعرف بأنه التزام قانوني تعلن الإدارة بمقتضاه عن الأسباب القانونية والواقعية التي حملتها على إصدار القرار الإداري

ويراد به أيضا: “الإفصاح عن أسباب القرار الإداري الواقعية والقانونية كتابة في صلب القرار سواء كان الافصاح واجبا قانونيا أو بناء على إلزام قضائي أو جاء تلقائيا من الإدارة”

وتعتبر شكلية تسبيب القرارات الإدارية ضمانة في غاية الأهمية للأفراد؛ لأنها تسمح لهم وللقضاء في نفس الوقت مراقبة مشروعية القرار من حيث السبب.

ويحقق التسبيب فوائد كثيرة للطاعن بحيث يجعله محيطا بملابسات القرار وظروفه التي صدر فيها، وبهذا يساعده على تنظيم وترتيب دفاعه، من خلال ما يقدمه له التسبيب من معلومات؛ إنه يزوده بمفاتيح الإثبات.

لقد اعترفت الجزائر من خلال مختلف تشريعاتها بالحق في الاطلاع على الوثائق الإدارية، كما اعترفت بمبدأ علنية مداولات المجالس الشعبية الولائية والبلدية واللجان الإدارية، ومبدأ وجوبية تسبيب القرارات الإدارية، خصوصا من خلال المرسوم 88/131 المنظم للعلاقة بين الإدارة والمواطن، وقانوني البلدية والولاية لسنتي 2011 و 2012، وكذلك قانون الوقاية من الفساد ومكافحته لسنة 2006، ومختلف المراسيم المنظمة لقانون الصفقات العمومية.

منذ سنة 1988 ومن خلال المرسوم 88/131 المنظم للعلاقة بين الإدارة والمواطن، اعترفت الجزائر بالحق في الاطلاع على الوثائق الإدارية، كما اعترفت بهذا الحق وبمبدأ علنية مداولات المجالس الشعبية الولائية والبلدية في قانوني 90/80 و 90/09 المتعلقين بالبلدية والولاية على التوالي، وزادت هذا المبدأ تكريسا في القانونين الجديدين للبلدية والولاية لسنتي 2011 و 2012، كما اعترفت بهذا المبدأ في مختلف المراسيم المنظمة لقانون الصفقات العمومية، كما اعترفت أيضا بوجوبية تسبيب العديد من أنواع القرارات الإدارية الضارة بالمواطن، غير أن وجوبية تسبيب القرارات الإدارية الصادرة ضد الأفراد لم يعترف بها المشرع الجزائري كمبدأ عام إلا بموجب نص المادة 11 من القانون 06/01 المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته، ولم يبين الأحكام التفصيلية لهذا المبدأ خلافا لما هو عليه الحال في الكثير من الدول التي اعترفت بهذا المبدأ.

أولا: أهمية التسبيب.

يقدم التسبيب ضمانة ثمينة جدا للمرتفقين إذ يسمح لهم بمعرفة الاعتبارات التي اتخذت على أساسها الإدارة القرار، كما أنه يضمن قبل كل شيء أن تقوم الإدارة بدراسة ملفاتهم، فهو يستبعد قيام الموظفين بمعالجة القضايا بطريقة عاجلة وسطحية، اللذين من أجل إنهاء واجباتهم وسرعة التخلص منها فإنهم لا يجدون أمامهم -حسب تعبير Céline WINER سوى كلمة “لا” “Non” أو طلب مرفوض”demande rejetée”.

وإلزام الإدارة بتسبيب قرارتها كفيل بوضع حد لتصرفات رجل الإدارة التحكمية، إذ يصبح التسبيب شرطا شكليا لصحة القرار الإداري، وهو بذلك يكفل اطلاعا واقيا للفرد على أسباب اتخاذ القرار الذي يخاطبه، ويسهل عليه اتخاذ الموقف المناسب اتجاهه.

كما أنه يبين للمواطن مركزه القانوني الذي على أساسه صدر القرار برفض طلبه إذا كان موضوع القرار رفض طلب لافتقاده إلى شرط من الشروط القانونية لإجابة طلبه؛ وبالتالي تنبيهه إلى السعي من أجل تحصيل ذلك الشرط في الفرص المقبلة.

والتسبيب يحيط المواطن علما تاما بأسباب القرار الإداري مجانا ودون اللجوء إلى القضاء وما يتطلبه من تكاليف، ثم إنه يسهل عليه عملية الإثبات أمام القضاء في ظل إلقاء عبء الإثبات عليه وموازاة مع استئثار الإدارة بالأوراق وتمتع قراراتها بقرينة الصحة.

كما أن التسبيب يمثل من الناحية الإدارية مظهرا من مظاهر ثقافة التشاور وتبادل وجهات النظر بين الإدارة والأفراد، وهو ما اتجهت إليه فرنسا حديثا خصوصا في المجال الاقتصادي.

ورغم تقديم جانب هام من الفقه العديد من المبررات المؤيدة لمبدأ عدم وجوبية التسبيب؛ والتي يمكن إجمالها في أن:

– التسبيب يشكل زيادة في عبء العمل على عاتق السلطة الإدارية ويقتضي مجهودا ووقتا يؤدي إلى عرقلة النشاط الإداري.

– يؤدي التسبيب إلى كشف معلومات يجب الاحتفاظ بسريتها، إما لأنها تتعلق بأمن الدولة، أو مصالح الغير، أو صاحب الشأن نفسه.

– كما أن من شأنه المساهمة في بطء الإجراءات، وتوفير مناخ ملائم للمنازعات، وكبح حرية الموظفين واستقلالهم إذا خطر لأذهانهم أن آراءهم سوف يطلع عليها الآخرون.

– لا مبرر لتسبيب القرار الإداري ما دام هذا الأخير سينفذ ولو بالقوة، وإرادة الأفراد المستهدفة بالإقناع ليست لازمة لتكوين القرار الإداري ولا لتنفيذه.

– إذا لم يقتنع الأفراد بالقرار الإداري فإن لهم اللجوء إلى القاضي المختص الذي يكفل لهم رقابة الأسباب التي تسمو على الرقابة الشكلية للتسبيب، فعدم وجود التزام بالتسبيب لا يعني عدم وجود التزام أن يكون القرار قائما على أسباب.

ورغم الوجاهة الظاهرة لمبررات مبدأ عدم وجوبية التسبيب؛ إلا أنها لا تصمد أمام الأهمية العملية للتسبيب للإدارة فالتسبيب يدفع الإدارة للتروي قبل إصدار قراراتها تجنبا للوقوع في عدم المشروعية، فهو يذكر الإدارة باستمرار بضرورة احترام القانون؛ وبذلك لا يكون مجرد ضمانة شكلية بل هو ضمانة موضوعية أيضا لها تأثيرها على مضمون القرار الإداري.

ومن الناحية التربوية الإدارية فإن إلزام الإدارة بالتسبيب يساهم في تنمية حس الرقابة الذاتية لمتخذ القرار، فيحمله على التروي والتدبير والاستفادة من وجهات النظر المختلفة.

وفي التسبيب وقاية من الاستعمال التحكمي للسلطة التقديرية الممنوحة لرجال الإدارة للمصلحة العامة، كما يجعل العمل الإداري أكثر شفافية، مما يولد ثقة لدى الأفراد بمشروعية وصدقية نشاطاتها وهذا يؤدي حتما إلى قلة لجوء الأفراد لمقاضاتها التي تكلفها الكثير من الوقت والمال والجهد.

ومادام كل قرار يجب أن يقوم على سبب خاص به، قائم وموجود وقت صدور القرار، ومعنى التسبيب هو إلزام الإدارة بالتعبير عن هذه الأسباب، وبالتالي فإن هذا التعبير لا يعرقل العمل الإداري بأي حال من الأحوال، اللهم إلا إذا حاولت اختراع أسباب شكلية لا علاقة لها بالأسباب الحقيقة، وفي هذه الحالة فإنه من العدل أن تتحمل هي ذلك وليس الفرد.

كما أن التسبيب يقوم على الإقناع، ولذلك متى كان كافيا وواضحا فسوف يكون من شأنه صرف المعنيين عن اللجوء إلى القضاء، ويجعل من تنفيذ القرار الإداري أكثر سهولة، بل إن عدم التسبيب هو الذي يؤدي إلى الغموض والشك في مدى قيام أسباب صحيحة للقرار وبالتالي لجوء المعنيين للقضاء وعرقلة العمل الإداري واستنزاف المزيد من الوقت والجهد والمال من الإدارة.

وكما يقول Serge SUR فإن: “التسبيب يعطي الإدارة إحساسا دائما بالخضوع للقانون، فهي تستمد سلطاتها من نصوص قانونية، وليس من مبدأ السلطة التي تعتبر السرية التي تحيطه مظهرا مؤسفا، وهو يدفع بالإدارة إلى الكف عن اعتبار النصوص القانونية عوائق شكلية تعرقل نشاطها، بل تعتبرها أساسا لحقها في التصرف أو التزامها بالتصرف”.

وفوق كل ذلك فإن التسبيب لا يهدف فقط إلى حماية حقوق الأفراد، لكنه يتوخى حماية سابقة للمشروعية، إنه يذكر الإدارة باستمرار بضرورة التصرف وفقا للقانون، وهذا ما لا يمكن تحقيقه عن طريق رقابة القاضي على السبب.

وتعبر Céline WIENER عن هذا المعنى بقولها: “لكن التسبيب كذلك ضمانة من أجل الفحص الدقيق لظروف السبب… إن ضرورة الشرح القانوني والواقعي لدوافع القرار في كل الأحوال تضمن تصحيحه؛ وطبعا تفادي عدم الشرعية… وتحث بالنتيجة الإدارة على التصرف الأسباب وغايات شريفة… وفي الأخير فإن التسبيب ضمانة سابقة ضد القرارات غير المشروعة، وضمانة لاحقة لفعالية الطعون، وهو بذلك مفيد للأفراد؛ ولكنه يشكل من جهة أخرى أمرا مفيدا للإدارة الحسنة في الخلاصة هو مفيد للمصلحة العامة” .

ثانيا: التكريس التشريعي لمبدأ التسبيب الوجوبي للقرارات الإدارية.

لقد فطن الفقه الفرنسي إلى أهمية التسبيب الوجوبي في وقت مبكر فوجه نقده إلى تمسك الإدارة بمبدأ “لا تسبيب إلا بنص”، كما اقتنع الإداريون بذلك فجاء على لسان وزير الداخلية الفرنسي سنة 1970 ما يلي: “لمنع حدوث أي لبس أو تحوير سوف أقرر أن تؤدى جميع الخدمات التي تدخل في نطاق اختصاص وزارة الداخلية بقرارات مسببة تسبيبا كافيا”. ولقد أذعن المشرع لهذه الإرادة بالفعل من خلال سلسلة من التشريعات التي كانت تهدف إلى إرساء سياسة الوضوح الإداري.

أما في الجزائر قبل صدور قانون الوقاية من الفساد ومكافحته سنة 2006 لم يصدر أي نص قانوني يشير إلى إلزام الإدارة بتسبيب قراراتها، ورغم أن المشرع الجزائري حذا حذو المشرع الفرنسي في وضعه لضوابط العلاقة بين المواطن والإدارة وذلك عن طريق المرسوم 88/131، المؤرخ في 04 جويلية 1988 المتعلق بتنظيم العلاقة بين الإدارة والمواطن، إلا أنه لم يحذ حذوه في تقرير مبدأ وجوبية التسبيب. بل اكتفي بإخضاع الكثير من القرارات التي تمس بحقوق الأفراد وحرياتهم لوجوبية التسبيب، ومن القرارات التي ألزم المشرع بتسبيبها نذكر على سبيل المثال:

القرارات الإدارية في مجال الوظيفة العامة وذلك في مجال التأديب وبعض الأوضاع الوظيفية.

القرارات الإدارية في مجال الحريات الشخصية والعامة مثل قرارات الضبط الإداري، وقرارات نزع الملكية للمنفعة العامة.

قرارات التنظيمات المهنية، كالمنظمة الوطنية للمحامين والغرفة الوطنية للموثقين، والغرفة الوطنية للمحضرين، ومنظمات الأطباء والمهندسين… الخ.

قرارات رفض منح الرخص أو طلب الاطلاع على الوثائق

أما على المستوى القضائي فقد استقر قضاء الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا ومن بعده قضاء مجلس الدولة على عدم القضاء بإلغاء القرار الإداري لتخلف التسبيب ما لم يرد نص بوجوب تسبيبه، وفي المقابل ألغي القرارات الإدارية الصادرة دون تسبيب إذا كان القرار الإداري من القرارات التي ألزم المشرع الإدارة بتسبيبها.

ولكن هذا الاجتهاد بدأ بالانحسار فمجلس الدولة في قراره المؤرخ في 09 فيفري 1999 قرر أنه:” حيث أن قرار رفض الاعتماد غير مسبب، وهذا مخالف للمبادئ العامة للقانون التي تفرض تسبيب القرارات الصادرة ضد الأفراد …، وبهذه الخطوة الجريئة فإن القاضي الإداري حتى وإن لم يتبن مبدأ التسبيب الوجوبي فإنه قرر مبدأ على الإدارة احترامه؛ مقتضاه إلزامها بتسبيب جميع القرارات الصادرة ضد الأفراد.

وبصدور القانون رقم 06/01 المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته ألزم المشرع الجزائري الإدارة من خلال المادة الحادية عشرة من هذا القانون بتسبيب قراراتها الصادرة في غير صالح المواطن والتي نصت على أنه:” لإضفاء الشفافية على كيفية تسيير الشؤون العمومية، يتعين على المؤسسات والإدارات والهيئات العمومية أن تلتزم أساسا:

– باعتماد إجراءات وقواعد تمكن الجمهور من الحصول على معلومات تتعلق بتنظيمها وسيرها، وكيفية اتخاذ القرارات فيها.

– بتبسيط الإجراءات الإدارية.

– بنشر معلومات تحسيسية عن مخاطر الفساد في الإدارة العمومية.

– بالرد على عرائض وشكاوى المواطنين.

– بتسبيب قراراتها عندما تصدر في غير صالح المواطن، وبتبيين طرق الطعن المعمول بها.”

ونصت المادة 06/1 من الميثاق الإفريقي لقيم ومبادئ الخدمة العامة والإدارة والذي صادقت عليه الجزائر بموجب المرسوم الرئاسي 12/415 المؤرخ في 11 ديسمبر 2012. على أنه:” تقوم الإدارة العامة بتوفير المعلومات الضرورية للمستخدمين حول التدابير والإجراءات الشكلية المتصلة بتقديم الخدمة العامة، تقوم الإدارة العامة بإبلاغ المستخدمين بكل القرارات المتخذة بخصوصهم وبيان أسبابها وكذلك آليات الطعن القانونية المتاحة لهم.

وهكذا تكون الجزائر بسنها لقانون الوقاية من الفساد ومكافحته، وبمصادقتها على الميثاق الإفريقي لقيم ومبادئ الخدمة العامة والإدارة، قد انضمت إلى نادي الدول المتبنية لمبدأ وجوبية تسبيب جميع القرارات الضارة بالمواطن.

ثالثا: نطاق التسبيب الوجوبي.

إن تكريس مبدأ التسبيب الوجوبي للقرارات الصادرة ضد الأفراد بفقرة في مادة واحدة وضمن تشريع ذو طبيعة جزائية هو القانون 06/01 المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته غير كافي لمعالجة موضوع التسبيب بدقة من حيث نطاقه وشروطه وعناصره، غير أنه يمكننا أن نستشف بعض نوايا المشرع من خلال العبارات الواردة في هذه المواد والروح العامة للتشريع الذي جاءت ضمنه مع مقارنتها بالتشريع والقضاء الفرنسيين.

لقد جاءت المادة 11 من قانون الوقاية من الفساد ومكافحته والمكرسة لمبدأ التسبيب الوجوبي للقرارات الإدارية الفردية وكذا نظيرتها المادة 06/1 من الميثاق الإفريقي لقيم ومبادئ الخدمة العامة والإدارة بصيغة فضفاضة مقارنة بالمادة الأولى من قانون 587/79 بشأن تسبيب القرارات الإدارية وتحسين العلاقة بين الإدارة والجمهور.

إن مقارنة عابرة بين النصين المقررين لمبدأ التسبيب الوجوبي للقرارات الإدارية في كل من فرنسا والجزائر تبين أن:

1- المادة 11 من القانون 06/01 في الجزائر نصت على: “القرارات الإدارية التي تصدر في غير صالح المواطن، ونصت المادة 06/1 من الميثاق الإفريقي على القرارات المتخذة بخصوص المواطن، وهذه صياغة عامة تتضمن القرارات الإدارية التنظيمية والفردية، بينما قيدها نص المادة الأولى من قانون 587/79 بالقرارات الإدارية الفردية دون التنظيمية. فهل تقتصر وجوبية التسبيب في الجزائر على القرارات الفردية أم تشمل التنظيمية والتي قد تمس بحقوق الأفراد فقط عند تطبيقها؟

يبرر بعض الفقه مسلك المشرع الفرنسي في اقتصاره على إلزام الإدارة بالقرارات الإدارية الفردية دون التنظيمية بأن المقصد من التسبيب هو حماية الحقوق

والحريات الفردية، وما دامت اللوائح التنظيمية بعموميتها لا تتوجه مباشرة إلى الأفراد فإن الحكمة هذا غير متوافرة، بالإضافة إلى الرغبة في عدم عرقلة النشاط الإداري الذي يعتمد في المقام الأول على النصوص اللائحية، وهذا ما لا يختلف فيه الحال بالنسبة للجزائر.

2- أن المادة 11 من القانون 06/01 لم تفسر ما المقصود بالقرارات الإدارية الصادرة في غير صالح المواطن، فيعود إلى القاضي الاختصاص بتقرير ما يعتبر قرارا إداريا في غير صالح المواطن مما لا يعد كذلك بينما فسرت المادة الأولى من قانون 587/79 القرارات الإدارية الفردية التي تؤثر على المركز القانوني للأشخاص العادية أو الاعتبارية بقولها: “…وعلى ذلك فإن القرارات التي يجب أن تصدرها الإدارة مسببة هي:

– القرارات الإدارية التي تضع قيودا على ممارسة الحريات العامة

– القرارات الإدارية التي تتضمن جزاءات معينة.

– القرارات التي تتضمن ترخيص أو ميزة بشروط محددة.

– القرارات التي تتضمن إلغاء أو سحبا لقرارات منشئة لحقوق.

– القرارات التي تحتج بالتقادم أو السقوط.

– القرارات التي ترفض منح ترخيص أو ميزة يكون منحها حقا للأشخاص الذين يستوفون الشروط القانونية للحصول عليها.

– القرارات التي ترفض منح رخصة.

فهل يعتبر إيراد المشرع لهذه الحالات على سبيل المثال وبالتالي يحتكم إلى عبارة “…القرارات الإدارية التي تؤثر في مركزها القانوني …”، وهذا يعني إمكانية دخول حالات أخرى غير الحالات السبعة، أم يعتبر إيرادها على سبيل الحصر ولا تلتزم الإدارة إلا بتسبيب القرارات الإدارية التي تدخل ضمن طائفة من هذه الطوائف؟

إن الاعتبار الأول يبدو أكثر منطقية، لأن الحالات المذكورة رتبت عليه بقول المادة : “… وعلى ذلك فإن القرارات التي يجب أن تصدر مسببة هي…”، ويستفاد من ذلك أن المشرع اعتمد معيارا لهذه القائمة التي أوردها، مدى تأثير القرار في المركز القانوني للشخص الاعتباري أو العادي، وبالتالي فإنه يكون جديرا بالقاضي استخدام نفس المعيار الذي استخدمه المشرع إعمالا لنيته الحقيقية، ويعزز هذا الفرض نص المادة الثانية التي جاءت كمعيار للقرارات المستوجبة للتسبيب بقولها: ” وبصفة عامة يجب تسبيب القرارات الإدارية الفردية التي تتضمن استثناءً من القواعد العامة الواردة في القوانين واللوائح”.

وإذا اعتبرنا أن إيراد المشرع الفرنسي للحالات كان على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر فإنه يكون متفقا مع ما ذهب إليه المشرع الجزائري من اعتماده على وضع معيار للقاضي يحدد على أساسه القرارات الإدارية الخاضعة للتسبيب الوجوبي، وإن كان هذا المعيار غير متطابق تماما بين المشرع الفرنسي والمشرع الجزائري ففي حين يتكلم الأول عن القرارات الإدارية التي تؤثر في المراكز القانونية للأشخاص العادية والاعتبارية، يتكلم الثاني عن القرارات الإدارية الصادرة في غير صالح الأفراد.

3- إن المشرع الفرنسي في المادة الرابعة في فقرتيها الأولى والثانية والمادة الخامسة أورد ثلاثة استثناءات تتعلق بالسرية وحالة الاستعجال المطلق وحالة القرار الضمني، بينما لم يقرر المشرع الجزائري أي استثناء، فهل يعني ذلك أن الاستثناءات المقررة في القانون الفرنسي لا مجال لتطبيقها على القرارات الإداري محل وجوبية التسبيب في القانون الجزائري؟

إن القانون 587/79 في فرنسا صدر بعد إرهاصات وجدل فقهي كبير ودفع كبير من القضاء إلى الخط الأمامي من حدود اختصاص التشريع، وفوق ذلك بعد إظهار الإدارة كما رأينا لاستعدادها لهذا الالتزام حتى قبل تقريره، بينما جاء النص على هذا الإلزام من طرف المشرع الجزائري في إطار قانون عام ذو طبيعة جنائية أكثر منه ذو طبيعة إدارية، وهو إدماج لمعاهدة دولية هي اتفاقية الأمم المتحدة للوقاية من الفساد ومكافحته، ولهذا اقتصر النص عليه في مادة واحدة بل فقرة واحدة من مادة واحدة، وهو ما يبرر عمومية النص وعدم إيراد استثناءات عليه؛ وعلى هذا ونظرا لمنطقية الاستثناءات التي أوردها المشرع الفرنسي فإن القاضي الإداري في الجزائر يستطيع إعمال هذه الاستثناءات، في إطار تطبيقه لروح القانون، وما يتميز به من خصائص في إعماله لتفسير النصوص بحثا عن النية الحقيقية للمشرع. مستهديا في ذلك ومستفيدا من قضاء مجلس الدولة الفرنسي وكيفية تفسيره لهذه الاستثناءات.

4- إن المشرع الجزائري لم يتطرق إلى جزاء عدم التسبيب هل هو عدم مشروعية القرار الإداري الصادر في غير صالح المواطن أم أن هذا القرار بالإمكان تصحيحه عن طريق الإفصاح اللاحق عن أسبابه عن الطعن فيه إداريا، أو أمام قاضي الإلغاء في حالة مخاصمة هذا القرار قضائيا.

إن الافصاح اللاحق عن أسباب القرار لا يمكن أن يكون بديلا عن شكلية التسبيب التي يحيط بواسطتها الفرد مجانا علما تاما بأسباب القرار المتخذ ضده، ودون اللجوء إلى الطعن القضائي وبما يقتضيه من تكاليف. أو الطعن الإداري وما يطغى عليه من بيرقراطية إدارية.

والمبدأ القانوني معروف أن الشكليات المقررة لمصلحة الأفراد هي شكليات جوهرية لا تقبل التصحيح

5- إن المبدأ العام الوارد بموجب المادة 11 من قانون 06/01 المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته لا يلغي النصوص الخاصة الملزمة بتسبيب بعض أنواع القرارات؛ حتى وإن كانت لا تدخل ضمن مفهوم هذا النص العام.

وهكذا تكون القرارات المعنية بوجوبية التسبيب هي كل القرارات التي تصدر في غير صالح المواطن، وكذلك القرارات التي ألزمت نصوص خاصة على الإدارة تسبيبها حتى وإن لم تكن داخلة في مفهوم المادة 11 من القانون 06/01.

6- إن الملاحظ على قانوني البلدية والولاية لسنتي 2011 ,2012 بمناسبة معالجتهما لموضوع الرقابة الوصائية على أعمال وأشخاص المجالس المنتخبة، أنها لم تخضع القرارات التي تمارس بموجبها الجهات الوصية هذه الرقابة لإلزامية التسبيب، إلا في بعض الحالات النادرة كتلك التي نصت عليها المواد 60 و 61 من قانون البلدية.

إن عدم النص على إلزامية التسبيب بالنسبة لهذه القرارات لا يعفيها منه، وذلك لكون نص المادة 11 من القانون 06/01 يشملها، لأن الأعضاء المنتخبين هم مواطنون، وكل القرارات الصادرة في غير صالحهم بمناسبة ممارسة الرقابة الوصائية عليهم وعلى أعمالهم تدخل ضمن مفهوم هذه المادة.

رابعا: أحكام التسبيب.

حتى تتحقّق الفائدة المرجوة من التسبيب فإنه لا بد أن يتحدد بعناصر ويستوفي شروطا بدونها يكون مجرد شكلية تعرقل النشاط الإداري دون فائدة، ولقد تضمنت المادة الثالثة من القانون رقم 587/79 الفرنسي المؤرخ في 11 جويلية 1979 المتعلق بتسبيب القرارات الإدارية أحكام التسبيب والتي توازن بين اعتبارین هامّين وهما:

1- تحقيق التسبيب لفوائده بحيث لا يكون مجرد شكلية خالية من أي مضمون أو هدف.

2- عدم إثقال الإدارة بأعباء وشروط شكلية مبالغ فيها تعرقل النشاط الإداري.

1- عناصر التسبيب: يتحدد التسبيب بثلاثة عناصر وهي:

أ-العناصر الواقعية: ونقصد بذلك أنه على رجل الإدارة أن يذكر في التسبيب الوقائع التي حدثت فدفعته إلى اتخاذ القرار. فهي إذا تلك الاعتبارات المتعلقة بالواقع والتي يتحدد بها المركز القانوني للمعني بالقرار.

ب-العناصر القانونية: وتعني أن يحدّد رجل الإدارة الاعتبارات القانونية التي استند إليها، والتي تشكل الأساس القانوني للقرار، وهذا ما أشار إليه حكم الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا بقوله: ” … حيث أن القرارات الإدارية تتخذ بناء على اعتبارات قانونية…” وتتمثل هذه الاعتبارات أساسا في النصوص التشريعية والمبادئ القانونية العامة، ومن خلال العناصر القانونية يمكن للقاضي مراقبة مدى صحة التكييف القانوني للوقائع.

ج- الاستدلال: ويمثل مكمن الصعوبة في الالتزام بالتسبيب، ويتمثل في إيجاد الحلقات التي مكنت الإدارة من الربط بين أسباب القرار ومضمونه والتي تبرر اختيار قرار دون غيره.

2– شروط التسبيب: ليس لتسبيب القرار الإداري صورة محددة ولكن يجب أن تتوفر فيه بعض الشروط:

أ) أن يكون التسبيب مكتوبا: ويعني أن يكون التسبيب واردا في صلب القرار نفسه بحيث يتمكن كل من يطلع على نص القرار من معرفة أسبابه، دون أن يضطر إلى اللجوء إلى وثائق أخرى، استبعادا للتسبيب الشفوي والتسبيب بالإحالة، غير أن القاضي الإداري الجزائري يقبل التسبيب بالإحالة.

ب) أن يكون التسبيب سائغا: بحيث تكون الأسباب التي بني عليها القرار بنيت على أصول موجودة في الأوراق، وتنتجها ماديا وقانونيا، فإذا كانت هذه النتيجة مستخلصة من غير أصول أو من أصول لا تنتجها، كان التسبيب غير سائغ.

ج) أن يكون التسبيب كافيا وجذيا: ويقصد بجدية التسبيب وضوحه ودقته، ويكون كافيا إذا مكن القاضي الإداري من ممارسة رقابته على السبب، ولقد لخص مجلس الدولة الفرنسي هذا المعنى في أحد قراراته بقوله: “…بحيث أن المعني من قراءته فقط للقرار المبلغ به يعرف أسباب العقوبة المسلطة عليه، ويمكن لهذا الغرض حسب قانون 12 أفريل 2000 في فرنسا أن يكون التسبيب مفصلا في وثيقة ملحقة بالقرار الإداري كرأي أو تقرير.

د) أن يكون التسبيب معاصرا للصدور القرار: ويقصد بمعاصرة التسبيب لصدور القرار أن يتوافر بيان العناصر الواقعية والقانونية وقت صدور القرار، فالحكم على مشروعية القرار تكون بالنظر إليه وقت صدوره، كما أن التسبيب غير المعاصر يفتح المجال للإدارة لاصطناع أسباب مفتعلة للقرار لم تكن موجودة أثناء صدوره، ولهذا قضى مجلس الدولة الفرنسي بإلغاء القرار المسبب تسبيبا سابقا أو لاحقا.

ه) أن يكون التسبيب محددا وملابسا: ويعني التحديد أن تبين العناصر الواقعية للقرار على وجه التحديد، استبعادا للتسبيب النمطي إلا استثناء.

وتعني الملابسة أن يأخذ القرار في الاعتبار ظروف الحالة التي صدر فيها وكذلك المركز الشخصي لصاحب الشأن، ومعنى ذلك أن ترد الأسباب في عبارات واضحة وكاملة للأحداث التي عاصرت وتزامنت مع لحظة اتخاذ القرار، وذلك استبعادا للتسبيب المبهم.

المطلب الثاني: حق المواطن في الاطلاع على الوثائق الإدارية.

تحرص الدول المتقدمة إداريا على اتباع سياسة الوضوح الإداري، وفي سبيل ذلك اعترفت بحق المواطن في الاطلاع على الوثائق الإدارية. ولم تكتف بالنص على هذا الحق، بل سعت إلى تكريسه من خلال وضع منظومة قانونية متكاملة تحيط بكافة جوانب الموضوع بالشكل الذي يمكن المواطن من الاستفادة منه بفعالية.

والجزائر كباقي الدول تعترف بالحق في الاطلاع على الوثائق الإدارية، إلا أن المواطن لا يستفيد من هذا الحق لأسباب كثيرة منها ما هو غير مبرر ويتعلق الأمر بعقلية الكثير من رجال الإدارة التي تنزع إلى ما يسمى بالطقوس الإدارية السرية المورثة عن مفهوم الدولة البوليسية، ومنها ما هو مبرر فعلا ويعود إلى تعارض هذا الحق بالفعل مع بعض مقتضيات السير الحسن للإدارة والذي يقتضي أن تكون بعض المعلومات في منأى عن اطلاع المواطنين لأسباب تتعلق بالسرية الإدارية أو أسرار الدفاع الوطنية أو حرمة الحياة الخاصة، لكن هذا التعارض يمكن أن يعالج من خلال منظومة قانونية متكاملة تسعى إلى التوفيق بين مقتضى ضمان حق المواطن في المعلومة من جهة وبين مقتضى حماية المعلومات المشمولة بالسرية والتي يحميها القانون من جهة أخرى.

إن دور المشرع في التخفيف على المدعي في دعوى الإلغاء من خلال تكريسه للحق في الاطلاع على الوثائق الإدارية، يكمن في تمكينه من الحصول على المعلومات التي يبني عليها ادعاءاته، غير أن ذلك لا يكون بصفة فعلية إلا إذا كان تكريس هذا الحق متكاملا.

نحاول في هذا المطلب التعرف على مدى تكريس هذا الحق من طرف المشرع في الفرع الأول وإلى مدى كفاية هذا التكريس وفاعليته في ضمان حصول المواطن على المعلومة التي يعتمد عليها في مخاصمة الإدارة ويستند إليها كدليل إثبات في الفرع الثاني.

الفرع الأول: التكريس التشريعي لحق الاطلاع على الوثائق الإدارية.

رغم أن القانون 88/ 09 المؤرخ في 26 يناير 1988 المتعلق بالأرشيف الوطني نص فيه مادتيه 10 و11 على حق العامة في الاطلاع على الأرشيف والذي يتضمن فيما يتضمن الوثائق الإدارية، إلا أن ذلك لا يكون إلا بعد 25 سنة من إنتاجه، وبالتالي يكون أول اعتراف للجزائر بحق الاطلاع عن طريق المرسوم رقم: 88/131، المؤرخ في 04 جويلية 1988 المتعلق بتنظيم العلاقة بين الإدارة والمواطن والذي نظم كيفية إطلاع المواطن على الوثائق الإدارية، وذلك مساهمة منه في خلق جو من الشفافية بين الإدارة والجمهور، حيث نصت المادة العاشرة منه على أنه: ” يمكن للمواطنين أن يطلعوا على الوثائق والمعلومات الإدارية، مع مراعاة أحكام التنظيم المعمول به في مجال المعلومات المحفوظة والمعلومات التي يحميها السر المهني ويتم هذا الاطلاع عن طريق الاستشارة المجانية في عين المكان و/ أو تسليم نسخ منها على نفقة الطالب بشرط ألا يتسبب الاستنساخ في إفساد الوثيقة أو يضر بالمحافظة عليها.

ويجب على كل مواطن يمنع من الاطلاع على هذه الوثائق أن يشعر بذلك بمقرر مبين الأسباب.”

أما الدستور الجزائري فلا توجد فيه أي إشارة إلى الحق في الاطلاع على الوثائق الإدارية، لكن المادة 32 منه نصت على أن: “الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والمواطن مضمونة”.

ولقد صادقت الجزائر على مختلف المواثيق والمعاهدات الدولية التي تكفل هذا الحق، وآخر ما صادقت عليه الجزائر في هذا الشأن الميثاق الإفريقي لقيم ومبادئ الخدمة العامة والإدارة بموجب المرسوم الرئاسي 12/415 المؤرخ في 11 ديسمبر 2012، والذي نصت المادة 06/1 منه على: “تقوم الإدارة العامة بتوفير المعلومات الضرورية للمستخدمين حول التدابير والإجراءات الشكلية المتصلة بتقديم الخدمة العامة، تقوم الإدارة العامة بإبلاغ المستخدمين بكل القرارات المتخذة بخصوصهم وبيان أسبابها وكذلك آليات الطعن القانونية المتاحة لهم”.

كما نصت الفقرة 03 من نفس المادة على أنه: ” تقوم الإدارة العامة بوضع نظم إجراءات اتصال فعلية بقصد ضمان إعلام العموم حول الخدمة العامة وتحسين وصول المستخدمين إلى المعلومات، وتلقي آراءهم ومقترحاتهم وشكاواهم”، ونصت المادة 07/5 منه على ما يلي: “تتخذ الإدارة العامة الإجراءات اللازمة لإرساء وتعزيز الثقة بين أعوان الخدمة العامة والمستخدمين”.

وكما نعلم فإن المادة 132 من الدستور الجزائري تنص على أن المعاهدات المصادق عليها وفقا للدستور تسمو على القانون، وهكذا فإن المعاهدات الدولية المتضمنة لهذا الحق والمصادق عليها من طرف الجزائر، تمثل نصوص قانونية يجب على الإدارة احترامها في هذا المجال، كما يحق للمواطن التمسك بأحكامها أمام الإدارة، والاستناد إليها في مطالبته بهذا الحق سواء أمام الإدارة أو أمام القضاء الإداري.

وهكذا فإننا نجد السند القانوني العام للاطلاع على الوثائق الإدارية، في المعاهدات والمواثيق الدولية التي تضمنت النص على هذا الحق من جهة، كما نجده أيضا في أحكام المرسوم 88/131، المؤرخ في 04 جويلية 1988 المتعلق بتنظيم العلاقة بين الإدارة والمواطن.

غير أن المشرع الجزائري ضمن بعض النصوص المنظمة لمختلف أوجه نشاط الإدارة هذا الحق، ونكتفي هنا بالإشارة إلى القوانين المتعلقة بالإدارة المحلية؛ إذ أفرد القانون 11/10 المؤرخ في 22 جوان 2011 المتعلق بالبلدية الباب الثالث من القسم الأول لمشاركة المواطنين في تسيير شؤون البلدية، حيث جاءت ضمنه المادة 11 التي نصت على أن: ” تشكل البلدية الإطار المؤسساتي لممارسة الديمقراطية على المستوى المحلي والتسيير الجواري، يتخذ المجلس الشعبي البلدي كل التدابير لإعلام المواطنين بشؤونهم واستشارتهم حول خيارات وأولويات التهيئة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حسب الشروط المحددة في هذا القانون، ويمكن في هذا المجال استعمال على وجه الخصوص الوسائط والوسائل الإعلامية المتاحة، كما يمكن المجلس الشعبي البلدي تقديم عرض عن نشاطه السنوي أمام المواطنين.”

كما جاءت المادة 14 صريحة في النص على الحق في الاطلاع بقولها: “يمكن كل شخص الاطلاع على مستخرجات مداولات المجلس الشعبي البلدي وكذا القرارات البلدية، ويمكن كل شخص ذي مصلحة الحصول على نسخة منها كاملة أو جزئية على نفقته، مع مراعاة أحكام المادة 56”.

إن نشاطات البلدية والولاية كإدارة محلية تخضع لضوابط العلاقة بين الإدارة المواطن التي جاءت بها أحكام المرسوم 88/131، وبالتالي فإن الحق في الاطلاع يكون ممكنا ما دامت المعلومات الوثائق المعنية بالاطلاع لم تصنف ضمن الوثائق المشمولة بالسرية بحكم القانون، وهكذا نصت المادة 10 على أن الحق في الاطلاع يجب أن يراعي أحكام التنظيم المعمول به في مجال المعلومات المحفوظة والمعلومات التي يحميها السر المهني، كما أشارت المادة 11 من نفس المرسوم على أنه لا يجوز للإدارة المسيرة أن تنشر أو تسلم أية وثيقة أو أي خبر، مهما يكن سندها في ذلك، إذا كانت الوثيقة والخبر يتصلان بحياة الفرد الخاصة أو يرتبطان بوضعيته الشخصية، بصرف النظر عن أحكام المادة 10 السالفة الذكر، ما لم يرخص بذلك التنظيم المعمول به أو تكن ثمة موافقة من المعنى.”

وفي حالة رد الإدارة بالرفض، يجب أن يكون قرارها بالرفض مسببا، حتى يتسنى للمواطن التأكد من مدى جدية الأسباب ومشروعيتها، وبالتالي إمكانية المطالبة القضائية بإلغاء قرار الرفض في حالة عدم جدية أو مشروعية الأسباب.

وحتى لا تعمل الإدارة عن طريق أعوانها على تعطيل هذا الحق فإن المرسوم 88/ 131 أعتبر كل فعل يأتيه الموظف ويتسبب في تعطيل أحكامه الرامية إلى تحسين العلاقة بين الإدارة والمواطن جريمة تأديبية، تستوجب العقاب التأديبي، دون المساس بالعقوبات المدنية والجزائية، هكذا نصت المادتان 30 و 40 من هذا المرسوم على ما يلي:

المادة 30: يجب على الموظفين أن يؤدوا واجباتهم طبقا للتشريع والتنظيم المعمول بهما ولا يقبل منهم أي تذرع خصوصا فيما يأتي:

  • رفض خدمة، أو تسليم عقد إداري يحق للمواطن الحصول عليهما قانونا.

  • اعتراض سبيل الوصول إلى وثائق إدارية مسموح بالاطلاع عليها.

  • رفض إعطاء معلومات.

  • التسبب في تأخير تسليم العقود والأوراق الإدارية أو المماطلة في ذلك دون مبرر.

  • المطالبة بأوراق أو وثائق لا ينص عليها التشريع والتنظيم الجاري بهما العمل.

  • فعل ما يمس احترام المواطن وكرامته، وسمعة الإدارة.

وكل إخلال بأحد الواجبات المنصوص عليها أعلاه عمدا يمكن إن ينجز عنه تطبيق إحدى عقوبات الدرجة الثانية على مرتكبيه، وفي حالة العود يمكن تطبيق إحدى عقوبات من الدرجة الثالثة.

المادة 40: يتعرض الموظفون لعقوبات تأديبية قد تصل إلى العزل مع الحرمان من حق المعاش في حالة اعتراضهم لسبيل التدابير المتخذة لتحسين العلاقات بين الإدارة والمواطنين. وهذا دون المساس بالعقوبات المدنية والجزائية التي يتعرضون لها طبقا للتشريع الجاري بها العمل بسبب أخطائهم الشخصية.

الفرع الثاني: مدى كفاية التكريس التشريعي لحق الاطلاع في الجزائر.

يلاحظ من خلال عرض هذه النصوص أن المشرع يعترف بحق المواطن في الاطلاع على الوثائق سواء من خلال القوانين الداخلية أو من خلال تصديقه على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تنص على هذا الحق، غير أن هذه النصوص عامة وتوحي بطابع إرشادي لها؛ فهي في حاجة إلى نصوص تفصيلية تبين آليات تطبيقها والجزاءات المفروضة على مخالفتها، و ضمانات فعاليتها، خاصة وأن تفعيلها في الواقع يلاقي صعوبات جمة تتطلب تدخلا من كل من المشرع والقاضي الإداري لوضع ضوابط ذلك للتوفيق بين مقتضى حق الأفراد في المعلومة من جهة أولى، ومقتضى السير الحسن للإدارة من جهة ثانية، ومقتضى حقوق الأفراد في الخصوصية من جهة ثالثة، وهذا ما حدث فعلا في فرنسا لما فعلت هذا الحق ولم تتركه حبيس النصوص.

وإذا أردنا أن نعرف مدى كفاية التكريس التشريعي لهذا الحق في الجزائر يكفي أن نقارنه مقارنة عابرة بما هو عليه الحال في فرنسا أين يمثّل الحق في الاطلاع على الوثائق الإدارية ضمانة أساسية من أجل ممارسة الحقوق والحريات العامة في مفهوم المادتين 34 و 37 من الدستور الفرنسي.

لقد جاءت سلسلة من التشريعات الفرنسية في سبيل تحقيق الشفافية بين المواطن والإدارة، بدءا بقانون 8 جانفي 1978 المتعلق بالإعلام الآلي، ثم القانون 78/753 المؤرخ في 17 جويلية 1978 المتعلق بتحسين العلاقة بين الإدارة والجمهور، ثم قانون 3 جانفي 1979 المتعلق بالأرشيف، وأخيرا أمر 28 نوفمبر 1983 المتعلق بتحسين العلاقة بين الإدارة والمرتفقين.

ولقد نصت المادة 4 من قانون 753 / 78 المؤرخ في 17 جويلية 1978 المتعلق بتحسين العلاقة بين الإدارة والجمهور على الاطلاع بالشكل الذي يريده المعني وعلى نفقته سواء بتوجيه نسخة منه على الورق أو على مدعمات إعلامية (أقراص مرنة، أقراص مضغوطة، أقراص ومضية) كما بينه أمر 493/2001.

إن النظام القانوني للحق في الاطلاع على الوثائق الإدارية في فرنسا يبدو فعالا، من خلال حرصه على ضمان هذا الحق بوضوح، وابتعاده عن العبارات العامة والإرشادية ويتضح ذلك من خلال:

1) إنشاء هيئة إدارية مستقلة تسهر على هذا الحق:

فقد عهد بمراقبة تطبيق هذا الحق إلى هيئة إدارية مستقلة وهي لجنة الاطلاع على الوثائق الإداريةCommission d’Accès aux Documents Administratif واختصارها. A . D . A C .، ولهذه الهيئة دور استشاري، ولقد وسع قانون 12 أفريل 2000 المتعلق بحقوق المواطن في علاقته بالإدارة من صلاحياتها خاصة في مجال الاطلاع على الوثائق. ويتمثل دور هذه اللجنة في ضمان أحسن تطبيق لقانون الحق في الاطلاع، وهي للمواطن تماما مثلما هي للإدارة المحاور الأول فيما يخص هذا الحق، وهي تعطي رأيا يشكل طريقا للتظلم الإداري.

وتتكون هذه اللجنة حسب أمر 6 جوان 2005 من مستشار دولة conseiller d ‘ Etat رئيسا بالإضافة إلى 10 أعضاء:

– قاضي بمحكمة النقض

– قاضي من مجلس المحاسبة

– نائب من الجمعية الوطنية

– عضو مجلس الأمة

– منتخب محلي

– أستاذ التعليم العالي

– شخصية ذات كفاءة عضو ب CNIL

– ثلاث شخصيات ذات كفاءة من في مجالات مختلفة (أرشيف، المنافسة والأسعار، الاعلام العمومي)

ومن أجل ممارسة مهامها يستدعي رئيس اللجنة مقرر عام ونائب له من أجل تحضير القضية، بالإضافة إلى مفوض حكومة معين من طرف الوزير الأول، يساعد اللجنة في مداولاتها، ويكمل مهمتها، وتستعين اللجنة أيضا بكاتب عام.

2) بيان الاستثناءات الواردة على هذا الحق:

وورغم أن أحكام قانون 17 جويلية 1978 -لدستورية المبدأ ولدوره في خلق الشفافية الإدارية – أعطت المبدأ حسب الأستاذ MICHELE Puybasset مفهوما واسعا، من خلال التقرير بأن للمواطنين وخاصة الموظفين الحق في الاطلاع ليس فقط على الوثائق الفردية ولكن كذلك الوثائق التي تمسهم أو التي يعارضونها، إلا أن ذلك لا يعني المساس بالحياة والمعلومات الشخصية للغير ولا مقتضيات السرية الإدارية المنصوص عليها قانونا، ولهذا فإنه وتحت رقابة القاضي الإداري يمكن للإدارة أن تسحب من الملف المعني بالاطلاع الوثائق التي تهم الغير.

وهكذا فإنه ضمانا للتوفيق بين مقتضى حق الأفراد في المعلومة من جهة أولى، ومقتضى السير الحسن للإدارة من جهة ثانية، ومقتضى حقوق الأفراد في الخصوصية من جهة ثالثة، فبموجب المادة 2 من قانون 17 يوليو 1978 لا ينطبق هذا الحق على الأعمال التحضيرية للقرار الإداري، وفي هذا الإطار تعتبر الأعمال السابقة على قرار التعاقد في الصفقات العمومية أعمالا تحضيرية. كما استثني المعلومات المتعلقة بالكشف عن جرائم أو الوقاية منها أو بإيقاف المتهمين ومحاكمتهم أو بحسن سير المرفق القضائي واحترام مبادئ العدل والإنصاف وبنزاهة إجراءات إسناد الصفقات العمومية أو بإجراءات المداولة وتبادل الآراء ووجهات النظر والفحص أو التجربة أو المصالح التجارية والمالية المشروعة للمرفق العمومي المعني.

كما نصت المادة السادسة من نفس القانون على أن للإدارات السابق الإشارة إليها في المادة الثانية من هذا القانون الحق في رفض مشورة لجنة الوثائق الإدارية بالسماح للأفراد بالاطلاع على المستندات والملفات الإدارية في الحالات التالية:

– لأغراض السرية المتعلقة بالمداولات الحكومية والهيئات المسؤولة التابعة للسلطة

التنفيذية.

– لأغراض السرية المتعلقة بالأمن القومي والسياسة الخارجية.

– لأغراض السرية المتعلقة ببراءة الاختراع والعلامة التجارية.

– لأغراض السرية المتعلقة بالحياة الخاصة لأفراد معينين، والسرية المهنية الطبية.

– لأغراض السرية المكفول حمايتها بالقانون.

ونكتفي في هذه المداخلة لشرح الاستثناء الأول: إذ لا تخضع المداولات الحكومية لحق الاطلاع، وانما تعد من الأمور المستثناة من هذا المبدأ والخاضعة للسرية إذا كان من شأن الاطلاع عليها الإضرار بأسرار مداولات الحكومية والسلطات المسئولة التي تتبع السلطة التنفيذية. ويتبين من صياغة المادة أن المنع ليس منعا مطلقا بل متروك للسلطة التقديرية للإدارة حيث يمكنها أن ترفض الاطلاع على الوثائق المستثناة في هذه المادة للمصلحة العامة. ويبرر هذا الاستثناء بانه يهدف إلى ضمان قيام السلطات العليا في الدولة المكلفة أساساً برسم السياسة العامة بالعمل في هدوء وصفاء دون أن يزعجها في ذلك فضول الأفراد بطلب الإطلاع على ما تحت يدها من وثائق تعينها وتساعدها على أداء ما هو منوط بها.

3) إلزام الإدارة بتسبيب قرارات رفض الاطلاع: إذ نصت المادة 7/1 من نفس القانون أن رفض طلب الاطلاع يجب أن يكون في صورة قرار مكتوب ومسبب وذلك وفقا لما يفرضه قانون 11 جويلية 1979 المتعلق بتسبيب القرارات الإدارية

4) دور القضاء الإداري الفرنسي: الكبير في إعطاء هذه الاستثناءات معناها الحقيقي من خلال فصله في المنازعات التي تعرض عليه. والحيلولة دون أن تتجاوز هذه الاستثناءات هدفها المتمثل في التوفيق بين مقتضى حق الأفراد في المعلومة من جهة أولى، ومقتضى السير الحسن للإدارة من جهة ثانية، ومقتضى حقوق الأفراد في الخصوصية من جهة ثالثة، لتصبح ذريعة للإدارة للتفلت من ضمان هذا الحق.

مقابل هذه الميزات التي تميز بها النظام القانوني للحق في الاطلاع في فرنسا نجد أن المشرع الجزائري أشار إلى بعض هذه الضوابط في استعمال الحق في المعلومة الإدارية، وتتمثل في ثلاثة ضوابط:

الأول: إيراد استثناءات على هذا الحق:

إذ نصت المادة 10 على أن الحق في الاطلاع يجب أن يراعي أحكام التنظيم المعمول به في مجال المعلومات المحفوظة والمعلومات التي يحميها السر المهني، كما أشارت المادة 11 من نفس المرسوم على أنه لا يجوز للإدارة المسيرة أن تنشر أو تسلم أية وثيقة أو أي خبر، مهما يكن سندها في ذلك، إذا كانت الوثيقة والخبر يتصلان بحياة الفرد الخاصة أو يرتبطان بوضعيته الشخصية، بصرف النظر عن أحكام المادة 10 السالفة الذكر، ما لم يرخص بذلك التنظيم المعمول به أو تكن ثمة موافقة من المعنى.”

فالاستثناءات التي أوردها المشرع الجزائري في استثناءات عامة تتعلق بــ:

1-الوثائق التي تحوي معلومات التي يحميها السر المهني

ومثال ذلك السر المهني، والسر المصرفي والسر الوظيفي، فالأول مجرم إفشاؤه بموجب نص المادة 301 من قانون العقوبات الجزائري، والثاني منصوص عليه بموجب نص المادة 158 من قانون النقد والقرض، أما الثالث فيمنع إفشاؤه بموجب نص المادة 48 من قانون الوظيف العمومي التي جاء فيها : “يجب على الموظف الالتزام بالسر المهني، ويمنع عليه أن يكشف محتوى أية وثيقة بحوزته أو أي حدث أو خبر علم به أو اطلع عليه بمناسبة ممارسة مهامه، ما عدا ما تقتضيه ضرورة المصلحة، ولا يتحرر الموظف من واجب السر المهني إلا بترخيص مكتوب من السلطة السلمية المؤهلة”، كما نصت المادة 49: “على الموظف أن يسهر على حماية الوثائق الإدارية وعلى أمنها”.

 2- الوثائق التي تتضمن معلومات تتصل بحياة الأفراد الخاصة أو ترتبط بوضعيتهم الشخصية:

ولقد نصت المادة 17 من العهد الدولي لحقوق الإنسان على حق كل شخص في عدم التعرض، على نحو تعسفي أو غير مشروع لتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته ولا لأي حملات لا قانونية تمس بشرفه أو سمعته ولهذا تعتمد الدول تدابير تشريعية وغيرها من التدابير اللازمة لإعمال الحظر المفروض على تلك التدخلات والاعتداءات فضلا عن حماية هذا الحق، وفي هذا الإطار نص الدستور الجزائري على حرمة الحياة الخاصة في المادة 39، حيث نصت:” لا يجوز انتهاك حرمة حياة المواطن الخاصة وحرمة شرفه، ويحميها القانون، سرية المراسلات والاتصالات الخاصة بكل أشكالها مضمونة”.

الثاني: إلزام الإدارة بتسبيب قرارات رفض الاطلاع:

حتى يتسنى للمواطن التأكد من مدى جدية الأسباب ومشروعيتها، وبالتالي مقاضاة الإدارة في حالة عدم جدية أو مشروعية الأسباب.

الثالث: ترتيب جزاءات إدارية وجزائية للحيلولة دون عرقلة الاستفادة من هذا الحق:

وهكذا اعتبر المرسوم 88/ 131 كل فعل يأتيه الموظف ويتسبب في تعطيل أحكامه الرامية إلى تحسين العلاقة بين الإدارة والمواطن جريمة تأديبية، تستوجب العقاب التأديبي، دون المساس بالعقوبات المدنية الجزائية، وهو ما أسلفنا الإشارة إليه من خلال المادتين 30 و 40 من المرسوم المذكور.

الحقيقة أن إغفال المشرع الجزائري النص على هيئة إدارية مستقلة تسهر على ضمان هذا الحق، وعدم التعرض بالتفصيل للاستثناءات الواردة على هذا الحق، خاصة في غياب دور القاضي الإداري في الرقابة على حدود هذه الاستثناءات، والذي يعزى هو الآخر إلى عزوف المواطن على مقاضاة الإدارة ليس في هذا المجال فقط بل في أكثر مجالاتها، تمثل أهم نقائص النظام القانوني لهذا الحق في الجزائر، إن صحت تسميته بالنظام القانوني.

وفي مقابل اكتفاء الجزائر بقانون 88/131 المتعلق بتنظيم العلاقة بين المواطن والإدارة؛ فإن فرنسا ونظرا للغموض الذي شاب بعض أحكام قانون 17 جويلية 1978، ونظرا للمفاجآت والعقبات التي لاقت تطبيقه، خاصة فيما يتعلق بإجراءات الاطلاع على الوثائق المكفولة حمايتها لدواعي السرية، أو حماية للحياة الخاصة للغير، فقد استدعى ذلك إصدار عدة نصوص لاحقة، أهمها قانون 2000/ 231 المؤرخ في 12 أفريل 2000 والمتعلق بحقوق المواطنين في علاقتهم بالإدارة. وكان الهدف منها كما جاء على لسان وزير الوظيفة العامة الفرنسي السيدEmile ZUCCARELL أثناء تقديمه مشروع القانون، وجعل السلطات الإدارية أكثر رفقا وسهولة وأكثر شفافية وأكثر فاعلية وبالضبط أكثر قربا من المواطنين، وبالفعل لقد عكست الإصلاحات التي أدخلها المشرع بموجب هذا القانون رغبة في أن تبلغ الشفافية درجة تكون معها الإدارة بمنزلة بيت الزجاج لا يخفى على من خارجها ما يدور بداخلها.

وفعلا حدث ذلك وساهم بشكل ملحوظ في استفادة المرتفقين من المعلومات اللازمة لبناء الأدلة والإثباتات على عدم مشروعية القرارات التي يطعنون فيها، وهكذا يكون المشرع قد ساهم إلى حد بعيد في المساعدة على إعادة شيء من التوازن بين أطراف الخصومة الإدارية.

دور المشرع على مستوى الإجراءات

الإدارية القضائية.

ساهم المشرع في التخفيف من صعوبات الاثبات التي يعاني منها المدعي في دعوى الإلغاء عن طريق النص على القرائن القانونية التي تعفي المدعي من الإثبات، أو عن طريق تدخل المشرع لتنظيم سير عملية الإثبات وتحديد طرقها وتوزيع عبء الإثبات وبيان دور كل من القاضي والخصوم في الإثبات وفي سير التحقيق في الدعوى.

وما يلاحظ على قانون الإجراءات المدنية والإدارية لسنة 2008، هو تخصيصه الكتاب الرابع منه للإجراءات المتبعة أمام الجهات القضائية، كما خصص الكتاب الأول للإجراءات المتبعة أمام جميع الجهات القضائية، وبهذا يكون قد أشبع موضوع الإجراءات أمام القاضي الإداري تنظيما، عكس ما كان عليه الحال في قانون الإجراءات المدنية السابق.

وتظهر مساهمة المشرع في التخفيف من صعوبة الإثبات في دعوى الإلغاء من خلال قانون الإجراءات المدنية والإدارية عن طريق تنظيمه لعملية تحضير الدعوى، وعملية تحقيقها، وتنظيمه أيضا لدور محافظ الدولة.

نحاول في هذا المبحث التطرق إلى ما أقره المشرع من قرائن قانونية تعفي المدعي في دعوى الإلغاء من الإثبات في المطلب الأول، وإلى دور المشرع في التخفيف على المدعي من خلال تنظيمه الإجراءات الإثبات أمام القضاء الإداري في المطلب الثاني.

المطلب الأول: القرائن القانونية التي تعفي المدعي من الإثبات.

تؤدي القرائن القانونية إلى إعفاء من يتمسك بها من عبء الإثبات بصفة مؤقتة إذا كانت قابلة لإثبات العكس أو بصفة دائمة إذا كانت غير قابلة لإثبات العكس، وتعد القرائن القانونية من أهم الضمانات التي وردت في بعض النصوص الخاصة للتخفيف من حدة الصعوبات التي تعترض المدعي في إثبات عدم مشروعية القرار الإداري.

ولقد عرفت القرينة بأنها: ” دلالة تستخلص من واقعة معينة ويكون من شأنها أن تشير إلى واقعة أخرى هي التي يراد إثباتها” أو هي: ” شواهد وإمارات نص عليها المشرع أو استنبطها القاضي من الواقعة المعروضة عليه تؤيد المدعي في دعواه أو تخذله”.

وتصنف القرائن إلى قانونية وقضائية، والقرينة القانونية لا عمل فيها للقاضي، فركنها هو نص القانون وحده فهو الذي يختار الواقعة الثابتة وهو الذي يجري عملية الاستنباط، ويقوم القاضي بإنزال إرادة المشرع دون أدنى سلطة له في التقدير ومتى وجدت الواقعة الثابتة قامت القرينة القانونية.

وتعرف القرينة القانونية بأنها: “افتراض قانوني يقوم على استنباط مجرد يحدده القانون إعمالا للواقع العملي الغالب”. ولا يعتبرها العلامة السنهوري وسيلة من وسائل الإثبات بل هي طريق يعفي من الإثبات في رأيه.

ولقد بينت المادة 337 من القانون المدني الأثر القانوني للقرينة القانونية يقولها:” القرينة القانونية تغني من تقررت لمصلحته عن أية طريقة أخرى من طرق الإثبات على أنه يجوز نقض هذه القرينة بالدليل العكسي ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك”.

والأصل في القرائن القانونية أنها بسيطة تقبل إثبات العكس بكافة الطرق، ولكن المشرع وعلى سبيل الاستثناء جعل بعضها قاطعا لا يجوز إثبات عكسه.

والقرائن البسيطة هي التي يجوز نقضها بالدليل العكسي، فيحق لأطراف الخصومة إثبات عكس ما افترضه المشرع، أما القرائن القاطعة فيعرفها الفقه بأنها هي ” التي لا تقبل نقض دلالتها”

إن تدخل المشرع في هذه الحالة ينصب على محل الإثبات حيث يستبعد المشرع بعض الشروط التي يصعب إثباتها ويخشى إخفاق المدعي في إقناع القاضي بقيامها من مجال قيام الحق أو المركز القانوني، ولا يحتاج الأمر من المدعي بعد ذلك إلى أي مجهود بالنسبة لهذه الشروط المستبعدة من مجال الإثبات، ويقتصر دوره على إثبات غيرها، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

الفرع الأول: السكوت قرينة على القرار الضمني.

إنه وإن كان “لا ينسب إلى ساکت قول” فإن “السكوت في معرض الحاجة بيان” كما يقول فقهاء الإسلام، ونجد نظير هاتين القاعدتين في القانون الإداري، يرتب المشرع على سكوت الإدارة قرارا ضمنيا قد يكون مؤداه الرفض في بعض الأحيان وقد يفسر قبولا في أحيان أخرى.

أولا: السكوت قرينة على قرار ضمني بالرفض.

ومثاله قرينة عدم الرد على التظلم فلقد نصت المادة 830 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري على جوازية التظلم، ولكن التظلم ما زال وجوبيا في بعض المنازعات الخاصة كمنازعات الضرائب والضمان الاجتماعي، كما أن الممارسة الحق في التظلم الجوابي أثر على المواعيد المقررة لرفع الدعوى.

إن مرور شهرين على تبليغ التظلم للإدارة، دون رد منها يعد رفضا ضمنيا للتظلم، وبالتالي قرينة قاطعة على قيام قرار ضمني برفض التظلم.

ثانيا: السكوت قرينة على قرار ضمني بالقبول.

ومثاله قرينة المصادقة على مداولات المجلس الشعبي من طرف الوالي، من خلال اعتبار مرور 30 يوما من تاريخ إيداع مداولات المجلس الشعبي التي تتطلب المصادقة من طرف الوالي دون المصادقة عليها من طرف هذا الأخير مصادقة ضمنية

وهكذا يكون سكوت الوالي قرينة على وجود قرار ضمني بالمصادقة، وهي تسهل على المدعي إثبات المصادقة على رغم ادعاء الإدارة بعدم وجودها متذرعة بأن صمتها ليس دليلا على قبولها المصادقة.

الفرع الثاني: قرينة حجية الأمر المقضي به.

تنص المادة 338 من القانون المدني على أن: الأحكام التي حازت قوة الشيء المقضي به تكون حجة بما فصلت فيه من الحقوق، ولا يجوز قبول أي دليل ينقض هذه القرينة، ولكن لا تكون تلك الأحكام هذه الحجية إلا في نزاع قام بين الخصوم أنفسهم دون أن تتغير صفاتهم وتتعلق بحقوق لها نفس المحل والسبب، ولا يجوز للمحكمة أن تأخذ بهذه القرينة تلقائيا”.

يتبين من نص المادة أن الحكم الذي يصدر من القضاء يعتبر حجة فيما فصل فيه، لأن القانون يعتبره عنوانا للحقيقة، حتى وإن لم يكن ذلك صحيحا من حيث الواقع، وينبني على ذلك أنه لا يجوز لأي من طرفي النزاع الذي فصل فيه الحكم أن يعيد طرح النزاع ثانية أمام القضاء بدعوى مبتدأه، فإن فعل كان للطرف الآخر أن يدفع الدعوى بحجية الأمر المقضي به.

وحتى يمكن لطرف ما استعمال الحكم كدليل لحيازته لحجية الأمر المقضي به يجب أن تتوافر الشروط التي نصت عليها المادة 338 من القانون المدني وهي:

أولا: وحدة الخصوم.

القاعدة المعروفة هي نسبية الأحكام، ومعناها أن حجية الحكم تقتصر على أطرافه، والعبرة في توافر هذا الشرط، هو اتحاد الخصوم بصفاتهم لا بأشخاصهم.

غير أن هذا الشرط لا وجود له بالنسبة لأحكام الجهات القضائية الإدارية الفاصلة في دعاوى الإلغاء، فالمعروف أن حكم الإلغاء حجيته مطلقة وليست نسبية.

ثانيا: وحدة المحل.

القاعدة أن الأحكام لا تكون حجة إلا فيما فصلت فيه من الحقوق، أما ما لم تفصل فيه المحكمة بالفعل، فلا يكون موضوعا للاستدلال عليه بحكم حائز لحجية الأمر المقضي به.

ويشترط لإعمال حجية الأمر المقضي به أن يكون حكما قضائيا، وأن يكون صادرا من جهة ذات اختصاص، وأن يكون حكما فاصلا في النزاع:

أولا: أن يكون حكما قضائيا.

يجب أن يكون الحكم المحتج به حكما قضائيا، سواء كان صادر من جهة من جهات القضاء الإداري أو من مختلف الجهات العادية أو حتى الاستثنائية كالمحاكم العسكرية.

ولا يكفي أن يكون الحكم صادرا عن جهة قضائية؛ بل يتعين كذلك أن يكون صادرا عنها بموجب سلطتها القضائية، لا بموجب سلطتها الولائية.

ثانيا: أن يكون الحكم صادرا من جهة ذات اختصاص.

الحكم تثبت له حجية الأمر المقضي به إذا كان صادرا من محكمة لها ولاية القضاء في موضوعه، ولو كانت غير مختصة اختصاصا نوعيا أو محليا.

ثالثا: أن يكون الحكم فاصلا في النزاع وهو الحكم الذي يفصل في موضوع الدعوى.

والأصل أن الحجية تقتصر على منطوق الحكم دون أسبابه إلا إذا كانت الأسباب مرتبطة ارتباطا وثيقا بمنطوقه.

الفرع الثالث: قرينة البراءة في مجال العقاب الإداري.

تعتبر قرينة البراءة من بين أهم المبادئ العامة للقانون، فقد حرص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10/12/1948 على النص عليها حيث قررت المادة 11/1 منه: “كل إنسان يفترض في حقه أن يكون بريئا حتى تثبت إدانته”.

فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته، وتجد هذه القرينة مجالها الخصب للتطبيق في القانون الإداري في منازعات القرارات الإدارية العقابية والتأديبية، ورغم أن القرار الإداري يحمل قرينة الصحة وعلى من يدعي خلاف ذلك تقديم الدليل، إلا أن ذلك لا يحول حسب الدكتور عبد الحليم عبد البر ما يمنع من الأخذ بهذه القرنية في مجال التأديب كما هو الحال في المجال الجزائي، فالوضع هنا متطابق في نقطتين جوهريتين وهما:

– أن الجريمة أمر استثنائي يجب على من يدعيه أن يقيم الدليل عليه.

– أنه يسبق اتخاذ القرار العقابي توفير ضمانات للمتهم للدفاع عن نفسه، يقابلها سلطات واسعة لجهة العقاب ووسائل متعددة للوصول إلى الحقيقة.

ويترتب على الأخذ بقرينة البراءة في المجال الإداري أن يعامل المتهم معاملة البريء حتى تثبت إدانته، وهو ما يرفع عنه عبء إثبات البراءة لصعوبته، ويتبع ذلك أيضا الاعتراف المتهم في التأديب أو القرارات الإدارية العقابية بحق الصمت كمظهر من مظاهر حقوق الدفاع؛ فلا يفسر سكوته اعترافا بصحة ما هو منسوب إليه.

المطلب الثاني: تنظيم إجراءات الإثبات أمام القضاء الإداري.

إن إجراءات التقاضي الإدارية في فرنسا مستقلة عن إجراءات التقاضي المدنية، وإن كانت نصوص الإجراءات القضائية الإدارية في حد ذاتها تحيل أحيانا إلى أحكام قانون الإجراءات المدنية، كما أن القضاة ومن تلقاء أنفسهم قد يلجؤون إلى أحكام الإجراءات المدنية باعتبارها مبادئ عامة للإجراءات.

وإذا كان المشرع المصري لحد الساعة لم يصدر قانونا لإجراءات التقاضي الإدارية، ومازال يعتمد على بعض أحكام قانون مجلس الدولة، وقانون الإثبات فإن المشرع الجزائري وإن كان لم يصدر قانونا مستقلا لإجراءات التقاضي الإدارية إلا أنه أفرد لها الكتاب الرابع من قانون الإجراءات المدنية والإدارية.

لقد ساهم قانون الإجراءات المدنية والإدارية رقم 08/09 المؤرخ في 25 فيفري 2008 بشكل كبير في التخفيف من عبء الإثبات الملقى على عاتق المدعي في دعوى الإلغاء والعمل على إعادة التوازن بين أطراف الدعوى الإدارية عموما، ودعوى الإلغاء خصوصا، وذلك من خلال تنظيمه لعملية تحضير الدعوى (الفرع الأول) وتنظيمه لوسائل تحقيق الدعوي (الفرع الثاني)

فرع الأول: دور المشرع من خلال تنظيمه لإجراءات تحضير الدعوى.

نظم قانون الإجراءات المدنية والإدارية رقم 08/09 المؤرخ في 25 فيفري 2008 أحكام مرحلة تحضير الدعوى للفصل فيها، ومن خلال هذه الأحكام ساهم في التخفيف من صعوبات الإثبات على المدعي وتتمثل مظاهر ذلك في:

  • إلزامية تحضير الدعوى.

  • تنظيم كيفية تبادل المذكرات وآجال إيداعها.

  • تفادي التشديد في بعض الشروط الشكلية للعريضة.

  • إلزام الخصوم بتقديم المستندات والوثائق المقيدة في فض النزاع.

  • تكريس مبدأ المواجهة في إجراءات تحضير الدعوى الإدارية

أولا: إلزامية تحضير الدعوى.

تشمل مرحلة التحضير كل الإجراءات التي تستهدف توفير المستندات والأدلة اللازمة والمقبولة للحكم في النزاع، ويلتزم القاضي كقاعدة عامة بالتحضير الكامل للدعوى للفصل، ولا يمكنه إصدار حكم في قضية دون التحقيق فيها، بل يلتزم بتحضير كأصل عام كنتيجة مرئية عن التزامه بالفصل في الدعوى عن دراية كاملة، واستثناء قد يجيز المشرع عدم التحضير لوضوح الحل؛ مثلما نصت عليه المادة 847 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية بقولها : يجوز لرئيس المحكمة الإدارية أن يقرر بألا وجه للتحقيق في القضية عندما يتبين له من العريضة أن حلها مؤكد…”، كما هو الشأن لو كان من الواضح أن الحكم هو عدم الاختصاص أو أن العريضة من الواضح أنها غير مقبولة.

وتستشف هذه إلزامية التحضير من خلال صياغة المواد المنظمة له، ومن خلال صيغة الإعفاء من التحقيق في الحالات التي نصت عليها المادة 847، والتي تعني من جهة أنه بمفهوم المخالفة في غير هذه الحالات لا يجوز الاستغناء عن التحقيق، ومن جهة ثانية تستشف من العنوان الفرعي الذي جاءت تحته المادة 847 وهو الإعفاء من التحقيق؛ والإعفاء لا يكون إلا من واجب.

وعندما تكون القضية مهيأة للفصل فيها يحدد رئيس تشكيلة الحكم تاريخ اختتام التحقيق بموجب أمر غير قابل لأي طعن (المادة852)، ويبلغ الأمر إلى جميع الخصوم برسالة مضمنة مع إشعار بالاستلام أو بأي وسيلة أخرى في أجل لا يقل عن خمسة عشر يوما قبل تاريخ الاختتام المحدد في الأمر (المادة852).

ويحيل القاضي المقرر وجوبا ملف القضية مرفقا بالتقرير والوثائق الملحقة به إلى محافظ الدولة، لتقديم تقريره المكتوب في أجل شهر واحد من تاريخ استلامه الملف، ويجب على محافظ الدولة إعادة الملف والوثائق المرفقة به إلى القاضي المقرر بمجرد انقضاء الأجل المذكور (المادة 897).

ثانيا: تنظيم تبادل المذكرات وآجال إيداعها.

نظم قانون الإجراءات المدنية والإدارية عملية تبادل المذكرات، فأوكل مهمة الإشراف عليها إلى المستشار المقرر إذ نصت المادة 844 منه على أن رئيس المحكمة الإدارية هو من يعين التشكيلة التي يؤول إليها الفصل في الدعوى بمجرد قيد عريضة افتتاح الدعوى بأمانة الضبط، ويعين رئيس تشكيلة الحكم القاضي المقرر الذي يحدد -بناء على ظروف القضية- الأجل الممنوح للخصوم من أجل تقديم المذكرات الإضافية والملاحظات وأوجه الدفاع والردود، ويجوز له أن يطلب من الخصوم أي مستند أو أية وثيقة تفيد في فض النزاع.

ولقد حرص قانون الإجراءات المدنية والإدارية على أن يكون أجل إيداع المذكرات في مدة محددة يجب أن لا تطول حتى لا تعطل سير إجراءات الدعوى، ومنعا للخصوم من المماطلة وحثا لهم على الإسراع في تنفيذ الإجراءات ومن أجل الوصول إلى حل النزاعات في أقصر وقت ممكن تجنبا لتراكم القضايا، وإلى هذا كانت ترمي المادة 03 منه والتي نصت على وجوب الفصل في النزاعات في مدة معقولة.

كما نصت المادة 840 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية على أن يشار في تبليغ العرائض والمذكرات إلى أنه في حالة عدم مراعاة الأجل المحدد من طرف القاضي لتقديم مذكرات الرد يمكن اختتام التحقيق دون إشعار مسبق.

والقاضي المقرر حين يبلغ العريضة للمدعى عليه ويمنحه أجلا لإيداع مذكّرته يكون أمام أمرين: إما أن يتلقى مذكرة جوابية فيدرسها ويبلغها للمدعي ويقرر إن كان الرد كافيا؛ وبالتالي يعكف على استخلاص النتائج ووضع تصور للحلول وإعداد تقريره، وإما أن يقرر عدم كفاية الرد فيواصل اتصالاته بالأطراف من أجل المزيد من الاستقراء والبحث، وإما أن لا يتلقى هذه المذكرة الجوابية على الإطلاق؛ فهل يحكم لصالح المدعي؟ مع العلم أنه في حالة عدم مراعاة الأجل المحدّد من طرف القاضي لتقديم مذكرات الرد يمكن اختتام التحقيق دون إشعار مسبق (المادة 840 ق. إ.م.إ.)

لقد نصت المادة 849 قانون الإجراءات المدنية والإدارية على أنه يجوز لرئيس تشكيلة الحكم أن يوجه إعذارا برسالة مضمنة مع الإشعار بالاستلام إلى الخصم الذي لم يحترم الأجل الممنوح له لتقديم مذكرة أو ملاحظات، كما يجوز منح أجل جديد وأخير في حالة القوة القاهرة أو الحادث الفجائي، كما نصت المادة 851 من نفس القانون على أنه إذا لم يقدم المدعى عليه -رغم إعذاره- أية مذكرة يعتبر قابلا بالوقائع الواردة في العريضة (المادة 851 ق. إ.م.إ.).

إن هذا النص يمثل حدا لتماطل الإدارة والذي يواجه بكثرة التأجيلات التي تؤثر سلبا على حقوق المدعي من جهة، وتتيح لها من جهة أخرى ترتيب المحيط الإداري على نحو يوحي بسلامة القرار المطعون فيه، والذي صدر في ظروف مغايرة.

غير أنه يجب الانتباه إلى أن الجزاء الذي رتبته المادة 851 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية هو اعتبار المدعى عليه – وهو الإدارة في دعوى الإلغاء- قابلا بالوقائع الواردة في العريضة؛ وبالتالي يفقد حقه في المنازعة في صحتها، وهذا لا يعني الحكم في جميع الحالات لصالح المدعي كما قد يتبادر للذهن، فعلى القاضي إذا اعتبار الوقائع المدعى بها ثابتة، ثم الفصل في الدعوى على أساس هذه الوقائع والتي قد لا تؤدّي قانونا إلى إجابة المدعي إلى طلباته .

ثالثا: تفادي التشديد في بعض الشروط الشكلية للعريضة.

ويتعلق الأمر بالشروط الشكلية التي لا تتعلق بالنظام العام والتي قد يؤدي عدم استيفائها إلى رفض الدعوى من قبل القاضي الإداري وبالتالي يحول دون بسط رقابته على عمل غير مشروع بسبب إهمال شكليات غير جوهرية.

وفي هذا الصدد نصت المادة 848 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية على أنه: “عندما تكون العريضة مشوية بعيب يرتب عدم القبول، وتكون قابلة للتصحيح بعد فوات الأجل المنصوص عليه في المادة 829 أعلاه، لا يجوز للمحكمة الإدارية أن ترفض هذه الطلبات واثارة عدم القبول التلقائي، إلا بعد دعوة المعنيين إلى تصحيحها”.

وهو ما جاء في المادة (R.612-1 C.J.A.) من تقنين القضاء الإداري الفرنسي والتي جاء فيها:

« Lorsque des conclusions sont entachées d’une irrecevabilité susceptible d’être couvert après l’expiration du délai de recours, la juridiction ne peut les rejeter en relevant d’office cette irrecevabilité qu’auprès avoir invité leur auteur à les régulariser»

رابعا: إلزام الخصوم بتقديم المستندات والوثائق المفيدة في فض النزاع.

رغم أن الأصل أن كل شخص يحق له الاحتفاظ بما لديه من أوراق ومستندات أو دفاتر خاصة به، بحيث لا يمكن أن يجبر أحد على تقديم وثيقة لاستخدامها كدليل ضده، أو مفيد لمصلحة غيره.

لكن هذا الأصل المعروف في قواعد الإثبات المدني لا يستقيم مع ظروف الدعوى الإدارية عموما ودعوى الإلغاء خصوصا، التي تتسم بوقوف الفرد أعزلا في مواجهة امتيازات الإدارة، وعلى رأسها حيازتها للأوراق والمستندات مقابل افتقاره لها مع أنه المكلف بعبء الإثبات.

ولهذا فقد حرص المشرع الجزائري من خلال قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري على التخفيف من صعوبات الإثبات التي يعاني منها المدعي من خلال تخويل المستشار المقرر حسب نص المادة 844 الحق في أن يطلب من الخصوم المستندات والوثائق التي يراها مفيدة لفض النزاع .

ولقد كانت هذه السلطة التي منحها المشرع للمستشار المقرر محل جدل فقهي من حيث ادعاء بعض الفقه مساساها بمبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ حظر توجيه أوامر للإدارة من طرف القاضي.

ورغم الجدل الفقهي حول هذه السلطة فهي غالبا ما تؤدي نتائج حاسمة في صالح المدعي المفتقر للوثائق والمستندات، ففي حالة استجابة الإدارة في الآجال المحددة يتمكن القاضي من الاطلاع على المستندات والعناصر التي لم يكن في وسع المدعي الاطلاع عليها دون تدخل من جانبه ويصدر حكمه في ضوئها.

وفي حالة عدم استجابة الإدارة أو إذا قدمتها ناقصة أو التزمت الصمت، فإن هذا يعوق القاضي عن أداء دوره في رقابة المشروعية، وينم عن إهمال وعدم تعاون، وفي هذه الحالات فإن القاضي يعتدّ في الإثبات بالوقائع التي لم تذكرها أوراق الملف ويعتبرها صحيحة طالما أن الإدارة لم تفندها؛ فإهمالها وعدم تعاونها يعد دليلا على صحة الوقائع والادعاءات التي لم تقدم ما يدحضها ولم تقدم الوثائق التي تثبت عكسها؛ حتى ولو كان ذلك يرجع إلى أسباب خارجة عن إرادتها كتلف الملف المطلوب أو ضياعه، لأنها بذلك -ولو كانت حسنة- النية تجعل القاضي في وضع تستحيل معه رقابة المشروعية. والحال نفسه في حالة تقديم الإدارة المستندات غير كافية أو غير منتجة.

خامسا: تكريس مبدأ المواجهة في إجراءات تحضير الدعوى الإدارية.

يعتبر مبدأ الوجاهية في الإجراءات Le caractère contradictoire من أهم ضمانات المحاكمة العادلة، ومبدأ من مبادئ العدالة التي نصت عليها اتفاقيات وعهود حقوق الإنسان والقوانين الإجرائية الداخلية لمختلف الدول ويصنفه الفقه في عداد المقاييس العالمية المهيمنة والمسيطرة على الإجراءات.

وللأهمية التي يحظى بها هذا المبدأ وتعلقه بالنظام العام، فإنه فرض نفسه حتى في غياب النص عليه صراحة. ولكن تأكيدا عليه نص قانون الإجراءات المدنية والإدارية ضمن الأحكام التمهيدية، في مادته الثالثة على ما يلي: “…يلتزم الخصوم والقاضي بمبدأ الوجاهية…”.

وتعني الوجاهية أن تسير كافة إجراءات الدعوي في مواجهة جميع الأطراف، كما أن القاضي لا يستطيع الفصل في الدعوى على أساس مستند لم يتيسر لأحد الطرفين الاطلاع عليه ومناقشته وتقديم الملاحظات بشأنه، فكل وثيقة أو دليل يقدمه أحد الأطراف يجب أن يتاح للطرف الآخر الاطلاع عليه ومناقشته.

وعليه يلتزم المستشار المقرر بإخطار أصحاب الشأن بوجود الدعوى القضائية سواء كانوا أطرافا أو مدخلين فيها، وينصرف التزام الإخطار الملقى على عائق القاضي إلى جميع إجراءات الدعوى في جميع مراحلها، وكذلك إلى الأمر بوسائل الإثبات والنتائج التي توصلت إليها، كما يشمل الالتزام بالإخطار الوقائع الجديدة والعناصر المستجدة والمنتجة في الدعوى، ووسائل التحضير البسيطة.

ويظهر هذا الالتزام في قانون الإجراءات المدنية من خلال الأحكام التالية:

  • التبليغ الرسمي لعريضة افتتاح الدعوى والمذكرات والوثائق المرفقة:

يتم تبليغ عريضة افتتاح الدعوى عن طريق محضر قضائي، بينما يتم تبليغ المذكرات ومذكرات الرد مع الوثائق المرفقة إلى الخصوم عن طريق أمانة الضبط وتحت إشراف القاضي المقرر وهو ما نصت عليه المادة 838 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية.

غير أن هذا الالتزام لا يشمل الوثائق غير المنتجة في الدعوى، ولا تلك الواردة بعد اختتام التحقيق؛ فلا إلزام بتبليغ المذكرات الواردة بعد اختتام التحقيق، ويصرف عنها النظر من طرف تشكيلة الحكم، وهذا ما نصت عليه المادة 854 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية.

كما نصت المادة 841 من نفس القانون على أنه عندما يحول عدد الوثائق أو حجمها أو خصائصها دون استخراج نسخ عنها يبلغ جرد مفصل عنها إلى الخصوم أو إلى ممثليهم للاطلاع عليها بأمانة الضبط وأخذ نسخ عنها على نفقتهم.

  • التبليغ بالإجراءات والآجال:

ألزم قانون الإجراءات المدنية والإدارية القاضي المقرر بتبليغ الخصوم بكل الإجراءات المتخذة وبالآجال الممنوحة لهم للرد على بعض الأوجه المثارة، وكذا التصحيح العرائض مستوجبة التصحيح ( المادة 849).

حيث ألزمت المادة 843 رئيس تشكيلة الحكم إذا رأى أن الحكم يمكن أن سكون مؤسسا على وجه مثار تلقائيا بإعلام الخصوم بهذا الوجه وتحديد الأجل الذي مكنهم الرد فيه على هذا الوجه.

كما ألزمت المادة 844 بإعلام الخصوم بالتاريخ الذي يختتم فيه التحقيق عن طريق أمانة الضبط إذا اقتضت ظروف القضية أن يحدد تاريخ اختتام التحقيق فور تسجيل العريضة، وفي الحالات الأخرى فإنه عندما تكون القضية مهيأة للفصل، يحدد رئيس تشكيلة الحكم تاريخ اختتام التحقيق، ويبلغ هذا الأمر حسب المادة 852 إلى جميع الخصوم برسالة مضمنة مع إشعار بالاستلام أو بأي وسيلة أخرى، في أجل لا يقل عن 15 يوما قبل التاريخ المحدد في الأمر. كما أن يلتزم القاضي المقرر أيضا بتبليغ الأمر بإعادة السير في التحقيق بنفس الشروط (المادة 855) ويلتزم أيضا بتبليغ المذكرات المقدمة إلى الخصوم خلال المرحلة الفاصلة بين اختتام التحقيق واعادة السير فيه (المادة 857).

ولقد أوضحت المادة 840 أشكال هذه التبليغات الإلزامية بقولها:” تبلغ كل الإجراءات المتخذة وتدابير التحقيق إلى الخصوم برسالة مضمنة مع الإشعار بالاستلام، أو عن طريق محضر قضائي عند الاقتضاء

ويتم أيضا تبليغ طلبات التسوية والإعذارات وأوامر الاختتام وتاريخ الجلسة بنفس الأشكال، ويشار في تبليغ العرائض والمذكرات إلى أنه في حالة عدم مراعاة الأجل المحدد من طرف القاضي لتقديم مذكرات الرد، يمكن اختتام التحقيق دون إشعار مسبق”.

وفي هذا الصدد نص قانون الإجراءات المدنية والإدارية على أنه يجوز لرئيس تشكيلة الحكم أن يوجه إعذارا برسالة مضمنة مع الإشعار بالاستلام إلى الخصم الذي لم يحترم الأجل الممنوح له لتقديم مذكرة أو ملاحظات، ، كما يجوز منح أجل جديد وأخير في حالة القوة القاهرة أو الحادث الفجائي (المادة 849).

الفرع الثاني: دور المشرع من خلال تنظيمه لوسائل تحقيق الدعوى.

لقد نظم المشرع الجزائري إجراءات تحقيق الدعاوي في الفصل الثاني من الباب الرابع من الكتاب الأول منه والمتعلق بالأحكام المشتركة لجميع الجهات القضائية

ولقد كرس المبدأ المعروف في إجراءات التحقيق والمتمثل في سلطة القاضي في الأمر بإجراء من إجراءات التحقيق من عدمه، بناء على طلب الخصوم أو من تلقاء نفسه، وذلك من خلال نص المادة 75 التي جاء فيها: ” يجوز للقاضي بناء على طلب الخصوم، أو من تلقاء نفسه أن يأمر شفاهة أو كتابة بأي إجراء من إجراءات التحقيق التي يسمح بها القانون”.

كما كرس المبدأ القائل بسلطة القاضي في الأخذ بنتيجة التحقيق أو طرحها، متى كان مسلكه مبررا، وهذا من خلال نص المادة 80 من نفس القانون والتي نصت على أنه: “لا يترتب على الأمر بأي إجراء من إجراءات التحقيق، تخلي القاضي عن الفصل في القضية”.

وتجدر الإشارة إلى أن المادة 334 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية نصت على أن الأحكام التي تأمر بإجراء من إجراءات التحقيق لا تقبل الاستئناف إلا مع الحكم الفاصل في أصل الدعوى برمتها.

وقبل التطرق إلى كيفية مساهمة المشرع الجزائري في التخفيف من عبء الإثبات على المدعي في دعوى الإلغاء من خلال تنظيمه لإجراءات التحقيق يجدر بنا تسجيل الملاحظات التالية حول تناوله لهذه الإجراءات:

الملاحظة الأولى: نظم قانون الإجراءات المدنية والإدارية معظم إجراءات التحقيق ضمن أحكام مشتركة لجميع الجهات القضائية، وهو ما يعكس التقارب بين الإجراءات المدنية والإجراءات الإدارية، ويظهر ذلك خاصة من خلال اتجاه الإجراءات المدنية أكثر نحو الاتسام بالطابع التحقيق تأسيا بالإجراءات الإدارية.

الملاحظة الثانية: أحالت المواد الواردة ضمن الكتاب الرابع والمتعلقة بالتحقيق في معظمها إلى المواد الواردة ضمن الكتاب الأول، رغم أن مواد الكتاب الأول تطبق مباشرة على دعاوى القضاء الإداري دون الحاجة إلى الإحالة إليها، لأنها واردة ضمن الأحكام المشتركة لجميع الجهات القضائية.

الملاحظة الثالثة: لم يعنون الكتاب الرابع بشأن وسائل التحقيق في الدعوى الإدارية للاستجواب كوسيلة من وسائل التحقيق، رغم أنه وارد ضمن الكتاب الأول المتعلق بالأحكام المشتركة لجميع الجهات القضائية.

الملاحظة الرابعة: فتح الكتاب الرابع المجال أمام القاضي الإداري لاتخاذ أي تدابير تحقيق أخرى لم ينص عليها القانون، وذلك تحت عنوان التدابير الأخرى التحقيق، وهو ما يعزز مكانة نظام الإثبات الحر أمام القاضي الإداري الجزائري.

ومن خلال العودة لإجراءات التحقيق سواء تلك المنصوص عليها في الكتاب الرابع أو الكتاب الأول من قانون الإجراءات المدنية والإدارية يمكن التعرف إلى أي مدى ساهم المشرع في التخفيف من عبء الإثبات الملقى على عاتق المدعي في دعوى الإلغاء من خلال تنظيمه لإجراءات التحقيق.

أولا: دور المشرع في التخفيف من عبء الإثبات

من خلال تنظيمه لإجراء الخبرة.

الأصل أن القاضي يقوم باستجلاء وقائع الدعوى بنفسه لاستكمال قناعته في الوصول إلى الحقيقة القضائية لتكون أقرب ما يكون إلى الحقيقة الواقعية، لكن قد يتعذر عليه الوصول إلى حقيقة بعض الوقائع التي تتعلق ببعض المسائل الفنية التي ليس له إلمام بها، فيلجأ إلى المتخصصين فيها من أجل استجلاء الحقيقة.

وتعرف الخبرة بأنها: “الاستشارة الفنية التي يستعين بها القاضي في مجال الإثبات لمساعدته في تقدير المسائل الفنية التي يحتاج تقديرها إلى معرفة فنية أو دراية علمية لا تتوافر لدى عضو الهيئة القضائية المختص بحكم عمله وثقافته.”

وتعد الخبرة الوسيلة الأكثر استعمالا من بين وسائل الإثبات لما لها من الأثر الحاسم في الدعوى الإدارية، ولقد نصت عليها المادة 858 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية والتي أحالت بشأنها إلى الأحكام المشتركة لجميع الجهات القضائية والمنصوص عليها في المواد من 125 إلى 145 من نفس القانون.

وفيما يلي نحاول تبين مظاهر تخفيف المشرع على المدعي في دعوى الإلغاء من خلال تنظيمه لإجراء الخبرة:

1) للقاضي حرية الأمر بالخبرة من عدمه، وهو غير ملزم بطلب الخصوم تعيين خبير، كما له الحرية في تحديد عدد الخبراء، إذ نصت المادة 126 على أنه: “يجوز للقاضي من تلقاء نفسه أو بطلب أحد الخصوم تعيين خبير أو عدة خبراء من نفس التخصص أو من تخصصات مختلفة”.

وحتى تكون الخبرة مجدية في التوصل إلى الأدلة اللازمة للفصل في القضية فإنه يقع على القاضي التزام بتحديد مهمة الخبير بدقة لأن الخبرة تتميز بطابع تقني؛ ولأن الخبير لا يعين إلا لتنوير المحكمة حول نقاط تتعلق بالوقائع، وبخصوص نتائج تقنية تتضمنها، ولهذا فإنه من الضروري أن يحدد القاضي إطار الخبرة تحديدا جيدا، لتلافي خروج الخبير عن هذا الإطار، ومن أجل ذلك فإنه يحدد الوقائع المطلوب إبداء الرأي الفنّي بشأنها، مع احترام حدود الطلب الوارد في الدعوى المتنازع بشأنها، كما يعين له ميعادا لإيداع التقرير.

وهذا ما نصت عليه المادة 128 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية بقولها: “يجب أن يتضمن الحكم الأمر بإجراء الخبرة ما يأتي:

  • عرض الأسباب التي بررت اللجوء إلى الخبرة، وعند الاقتضاء تبرير تعيين عدة خبراء.

  • بیان اسم ولقب وعنوان الخبير أو الخبراء المعينين مع تحديد التخصص.

  • تحديد مهمة الخبير تحديدا دقيقا.

  • تحديد اجل إيداع تقرير الخبرة بأمانة الضبط.

وللقاضي الحرية أيضا في الأخذ برأي الخبير أو طرحه، على أن يبين في حكمه أسباب استبعاد رأي الخبير وهو ما نصت عليه المادة 144 بقولها: “يمكن للقاضي أن يؤسس حكمه على نتائج الخبرة، القاضي غير ملزم برأي الخبير، غير أن عليه تسبيب استبعاد نتائج الخبرة”.

2) يساهم الخبير في مساعدة المدعي في دعوى الإلغاء للوصول إلى الدليل ذي الطبيعة العلمية أو التقنية، كما يساعده في الحصول على المستندات التي بحوزة الإدارة، تحت طائلة توقيع الغرامة التهديدية، وتحت طائلة ترتيب ما يقتضيه العدل والمنطق على نكولها عن تقديم المستندات، وذلك من خلال السلطات المخولة للخبير والقاضي بموجب مواد قانون الإجراءات المدنية والإدارية، إذ تنص المادة 137 على أنه: “يجوز للخبير أن يطلب من الخصوم تقديم المستندات التي يراها ضرورية لإنجاز مهمته دون تأخير.

يطلع الخبير القاضي على أي إشكال يعترضه، ويمكن للقاضي أن يأمر الخصوم تحت طائلة غرامة تهديدية، بتقديم المستندات.

يجوز للجهة القضائية أن تستخلص الآثار القانونية المترتبة على امتناع الخصوم عن تقديم المستندات”.

كما نصت المادة 138 على أن: “يسجل الخبير في تقريره على الخصوص:

  • أقوال وملاحظات الخصوم ومستنداتهم.

  • عرض تحليلي عما قام به وعاينه في حدود المهمة المسندة

  • نتائج الخبرة.

ويترتب على ذلك اعتبار تقرير الخبير بعد إيداعه ضمن مستندات الملف من أدلة الإثبات التي يمكن الاعتماد عليها كعنصر فعال أثناء الفصل في النزاع، وتعتبر البيانات التي تضمنها بشأن الوقائع التي باشرها ونفذها الخبير صحيحة لحين الطعن فيها بالتزوير، أما غير ذلك من البيانات كالرأي التي تكون قابلة لإثبات العكس.

3) و يوفر الخبير القاضي كل المعلومات التقنية والعلمية التي يحتاجها للتحقق من مدى صحة ادعاءات المدعي وفي سبيل ذلك نصت المادة 141 على أنه:” إذا تبين للقاضي أن العناصر التي بني عليها الخبير تقريره غير وافية، له أن يتخذ جميع الاجراءات اللازمة، كما يجوز له على الخصوص أن يأمر باستكمال التحقيق، أو بحضور الخبير أمامه ليتلقى منه الإيضاحات والمعلومات الضرورية”.

ثانيا: دور المشرع في التخفيف من عبء الإثبات

من خلال تنظيمه لإجراء المعاينة

تعرف المعاينة بأنها: “وسيلة اختيارية في الإثبات يلجأ إليها القاضي من تلقاء نفسه أو بناء على طلب الخصوم، وفيها تنتقل المحكمة بكامل هيئتها أو ينتقل من تنتدبه لذلك من أعضائها لمشاهدة محل النزاع على الطبيعة”.

وتعد المعاينة من أهم الأدلة في المسائل المادية، وقد تكون في بعض الأحوال الدليل القاطع الذي لا يغني عنه دليل سواه، فالمشاهدة على الطبيعة هي التي قد توفر أحيانا الدليل الحاسم على صحة ادعاءات الخصوم أو كذبهم.

ويبدو دور المشرع في مساندة المدعي في دعوى الإلغاء وتخفيف عبء الإثبات الملقى على عاتقه من خلال تنظيمه لإجراء المعاينة من خلال أن قاضي الإلغاء يبدو وكأنه يتكفل وحده بالبحث عن الدليل؛ مع الاعتماد بشكل ثانوي على أقوال الخصوم ومن يرى سماعه من الحاضرين، وفي هذا الصدد نصت المادة 148 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية على أنه يمكن للقاضي أثناء تنقله، سماع أي شخص من تلقاء نفسه أو بناء على طلب الخصوم إذا رأى ضرورة ذلك، كما يجوز له في نفس الظروف سماع الخصوم”.

كما أنه إذا تطلب موضوع الانتقال معارف فنية، جاز للقاضي أن يأمر في نفس الحكم بتعبين من يختاره من التقنيين لمساعدته وهو ما نصت عليه المادة 147 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية.

ثالثا: دور المشرع في التخفيف من عبء الإثبات

من خلال تنظيمه لإجراء الاستجواب.

الاستجواب هو استدعاء أحد الخصوم أمام القضاء لسؤاله عن وقائع معينة بغية الحصول على اعترافه وإقراره إزاءها وربما تمكين القاضي من استخلاص قرائن الإثبات، ولهذا فهو أحد أهم طرق التحقيق لفعاليته.

والاستجواب وثيق الصلة بالإقرار، إذ غالبا ما يؤدي الاستجواب بعد مناقشة الخصم في مجلس القضاء، ومجابهته بالحقائق الواضحة إلى التخلي عن أفكاره، ثم إقراره بالواقعة محل النزاع كلا أو جزءا.

ولقد رأى بعض الفقه في الاستجواب ما يتنافى مع طبيعة الدعوى الإدارية، ويحمل نوعا من المساس بهيبة الإدارة، لكن المشرع الجزائري اعتمد هذا الإجراء أمام جهات القضاء الإداري رغم أنه أغفل الإشارة إليه ضمن المواد المتعلق بوسائل التحقيق ضمن الكتاب الرابع المتضمن الإجراءات المتبعة أمام الجهات القضائية الإدارية، وهو ما يعطي انطباعا أن المشرع الجزائري ساير ما استقرّ عليه العمل في القضاء الإداري الفرنسي الذي لم يلجأ إلى وسيلة الاستجواب.

إن التمعن في نصوص قانون الإجراءات المدنية والإدارية يبين خلاف ذلك، بل يدعو إلى القول بأن المشرع الجزائري، تبنى صراحة وسيلة الاستجواب أمام القضاء الإداري.

ويظهر ذلك من خلال النص عليه في المواضع التالية من قانون الإجراءات المدنية والإدارية:

1) في الكتاب الأول المتعلق بالأحكام المشتركة لجميع الجهات القضائية أشارت إليه ثلاثة مواضع هي:

المادة 27 الواردة ضمن الباب الثاني من هذا الكتاب والتي جاء فيها: ” يمكن للقاضي أن يأمر في الجلسة بحضور الخصوم شخصيا لتقديم توضيحات يراها ضرورية لحل النزاع…”

وكما أشرنا فإن هذه المادة واردة ضمن الكتاب الأول من القانون والمتعلق بالأحكام المشتركة لجميع الجهات القضائية ومن بينها جهات القضاء الإداري.

وكذلك في القسم الخامس من الفصل الثاني من الباب الرابع من نفس الكتاب والمعنون: ” في حضور الخصوم واستجوابهم“.

حيث نصت المادة 98 على أنه: ” يمكن للقاضي في جميع المواد أن يأمر الخصوم أو أحدهم بالحضور شخصيا أمامه…”.

ويلاحظ أن صيغة في جميع المواد مزيلة لأي ليس بحيث تندرج مادة المنازعات الإدارية تحتها.

وأخيرا فإن المادة 107، لم تترك مجالا للشك في هذا الشأن من خلال نص فقرتها الأخيرة والتي جاء فيها: يمكن أن يأمر بمثول الممثل القانوني للشخص المعنوي، سواء كان خاضعا للقانون العام أو الخاص“.

2) في الكتاب الرابع المتعلق بالإجراءات المتبعة أمام الإجراءات القضائية الإدارية، عندما أحال في أحكام الشهادة أمام جهات القضاء الإداري على أحكامها أمام جهات القضاء العادي، بموجب المادة 859، أضاف بموجب المادة 860/2 أنه يجوز سماع أعوان الإدارة، أو طلب حضورهم لتقديم الإيضاحات، وحتى وان لم تفصل المادة في إجراءاته فإن يخضع للأحكام الواردة ضمن الكتاب المتعلق بالأحكام المشتركة أمام جميع الجهات القضائية، كل ما في الأمر أن على القاضي أن يقرر بحنكته كيفية التعامل مع الإدارة كخصم مراعيا اختلافها عن الخصوم العاديين.

وعلى هذا الأساس يمكننا القول أن للقاضي الإداري الجزائري الأمر بإجراء الاستجواب، وفق إجراءات تراعي طبيعة الدعوى الإدارية، وتحترم استقلالية الإدارة عن القضاء.

وهو من خلال هذا الإجراء يساهم بفاعلية في الحد من صعوبات الإثبات التي تعترض المدعي في دعوى الإلغاء، من خلال مساعدته في إثبات ما يدعيه، ويظهر ذلك فيما يلي:

1- إمكانية استخراج الإقرارات من ممثل الإدارة، حيث يمكن للخصوم ومحاميهم طرح الأسئلة بواسطة القاضي بعد انتهاء الاستجواب، كما تتم المواجهة بينهم إذا طلب أحد الأطراف ذلك، وهذا ما نصت عليه المادتين 104 و100 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية.

إضافة إلى ذلك فإن المادة 102 ألزمت الخصوم بأن يجيبوا بأنفسهم على الأسئلة المطروحة عليهم دون قراءة لأي نص مكتوب، وهو ما يتيح للمدعي في ظل

حقه في توجيه أسئلة بواسطة القاضي الحصول على الكثير من المعلومات التي يبني عليها ادعاءاته، أما إذا التزم ممثل الإدارة الصمت فإن ذلك يكون قرينة ضدها.

2- إمكانية إلزام ممثل الإدارة بالحضور، وعدم التزام الصمت، فقد نصت على إلزامية حضور ممثل الإدارة الفقرة الثانية من المادة 107 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية بقولها: “يمكن أيضا أن يأمر بمثول الممثل القانوني للشخص المعنوي، سواء كان خاضعا للقانون العام أو القانون الخاص.

وأشارت المادة 105 إلى تدوين تصريحات الخصوم في محضر ويشار فيه عند الاقتضاء إلى غيابهم أو رفضهم الإدلاء بالتصريحات، وما ذلك ألا تمهيدا لترتيب ما يقتضيه المنطق على التزام الممثل القانوني للإدارة للصمت، أو غيابه.

رابعا: دور المشرع في التخفيف من عبء الإثبات

من خلال تنظيمه لإجراء الادعاء الفرعي بالتزوير.

الوثائق المرفقة بملف الدعوى أو التي يطلبها القاضي أو أحد الخصوم دور مهم في الإثبات، وحتى يمكن اعتمادها يجب أن يكون القاضي والأطراف مطمئنين إلى صحتها ومتى ثار الشك بشأنها سواء من طرف القاضي أو الأطراف وجب التحقق من صحتها، وبعدها يمكن الاستناد إلى حجيتها.

لقد تبنى المشرع الجزائري في قانون الإجراءات المدنية والإدارية سياسة تبسيط الإجراءات وتقليص تكاليف الدعوى، ومراعاة لهذه السياسة أوكل للقاضي الإداري على غرار القاضي المدني النظر في الطعن بالتزوير، بمناسبة نظره في نزاع من اختصاصه.

وأحالت المادة 871 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية إلى أحكام الطعن بالتزوير الواردة ضمن الكتاب الأول والمتعلق بالإجراءات المشتركة أمام جميع الجهات القضائية بقولها:” تطبق الأحكام المتعلقة بالتزوير المنصوص عليها في المواد من 175 إلى 188 من هذا القانون أمام المحاكم الإدارية”، وهكذا نصت المادة 180 من نفس القانون على أنه: “يثار الادعاء الفرعي بالتزوير بمذكرة تودع أمام القاضي الذي ينظر في الدعوى الأصلية”.

لقد ميزت الأحكام المحال إليها من طرف المادة 871 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية بين الحالة التي يكون فيها محل الطعن بالتزوير ورقة عرفية والحالة التي يكون فيها محل التزوير ورقة رسمية، ففي حالة الطعن بالتزوير في ورقة عرفية فإن القاضي حسب نص المادة 175 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية يتبع بشأنه إجراءات مضاهاة الخطوط المنصوص عليها في المادة 165 وما يليها من نفس القانون.

أما إذا كان محل الطعن بالتزوير ورقة رسمية فإن المادة 180 من نفس القانون نصت على وجوب أن يكون هذا الطعن بموجب مذكرة مستقلة، تتضمن بدقة الأوجه التي يستند إليها المدعي، تحت طائلة عدم قبول الادعاء.

ولقد خولت المادة 181 من نفس القانون سلطات واسعة للقاضي إزاء هذا الطعن، إذ يجوز له أن يصرف النظر عنه، متى رأى أن الفصل في الدعوى لا يتوقف على الوثيقة المطعون فيها، حتى لا ينشغل القضاء عن الفصل في الدّعوى مسائل لا علاقة لها بها، أو غير مفيدة للفصل فيها، مما يؤدي إلى إطالة أمد الدعوى.

أما إذا كان الفصل في الدعوى يتوقف عليها فإنه يدعو الخصم الذي قدمها إلى التصريح عما إذا كان يتمسك بها، فإذا أجاب بعدم التمسك بالوثيقة المطعون فيها استبعدت من أدلة الإثبات، وإذا تمسك بها دعاه القاضي إلى إيداع أصلها أو نسخة مطابقة عنها بأمانة الجهة القضائية خلال أجل لا يزيد عن ثمانية أيام، وإلا تم استبعادها.

كما أن للقاضي أن يأمر الموظف المودع لديه أصل هذه الوثيقة بتسليمه إلى أمانة الجهة القضائية، متى كان هذا الأصل مودعا بمحفوظات عمومية.

خامسا: دور المشرع في التخفيف من عبء الإثبات

من خلال تنظيمه لإجراء مضاهاة الخطوط.

في الدعوى الإدارية غالبا ما تكون الوثائق المقدمة للإثبات أوراقا رسمية، غير أنه في أحيان نادرة تثور الإشكالية بشأن أوراق عرفية، خاصة فيما يخص التبليغ من عدمه في القضايا التأديبية.

حددت المادتين 165 و166 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري واللتين أحالت عليها المادة من 862 من نفس القانون الطرق الواجب إتباعها للتحقيق في الوثيقة المطعون عليها بالإنكار، إما بالمضاهاة مع مستندات أخرى أو بسماع الشهود، أو بواسطة خبير.

لقد خول المشرع الجزائري للقاضي أن يصرف النظر عن الوثيقة العرفية المطعون فيها بالتزوير متى رأى أن الدعوى بما تحويه من أوراق ومستندات كافية لاقتناعه؛ حيث أن الغرض من هذا الإجراء اقتناع المحكمة براي ترتاح إليه في حكمها؛ فإذا كان هذا الاقتناع موجودا بدونه فلا لزوم له.

وفي هذا الصدد نصت المادة 165 على أنه: “إذا أنكر أحد الخصوم الخط أو التوقيع المنسوب إليه، أو صرح بعدم الاعتراف بخط أو توقيع الغير، يجوز للقاضي أن يصرف النظر عن ذلك إذا رأى أن هذه الوسيلة غير منتجة في الفصل في النزاع…”.

أما في الحالة العكسية فإنه وحسب نفس المادة، يؤشر القاضي على الوثيقة محل النزاع، ويأمر بإيداع أصلها بأمانة الضبط، كما يأمر بإجراء مضاهاة الخطوط اعتمادا على المستندات أو على شهادة الشهود وعند الاقتضاء بواسطة خبير.

كما أنه وإعمالا لخاصية حرية القاضي بشأن وسائل الإثبات فإن القاضي ليس ملزما بتقرير الخبير، ولا بشهادة الشهود؛ لأنهما من عناصر الإثبات، وأدواته التي تهدف في النهاية إلى إقناع القاضي، فمتى لم يتحقق ذلك ووجد القاضي في ملف الدعوى ما يكفي لتكوين عقيدته، أو رأى أنه من اللازم اللجوء إلى إجراء تحقيق آخر لتحقيق هذا الاقتناع جاز له ذلك.

لقد حددت المادة 167 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية عناصر المقارنة التي يجري القاضي أو الخبير المضاهاة على أساسها، فله أن يأمر الخصوم بتقديم الوثائق التي تسمح له بإجراء المقارنة، وله أيضا أن يأمرهم بكتابة نماذج بإملاء منه، كما حددت له بعض العناصر التي يقبل الاعتماد عليها في المقارنة، وذلك لما تتمتع به من حجية ومصداقية، وهي:

  • التوقيعات التي تتضمنها العقود الرسمية.

  • الخطوط والتوقيعات التي سبق الاعتراف بها.

  • الجزء الذي لم يتم إنكاره من المستند موضوع المضاهاة.

وهكذا فإن المشرع الجزائري أوكل القاضي مهمة تحديد المستندات والعناصر التي يعتمدها في المضاهاة، غير أنه قيد هذه الحرية بوجوب قبوله اعتماد بعض العناصر في المضاهاة وعدم جواز استبعادها، نظرا للاطمئنان إلى صحتها وبالتالي منطقية اعتمادها كمعيار لصحة العناصر المنكرة من عدمها.

وتجدر الإشارة إلى أن المشرع الجزائري في المادة 169 من قانون الإجراءات المدنية أعطى للقاضي سلطة توقيع الغرامة التهديدية على الخصم الذي لم يمتثل للأمر بإحضار المستندات والأصول اللازمة لإجراء عملية المضاهاة.

إن المشرع الجزائري إضافة إلى ذلك خول القاضي بموجب المواد 168، 169، 170، 171، 172، 173 اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لحفظ المستندات وأوراق المضاهاة، وتذليل العقبات والصعوبات التي تعرقل العملية سواء قبل الشروع فيها أو بعدها.

وأخيرا فإنه إذا أثبتت عملية تحقيق الخطوط صحة الوثيقة فإنها تصبح في قوة الوثيقة الرسمية، ولا يجوز بعد ذلك الطعن فيها إلا بالتزوير، أما إذا لم تثبت صحتها لم يجز بعد ذلك لمقدمها التمسك بها.

سادسا: دور المشرع في التخفيف من عبء الإثبات

منذ خلال تنظيمه لإجراء شهادة الشهود.

الشهادة هي إخبار الشخص أمام القضاء بواقعة حدثت من غيره ويترتب عليها حق لغيره. ويعرفها فقهاء الإسلام بأنها إخبار قاطع، وعرفها المالكية بأنها: “إعلام الشاهد الحاكم بشهادته بما يحصل له العلم بما شهد به”.

وتكتسي هذه الوسيلة طابعا استثنائيا نتيجة لسيادة الصفة الكتابية على الإجراءات القضائية الإدارية، ويسبب تفضيل القاضي الإداري اللجوء إلى وسائل التحقيق الأخرى لكونها أقل تعقيدا وتتلاءم أكثر مع مقتضيات السرعة في التحقيق، كما أن الدور الكبير الذي يلعبه إجراء الخبرة في الإثبات جعل البعض يرى أن الخبرة ألغت وسيلة الشهادة عمليا.

إن أهم ميزة لشهادة الشهود أنها تخفف عبء الإثبات على المدعي؛ من حيث دخول أشخاص آخرين يساهمون في الإثبات، ويزودون القاضي من خلال سماعهم بالأقوال المؤيدة لادعاءات المدعي، مما يعني في الأخير مساهمة في تحسن وضعيته.

لقد فصل قانون الإجراءات المدنية والإدارية في الإجراءات المتبعة بشأن وسيلة شهادة الشهود فبين في المادة 150 شروط الوقائع التي يجوز إثباتها بشهادة الشهود وهي أن تكون:

  • بطبيعتها قابلة للإثبات بشهادة الشهود.

  • وأن يكون التحقيق فيها جائزا.

  • منتجة في النزاع.

وتطبيقا للمبادئ العامة المتعلقة بعبء الإثبات يجب أن تكون الواقعة المراد إثباتها متعلقة بالدعوى المتنازع فيها.

فإذا رأى القاضي أن الواقعة محل طلب الإثبات بشهادة الشهود تتوافر فيها جميع الشروط السابقة، تعين عليه أن يحدد في حكمه الصادر بالتحقيق بشهادة الشهود الوقائع المراد إثباتها بهذه الطريقة تحديدا دقيقا، حتى يعلم كل طرف ما هو مكلف بإثباته أو نفيه. (المادة 151) من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري.

وحسب نص المادة 158 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية فإن للقاضي أن يسمع الشهود في جميع الوقائع الواردة في الدعوى والجائز إثباتها بشهادة الشهود، حتى ولو لم تكن واردة في الحكم الآمر بالتحقيق بشهادة الشهود وهذا ما يستفاد من صياغة وألفاظ المادة التي تنص على أنه: “يجوز للقاضي من تلقاء نفسه… أن يطرح على الشاهد الأسئلة التي يراها مقيدة”.

ويملك القاضي الحرية في ترتيب سماع الشهود، فهو يملك أن يسمع شهود المدعى عليه قبل شهود المدعي، كما له أن يعيد سماع الشهود عدة مرات ويواجه بعضهم ببعض، وهذا ما نصت عليه المادة 152/3 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية، فمواجهة الشهود بعضهم ببعض يمكنه من الوصول إلى الحقيقة من خلال إجراء مقابلة بينهم ومواجهتهم بأقوالهم التي سبق وأن أدلوا بها على انفراد، فيتمكن من التأكد من مدى مصداقية وتلقائية تلك الأقوال.

إن الخصم لا يستطيع أن يوجه أسئلة مباشرة إلى الشاهد، بل يكون ذلك بواسطة القاضي الذي يرجع له تقدير مدى صلة هذه الأسئلة بالواقعة محل الشهادة لقد نصت على ذلك المادة 159 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية بقولها: “لا يمكن لأي كان ما عدا القاضي أن يقاطع الشاهد أثناء الإدلاء بشهادته أو يساله مباشرة”، لقد ذهبت المادة 152 من نفس القانون إلى أبعد من ذلك، فللقاضي إذا استشعر أن وجود الخصم أثناء الإدلاء بالشهادة يؤثر على مصداقية وتلقائية الشهادة أن يطلب من الخصم الخروج أثناء سماعها، فنصت على أنه:” يسمع كل شاهد على انفراد في حضور أو غياب الخصوم”.

ويتوجب على القاضي بمقتضى المادة 160 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية تدوين أقوال الشاهد في محضر يتضمن البيانات الآتية:

  • مكان ويوم وساعة سماع الشاهد.

  • حضور أو غياب الخصوم.

  • أسم ولقب ومهنة وموطن الشاهد.

  • أداء اليمين من طرف الشاهد، ودرجة قرابته أو مصاهرته مع الخصوم أو تبعيته لهم.

  • أوجه التجريح المقدمة ضد الشاهد عند الاقتضاء

  • أقوال الشاهد والتنويه بتلاوتها عليه.

ويتحقق القاضي من صدق الشاهد عند الإدلاء بأقواله، ويأخذ في اعتباره سن الشاهد ووظيفته ومركزه الاجتماعي، وكذا علاقته بطرفي الخصومة، وهكذا أوجبت المادة 152 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية على الشاهد أن يعرف باسمه، لقبه ومهنته وسنه وموطنه وعلاقته ودرجة قرابته ومصاهرته أو تبعيته للخصوم. وإن كانت هذه العلاقة أو التبعية ليست سببا لرد الشاهد، إلا أن لها تأثير على قيمة الشهادة.

ولا يمكن للشاهد الإدلاء بشهادته حسب نص المادة 159 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية قبل حلفه اليمين بأن يقول الحقيقة وإلا كانت شهادته قابلة للإبطال. ويؤدي الشاهد شهادته شفاهة ودون الاستعانة بأي نص مكتوب.

سابعا: دور المشرع في التخفيف من عبء الإثبات

من خلال تنظيمه لدور محافظ الدولة:

نظم قانون الإجراءات المدنية والإدارية دور محافظ الدولة في المواد من 897 إلى 900، ويبدأ دور محافظ الدولة عندما يسلمه المستشار المقرر الملف الذي يحتوي عرائض ومذكرات الأطراف والوثائق المرفقة بها، وتقرير القاضي المقرر الذي يكون قد درس الملف، والذي يتولى دراسة الملف ثانية، ليقدم التماساته في شكل تقرير مكتوب وفي أجل شهر من استلام الملف من القاضي المقرر.

ويجب على محافظ الدولة إعادة الملف والوثائق المرفقة به إلى القاضي المقرر بمجرد انقضاء الأجل المذكور، وهذا ما نصت عليه المادة 897 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية.

إن الدور الإيجابي لمحافظ الدولة في الإجراءات يتجسد في مضمون هذا التقرير، الذي حرص المشرع على تحديد عناصره ومواصفاته، بحيث لا يجوز له أن يختزل طلباته في عبارات موجزة كتفويض الرأي إلى المحكمة، أو طلب تطبيق القانون، بل ألزمه المشرع بأن يتضمن الوقائع والقانون والأوجه المثارة ورأيه حول كل مسألة مطروحة والحلول المقترحة، للفصل في النزاع مع اختتامه بطلبات محددة.

كما يقدم محافظ الدولة ملاحظاته الشفوية خلال الجلسة حول كل قضية قبل غلق باب المرافعة (المادة 899)، ويجب أخيرا الإشارة في الأحكام الإدارية بإيجاز إلى طلبات محافظ الدولة وملاحظاته والرد عليها (المادة (900)

إن دور مفوض الدولة فعال جدا وذلك من خلال تقريره المكتوب الذي يقدمه، فأغلب التقارير التي كان مفوضو الحكومة في مجلس الدولة الفرنسي ولا زالوا يعدونها تتضمن مبادئ قانونية هامة يتبناها مجلس الدولة في العديد من أحكامه، ويتولاها الفقه بالتحليل والشرح والنقد.

ومما ينبئ عن المكانة العظيمة لدور مفوضي الدولة في فرنسا أن تقاريرهم كثيرا ما تنشر في مجموعات الأحكام، وفي المجلات العلمية، بل إن تقاريرهم أقوى أثرا من الأحكام ذاتها في تطوير القانون الإداري.

لقد كان هذا الدور محلا للنقاش أمام المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في قضية السيدة KRESS إذ اشتكت السيدة KRESS من عدم تمكينها من الاطلاع قبل الجلسة على استنتاجات مفوض الحكومة، ومن عدم تمكينها من الرد عليها، كما أنها نازعت في أن مفوض الحكومة الذي كان قد استنتج رفض دعواها حضر في مداولة المحكمة، وهذا مناقض لمقتضيات المحاكمة العادلة وفقا لأحكام المادة 6 من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان.

وقد استبعدت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان بالإجماع الحجة المستندة إلى الاعتبارات الأولى، بينما أدانت مشاركة مفوض الحكومة في المداولة؛ استنادا لنظرية المظاهر والتي ترجع في الأصل إلى قول القانوني البريطاني الشهير لورد هيوارت: “لا يكفي فقط وجوب تحقيق العدالة، بل الواجب أيضا رؤية العدالة وهي تتحقق”.

Justice not only be done; it must also be seen to be done.

لقد واصلت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان أحكامها في هذا الاتجاه، وأصدرت حكما بنفس المضمون فيما يخص مشاركة مفوض الحكومة في مداولات المحاكم الإدارية الابتدائية ومحاكم الاستئناف الإدارية، بمناسبة حكمها في قضية MmeLoyen الذي أزالت فيه كل غموض بشأن التفرقة الدقيقة بين حضور مفوض الحكومة وبين مشاركته في المداولات.

وفي سنة 2006 وبموجب مرسوم 1 أوت 2006 عدل قانون القضاء الإداري الفرنسي، وأصبح حضور مفوض الحكومة لمداولات المحاكم الإدارية الابتدائية ومحاكم الاستئناف الإدارية محظورا.

أما عن حضوره لمداولات مجلس الدولة فقد أضحى ذلك مرتبطا بمدى اعتراض أحد الأطراف على ذلك من عدمه، وهو ما نصت عليه المادة R733 من قانون القضاء الإداري التي تنص: “يحضر مفوض الحكومة المداولة أمام مجلس الدولة مالم يطلب أحد الأطراف عكس ذلك، وهو لا يشارك فيها”.

خاتمة الباب الأول:

نظرا لخصوصيات النزاع الإداري، وما يكتنف العلاقة بين أطرافه من اختلال، ونظرا للطبيعة الموضوعية لدعوى الإلغاء فقد اعتمد القضاء الإداري النظام الحر في الإثبات، مع مراعاة بعض القيود التي تقتضيها المبادئ العامة التي تحكم القضاء، ومنها حقوق الدفاع وواجب الحياد، ولقد ساعد اعتناق هذا النظام قاضي الإلغاء على القيام بدور مهم في إعادة تصحيح الاختلال الحاصل بين أطراف الخصومة الإدارية من حيث الإثبات.

ونظرا للموقف الصعب الذي يقفه المدعي في دعوى الإلغاء فقد ثار جدل فقهي حول مدى وجود قاعدة البينة على من المدعي أمام القضاء الإداري عموما وقاضي الإلغاء خصوصا.

فالإدارة الحائزة للوثائق والمستندات اللازمة للإثبات تشغل في جميع الأحوال مركز المدعى عليه، بسب قرينة سلامة القرارات الإدارية وامتياز الأسبقية والتنفيذ المباشر، بينما يشغل الفرد مركز المدعي المطالب بالإثبات في جميع الأحوال، مع افتقاره لأدلته اللازمة، وفي ظل هذا الوضع لا يماري أحد بأنه من غير العدل تطبيق هذه القاعدة بالشكل الذي تطبق فيه أمام القاضي العادي.

ومع وجاهة أسانيد الفقه القائل بعدم وجود قاعدة البينة على المدعي أمام القضاء الإداري، وبأن القاضي هو المتكفل بتوزيع عبء الإثبات بين أطراف الخصومة الإدارية، إلا أن صعوبة تحديد معيار يوزع القاضي على أساسه هذا العبء، جعلت من بعض الفقه يرى أن القاعدة مطبقة أمام القاضي الإداري لكن مع مراعاة خصوصية النزاع الإداري وما يعتريه من الاختلال بين مراكز أطرافه من حيث القوة.

والحقيقة أن الاختلاف بين الفريقين يؤدي إلى نفس النتائج؛ فالاتفاق منعقد على وجود خصوصية في تطبيق قاعدة “البينة على من ادعى” أمام القاضي الإداري، إذ أنها تتكيف مع طبيعة النزاع الإداري ويظهر ذلك من خلال الصفة الإيجابية للإجراءات القضائية الإدارية، والتي تعتمد على دور القاضي الإداري الذي يقدر مدى تدخله في الإثبات وحدود هذا التدخل حسب كل قضية وفي ضوء ما يكتنفها من ظروف تتعلق بسلوك الإدارة ومدى تعاونها، ومدى ممارستها لسلطة تقديرية في إصدار القرار، ومدى توافر مستندات إدارية كأدلة إثبات، والضابط هو تحقيق العدالة وحماية المشروعية.

ولقد عمل المشرع سواء في الجزائر أو في فرنسا على التخفيف من عدم التوازن الحاصل بين مراكز أطراف دعوى الإلغاء في مجال الإثبات؛ فعلى مستوى ما يطلق عليه الإجراءات الإدارية غير القضائية، أقر المشرع بحق المواطن في الاطلاع على الوثائق الإدارية، ووجوبية تسبيب القرارات الإدارية الفردية الضارة بالمواطن، وإلزام الإدارة ببعض الإجراءات والشروط قبل اتخاذ قراراتها مثل احترام مبدأ الوجاهية في القرارات الإدارية ذات الطابع العقابي.

أما على مستوى الإجراءات الإدارية القضائية فقد عمل المشرع على تقنين أكثر للإجراءات القضائية الإدارية، والنص من خلالها على كيفية تنظيم وإدارة الإثبات أمام جهات القضاء الإداري، بحيث أثرت تأثيرا بالغا ولعبت دورا كبيرا في إعادة التوازن المفقود بين طرفي النزاع في دعوى الإلغاء.

ورغم أهمية هذه التدخلات التشريعية في تخفيف عبء الإثبات على المدعي، إلا أن دور قاضي الإلغاء على مستوى إجراءات الإثبات وعلى مستوى موضوعه لا يمكن الاستغناء عنه من أجل هذه المهمة بل يجب الحرص عليه وتعزيزه أكثر، وهذا هو موضوع الباب الثاني من هذ البحث.

البــــــــــــــــــــــاب الثــــــــــــــاني

مساهمة قاضي الإلغاء

في

التخفيف من عبء الإثبات

الباب الثاني: مساهمة قاضي الإلغاء

في التخفيف من عبء الإثبات

لقاضي الإلغاء دوز بالغ الأهمية في تخفيف عبء الإثبات على المدعي؛ ذلك أنه وإن كانت السلطة التشريعية تضع القانون والسلطة التنفيذية تنقذه، فالسلطة القضائية هي التي تحدد الكيفية الصحيحة لتطبيقه، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الدور الإنشائي المعترف به للقاضي الإداري يحتم عليه أن يؤدي دورا إيجابيا في إعادة التوازن إلى الدعوى مستلهما في ذلك مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، وهذا من صميم دوره وليس خروجا استثنائيا عليه.

يعبر Bernard PACTEAU عن هذا الدور القاضي الإداري في إدارة الإثبات بقوله: “القاضي يجب أن يكون في قلب (صميم) إدارة الإثبات، من خلال توزيعه عبء -و بتعبير أدق أعباء – الإثبات بين الأطراف، ووظيفته هذه وإن كانت لها حدود فهو ليس بمثابة قائد اللعبة، إلا أن له دور فاعل، فدوره الأول يتمثل في سلطاته في التحقيق، التي يساهم من خلالها مباشرة في إدارة الإثبات، وفي المقام الثاني من خلال المراقبة، وأخيرا من خلال تكوين اقتناعه”.

إن الصعوبات التي يعاني منها المدعي في دعوى الإلغاء وتنوعها، والتي يعجز المشرع عن القضاء عليها – نظرا لطبيعة وظيفته- تطلبت من قاضي الإلغاء وهو الملامس مباشرة لكل قضية على حدة أن يقوم بتفكيك هذه الصعوبات والحد منها، سواء على مستوى إجراءات الإثبات أو على مستوى موضوعه.

نحاول في هذا الباب التعرف على مساهمة قاضي الإلغاء في التخفيف من عبء الإثبات على مستوى إجراءات دعوى الإلغاء في الفصل الأول وعلى مستوى موضوع دعوى الإلغاء في الفصل الثاني.

الفصل الأول: مساهمة قاضي الإلغاء في التخفيف من عبء الإثبات

على مستوى إجراءات دعوى الإلغاء.

صدرت في فرنسا العديد من النصوص القانونية التي نظمت إجراءات التقاضي الإدارية، ونظرا لاستقلالية الإجراءات الإدارية في فرنسا عن الإجراءات المدنية فالقاضي الإداري في فرنسا لا يلجأ إلى تطبيق الإجراءات المدنية إلا بصفتها نصوصا عامة يلجأ إليها كشريعة عامة للإجراءات في حالة عدم وجود نص خاص في قانون الإجراءات الإدارية.

وفي مصر يطبق القاضي الإداري بعض النصوص الإجرائية التي جاء بها قانون مجلس الدولة، وما لم يرد فيه نص يطبق بشأنه قانون الإجراءات المدنية وقانون الإثبات بما لا يتعارض مع طبيعة الدعوى الإدارية.

أما في الجزائر فإن القاضي الإداري، ظل يطبق قانون الإجراءات المدنية الصادر بموجب الأمر رقم 66/154 المؤرخ في 8جوان 1966 والذي تعرض لعدة تعديلات إلى غاية سنة 2009؛ وحتى بعد اعتماد الازدواجية القضائية فإن القانون العضوي رقم 98/01 المؤرخ في 30 ماي 1998 المتعلق باختصاصات مجلس الدولة وتنظيمه وعمله نص على استمرار العمل بأحكام قانون الإجراءات المدنية في مادته الأربعين (40)، كما أن قانون الإجراءات المدنية والإدارية رقم 08/ 09 المؤرخ في 25 فيفري 2008 نص في مادته 1062 على أن أحكامه تبدأ في السريان بعد سنة من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية أي أنه يسري ابتداء من 25 أفريل 2009.

لقد نص المشرع الجزائري في المواد من 815 إلى 832 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية على إجراءات رفع الدعوى وآجالها وفي المواد من 838 إلى 876 على تحقيق الدعوى ووسائله، وفي المواد من 884 إلى 887 على سير الجلسة وفي المواد 897 إلى 900 على دور محافظ الدولة، ولكنه أحال في الكثير من المواد المتعلقة بالتحقيق وخاصة في وسائله إلى أحكام الكتاب الأول تحت عنوان الأحكام المشتركة لجميع الجهات القضائية، وهذا لا يعني أن سلطات القاضي الإداري في هذا الشأن ضيقة ومتطابقة مع سلطات القاضي العادي.

فمن جهة فإن الأحكام الواردة ضمن الكتاب الأول انطوت على دور كبير للقاضي سواء كان عاديا أو إداريا، وهذا التجديد من أهم ما يحسب للقانون الجديد، ومن جهة أخرى فإن المواد المتعلقة بجهات القضاء الإداري نصت على أحكام وسلطات لم تخول لجهات القضاء العادي، وذلك مراعاة لطبيعة الدعوى الإدارية، ويتعلق الأمر بالمادة 860 التي نصت على جواز سماع أعوان الإدارة، أو طلب حضورهم لتقديم إيضاحات، والمادة 864 التي خولت لتشكيلة الحكم أن تقرر إجراء تسجيل صوتي أو سمعي أو بصري لكل عمليات التحقيق أو جزء منها. وأخيرا فإن المادة 863 خولت القاضي الإداري الأمر بإجراء أي تحقيق وإتباع أي وسيلة من وسائل الإثبات التي يجود بها عليه إبداعه وفكره يراها مجدية؛ حتى ولو لم يكن منصوصا عليها ضمن هذا القانون، وذلك تأكيدا لطبيعة الإثبات الإداري الذي ينسب إلى النظام الحر في الإثبات.

وهذا لأن التحقيق في الدعوى الإدارية يقوم أساسا على تكوين اقتناع القاضي الإداري للحل الواجب اتخاذه عند الفصل في النزاع، ولذا فإن القاضي الإداري يتمتع بسلطة واسعة في التعامل مع إجراءات التحقيق.

ورغم أن المشرع الجزائري خطا خطوة جريئة من أجل تحقيق استقلال قواعد الإجراءات القضائية الإدارية عن قواعد الإجراءات القضائية المدنية من خلال إفراده كتاب كامل للإجراءات المتبعة أمام هيئات القضاء الإداري في القانون الجديد وهو الكتاب الرابع، رغم ذلك فإن هذه النصوص الخاصة تبقى غير كافية، ولذا فإنه يبقى مطلوبا من القاضي الإداري استخلاص المبادئ العامة للإجراءات القضائية الإدارية بما يتلاءم وطبيعة الدعوى الإدارية، مستهدفا في مباشرته لدوره الفعال في الدعوى الإدارية تحقيق أكبر قدر من الضمانات والرعاية للمتقاضين، ومراعيا الموقف المختلف والمراكز غير المتوازنة بين أطراف الدعوى الإدارية وعاملا على تحقيق التوازن العادل بينهما.

إن دور قاضي الإلغاء الذي يؤثر على إقامة الدليل وعلى تنظيم عبء الإثبات ويؤدي إلى تخفيفه يتمثل على مستوى الإجراءات في إشرافه على إجراءات الخصومة تارة (المبحث الأول) وتارة في إنتاج الأدلة (المبحث الثاني). وتارة أخرى في تقديرها (المبحث الثالث).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الأول: إشراف قاضي الإلغاء

على إجراءات الخصومة.

يمارس قاضي الإلغاء هذا الدور من خلال سلطاته الواسعة التي يتمتع بها أثناء تحضير الدعوى للفصل فيها، ويقصد بتحضير الدعرى مجموعة الوسائل التي تتخذ اعتبارا من تاريخ إيداع عريضة الدعوى بقصد تهيئتها للفصل فيها إلى غاية الإعلان عن اختتام التحقيق، والذي يخضع لإرادة القاضي وتقديره لمدى صلاحية الدعوى للبث فيها. وتعتبر عملية تحضير الدعوى الوعاء الذي تتجمع فيه عناصر الإثبات، ويكشف خلالها دور القاضي عن اتجاهاته بخصوص تنظيم عبء الإثبات ومدى تحمل كل طرف له.

وفي هذا الإطار يقوم قاضي الإلغاء بالإشراف على العديد من الإجراءات التي تضمن حقوق الدفاع، كما له سلطات واسعة أيضا في مباشرة وسائل الإثبات المختلفة أثناء تحضير الدعوى للفصل فيها، ونظرا لتعاظم هذا الدور ذهب البعض إلى القول بأن القاضي في هذا الإطار ينوب عن المشرع في مباشرة وظيفته أكثر من مجرد اقتصاره على تطبيق القانون.

غير أنه ومهما قيل عن هذا الدور فإنه يتعين ألا يصطدم بمبدأ الحياد؛ فالقاضي الإداري شأنه شأن القاضي العادي لا يتحمل عبء الإثبات إعمالا لمبدأ أن المنازعة ملك لأطرافها أصحاب المصلحة فيها. ولهذا وجب أن يقتصر هذا الدور على توجيه الإجراءات وتيسير مهمة الطرفين والمساعدة في التوصل إلى الحقيقة؛ الأمر الذي يجعل من حياد القاضي ذو معنى إيجابي.

كما ينبغي مراعاة المبادئ العامة في التقاضي والتي يجب احترامها ضمانا للوصول إلى الحقيقة بغض النظر عن أطرف الخصومة، ويتعلق الأمر خصوصا بضمان حقوق الدفاع وعلى رأسها مبدأ الوجاهية في الإجراءات.

وفي سبيل الإحاطة بطبيعة هذا الدور، ومظاهره والقيود الواردة عليه يجب التعرض أولا إلى تحضير قاضي الإلغاء للدعوى الإدارية (المطلب الأول) وثانيا إلى سلطة قاضي الإلغاء الواسعة بشأن وسائل الإثبات (المطلب الثاني)، وأخيرا تقيد إشراف قاضي الإلغاء على إجراءات الخصومة باحترام مبدأ الوجاهية (المطلب الثالث).

المطلب الأول: تحضير قاضي الإلغاء للدعوى.

تمثل مرحلة تحضير الدعوى مجالا مهما لممارسة قاضي الإلغاء دورا إيجابيا يضمن موازنة بين أطراف دعوى الإلغاء من حيث أعباء الإثبات، وتشمل مرحلة التحضير كل الإجراءات التي تستهدف توفير المستندات والأدلة اللازمة والمقبولة للحكم في النزاع، ويلتزم القاضي كقاعدة عامة بالتحضير الكامل للدعوى للفصل، ولا يمكنه إصدار حكم في قضية دون التحقيق فيها؛ واستثناء قد يجيز المشرع عدم التحضير لوضوح الحل، مثلما نصت عليه المادة 847 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية بقولها: “يجوز لرئيس المحكمة الإدارية أن يقرر بألا وجه للتحقيق في القضية عندما يتبين له من العريضة أن حلها مؤكد…”، كما هو الشأن لو كان من الواضح أن الحكم هو عدم الاختصاص أو أن العريضة من الواضح أنها غير مقبولة.

إن أهم ميزة يتميز بها دور القاضي في تحضير الدعوى كونه إلزاميا (الفرع الأول) ويساهم قاضي الإلغاء في الإثبات في مرحلة التحضير من خلال إشرافه على تبادل المذكرات وتحديد الآجال (الفرع الثاني)، ويستند إلزام قاضي الإلغاء بتحضير الدعوى الإدارية ولعب دور إيجابي فيها إلى عدة اعتبارات تتعلق في مجموعها بطبيعة وخصائص الدعوى الإدارية عموما، ودعوى الإلغاء خصوصا (الفرع الثالث).

الفرع الأول: إلزامية التحضير في الدعوى الإدارية.

ليس للقاضي الحرية المطلقة في إجراء التحضير في حالات دون أخرى، ولكن يلتزم بإجرائه كأصل عام كنتيجة مترتبة عن التزامه بالفصل في الدعوى عن دراية كاملة ، وتستشف هذه الإلزامية في الحالات العادية من خلال صياغة المواد المنظمة للتحقيق، ومن خلال صيغة الإعفاء من التحقيق في الحالات التي نصت عليها المادة 847، والتي تعني من جهة أنه بمفهوم المخالفة في غير هذه الحالات لا يجوز الاستغناء عن التحقيق. ومن جهة ثانية تستشف من العنوان الفرعي الذي جاءت تحته المادة 847 وهو الإعفاء من التحقيق والإعفاء لا يكون إلا من واجب.

لقد اعتبر مجلس الدولة الفرنسي مبدأ إلزامية التحقيق في الدعوى إجراء جوهريا، وألزم المحاكم الإدارية باحترامه. والهدف من إلزامية التحضير في الدعوى الإدارية ليس الإسراع في الفصل في الدعوى فحسب، ولكن إلى جانب ذلك تهدف إلى العمل على تحقيق التوازن العادل بين طرفي الدعوى. من خلال الدور الذي يمارسه القاضي في إعادة التوازن بين أطراف الدعوى أثناء تحضيرها.

وفي فرنسا بالنسبة للمحاكم الإدارية والمحاكم الاستئنافية الإدارية نصت المادتان (.R . 611 – 9 C . I . A ) و (.R . 611 – 16 C . J . A) تودع العريضة الافتتاحية لدى كتابة ضبط الجهة القضائية وتسجل، ومباشرة بعد تسجيل العريضة الافتتاحية أمام كتابة الضبط فإن رئيس المحكمة يعين مقررا يحدد -تحت سلطة رئيس تشكيلة الحكم وحسب ظروف القضية- أجلا للأطراف لإيداع مذكراتهم، ويمكنه أن يطلب منهم تحت طائلة مبدأ الوجاهية تقديم كل الوثائق التي يراها مفيد للوصول إلى حل للنزاع، ويحاول كل طرف إثبات ادعاءاته عن طريق مختلف الأدلة التي يقدمها، ويخضع تقديم المذكرات إلى آجال، كما يمكن للقاضي المقرر أن يأمر بما يراه مفيدا في حل النزاع من إجراءات التحقيق، ويمكن له النطق باختتام التحقيق بعد أن يرى أن القضية أضحت جاهزة للتداول فيها .

وفي مجلس الدولة تحول العريضة من قبل رئيس قسم المنازعات إلى إحدى الغرف المختصة بالتحقيق، ليقوم رئيس الغرفة بتعيين مستشار مقرر يقترح مختلف التدابير اللازمة للتحقيق حسب نص المادة (. R. 611-20 C. J. A) ، غير أن لرئيس قسم المنازعات أن يوكل مهمة التحقيق إلى قسم المنازعات في بعض الدعاوى الهامة التي تثير مسائل قانونية جديدة – وليس لمفوض الحكومة سواء في مجلس الدولة أو أمام المحاكم الإدارية القيام بدور أصيل في تحضير الدعوى، حيث يبدأ في إعداد تقريره بعد تسلم الملف كاملا مستوفيا.

وفي الجزائر يودع المدعي عرضيته قلم كتاب الجهة القضائية مقابل إيصال يثبت دفع رسم القضية، ويحدد رقمها (المادة 823)، وتودع العريضة مع نسخ منها بعدد الخصوم ويرفق معها القرار موضوع الطعن (المادة 819).

ويعين رئيس المحكمة الإدارية التشكيلة التي يؤول إليها الفصل في الدعوى بمجرد قيد عريضة افتتاح الدعوى بأمانة الضبط (المادة 844)، ويعين رئيس تشكيلة الحكم القاضي المقرر الذي يحدد -بناء على ظروف القضية- الأجل الممنوح للخصوم من أجل تقديم المذكرات الإضافية والملاحظات وأوجه الدفاع والردود، ويجوز له أن يطلب من الخصوم أي مستند أو أية وثيقة تفيد في فض النزاع (844).

ويشار في تبليغ العرائض والمذكرات إلى أنه في حالة عدم مراعاة الأجل المحدد من طرف القاضي لتقديم مذكرات الرد يمكن اختتام التحقيق دون إشعار مسبق (المادة (840).

وإذا رأى رئيس تشكيلة الحكم أن الحكم يمكن أن يكون مؤسسا على وجه مثار تلقائيا ، يعلم الخصوم قبل جلسة الحكم بهذا الوجه، ويحدد الأجل الذي يمكن فيه تقديم ملاحظاتهم على الوجه المثار دون خرق آجال اختتام التحقيق (المادة843)، كما يجوز له أن يقزز بألا وجه للتحقيق في القضية عندما يتبين له من العريضة أن حلها مؤكد، ويرسل الملف إلى محافظ الدولة لتقديم التماساته (المادة 847)، وعندما تكون القضية مهيأة للجلسة، أو عندما تقتضي القيام بتحقيق يرسل الملف إلى محافظ الدولة لتقديم التماساته بعد دراسته من قبل القاضي المقرر ( المادة.(846

وعندما تكون القضية مهيأة للفصل فيها يحدد رئيس تشكيلة الحكم تاريخ اختتام التحقيق بموجب أمر غير قابل لأي طعن (المادة852)، ويبلغ الأمر إلى جميع الخصوم برسالة مضمنة مع إشعار بالاستلام أو بأي وسيلة أخرى في أجل لا يقل عن خمسة عشر يوما قبل تاريخ الاختتام المحدد في الأمر (المادة852).

ويحيل القاضي المقرر وجوبا ملف القضية مرفقا بالتقرير والوثائق الملحقة به إلى محافظ الدولة، لتقديم تقريره المكتوب في أجل شهر واحد من تاريخ استلامه الملف، ويجب على محافظ الدولة إعادة الملف والوثائق المرفقة به إلى القاضي المقرر بمجرد انقضاء الأجل المذكور (المادة 897).

أما في مصر فوفقا للمادة 27 من قانون مجلس الدولة وخلافا لما هو عليه الحال في الجزائر وفرنسا يتم تحضير الدعوى أساسا بمعرفة هيئة مفوضي الدولة التي تشكل فرعا مستقلا للقسم القضائي بمجلس الدولة، حيث تتولى تهيئة الدعوى للفصل فيها، ولمفوض الدولة في سبيل ذلك الاتصال بالجهات الحكومية ذات الشأن للحصول على ما يكون لازما من بيانات وأوراق، وأن يأمر باستدعاء ذوي الشأن لسؤالهم عن الوقائع التي يرى لزوم تحقيقها، أو بإدخال طرف ثالث في الدعوى، أو تكليف ذوي الشأن بتقديم مذكرات أو مستندات تكميلية، أو غير ذلك من الإجراءات، وهو ملزم بإيداع تقرير مكتوب بالرأي القانوني على الوجه القانوني الذي نظمته نصوص قانون مجلس الدولة.

الفرع الثاني: إشراف قاضي الإلغاء على تبادل المذكرات وتحديد الآجال.

تبعا لخاصية الكتابية التي تتميز بها الإجراءات الإدارية كان لزاما أن تتم مرافعة الخصوم أمام قاضي الإلغاء كتابة، فعلى الرغم من أن الصفة الإيجابية للإجراءات الإدارية تخول للقاضي الهيمنة على إجراءات الإثبات في الدعوى الإدارية، إلا أن تحضير القاضي لتلك الدعوى يتعين أن يتم في ضوء الخصائص العامة لإجراءات القضاء الإداري والتي تتسم بالصفة الكتابية، حيث يتعين بموجبها إثبات الوقائع والملاحظات والبيانات في أوراق تودع بالملف، الأمر الذي يؤدي إلى الاعتماد على العناصر الكتابية بصفة أساسية.

حيث تناسب الصفة الكتابية لعناصر الإثبات مبدأ وجاهية الإجراءات الذي يمثل أصلا عاما في التقاضي بصفة عامة، والذي بموجبه يتم الفصل في الدعوى على أساس ما قدم فيها من أوراق ومستندات كانت تحت نظر طرفيها، وكان بوسعهم الاطلاع عليها ومناقشتها.

وفي هذا الإطار ينبغي على المدعى عليه الرد على عريضة المدعي كتابة بواسطة مذكرة مكتوبة يودعها أمام لدى كتابة ضبط الجهة القضائية، وتكمن أهمية المذكرة الجوابية في كون الوثائق المكتوبة هي أهم أنواع الأدلة المعتبرة في النزاع الإداري وعليها المدار عادة في الإثبات.

ويلعب القاضي المقرر دورا مهما في توجيه الدعوى أثناء مرحلة تحضير الدعوى من خلال إشرافه على تبادل المذكرات وتحديد أجال ذلك للحيلولة دون استعمال الإجراءات في عرقلة العدالة من جهة ومن خلال دعوته لأطراف الدعوى إلى تصحيح ما يشوب العريضة من نقص لتجنب القضاء بعدم القبول إذا كان هذا النقص لا يمس بأصل النزاع.

ففيما يتعلق بإشراف القاضي المقرر على تبادل المذكرات وتحديد آجال ذلك فإن للمذكرات الجوابية -في حال إيداعها- أهمية قصوى أيضا من حيث أنها تلزم القاضي بعدم الحكم دون سماع جميع الخصوم، وتكفل لكل خصم الدفاع عن مصالحه في مواجهة الخصم الآخر، كما أنها تسمح للقاضي الإداري بإجراء رقابته على الأعمال الإدارية غير المشروعة بكل موضوعية، ولهذه المذكرات أثر بالغ الأهمية أيضا في حال غيابها نظرا للنتائج المترتبة عن ذلك.

وفي هذا الصدد يقول الدكتور مصطفى كمال وصفي: “تعتبر الدعوى الإدارية مستعجلة بطبيعتها بسبب ما يحيط بها من ظروف، فالإدارة خصم قوي يتمتع بامتيازات قاهرة، ومن الممكن أن تطغي بوظيفتها الإدارية وهي في ذاتها تخضع لمطالب لا تحتمل التأخير، والفرد من ناحية أخرى طرف ضعيف، يتعرض لهذا الضغط الشديد الذي قد يضعه في أوضاع لا تحتمل، وهذا فضلا عما يتطلبه القانون الإداري من استقرار المراكز القانونية وحسمها، وهي مراكز متحركة سريعة وحاسمة”.

لقد حرص المشرع الجزائري على أن يكون أجل إيداع المذكرات في مدة محددة يجب أن لا تطول حتى لا تعطل سير إجراءات الدعوي، و منعا للخصوم من المماطلة وحثا لهم على الإسراع في تنفيذ الإجراءات ومن أجل الوصول إلى حل النزاعات في أقصر وقت ممكن تجنبا لتراكم القضايا، وإلى هذا كانت ترمي المادة 03 من قانون الإجراءات المدنية والادارية التي نصت على وجوب الفصل في النزاعات في مدة معقولة.

والقاضي المقرر حين يبلغ العريضة للمدعى عليه ويمنحه أجلا لإيداع مذكرته يكون أمام أمرين: إما أن يتلقى مذكرة جوابية فيدرسها ويبلغها للمدعي ويقرر إن كان الرد كافيا؛ وبالتالي يعكف على استخلاص النتائج ووضع تصور للحلول وإعداد تقريره، وإما أن يقرر عدم كفاية الرد فيواصل اتصالاته بالأطراف من أجل المزيد من الاستقراء والبحث، وأما أن لا يتلقى هذه المذكرة الجوابية على الإطلاق؛ فهل يحكم لصالح المدعي؟ مع العلم أنه في حالة عدم مراعاة الأجل المحدد من طرف القاضي لتقديم مذكرات الرد يمكن اختتام التحقيق دون إشعار مسبق (المادة 840 ق. إ.م.إ.).

لقد نص قانون الإجراءات المدنية والإدارية على أنه يجوز لرئيس تشكيلة الحكم أن يوجه إعذارا برسالة مضمنة مع الإشعار بالاستلام إلى الخصم الذي لم يحترم الأجل الممنوح له لتقديم مذكرة أو ملاحظات، كما يجوز منح أجل جديد وأخير في حالة القوة القاهرة أو الحادث الفجائي (المادة 849 ق.م.إ.)، كما نصت المادة 851 من نفس القانون على أنه إذا لم يقدم المدعى عليه -رغم إعذاره- أية مذكرة يعتبر قابلا بالوقائع الواردة في العريضة (المادة 851 ق إ.م.إ.).

إن هذا النص يمثل حدا لتماطل الإدارة والذي يواجه بكثرة التأجيلات التي تؤثر سلبا على حقوق المدعي من جهة، وتتيح لها من جهة أخرى ترتيب المحيط الإداري على نحو يوحي بسلامة القرار المطعون فيه، والذي صدر في ظروف مغايرة.

غير أنه يجب الانتباه إلى أن الجزاء الذي رتبته المادة 851 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية هو اعتبار المدعى عليه – وهو الإدارة في دعوى الإلغاء- قابلا بالوقائع الواردة في العريضة؛ وبالتالي يفقد حقه في المنازعة في صحتها، وهذا لا يعني الحكم في جميع الحالات لصالح المدعي كما قد يتبادر للذهن، فعلى القاضي إذا اعتبار الوقائع المدعى بها ثابتة، ثم الفصل في الدعوى على أساس هذه الوقائع والتي قد لا تؤدي قانونا إلى إجابة المدعي إلى طلباته.

إن أحكام القضاء الإداري الجزائري السابقة على صدور هذا القانون، ثم سلم للمدعي بما ادعاه لمجرد عدم رد الإدارة، بل يمكن رفض دعواه على أساس عدم الجدية أو عدم التأسيس أو لأي أسباب أخرى. كما يمكن أن يحكم لصالحه ولكن ليس بسبب عدم إيداع الإدارة لمذكرتها الجوابية وإنما لتمكن المدعي من إثبات ما يدّعيه.

وفي فرنسا يتطابق الحل الذي جاءت به المادة (R.612 C.J.A.) مع الحل الذي جاءت به المادة 851 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري، غير أن تطبيق هذه المادة كان محلا لاجتهاد مجلس الدولة الفرنسي الذي قرر بأن مقتضى المادة أن الوقائع وحدها تكون موضوعا لإقرار وقبول المدعى عليه، أما المسائل القانونية التي تضمنتها العريضة فإنها تكون خاضعة للفحص والمناقشة، وتفصل فيها المحكمة وفقا لمبدأ الوجاهية، كما أن هذا الإقرار الضمني من قبل المدعى عليه بالوقائع لا يعفي القاضي من التأكد مما إذا كانت الوقائع التي عرضها المدّعي لا تدحضها الوثائق المرفقة.

كما قضى مجلس الدولة الفرنسي أنه في غياب أي نص مخالف، فإن المدعى عليه لا يعتبر مقرا بالوقائع إلا إذا لم يقدم دفاعه قبل اختتام التحقيق، كما أنه لا يوجد ما يحول دون أن ينازع استئنافا في صحة الوقائع ذاتها التي أقر بها بداية.

أما فيما يتعلق بدور القاضي المقرر من خلال دعوته المدعي إلى تصحيح ما يشوب العريضة من نقص واستكمالها ضمن المواعيد دون القضاء بعدم القبول مباشرة، فهذا ما نصت عليه المادة 848 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية بقولها: “عندما تكون العريضة مشوية بعيب يرتب عدم القبول، وتكون قابلة للتصحيح بعد فوات الأجل المنصوص عليه في المادة 829 أعلاه، لا يجوز للمحكمة الإدارية أن ترفض هذه الطلبات واثارة عدم القبول التلقائي، إلا بعد دعوة المعنيين إلى تصحيحها”.

ويهدف هذا الدور الإيجابي من القاضي المقرر إلى تفادي التشديد في بعض الشروط الشكلية التي لا تتعلق بالنظام العام والتي قد يؤدي عدم استيفائها أو إهمال ذلك إلى رفض الدعوى من قبل القاضي وبالتالي يحول دون بسط رقابته على عمل غير مشروع بسبب إهمال شكليات غير جوهرية.

وفي هذا الصدد قضى مجلس الدولة الفرنسي أنه ليس للمحكمة الإدارية أن ترفض الدعوى من تلقاء نفسها استنادا إلى عدم إيداع القرار المطعون فيه، دون أن تكلف المدعي بتقديمه.

ولقد كرست المادة (R.612-1 C.J.A.) هذا الاجتهاد بنصها:

« Lorsque des conclusions sont entachées d’une irrecevabilité susceptible d’être couvert après l’expiration du délai de recours, la juridiction ne peut les rejeter en relevant d’office cette irrecevabilité qu’auprès avoir invité leur auteur à les régulariser »

وأخيرا فإن المستشار المقرر حسب نص المادة 844 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري أن يطلب من الخصوم المستندات والوثائق التي يراها مفيدة لفض النزاع، ويستند المستشار المقرر في فرنسا إلى نصي المادتين (R.611-10 et R.611-17 C.J.A.) لممارسة هذه السلطة أمام المحاكم الإدارية والمحاكم الإدارية الاستئنافية.

غير أن هذه السلطة معترف بها المستشار المقرر سواء في الجزائر أو فرنسا أو مصر قبل صدور هذه النصوص من قبل الاجتهاد القضائي، وإن كانت محل جدل فقهي من حيث ادعاء بعض الفقه مساساها بمبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ حظر توجيه أوامر للإدارة من طرف القاضي.

الفرع الثالث: مبررات الدور الإيجابي لقاضي الإلغاء في تحضير الدعوى.

يستند الدور الإيجابي للقاضي الإداري في تحضير وتحقيق الدعوى الإدارية عموما ودعوى الإلغاء خصوصا إلى اختلاف المراكز بين المدعي والإدارة وحالة اللاتوازن بينهما من حيث القدرة على الإثبات من جهة، كما يستد من جهة أخرى إلى الخصائص العامة لإجراءات التقاضي الإدارية، وهناك من يعزوه إلى الطبيعة الموضوعية لدعوى الإلغاء واستهدافها حماية مبدأ المشروعية وغيرها من المبررات.

أولا- حالة اللاتوازن بين طرفي الدعوى من حيث الإثبات:

فالدور الإيجابي الذي يؤديه قاضي الإلغاء والذي يميز مرحلة تحضير الدعوى يعتبر مساهما في كفالة التوازن بين الإدارة والمدعي.

ثانيا- الصفة الكتابية لإجراءات التقاضي الإدارية:

حتى وإن لم تعد الصفقة الكتابية ميزة تتميز بها الإجراءات الإدارية عن الإجراءات المدنية، إلا أنها تبقى صفة من صفات الإجراءات الإدارية، التي لها مبرراتها وآثارها، ولهذا يمكن أن نقول أنّه وإن كانت الإجراءات المدنية قد اكتسبت الصفة الكتابية بعد البلوغ والنضج، فإن الكتابية صفة أصلية في الإجراءات الإدارية لصيقة بها منذ الميلاد، ولهذا يرجع بعض الفقه الصفة الكتابية للإجراءات الإدارية إلى الأصل الإداري للمنازعات الإدارية.

ولقد ترتب على الصفة الكتابية للإجراءات أن أصبحت الوثائق والمستندات الكتابية هي الوسيلة الرئيسية للإثبات أمام القضاء الإداري، وإذ تحوز الإدارة عادة المستندات الإدارية فقد تطلب تحقيق التوازن العادل بين الطرفين تخويل القاضي سلطة تكليفها بتقديم ما في حوزتها من مستندات، وهذا يكون من خلال دوره المتميز في تحضير الدعوى حتى تكون مهيأة الفصل فيها.

ثالث- الأساس التاريخي:

فلا يمكن غزو الدور الإيجابي للقاضي الإداري في تحضير الدعوى وتحقيقها إلى الصفة الكتابية الإجراءات التقاضي الإدارية وإلى مهمة كفالة التوازن بين طرفي الدعوى الإدارية عموما ودعوى الإلغاء خصوصا وحدهما، بل إن هناك عوامل تاريخية ساهمت في ذلك أيضا، وهي المتعلقة بنشأة القاضي الإداري في أحضان الإدارة، قبل تطور النظام القضائي الإداري من نظام الإدارة القاضية إلى القضاء المحجوز ثم إلى القضاء المفوض.

فالقاضي الإداري ليس بغريب عن الإدارة التي ألفت الإجراءات التي تسير عليها في عملها، وأصبح بمقدوره تحضير الدعوى وتحقيقها استنادا إلى ذلك.

رابعا- الطبيعة الموضوعية لدعوى الإلغاء:

فالطبيعة الموضوعية الدعوى الإلغاء؛ واتصالها بالصالح العام، واستهدافها حماية مبدأ المشروعية أسبغت الصفة الإيجابية على الإجراءات القضائية الإدارية من خلال الدور الإيجابي الذي يقوم به القاضي في دعوى الإلغاء منذ رفعها، وإلى غاية الحكم فيها، بشكل يقترب فيه من دور القاضي الجزائي.

وعلى هذا الأساس فإنه وكما يقول أستاذنا الدكتور مسعود شيهوب لا يتعين على القاضي الإداري تكريس السلطات التي منحها له المشرع فقط، بل عليه أن يتوسع فيها ويضيف إليها حالات أخرى لضمان حد أدنى من التوازن بين أطراف الدعوى، فكما أن حماية المجتمع ليست مهمة الضحية في الدعوى الجزائية بل هي مهمة القاضي، فحماية مبدأ المشروعية أيضا ليست مهمة المدعي في دعوى الإلغاء بل هي مهمة القاضي الإداري أيضا.

المطلب الثاني: سلطة قاضي الإلغاء الواسعة بشأن وسائل الإثبات.

إن مرونة نظام الإثبات في دعوى الإلغاء تتمحور في حرية الاقتناع لدى القاضي، لكن تجب الملاحظة أنه مهما توسع الدور الإيجابي للقاضي الإداري فإن ذلك لا يعني مصادرة لإرادة الطرفين في توجيه الدعوى، فهناك حد أدني متروك لإرادة الطرفين بحكم طبيعة الأمور، إذ يترك لهما حرية إقامة الدعوى وتحديد الطلبات فيها وأساسها من حيث القانون والواقع، ويمارس القاضي دوره في حدود الإطار الذي حدده الطرفان.

لكن القاضي يحتفظ بسلطات مستقلة في البحث عن الأدلة، فهو ليس خاضعا بصفة كاملة لنزوات الطرفين، فيمكنه الذهاب إلى أبعد مما طلب الطرفان، والأمر من تلقاء نفسه بوسائل الإثبات، كما أن له أن يرفض إثبات الوقائع التي يرى أنها لا تفيد في حل النزاع، فهو الذي يحدد مدى لزوم الأمر بوسيلة من وسائل الإثبات في ضوء تقديره ما إذا كانت البيانات المتوفرة بالملف كافية للفصل في الدعوى، أم أن الفصل متوقف على الحصول على المعلومات الكافية حول واقعة أو أكثر، وهذه كلها مظاهر لحريته الواسعة بشأن وسائل الإثبات (الفرع الأول).

وعلى هذا يمكن القول أن القاضي الإداري عموما وقاضي الإلغاء خصوصا، يتمتع بسلطات واسعة في الأمر بوسائل الإثبات وفي تقدير نتائجها، وهو يستند في ذلك إلى مجموعة من الاعتبارات المنطقية (الفرع الثاني).

الفرع الأول: مظاهر حرية قاضي الإلغاء بشأن وسائل الإثبات.

للقاضي الإداري حرية واسعة في الأمر بوسائل الإثبات سواء بناء على طلب الأفراد أو من تلقاء نفسه، كما أن له الحرية في رفض الأمر بها حتى وإن طلبها الأطراف، و ذلك في ضوء ما يراه من مدى مساهمتها في تكوين اقتناعه ومدى ضرورتها من عدمه، كما أن له أن يقدر ما هي الوسيلة الأنسب للحصول على المعلومات اللازمة للفصل في الدعوى غير متقيد بطلبات الأطراف وغير ملزم بشرح أسباب ذلك، بل إن له السكوت وعدم الرد ويعتبر سكوته رفضا، كما لا يعتد باعتراض الأطراف، ولا يمكن أن يكون ذلك سببا من أسباب إلغاء الحكم؛ ما دام الأمر بوسيلة التحقيق يهدف إلى تزويده هو وليس الأطراف بمعلومات تساهم في تكوين اقتناعه، ولم تكن المذكرات والوثائق المرفقة كافية لتكوينه، في ظل وجود ادعاءات غامضة وغير دقيقة وانعدام وثائق تؤيدها.

وهذا يعني أن القاضي حرّ في تقديره Appréciation لمدى جدية ولزوم الأمر بوسيلة الإثبات، لكنه لا يملك سلطة تقديرية، فهو خاضع في ذلك لرقابة قاضي الاستئناف الذي يبحث مدى احترامه للقانون في تقديره.

ومن جهة أخرى فإن إجراءات الإثبات يجب أن لا تكون وسيلة للمماطلة في يد الأطراف الذين يبحثون عن إطالة أمد الخصومة، لقد ذهب مجلس الدولة الفرنسي بعيدا في هذا الشأن، حيث مارس سلطة واسعة في مدى الأمر بإجراء الخبرة حتى في الحالات التي نص فيها القانون على إجبارية الأمر بها، فرغم أن قانون 22 جويلية في فرنسا في مادته 13 كان ينص على إجبارية الخبرة في مادة الأشغال العمومية، لكن مجلس الدولة الفرنسي قرر بأن باستطاعة المحكمة أن ترفض الأمر بها بواسطة حكم خاص إذا تبين لها بأن الخبرة تحمل طابعا مغالطا Frustratoire، ولقد تمسك في قضائه اللاحق بهذا المسلك الذي تابعه مجلس الدولة الجزائري فيه.

وللقاضي الإداري أيضا الحرية في تقدير مدى كفاية وسيلة الإثبات التي أمر بها من حيث مدى دفعها بالدعوى نحو الفصل؛ فقد يرى القاضي بعد الأمر بوسيلة الإثبات، عدم كفاية البيانات والمعلومات التي قدمتها، أو ظهور مسائل تتطلب توضيحا أكثر وبالتالي فإن له أن يأمر بوسيلة إثبات أخرى حتى ولو كانت من جنس الوسيلة الأولى، كما أن له العدول عن وسيلة إثبات أمر بها ثم رأى أنها غير مجدية أو غير كافية إلى وسيلة أخرى يرى أنها أجدى وأنسب. وذلك لأنه من العبث إلزام القاضي بتنفيذ إجراء لم تعد له ضرورة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه السلطة التقديرية للقاضي في اختيار وسيلة الإثبات تدفع به عادة إلى اختيار الوسيلة الأقل كلفة والأكثر بساطة.

وأخيرا فإن قاضي الإلغاء غير ملزم بنتيجة الوسيلة التي أمر بها، ما دام في إمكانه الاستناد في حكمه إلى معلومات أو بيانات أخرى استقاها من مستندات وأوراق الملف التي يطمئن إليها ويرى مطابقتها أكثر للحقيقة، فرأي الخبير لا يقيد المحكمة.

غير أن الاعتراف للقاضي بالسلطة التقديرية في الأمر بوسائل الإثبات من عدمه وما هي الوسيلة المناسبة، يخضع لرقابة قاضي الاستئناف ومن الطبيعي أن قاضي الاستئناف له أن يقرر أن وسيلة التحقيق التي أمر بها قاضي الموضوع غير مجدية، وأن القاضي الذي يمتنع عن الأمر بوسيلة من وسائل الإثبات على الرغم من كونها ضرورية لتوضيح ما غمض من وقائع الدعوى وتزوده بمعلومات تجعل الدعوى صالحة للفصل فيها يكون قد أخل بالالتزام الوارد على عاتقه والمتمثل في الفصل في الدعوى على أساس دراية كاملة بعناصرها، وكذلك الأمر بالنسبة للقاضي الذي يأمر بوسائل غير مجدية في الدعوى، والتي تؤدي تأخير الفصل في الدعوى وتكبيد أحد الأطراف مصاريف إضافية.

ولقد عبرت الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى سابقا عن هذا المبدأ بعبارة “وجوب استنفاد المحكمة لسلطاتها القضائية “؛ فقد قضت بتاريخ: 06/06/1987 بما يلي: “من المقرر قانونا أن المدعي الذي يبرر استحالة حصوله على نسخة من القرار المطعون فيه يعفى من تقديمه، وكذا في حالة عدم تبليغه، ومن المقرر أيضا أن على القاضي المحقق وفي إطار السلطات المخولة له السعي لجعل الإدارة تقدم الوثيقة محل النزاع، ومن ثم فإن القضاء بخلاف هذين المبدأين يعيب القرار بعدم الصحة القانونية.

حيث أن المجلس القضائي رفض عريضة المتقاضي على الحالة المقدمة بها اعتمادا على ما مؤداه أن هذا الأخير وبالرغم من إعذاره المرات العديدة بتقديم فقرار التقدير التلقائي الصادر بعد التدقيق الضريبي، فإنه لم يستجب:

حيث أن المعنية تتمسك بكونها لم تبلغ البتّة بالوثيقة آنفة الذكر، حيث أنه وحسب مبدأ قانوني معمول به، فإن المدعي الذي يبرر استحالة حصوله على نسخة من القرار المطعون فيه يعفى من تقديمها وكذا في حالة عدم تبليغه به.

حيث أنه كان يتعين على القاضي المحقق وفي إطار السلطات التي يتوفر عليها السعي لجعل الإدارة تقدم الوثيقة محل النزاع.

حيث أنه يعد من النظام العام الوجه المأخوذ من أن المحكمة التي ترفض الطلبات على الحالة المقدمة بها لم تستنفد سلطاتها القضائية.

حيث يستخلص مما سبق أن القرار المطعون فيه مشوب بعيب عدم الصحة القانونية ويستوجب من أجل هذا الإلغاء”.

لقد عبر الأستاذ Rene CHAPUS عن هذا المعنى، حين قرر أن حرية القاضي لا تعني تحكمه، وأن رفضه لأي طلب يخضع لثلاثة التزامات هي:

  • أن لا يكون رفضه نتيجة اعتقاده الخاطئ أو المضلل.

  • يجب أن يأمر بالإجراءات اللازمة من أجل تحقيق كامل للقضية؛ فللأطراف الحق في تحقيق قضيتهم.

  • يجب على المحكمة عدم الاستجابة إلى طلبات التحقيق ذات الطابع الكيدي والهادفة إلى المماطلة، متى كان في ملف القضية من العناصر ما يكفي لتكوين اقتناع القاضي؛ ويعود إلى قاضي الاستئناف تقدير مدى توافر طابع الكيدية أو المماطلة في الطلب.

وأخيرا تجدر الإشارة إلى أن المادة 334 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية نصت على أن الأحكام التي تأمر بوسائل الإثبات لا تقبل الاستئناف إلا مع الحكم الفاصل في أصل الدعوى برمتها.

الفرع الثاني: مبررات حرية قاضي الإلغاء بشأن وسائل الإثبات.

إن هذه الحرية الواسعة للقاضي الإداري بشأن وسائل الإثبات سواء في الأمر بها أو تقدير نتائجها تجد مبررها من ناحية في مذهب حرية الإثبات الذي يعتنقه قاضي الإلغاء؛ باعتباره مسؤولا عن عدالة الحكم في الدعوى، وبالتالي يكون من غير المناسب تقييد حريته في اختيار الوسيلة التي يعتقد بحسه القانوني أنها الأوفق في التوصل إلى حقيقة الادعاء في الدعوى.

ولقد عبرت المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة المصري عن هذا المعنى بقولها أن: “المنازعة الإدارية أمانة في يد القاضي يشرف عليها وعلى حسن سيرها وتحضيرها حيث يقوم بدور إيجابي ولا يترك أمرها للخصوم”.

كما أن تقييد القاضي بوسيلة الإثبات التي وقع عليها اختياره واحترامه الإجباري لنتيجتها يتعارض مع مبدأ حرية الإثبات الذي يميز الإجراءات القضائية الإدارية، فالواجب عدم تقييده بوسيلة إثبات لم يعد يرى جدواها أو تساوره شكوك جدية في عدم دقة نتيجتها، وإلا أدى ذلك إلى غل يده ومنعه من التوصل إلى الحقيقة.

ومن ناحية أخرى فإن لهذه الحرية الواسعة مبررا منطقيا، يستند إلى وجوب الفصل في الخصومة في أجل معقول، المبدأ المنصوص عليه في المادة ( 03/04 ق.إ.م.إ.) وهذا يفترض تخويل قاضي الإلغاء سلطة واسعة في الأمر بوسائل التحقيق التي تناسب كل قضية، تجنبا التسبب في تعطيل الفصل في الدعوى دون فائدة.

وخلاصة القول أن القاضي هو سيد المنازعة يأمر بما يراه مناسبا للفصل في الدعوى، وله أن يعدل عنه إلى ما يراء أنسب وأجدى، وبعد كل هذا فهو غير مقيد بما انتهت إليه وسيلة الإثبات من نتائج، بل يعتمد على تقديره في ضوء باقي عناصر الملف وما يطمئن إليه ضميره، وهذا ما يدعو إلى القول بأن تخفيف عبء الإثبات على المدعي في دعوى الإلغاء معقود بمدى استنفاد قاضي الإلغاء لسلطته هذه في هذا السبيل.

 التزام قاضي الإلغاء بمبدأ الوجاهية في إشرافه على الإجراءات

يعتبر مبدأ الوجاهية في الإجراءات Le caractère contradictoire من أهم ضمانات المحاكمة العادلة، ومبدأ من مبادئ العدالة التي نصت عليها اتفاقيات وعهود حقوق الإنسان والقوانين الإجرائية الداخلية لمختلف الدول. ولقد اعتبره مجلس الدولة الفرنسي من المبادئ العامة للقانون، بينما يعتبره البعض متعلقا بمظهر خاص لحقوق الأفاع. وهذا ما ذهب إليه المجلس الدستوري الفرنسي حين عده نتيجة طبيعية لهذا المبدأ الدستوري، في حين يصنفه بعض الفقه في عداد المقاييس العالمية المهيمنة والمسيطرة على الإجراءات.

وللأهمية التي يحظى بها هذا المبدأ وتعلقه بالنظام العام، فإنه فرض نفسه حتى في غياب النص عليه صراحة، ولكن تأكيدا عليه نص قانون الإجراءات المدنية والإدارية ضمن الأحكام التمهيدية، في مادته الثالثة على ما يلي: ” …يلتزم الخصوم والقاضي بمبدأ الوجاهية… “.

وتعني الوجاهية أن تسير كافة إجراءات الدعوى في مواجهة جميع الأطراف، كما أن القاضي لا يستطيع الفصل في الدعوى على أساس مستند لم يتيسر لأحد الطرفين الاطلاع عليها ومناقشته وتقديم الملاحظات بشأنه، فكل وثيقة أو دليل يقدمه أحد الأطراف يجب أن يتاح للطرف الآخر الاطلاع عليه ومناقشته (الفرع الأول).

ورغم أن هذا المبدأ مطبق بحزم أمام قاضي الإلغاء، غير أنه يمكن استثناءً الخروج عليه، أو التخفيف من الالتزام به؛ استنادا لاعتبارات تهدف إلى سرعة الفصل في الدعوى وتراعي الدور الإيجابي للقاضي الإداري في الدعوى، أو استنادا إلى اعتبارات تهدف إلى صيانة بعض الأسرار من الاطلاع عليها حماية المصلحة عامة أو خاصة (الفرع الثاني).

الفرع الأول: عناصر التزام قاضي الإلغاء باحترام مبدأ الوجاهية.

يعمل القاضي على توفير الوجاهية عن طريق ممارسة دوره الإيجابي في الإجراءات، ولقد نصت مواد قانون الإجراءات المدنية الجزائري على التزامات تقع على عاتق قاضي الإلغاء من أجل ضمان مبدأ المواجهة، وهي إخطار أصحاب الشأن بالإجراءات أولا، وتمكينهم من الاطلاع على جميع المستندات والوثائق ثانيا وتمكينهم من إبداء ملاحظاتهم الكتابية والشفوية بشأن المستندات والوثائق المودعة بالملف ثالثا.

أولا- إخطار ذوي الشأن بالإجراءات:

إن الإخطار حسب الفقيه DEBBASCH أهم ضمانة وحماية الأطراف الخصومة، فهو الذي يسمح لهم بتحضير دفاعهم، كما يوفر لهم بمقتضاه ضمانة حقوق الدفاع.

وعليه يلتزم المستشار المقرر بإخطار أصحاب الشأن بوجود الدعوى الفضائية سواء كانوا أطرافا أو مدخلين فيها، وينصرف التزام الإخطار الملقى على عاتق القاضي إلى جميع إجراءات الدعوى في جميع مراحلها، وكذلك إلى الأمر بوسائل الإثبات والنتائج التي توصلت إليها، كما يشمل الالتزام بالإخطار الوقائع الجديدة والعناصر المستجدة والمنتجة في الدعوى، ووسائل التحضير البسيطة. وإلى هذا أشارت المواد 842، 841، 840، 839، 838، 843، 875، 845 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري، والمواد R.611-1 C.J.A. و R.611-3 C.J.A. من قانون القضاء الإداري الفرنسي.

غير أن هذا الالتزام لا يشمل الوثائق غير المنتجة في الدعوى. ولا تلك الواردة بعد اختتام التحقيق؛ فلا إلزام بتبليغ المذكرات الواردة بعد اختتام التحقيق، ويصرف عنها النظر من طرف تشكيلة الحكم، وهذا ما نصت عليه المادة 854 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية، وهو ما استقر عليه اجتهاد مجلس الدولة الفرنسي أيضا.

ولا إلزام على القاضي بأن يتبع شكلا معينا أو طريقة معينة في الإخطار، بل يكون ذلك بأي طريق من طرق الإخطار إلا إذا وجد نص خاص، وفي هذا الصدد أوضحت المادة 838 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية أن التبليغ الرسمي لعريضة افتتاح الدعوى يكون عن طريق محضر قضائي، بينما تبلغ باقي المذكرات ومذكرات الرد مع الوثائق المرفقة بها إلى الخصوم عن طريق أمانة الضبط، وتحت إشراف القاضي المقرر الذي يعينه رئيس تشكيلة الحكم.

بينما نصت المادة 840 من نفس القانون أن كل الإجراءات المتخذة وتدابير التحقيق تبلغ إلى الخصوم برسالة مضمنة مع الإشعار بالاستلام أو عن طريق محضر قضائي عند الاقتضاء، وكذلك الأمر بالنسبة لطلبات التسوية والإعذارات وأوامر الاختتام، والإعلام بتاريخ الجلسة.

ويشار في تبليغ العرائض والمذكرات إلى أنه في حالة عدم مراعاة الأجل المحدد من طرف القاضي لتقديم مذكرات الرد يمكن اختتام التحقيق دون إشعار مسبق (المادة (840).

أما في فرنسا فإن التبليغ يكون بواسطة رسالة عادية إلا في حالة عريضة افتتاح الدعوى والمذكرة الجوابية وطلبات التصحيح والإنذارات وغيرها من الإجراءات التي نصت عليها المادة R.611-3 C.J.A. فإنها تكون عن طريق رسالة مضمونة مع الاشعار بالاستلام، كما يمكن أن يحصل التبليغ بالطريقة الإدارية مقابل إيصال أو ينظم محضر يشير إلى حصول التبليغ حسب نص المادة R.611-4 C.J.A.، ويتم التبليغ في هذه الطريقة بواسطة العمدة أو مفوض الشرطة أو الحارس البلدي، ونظرا لما تحمله هذه الطريقة من تعقيدات ، فإنه يتم اللجوء إليها في الحالة لاتي لا يفضي فيها التبليغ عن طريق البريد إلى أي نتيجة.

هذا وتفسح المادة 3-611.R المجال للتبليغ بطرق أخرى من بينها التبليغ الالكتروني.

وبالنظر إلى مكانة الإخطار كعنصر مهم من عناصر المواجهة المعترف لها بأنها من المبادئ العامة؛ فإنه يترتب على عدم إخطار أصحاب الشأن بما يلزم إخطارهم به إخطارا صحيحا بطلان الإجراءات.

ثانيا- تمكين الأطراف من الإطلاع على جميع المستندات والوثائق المودعة:

لا يجوز للقاضي الاستناد في حكمه إلى مستند أو ورقة لم يعط أحد الأطراف فرصة الاطلاع عليها، وأول ما يترتب على هذا العنصر من عناصر المواجهة الحق في الاطلاع على المذكرات وهذا هو العنصر الأساسي والجوهري لمبدأ الوجاهية، كما يترتب عليه أيضا حق الأطراف في الاطلاع على صورة من مختلف أوراق الملف، حتى يتمكنوا من الإحاطة بصورة كافية بكل الوقائع والعناصر المنتجة في الدعوى.

وعلى هذا فإنه لا يمكن اعتبار الدعوى قد تهيأت للفصل فيها إلا إذا تم إخطار طرفيها بكافة المستندات الموجودة بالدعوى، حيث يجب أن يعلم المدعى عليه بكافة المستندات التي يقدمها المدعي كما يجب أن يعلم المدعي بكافة المستندات التي يقدمها المدعى عليه، حتى يتمكن كل واحد منهما من دحض مستندات خصمه أو التسليم بها، فإذا لم يتحقق ذلك فإن الحكم يكون قابلا للإبطال لبطلان الإجراءات لمخالفتها لحقوق الدفاع.

وتبلغ نسخ الوثائق والمستندات المرفقة بالعرائض والمذكرات بنفس الأشكال المقررة لتبليغ المذكرات، وعندما يحول عددها أو حجمها أو خصائصها دون استخراج نسخ عنها يبلغ جرد مفصل عنها للخصوم أو ممثليهم للاطلاع عليها بأمانة الضبط، أو أخذ نسخ عنها على نفقتهم (المادة 841)، كما يجوز لرئيس المحكمة الإدارية أن يرخص في حالة الضرورة الملحة بتسليم هذه الوثائق مؤقتا إلى الخصوم أو ممثليهم خلال أجل يحدده (المادة 842). وهذا ما عليه العمل أمام جهات القضاء الإداري الفرنسي حسب ما نصت عليه المادة R.6116-5 C.J.A..

ويضطلع قاضي الإلغاء بتنظيم كيفية ومواعيد الاطلاع بما يضمن تحقيق الهدف من المواجهة، ولا يلتزم باطلاع الأطراف الأعلى المستندات والوثائق التي قدمت قبل إنهاء التحضير؛ حيث يعتمد عليها في الحكم أما المستندات والوثائق التي قدمت بعد انتهاء التحضير والتي لا يعتمد عليها القاضي في الحكم ليست محلا لهذا الالتزام من القاضي وكذلك الوثائق الخالية من أي عنصر جديد أو لم تخل من الجديد لكن المحكمة لم تستند إليها في الحكم الصادر عنها؛ فإن عدم تبليغها للأطراف ليس فيه أي مساس بمبدأ الوجاهية.

وتجدر الإشارة إلى أن تقرير مفوض الحكومة في فرنسا يقدم قراءة في الجلسة ولا مجال للاطلاع عليه قبل الجلسة، وكذلك تقرير المستشار المقرر بما أنه يتضمن نتائج مناقشة وفحص الأدلة بكل حياد، فإن اطلاع الأطراف عليه ليس حقا ما لم ينص القانون على ذلك.

لقد برر ذلك الأستاذ Rene CHAPUS بأن تقرير المستشار المقرر ليس مجرد وثيقة عمل داخلية للجهة القضائية الإدارية، ولكنه التعبير عن كيفية حل النزاع من وجهة نظر محرره؛ الذي هو عضو في تشكيلة الحكم، وهذا يعني أن الاطلاع عليه يعد خرقا لمبدأ سرية المداولات، أما إفلات تقرير مفوض الحكومة من مبدأ المواجهة فقد برره مجلس الدولة الفرنسي بأن هذا التقرير لا يتعلق بالتحقيق الكتابي، كما أن محرره ليس طرفا من أطراف الدعوى، بل يشغل وظيفة تتسم بالاستقلالية والحياد.

لقد أقرت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان هذا الوضع، وذلك بمناسبة نظرها في قضية السيدةKRESS  إذ اشتكت هذه الأخيرة من عدم تمكينها من الاطلاع قبل الجلسة على استنتاجات مفوض الحكومة، ومن عدم تمكينها من الرد عليها، كما أنها نازعت في أن مفوض الحكومة الذي كان قد استنتج رفض دعواها حضر في مداولة المحكمة، وهذا مناقض لمقتضيات المحاكمة العادلة وفقا لأحكام المادة 6 من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان.

لكن المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان استبعدت بالإجماع الحجة المستندة إلى عدم إطلاع السيدة KRESS بصورة مسبقة على استنتاجات مفوض الحكومة، ذلك لأن المحامون بإمكانهم أن يطلبوا من مفوض الحكومة اطلاعهم على توجه ملاحظاته، وثانيا لأن الأطراف يستطيعون الرد بمذكرة مكتوبة أثناء الجلسة على ملاحظات مفوض الحكومة، وأخيرا فإنه من واجب القاضي عندما يثير مفوض الحكومة أمرا لم يشر إليه الأطراف أن يمكن هؤلاء من مناقشته، بينما أيدت المحكمة الأنسة KRESS في حجتها الثانية.

وفي الجزائر يعرض محافظ الدولة تقريره المكتوب في الجلسة كما يقدم ملاحظاته الشفوية قبل غلق باب المرافعة حسب نصي المادتين 898 و 899، ويجوز للخصوم تقديم ملاحظاتهم الشفوية أثناء الجلسة، ولا تلتزم المحكمة بالرد عليها ما لم تؤكد بمذكرة جوابية. بينما يودع تقرير مفوض الحكومة في مصر ضمن ملف الدعوى، ويلتزم القاضي باطلاع الأطراف عليه وتمكينهم من الحصول على صورة منه.

وأخيرا فإنه تجدر الإشارة إلى أنه عندما تستبدل الإدارة أثناء الخصومة القرار المطعون فيه بقرار آخر، فالمبدأ أنها ملزمة بإعلام المدعي بهذا القرار الجديد تحت طائلة قبول ملاحظاته الإضافية ضد القرار الجديد في أي وقت.

إن أهمية الاطلاع بالغة في الإثبات والوصول إلى حقيقة ادعاءات الأطراف، فمن نتائجه أنه يمكن لأطراف الدعوى تقديم ما لديهم من مستندات وإبداء ما يعن لهم من ملاحظات كتابية أو شفهية يبدونها أمام المستشار المقرر أو المحكمة؛ لكن وحتى لا تؤدي طلبات الاطلاع غير المبررة إلى إعاقة الفصل في الدعوى فإن القاضي باعتباره موجها لإجراءاتها أن يقصر ذلك على المستندات والوثائق المنتجة فيها، أي تلك التي يكون القاضي اقتناعه على أساسها.

وعلى هذا يكون الحكم صحيحا رغم عدم إطلاع أحد الخصوم؛ إذا كان الهدف من عدم استخدامه الحق في الاطلاع ذريعة للمماطلة واطالة أمد الفصل في الدعوى من خلال إحجامه عنه رغم منحه فرصة لذلك، فلا يجوز للخصم أن يعرقل سير الدعوى لمصلحة يبتغيها لنفسه.

وفي هذا الصدد نص قانون الإجراءات المدنية والإدارية على أنه يجوز لرئيس تشكيلة الحكم أن يوجه إعذارا برسالة مضمنة مع الإشعار بالاستلام إلى الخصم الذي لم يحترم الأجل الممنوح له لتقديم مذكرة أو ملاحظات، ، كما يجوز منح أجل جديد وأخير في حالة القوة القاهرة أو الحادث الفجائي (المادة 849)، كما نصت المادة 851 على أن المدعى عليه إذا لم يقدم رغم إعذاره أية مذكرة يعتبر قابلا بالوقائع الواردة في العريضة (المادة 851).

وفي المقابل فإنه وإن كان المبدأ أن القاضي هو الذي يحدد الآجال والمواعيد التي يجب على الأطراف إيداع مذكراتهم ومختلف الردود والوثائق خلالها وآجال الاطلاع؛ تماشيا مع الالتزام المفروض على الجهات القضائية بالفصل في آجال معقولة الذي جاء النص عليه في المادة 03 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية، إلا أنه ومراعاة لمبدأ الوجاهية المنصوص عليه بنفس المادة يلتزم القاضي في مقابل ذلك أن تكون هذه الآجال كافية حتى يتسنى من خلالها احترام مبدأ الوجاهية. وفي هذا الصدد فإن مجلس الدولة الفرنسي اعتبر أن تحديد أجال غير كافية يعد إهمالا لهذا المبدأ.

ثالثا- تمكين الأطراف من تقديم ملاحظاتهم بشأن المستندات والوثائق المودعة:

يقتضي مبدأ الوجاهية أن يمكن الأطراف من مناقشة أي وثيقة يمكن أن يعتمد عليها القاضي في حكمه، وعلى هذا الأساس لا يمكن للقاضي أن يأخذ بعين الاعتبار الوثائق التي لم يطلع عليها الأطراف وكذلك التي لم يتمكنوا من مناقشتها.

ويتسم دور القاضي في هذا الشأن بالمرونة، وتقدم ملاحظات الأطراف وردودهم في الأصل كتابة تمشيا مع الصفة الكتابية للإجراءات الإدارية، ما عدا إيضاح بعض البيانات الذي يمكن أن يكون شفهيا، والقاضي هو المنوط به تحديد مواعيد إبداء تلك الملاحظات في ضوء كل حالة على حدة.

ومع ذلك فإن الملاحظات الشفوية التي يبديها الأطراف أثناء الجلسة لا تكون إلا تدعيما لطلبات كتابية، كما أنها لا تكون مستوجبة للرد ما لم تدعم بمذكرة إيجابية، مراعاة للصفة الكتابية لإجراءات التقاضي الإدارية، وهذا ما نصت عليه المادة 884 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري.

الفرع الثاني: مرونة مبدأ الوجاهية.

يمكن استثناءًا الخروج على مبدأ الوجاهية، استنادا إلى اعتبارات تهدف إلى صيانة بعض الأسرار من الاطلاع عليها حماية المصلحة عامة أو خاصة، كما يمكن ممارسته بمرونة مراعاة لاعتبارات تهدف إلى سرعة الفصل في الدعوى وتراعي الدور الإيجابي للقاضي الإداري في الدعوى.

أولا- إهدار مبدأ الوجاهية:

قد يهدر مبدأ الوجاهية تمكينا للقاضي من ممارسة دوره الإيجابي في الدعوى من خلال السماح له باستبعاد عملية التحضير بالكامل، وإصدار حكم دون تمكين الطرفين من الاطلاع أو تبادل المذكرات، وذلك عندما يكون الحل واضحا؛ كما لو رفعت الدعوى أمام جهة غير مختصة وهذا ما نصت عليه المادة 847 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري يقولها: “يجوز لرئيس المحكمة الإدارية أن يقرر بألا وجه للتحقيق في القضية عندما يتبين له من العريضة أن حلها مؤكد، ويرسل الملف إلى محافظ الدولة لتقديم التماساته”.

وهذا ما نص عليه أيضا قانون القضاء الإداري في فرنسا أيضا حيث نصت المادة R.611/8 C.J.A. منه على ما يلي:

« Lorsque’ il apparait au de la requête que la solution de l’affaire est d’ores et déjà certaine, le président du tribunal administratif ou le président de la formation de jugement ou, à la cour administrative d’appel, le président de la chambre ou, au conseil d’état, le président de la sous-section peut décider qu’il n’y a pas lieu à instruction ».

ولا تفرض النصوص في الجزائر وفرنسا شكلية معينة للقرار بأنه لا وجه للتحقيق، غير أنه لا يمكن أن يستنتج من مجرد عدم تبليغ الطرف الأخر.

ومن بين الحالات التي اعتبرها مجلس الدولة الفرنسي قابلة للفصل فيها دون تحقيق؛ عدم الاختصاص البين وعدم القبول البين والعريضة منعدمة التأسيس القانون بشكل واضح والقضايا التي يظهر أن حلها أكيد بعد دراسة الدعوى بشكل بسيط.

والقرار بأنه لا وجه للتحقيق غير قابل للطعن فيه لوحده غير أن مجلس الدولة الفرنسي يراقب الحكم الصادر استنادا إلى هذا القرار ويمكن إلغاءه إذا لم يكن ثمة مبرر قانوني للإعفاء من التحقيق

وقد تهدر مقتضيات الوجاهية كما هو الحال بالنسبة للتحقيقات التي يطلبها قاضي الإلغاء من الجهة الإدارية المختصة بإجراءات تحقيقات إدارية وليست قضائية بخصوص بعض المسائل الفنية، وتقديم تقرير بشأنها يودع الملف ويمكن للأطراف الاطلاع عليه ومناقشته.

وعلى العموم وكما هو الشأن بالنسبة للإجراءات المدنية فإنه إذا كان من المستحيل تحقيق الطابع الوجاهي، ولم يتسن اتخاذ أحد التدابير في حضور أحد الطرفين، يكفي أن تذكر في تقرير مكتوب كيفية سير الإجراءات ويمكن الطرف الغائب من الاطلاع عليه.

ويسقط التزام الجهة المختصة بضرورة إعلان المذكرات المقدمة من أحد طرفي الدعوى إلى الطرف الآخر إذا كانت لا تحتوي على أي عنصر جديد يساهم في حل النزاع، كأن يكون محتواها مجرد إضافة لما جاء في مذكرة سابقة. كما يسقط هذا الالتزام أيضا إذا كانت المذكرات أو المستندات التي سبق تقديمها وإعلانها كافية للفصل في الدعوى، حتى ولو كانت المذكرة أو المستند المراد إعلانه يحتوي على عناصر جديدة طالما لم تعد هناك حاجة إليها.

أما الاعتبارات التي تستهدف صيانة بعض الأسرار حماية المصلحة عامة أو خاصة، فتحظر على القاضي مباشرة بعض الإجراءات ووسائل الإثبات، كما هو الحال التي يمتنع فيها على القاضي تكليف الإدارة بإيداع بعض المستندات التي تحظر النصوص القانونية إفشاء أسرارها، كأسرار الدولة وأسرار الدفاع الوطني أو السر الطبي، أو السر الوظيفي، أو الأسرار الضريبية، أو الأسرار الدبلوماسية.

ففي فرنسا كان الاجتهاد القضائي يعتبر من حق للإدارة رفض تنفيذ الأمر القضائي الصادر بتسليم وثائق ومستندات تعتبرها سرية متمتعة في ذلك بسلطة تقديرية واسعة، لكن مجلس الدولة بعد ذلك بفترة قصيرة أصبح يطلب من الإدارة كافة الإيضاحات بشأن المستندات المشمولة بالسرية بالقدر الذي يمكنه من الفصل في الدعوى، ودون المساس بسرية هذه المستندات، وإلا فإن له أن يأخذ رفضها وعدم تعاونها بعين الاعتبار في حكمه إضافة إلى باقي العناصر الثابتة في ملف الدعوى.

ومن جهة أخرى له أن يتبع جميع الوسائل القانونية التي تمكنه من الحصول على الإيضاحات الضرورية، إذا قرر أن الاطلاع على هذه الوثائق والمستندات ضروري ولازم لتكوين اقتناعه حول نقطة في النزاع، فيستطيع أن يطلب من الإدارة أن تطلعه على الوثائق والمستندات فقط، كأن ترسل ممثلا عنها يحمل هذه الوثائق والمستندات، يطلع عليها القاضي ثم يستعيدها مباشرة دون أن تضم إلى ملف القضية، كما حدث في قضية Coulon السابق الإشارة إليها.

وفي ما يتعلق بالأسرار الطبية فإن القاضي إذ قدر أنه لا يمكن إطلاع المريض عليها، يستطيع أن يطلع عليها الخصم بمعرفة المحكمة.

لقد ذهب بعض الفقه المصري إلى أنه لا يجوز للإدارة أن تمتنع عن تقديم ما يطلبه القضاء من بيانات وأوراق رسمية لازمة للفصل في الدعوى بحجة السرية، إذ لا سرية على القاضي.

إن تمسك الإدارة -حسب هذا الاتجاه من الفقه – بحقها في المحافظة على سرية أعمالها كمبرر للامتناع عن الرد على ما يطلبه القاضي من تفسيرات وتساؤلات قد تكون حاسمة في الفصل في الدعوى هو مبرر واه يجب ألا يعترف القضاء به، وأن لا يمنعه من استخلاص قرينة على انحراف الإدارة بسلطتها، حيث أن أسرار الإدارة لا تقارن بإعلاء مبدأ المشروعية.

إن التبرير المنطقي لهذا الاتجاه في رأينا يعزى إلى كون السلطة القضائية شريكة في ممارسة السلطة في الدولة وهي بفضل الشروط اللازم توافرها في أعضائها مؤهلة مثلها مثل السلطة التنفيذية أن تكون أمينة على أسرار الدولة، ولهذا فإنه وإن كان مفهوما عدم توسع المشرع في وضع استثناءات على مبدأ السرية، فإنه من الجدير بالقاضي أن يعمل قدر الإمكان في اجتهاده على تقرير حقه في الاطلاع على جميع الملفات بما يضمن عدم اطلاع غيره عليها ويضمن حصول القدر الكافي من العلم الذي يؤهله للفصل في الدعوى على أساس دراية كافية، وأن يستنتج النتائج اللازمة عن امتناع الإدارة عن ذلك.

وللتوفيق بين هذه الاعتبارات ووجوب فصل القاضي في الدعوى استنادا إلى درايته الكاملة بكافة البيانات المنتجة في الدعوى؛ فإنه يسوغ للقاضي اتخاذ ما يلزم من وسائل وإجراءات تمكنه من الحصول على هذه البيانات اللازمة للفصل في الدعوى دون إيداع هذه المستندات ملف الدعوى.

لقد نصت المادة 884 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري على أنه: “يمكن لرئيس تشكيلة الحكم الاستماع إلى أعوان الإدارة المعنية أو دعوتهم لتقديم توضيحات”، كما نصت المادة 860 من نفس القانون أيضا على أنه:” …كما يحوز أيضا سماع أعوان الإدارة أو طلب حضورهم لتقديم الإيضاحات، إن هذه المكنة التي منحها المشرع الجزائري للقاضي تتيح له الفرصة لأن يطلب كافة الإيضاحات بشأن المستندات المصنفة على أنها سرية بالقدر الذي يمكنه من الفصل في الدعوى، وعلى الإدارة في هذه الحالة تقديم الإيضاحات اللازمة دون المساس بسرية المستندات، وإلا فإن للقاضي الاستناد إلى رفضها وعدم تعاونها إضافة إلى باقي العناصر الثابتة من ملف الدعوى في حكمه، قياسا على الحكم الذي رتبته المادة 819/2 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري على امتناع الإدارة عن تمكين المدعي في دعوى الإلغاء من نسخة من القرار المطعون فيه بقولها: “…وإذا ثبت أن هذا المانع يعود إلى امتناع الإدارة من تمكين المدعي من القرار المطعون فيه، أمرها القاضي المقرر بتقديمه في أول جلسة، ويستخلص النتائج القانونية المترتبة عن هذا الامتناع”.

وبذلك يبقى قاضي الإلغاء سيد الدعوى في جميع الأحوال ولا تقف هذه الأسرار عائقا في وجه الفصل في الدعوى على أساس دراية تامة وإن كانت تمس بمبدأ المواجهة في الإجراءات القضائية الإدارية.

ثانيا- مراعاة بعض الظروف في تطبيق مبدأ الوجاهية:

إذا كانت بعض الظروف كحالة الاستعجال لا تكفي مبررا لهدر مقتضيات الوجاهية، وهذا ما لم يهمل المشرع الجزائري التأكيد عليه؛ من خلال نصه في المادة 923 ق.إ.م.إ. على أنه: ” يفصل قاضي الاستعجال وفقا لإجراءات وجاهية كتابية وشفوية”، إلا أنه يجب أن يستوفي هذا المبدأ بطريقة مرنة تراعي هذه الظروف، ولقد تصدى المشرع الجزائري لهذا الأمر من خلال حرصه على استيفاء هذا المبدأ من جهة مع مراعاة هذه الظروف من جهة أخرى.

وهكذا حرص المشرع على أن يكون الفصل في الدعوى الاستعجالية في أقرب الآجال المادة 918 ق.إ.م.إ.)، وفي سبيل ذلك نصل في المادة 928 ق.إ.م.إ. على أنه: “تبلغ رسميا العريضة إلى المدعى عليهم، وتمنح للخصوم آجال قصيرة من طرف المحكمة، لتقديم مذكرات الرد أو ملاحظاتهم، ويجب احترام هذه الآجال بصرامة وإلا استغني عنها دون إعذار”.

كما نصت المادة 932 ق.إ.م.إ. على إعفاء رئيس تشكيلة الحكم من الواجب المنصوص عليه في المادة 843 والمتضمن إبلاغ الخصوم قبل الجلسة في حالة ما إذا كان الحكم مؤسس على وجه مثار يتعلق بالنظام العام، وتحديد أجل لتقديم ملاحظتهم حول الوجه المثار، والاكتفاء بإخبارهم أثناء الجلسة بهذه الأوجه.

وحتى في الحالات العادية وإن كانت المذكرات المتبادلة بين الأطراف غالبا قليلة العدد فإن المستندات المؤيدة لهذه المذكرات تكون كثيرة ومتنوعة، مما يصعب معه إعلانها للأطراف بنفس طريقة إعلان المذكرات، إن المبدأ الذي أرساه المشرع الفرنسي في قانون الإجراءات أمام المحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف وأكده مجلس الدولة في أحكامه هو تمكين كل طرف في الدعوى من الاطلاع على المستندات المقدمة من الطرف الآخر، في مقر قلم كتاب المحكمة المختصة بنظر الدعوى.

كما نصت المادة 841 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية أنه: تبلغ نسخ الوثائق والمستندات المرفقة للعرائض والمذكرات إلى الخصوم بنفس الأشكال المقررة لتبليغ المذكرات، وعندما يحول عدد الوثائق أو حجمها أو خصائصها دون استخراج نسخ عنها، يبلغ جرد مفصل عنها للخصوم أو ممثليهم للاطلاع عليها بأمانة الضبط، أو أخذ نسخ عنها على نفقتهم”، كما يجوز لرئيس المحكمة الإدارية أن يرخص في حالة الضرورة الملحة بتسليم هذه الوثائق مؤقتا إلى الخصوم أو ممثليهم خلال أجل يحدده وذلك حسب ما نصت عليه المادة 842 من نفس القانون.

المبحث الثاني: دور قاضي الإلغاء في إنتاج الأدلة.

إن الفصل في النزاع الإداري يفترض من القاضي تشكيل وتكوين اقتناع لا يكفي لاكتماله في الغالب الاعتماد على ما قدمه الخصوم من مذكرات واستدلالات ووثائق، ووجهات نظر.

نحاول في هذا المبحث التعرف على الدور الذي يلعبه القاضي في البحث عن عناصر جديدة مستقلة عما قدمه الخصوم، وتساهم في تكوين اقتناع مكتمل للقاضي من أجل الفصل في النزاع على أساس دراية كاملة. إن أهم مظاهر دور قاضي الإلغاء في إنتاج الأدلة تتمثل في سلطته في الأمر بتقديم مستندات وأمره بوسائل التحقيق التالية: الخبرة، المعاينة، والاستجواب.

وتعتبر هذه الوسائل أبرز ما يتضح فيه الدور الإيجابي الكبير للقاضي الإداري، فهي تنطوي على إيجابية محسوسة من جانب قاضي الإلغاء وهيمنة كاملة عليها ابتغاء تحقيق التوازن العادل بين الطرفين، وبذلك تتضح فيها بصورة ملموسة الصفة الإيجابية لإجراءات التقاضي الإدارية.

إن قاضي الإلغاء يمكنه بناء على طلب الخصوم أو من تلقاء نفسه أن يأمر شفاهة أو كتابة بأي إجراء من إجراءات التحقيق التي يسمح بها القانون، وفي أي مرحلة كانت عليها الدعوى، بل وحتى قبل مباشرتها بناء على طلب كل ذي مصلحة إذا كان القصد منها إقامة الدليل والاحتفاظ به الإثبات الوقائع التي تحدد مآل النزاع.

إن الأحكام الفاصلة في جزء من موضوع النزاع أو التي تأمر بالقيام بإجراء تحقيق لا تكون قابلة للاستئناف إلا مع الحكم الفاصل في أصل الدعوى برمتها، طبقا لنص المادة 334 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية، وذلك تبسيطا للأوضاع ومنعا لتقطيع أوصال القضية.

وفي فرنسا يتم اللجوء إلى وسائل التحقيق أكثر على مستوى المحاكم الإدارية الابتدائية ومحاكم الاستئناف عكس مجلس الدولة، ومرد ذلك إلى طبيعة اختصاصات هذا الأخير التي تتعلق بالقانون وليس بالواقع، لكن الأمر في الجزائر يختلف فمجلس الدولة في الحقيقة درجة استئناف والقضايا المعروضة أمامه متعلقة بالواقع أكثر من القانون، بل إن اختصاصه بالنقض مجرد اختصاص رمزي كما يشير أستاذنا الدكتور مسعود شيهوب، ولهذا فإنه كثيرا ما يلجأ إلى وسائل التحقيق لإثبات الدعوى، وإن كان في بعض المنازعات خاصة المتعلقة بالأشغال العمومية والتي تتطلب الاستعانة بوسيلة المعاينة فإنه يحيل القضية للنظر فيها من جديد إلى محكمة الموضوع؛ لأنها الأقرب إلى موقع المعاينة.

المطلب الأول: سلطة القاضي في تكليف الطرفين بإيداع مستندات.

إن الاختلاف الواضح بين الإجراءات المدنية والإدارية يكمن خصوصا في مرحلة استيفاء مستندات الدعوى، وذلك لأن هذه المرحلة هي الكفيلة بمراعاة وضعية عدم التوازن بين الطرفين، خاصة في الحصول على المستندات، بينما تكون مرحلة تحقيق الدعوى متشابهة إلى حد ما، وهذا ما يعكسه توجه المشرع في قانون الإجراءات المدنية والإدارية نحو التفصيل في سلطات وواجبات القاضي الإداري في مرحلة استيفاء مستندات الدعوى، والاكتفاء بشأن سلطاته في التحقيق بالإحالة على ما ورد في الأحكام الخاصة بالدعوى المدنية، إن الممارسة العملية لهذه الوسائل تكشف عن أنها عادة ما تكون في صالح المدعي في دعوى الإلغاء في مواجهة الإدارة مصدرة القرار.

والأصل أن كل شخص يحق له الاحتفاظ بما لديه من أوراق ومستندات أو دفاتر خاصة به، بحيث لا يمكن أن يجبر أحد على تقديم وثيقة لاستخدامها كدليل ضده، أو مفيد لمصلحة غيره.

لكن هذا الأصل المعروف في قواعد الإثبات المدني لا يستقيم مع ظروف الدعوى الإدارية عموما ودعوى الإلغاء خصوصا، التي تتسم بوقوف الفرد أعزلا في مواجهة امتيازات الإدارة، وعلى رأسها حيازتها للأوراق والمستندات مقابل افتقاره لها مع أنه المكلف بعبء الإثبات.

ولهذا فقد حرص المشرع في الجزائر وفرنسا على تخويل المستشار المقرر سلطة تكليف الأطراف بإيداع المستندات التي يراها لازمة ومفيدة في فض النزاع، مع ترتيب النتائج على امتناع أحد الأطراف عن المبادرة إلى ذلك؛ وأخيرا فإن للمستشار المقرر حسب نص المادة 844 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري أن يطلب من الخصوم المستندات والوثائق التي يراها مفيدة لفض النزاع، ويستند المستشار المقرر في فرنسا إلى نصت المادتين (R.611-10 ET R.611-17 C.J.A.) لممارسة هذه السلطة أمام المحاكم الإدارية والمحاكم الإدارية الاستئنافية.

الفرع الأول: أساس سلطة قاضي الإلغاء في طلب تقديم مستندات من الإدارة.

لقد كان لجوء القاضي الإداري عموما وقاضي الإلغاء خصوصا إلى طلب تقديم مستندات من الإدارة محل خلاف فقهي على أساس عدم جواز توجيه أوامر من طرف القاضي للإدارة، غير أنه وإن كان الأصل العام هو استقلال الإدارة عن القضاء إعمالا لمبدأ الفصل بين السلطات، والذي يحظر على القاضي توجيه أوامر للإدارة، إلا أن ذلك لا يحول بين القاضي وبين توجيه أوامر للإدارة في نطاق وسائل التحضير، ومرد ذلك إلى أصل نشأة القضاء الإداري في كنف الإدارة، والثقة المتبادلة بينهما في العمل، وكون تلك الأوامر لا تشكل مساسا باستقلال الإدارة عن القضاء، لأنها في حقيقتها مجرد توجيهات إجرائية وليست أوامر إدارية تمت وظيفة الإدارة أو تهدر استقلالها.

لقد اعتبر بعض الفقه أن هذه السلطة داخلة ضمن دور القاضي في تحقيق ادعاءات الأطراف، وسعيه من أجل تكوين اقتناع المحكمة اللازم للإيفاء بالتزامها بالفصل في الدعوى على أساس دراية كاملة.

كما ذهب البعض إلى اعتبار أن طلب القاضي للمستندات لا يمكن اعتباره أمرا ملزما للإدارة؛ حيث يكون للإدارة الحرية في تقديم المستندات المطلوبة أو رفض ذلك، على أن تتحمل نتيجة رفضها، ومن البديهي أن تقرير هذه النتيجة من اختصاص القاضي بلا نزاع.

أما مجلس الدولة الفرنسي فقد توجه إلى الإقرار للقاضي الإداري بهذا الحق منذ حكم COUESPEL الذي ألزم فيه الإدارة بتقديم كافة الوثائق التي تساهم في تكوين اقتناعه وتسمح بالتحقق من مدى صحة ادعاءات المدعي، ثم تأكد هذا التوجه في حكم BAREL، ومن بعده حكم VICAT BLANC؛ إذ أكد هذان الحكمان حق القاضي في أن يطلب من الإدارة إيداع كافة الملفات والعناصر والوثائق والتقارير التي اتخذ القرار المطعون فيه بالاستناد إليها، وبصفة أكثر عمومية التي تسمح بتقدير مدى مشروعية هذا القرار.

لقد قدم السيد LETOURNEUR مفوض الحكومة من خلال التقرير الذي أعده في قضية BAREL أساسا منطقيا وقانونيا لسلطة القاضي في أمر الإدارة بإيداع المستندات التي استندت إليها في إصدار قرار رفض ترشح المدعيين، أوضح فيه أن الإدارة وإن كانت تتمتع بسلطة واسعة للحكم على صلاحية طالب الالتحاق بالمدرسة ومدى استيفائه للضمانات والشروط المطلوبة للوظائف التي تخولهم هذه المدرسة شغلها، إلا أن هذه السلطة التقديرية تخضع لقدر أدنى من الرقابة يتمثل في استناد القرار إلى سبب موجود ماديا وصحيح قانونيا وغير مشوب بالانحراف بالسلطة، ويترتب على هذه الرقابة أن يكون للمجلس الحق في أن يطلب من الإدارة الإفصاح عن سبب قرارها وتقديم جميع المستندات التي يرى لزومها للوصول إلى تكوين اقتناعه، وإلا فإن الرقابة التي يمارسها ستكون رقابة نظرية مجردة من كل قيمة عملية، وأن القول بأن قاضي الإلغاء يراقب الوجود المادي والقانوني لأسباب القرارات المعروضة عليه سيصبح نوعا من التظاهر، وإذا كان بوسع الإدارة أن تتمتع باختيارها في الإفصاح عن أسباب قراراتها الإدارية، فإن هذا الحل لا يمكن قبوله لأنه ما دمنا قد سلمنا بوجود الرقابة فإنه يجب أن تمارس بصفة فعالة.

والمحكمة الإدارية العليا في مجلس الدولة المصري هي الأخرى قدمت تأسيسا وافيا لهذا الحق بقولها:” إذا كان عبء إقامة الدليل يقع على عاتق المتضرر من القرار، فإن مقتضى إلقاء هذا العبء عليه ألا يحرم عدالة من سبل التمكن من إثبات العكس بفعل الإدارة السلبي أو بتقصيرها متى كان دليل هذا الإثبات بين يديها وحدها وامتنعت بغير مبرر مشروع عن تقديمه أو عجزت عن ذلك لفقده أو هلاك سنده بغير قوة قاهرة، ولا سيما إذا كان دفاعه في تعييب القرار مشتقة من الوثائق المتضمنة لهذا الدليل ومنحصرا فيها، إذ لا يقبل أن يكون وضعه في حال عدم تقديم الجهة الإدارية -لسبب ما- لأوراق التحقيق المحتوية على الأسباب التي قام عليها القرار أسوأ منها في حال تقديم هذه الوثائق”.

كما قضت الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا في الجزائر بأن: “عدم تقديم القرار مع العريضة لا يعد سببا كافيا للتصريح بعدم القبول، والقضاة مخولون بإجبار الإدارة مصدرة القرار على تقديم نسخة منه وباستخلاص النتائج الواجب استخلاصها عند الاقتضاء “.

إننا نرى أن ممارسة القاضي لدوره الإيجابي في إدارة الإثبات لا يحتاج إلى هذه التبريرات – مع حصافتها ومنطقيتها- ؛ فهو لم يخرج عن مقتضى وظيفته بل هو يمارس دوره الإجرائي وفق قواعد القانون بمختلف مصادره، والدستور أولها، والا كنا في حاجة إلى تبرير ما يقوم به البرلمان من رقابة على الحكومة بمختلف آليتها من استجواب وسؤال وملتمس الرقابة وحتى سحب الثقة.

إن القاضي عندما يوجه هذه الأوامر للإدارة يمارس وظيفته القضائية المتمثلة في البحث عن الحقيقة وإرساء العدالة، هذا ما منحه إياه الدستور ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، كما منحه له التشريع من خلال نص قانون الإجراءات المدنية والإدارية عليه.

أضف إلى ذلك أن الوثائق الإدارية موجودة في حوزة الإدارة تحقيقا للمصالح العامة للمجتمع وأسماها العدالة، ومتى كان ذلك صحيحا فإنه لا يسوغ للإدارة القائمة على تحقيق مصالح المجتمع عرقلة هذه المصلحة الجوهرية.

ومهما يكن فإن المشرع في كل من الجزائر وفرنسا حسم النزاع بتخويله المستشار المقرر حسب نص المادة 844 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري أن يطلب من الخصوم المستندات والوثائق التي يراها مفيدة لفض النزاع، كما يستند المستشار المقرر في فرنسا إلى نصي المادتين (R.611-10 ET R.611-17 C.J.A.) لممارسة هذه السلطة أمام المحاكم الإدارية والمحاكم الإدارية الاستئنافية.

الفرع الثاني: مدى سلطة قاضي الإلغاء في تكليف الإدارة بإيداع مستندات.

من أجل تكوين اقتناعه يملك قاضي الإلغاء إلزام الأطراف بالإدلاء بكافة المعلومات التي يقدر أنها تفيد في ذلك، ومع ملاحظة أن سلطة القاضي في تكليف الأطراف بإيداع المستندات واسعة، تجب الإشارة في المقابل إلى أن هناك طائفة من الوثائق والمستندات المشمولة بالسرية التي لا تكون محلا لهذه السلطة.

وما عدا ذلك فإن قاضي الإلغاء يتمتع بسلطة تقديرية واسعة في الأمر بالتكليف بإيداع بعض المستندات اللازمة للفصل في الدعوى، غير ملتزم بالاستجابة لطلب أحد الطرفين، وعليه فإنه لا محل لطلب إيداع مستندات غير منتجة أو خارجة عن نطاق النزاع، أو طلب أصول مستندات صورها مودعة بالملف ولم ينازع في صحتها.

على أن هذه السلطة التقديرية تخضع لرقابة قاضي النقض، فامتناع القاضي عن الأمر بإيداع بعض المستندات ولو دون طلب الأطراف، وفصله في المنازعة دون اكتمال تحضيرها يخول للأطراف الطعن في حكمه، الذي يكون قابلا للإبطال، لإخلاله بالالتزام بالفصل في الدعوى على أساس دراية كاملة.

وهكذا فقد قضت الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى سابقا وبتاريخ: 06/06/1987 بما يلي: “من المقرر قانونا أن المدعي الذي يبرر استحالة حصوله على نسخة من القرار المطعون فيه يعفى من تقديمه، وكذا في حالة عدم تبليغه، ومن المقرر أيضا أن على القاضي المحقق وفي هذا إطار السلطات المخولة له السعي لجعل الإدارة تقدم الوثيقة محل النزاع…

حيث أنه كان يتعين على القاضي المحقق وفي إطار السلطات التي يتوفر عليها السعي لجعل الإدارة تقدم الوثيقة محل النزاع.

حيث أنه يعد من النظام العام الوجه المأخوذ من أن المحكمة التي ترفض الطلبات على الحالة المقدمة بها لم تستنفد سلطاتها القضائية.

حيث يستخلص مما سبق أن القرار المطعون فيه مشوب بعيب عدم الصحة القانونية ويستوجب من أجل هذا الإلغاء”.

إن سلطة القاضي في تكليف الأطراف بإيداع المستندات لا تقتصر على المستندات الحاسمة في الدعوى فقط، بل تشمل سلطته كل الوثائق التي تساهم في تمكينه من الفصل في الدعوى أيا كان نوعها، فتشمل جميع المستندات التي في حوزة الإدارة والتي من المفيد الاطلاع عليها متى كانت تساعد على تكوين رؤية متكاملة وواضحة لدى القاضي تمكنه من تكوين عقيدته أو من الأطراف من الدفاع عن حقوقهم. ومثالها ملفات زملاء الموظف المؤدب، والحالات المماثلة التي يمكن من خلالها تبين مدى تعسف الإدارة في استعمال سلطتها التقديرية اتجاه الموظف الطاعن في القرار التأديبي محل دعوى الإلغاء.

وإذا كان قاضي الإلغاء يستقل بتقدير مدى الحاجة إلى توجيه التكليف بتقديم المستندات والبيانات المجدية في ضوء كل حالة على حدة، فقد جرى العمل على استعمال هذه الوسيلة كلما:

1- قدم المدعي في دعوى الإلغاء تأكيدات ووقائع من شأنها تكوين قرائن قوية على صحة الادعاء، فعندئذ يطلب القاضي من المدعى عليه وهو الإدارة عادة تقديم بعض المستندات والبيانات اللازمة للإيضاح.

2- إذا تعارضت الادعاءات وثار الخلاف بشأن حقيقة بعض الوقائع ففي هذه الحالة يطلب القاضي تقديم المستندات التي يمكنه من خلال الاطلاع عليها اكتشاف الحقيقة والحكم على أساسها.

إن وسيلة التكليف بإيداع مستندات تؤدي في الكثير من الأحيان إلى نتائج حاسمة، فمن وجه إليه التكليف بتقديم مستندات إما أن يستجيب أو لا يستجيب، ففي حالة استجابته في الآجال المحددة يتمكن القاضي من الاطلاع على المستندات والعناصر التي لم يكن في وسع المدعي الاطلاع عليها دون تدخل من جانبه ويصدر حكمه في ضوئها.

وإما أن لا تستجيب الإدارة أو تقدمها ناقصة أو تلتزم الصمت، وهذا يعوق القاضي عن أداء دوره في رقابة المشروعية، وينم عن إهمال وعدم تعاون، وفي هذه الحالات فإن قاضي الإلغاء سواء في مصر أو فرنسا يعتد في الإثبات بالوقائع التي لم تنكرها أوراق الملف ويعتبرها صحيحة طالما أن الطرف الذي وجه إليه التكليف لم يفندها ولم يقدم المستندات السابق طلبها والتي من شأنها التشكيك في صحة هذه الوقائع أو نفيها؛ فإهمال الإدارة وعدم تعاونها يعد دليلا على صحة الوقائع والادعاءات التي لم تقدم ما بدحضها ولم تقدم الوثائق التي تثبت عكسها، حتى ولو كان ذلك يرجع إلى أسباب خارجة عن إرادتها كتلف الملف المطلوب أو ضياعه، لأنها بذلك -ولو كانت حسنة- النية تجعل القاضي في وضع تستحيل معه رقابة المشروعية. والحال نفسه في حالة تقديم الإدارة لمستندات غير كافية أو غير منتجة.

لقد استقر قضاء المحكمة الإدارية بمصر على أن نكول الإدارة عن تقديم ما طلب منها تقديمه من مستندات أو بيانات أو تسببها في فقدها يقيم قرينة لصالح المدعي تؤدي إلى نقل عبء الإثبات إلى الإدارة، حيث يعد ذلك بمثابة تسليم منها بما جاء بعريضة الدعوى.

وقضت بالمقابل أنه متى نشطت الإدارة ووضعت الوثائق والمستندات تحت نظر المحكمة، فيغدو من المتعين حينئذ إسقاط تلك القرينة، حيث أنها قرينة مؤقتة تزول بتقديم المستندات التي يطلبها القاضي. كما أن هذه القرينة تسقط أيضا إذا وقع من جانب الأفراد إهمال أو غش أو تواطؤ مع عمال الإدارة لتحقيق هذه الغاية على حساب المصلحة العامة أو إذا كان من شأن الاعتداد بهذه القرينة من شأنه تهديد سير وانتظام مرفق عام أو تعريض الأمن العام أو الصحة العامة أو السكينة العامة للخطر، أو انهيار أحد المقومات الأساسية للمجتمع.

ففي حالة الأخذ بعذر الإدارة وإعفائها من تقديم الوثائق يكون القرار قد احتمى من الإلغاء وأفلت من رقابة القضاء، وتكون الإدارة قد كسبت بامتناعها عن تقديم الوثائق أو إضاعتها لها ميزة غير عادلة نتيجة لموقفها السلبي أو لتقصيرها.

المطلب الثاني: سلطة قاضي الإلغاء من خلال إجراء الخبرة.

الأصل أن القاضي يقوم باستجلاء وقائع الدعوى بنفسه لاستكمال قناعته في الوصول إلى الحقيقة القضائية لتكون أقرب ما يكون إلى الحقيقة الواقعية، دون أن يعتمد في ذلك على غيره، غير أن القاضي قد يتعذر عليه الوصول إلى حقيقة بعض الوقائع التي تتعلق ببعض المسائل الفنية في مختلف المجالات التي ليس للقاضي إلمام بها، فيلجأ إلى المتخصصين فيها من أجل استجلاء الحقيقة.

وتعرف الخبرة بأنها: “الاستشارة الفنية التي يستعين بها القاضي في مجال الإثبات لمساعدته في تقدير المسائل الفنية التي يحتاج تقديرها إلى معرفة فنية أو دراية علمية لا تتوافر لدى عضو الهيئة القضائية المختص بحكم عمله وثقافته.”

كما تعرف بأنها: “وسيلة تحقيق يمارسها تقني مستقل ومؤهل من أجل توفير معلومات، أو إجراء فحص تقني وتقديم نتيجة في تقرير يقدم للقاضي. “

ولقد استقر القضاء الإداري على الأخذ بهذه الوسيلة في مجال إثبات الدعوي الإدارية لعدم تعارضها مع طبيعة تلك الدعوى، بل تعد الوسيلة الأكثر كلاسيكية والأكثر استعمالا من بين وسائل الإثبات لما لها من الأثر الحاسم في الدعوى الإدارية، ولقد نصت عليها أحكام القوانين الإجرائية في مختلف الدول، وفي الجزائر نصت عليها المادة 858 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية والتي أحالت بشأنها إلى الأحكام المطبقة أمام القضاء المدني والمنصوص عليها في المواد من 125 إلى 145 من نفس القانون.

ونصت على اللجوء إلى الخبرة كوسيلة من وسائل تحقيق الدعوى الإدارية في فرنسا المادة R.621-1 C.J.A. بموجب قرار يصدر قبل الفصل في الموضوع يتخذ من طرف هيئة المحكمة، ويكون هذا القرار قابلا للاستئناف على حدة أو مع الحكم النهائي الذي تصدره المحكمة حسب نص المادة R.811-2 C.J.A. و R.811-6 C.J.A..

وهي وسيلة مستعملة في القضاء الإسلامي واستدل فقهاء الإسلام بعدة آيات على مشروعيتها من بينها قوله تعالى في الآية 83 من سورة النساء:” وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمة الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا”.

وتحكم ممارسة القاضي لدوره الإيجابي في الأمر بالخبرة وتقدير نتائجها ومدى أخذه بها وعلاقته بالخبير مجموعة من الأحكام والضوابط مصدرها الأحكام التشريعية أو الاجتهاد القضائي، ويمكن التعرض لهذه الأحكام والضوابط من خلال تبين سلطة قاضي الإلغاء في الأمر بالخبرة وفي تقدير نتيجتها (الفرع الأول)، ومن خلال التعرف على سلطات القاضي والتزامات الخبير في سير الخبرة (الفرع الأول).

الفرع الأول: سلطة قاضي الإلغاء في الأمر بالخبرة وتقدير نتيجتها.

تخضع إجراءات الخبرة للأحكام العامة لوسائل الإثبات، والتي تعتبر من قبيل الأصول العامة للتقاضي، ومن بينها حرية القاضي في الأمر بوسائل الإثبات، وعدم تقييده بنتائجها، والتزامه بتحقيق الطابع الوجاهي فيها.

غير أنه وإن كان الأصل في الخبرة أنها اختيارية، إذ يملك القاضي تقدير مدى ملاءمة اللجوء إليها، ويملك الأمر بها سواء بناء على طلب من الخصوم أو من أحدهم، ودون التزام بإجابتهم إلى هذا الطلب، فإن هذا الأصل مقيد بــــ:

1- ألاّ تتعلق الخبرة بمسألة قانونية، فلا يمكن تعين خبير مثلا من أجل تفسير شرط تعاقدية، أو لتكييف الوقائع قانونيا.

2- أن تكون الخبرة مفيدة ومجدية للفصل في النزاع.

والقاضي في كل هذا خاضع لرقابة قاضي الاستئناف.

ومعنى القيد الأول أن محل الخبرة يكمن في المسائل ذات الطبيعة الفنية فلا محل للجوء إليها بالنسبة للمسائل القانونية، لكن يجب عدم الخلط بين الوقائع والمسائل الواقعية التي تكون محلا للخبرة والمسائل القانونية والتكييفات القانونية للوقائع والتي تستبعد من مهمة الخبير، الذي يكون قد خرج عن مهمته بإبدائه لرأي قانوني أو تكييفات قانونية، ولهذه الأسباب تردد القضاء الإداري في فرنسا في بداية الأمر في قبول الخبرة في دعاوى تجاوز السلطة، التي تعد ميدانا لبحث الشرعية، فدعوى تجاوز السلطة ذات طابع قانوني بحت، غير أن مجلس الدولة الفرنسي قبل أخيرا اللجوء إلى الخبرة في ذلك الميدان إذا كان الفصل في شرعية القرار المطعون فيه يتوقف على عناصر واقعية.

ويقتضي القيد الثاني من القاضي أن يرفض طلبات الأمر بخبرة يرى أنها لا تفيد في النزاع، خاصة إذا رأى أن الغرض منها إطالة أمد الخصومة والإضرار بالخصم.

إن المجال الخصب للأمر بالخبرة هو منازعات القضاء الكامل ولكن وعادة يلجا قاضي الإلغاء إلى إجراء الخبرة في عدد من المجالات منها:

– منازعات نزع الملكية من أجل المنفعة العامة.

– المنازعات المتعلقة بالصفقات العمومية.

– المنازعات المتعلقة بالأملاك الوطنية.

– المنازعات المتعلقة بالضرائب المباشرة والرسوم المماثلة.

– المنازعات المتعلقة بالأضرار الناجمة عن سير المرافق العمومية.

– منازعات البيئة.

– منازعات الوظيفة العمومية.

إن غلاء الخبرات من جهة ومساهمتها في إطالة أمد الدعوى من جهة أخرى حملا القاضي على عدم اللجوء إليها إلا في الحالة التي يتبين فيها أنها ضرورية لا محالة، وأن تكلفتها أقل بكثير من المصالح المادية محل النزاع.

وإذا ورد نص بإلزامية الأمر بخبرة في نوع معين من المنازعات وجب على القاضي الأمر بها، كما هو الحال في منازعات الضرائب المباشرة والرسوم المماثلة، ومنازعات المباني الآيلة للسقوط غير أنه يجوز للقاضي رفض الحكم بإجراء الخبرة حتى وإن كانت إجبارية، إذا كان الهدف منها هو المماطلة أو كانت تحمل طابعا مغالطا.

وللقاضي مطلق الحرية في اختيار الخبير الذي يكلفه بإجراء الخبرة، شرط توافر عنصر الحياد فيه بأن لا تكون له علاقة سابقة بالنزاع، وشرط أن يكون ضمن قائمة الخبراء المحلفين، وفي المنازعات التي تتطلب خبرة طبية يجب أن يكون الطبيب المعين اختصاصيا.

وللقاضي بمقتضى سلطته التقديرية في الأمر بوسائل التحقيق أن يعين أكثر من خبير، متى كان من طبيعة النزاع أن يحتاج تحقيقه لعدة تخصصات، وفي هذه الحالة فإنه يتعين على القاضي أن يسبب ذلك.

ويعتبر تقرير الخبير بعد إيداعه ضمن مستندات الملف من أدلة الإثبات التي يمكن الاعتماد عليها كعنصر فعال أثناء الفصل في النزاع.، وتعتبر البيانات التي تضمنها بشأن الوقائع التي باشرها ونفذها الخبير صحيحة لحين الطعن فيها بالتزوير، أما غير ذلك من البيانات كالرأي الفنّي تكون قابلة لإثبات العكس.

ولا يتقيد القاضي بنتائج الخبرة، إلا أن الواقع يثبت أنه غالبا ما يأخذ بما جاء في التقرير. وباستطاعته إذا رأى أن الخبرة ناقصة اتخاذ جميع التدابير المناسبة من بينها إجراء تحقيق تكميلي أو مثول الخبير أمام المحكمة لتقديم التوضيحات والمعلومات الضرورية، كما أن له الأمر بإجراء خبرة تكميلية أو خبرة مضادة، أو الأمر بإجراء آخر كالانتقال إلى المعاينة.

ورغم أن القاضي غير ملزم بإحالة الدعوى إلى الخبير، وغير ملزم بنتيجة الخبرة، إلا أنه إذا أحيلت الدعوى إلى الخبير وفصلت فيها المحكمة قبل أن يودع الخبير تقريره عد الحكم باطلا، إلا إذا جدت ظروف تؤكد عدم جدوى الخبرة.

وأخيرا تجدر الإشارة إلى أنه ورغم أن القاضي الإداري الفرنسي لا يستطيع الاعتماد صراحة على خبرة غير قانونية -كتلك التي لا تراعي مقتضيات الوجاهية، أو التي يتجاوز فيها الخبير المهمة التقنية التي كلف بها- إلا أنه يستطيع الاعتماد على المعلومات الواردة فيها من أجل تكوين اقتناعه.

الفرع الثاني: سلطات قاضي الإلغاء والتزامات الخبير في سير الخبرة.

توصف العلاقة بين القاضي الآمر بالخبرة والخبير بأنها علاقة تبعية وتعاون في الوقت نفسه، وتظهر علاقة التبعية في كون القاضي هو الذي يملك اختيار الخبير، كما يحدد مهمة الخبير تحديدا دقيقا، ويحدد أجل إيداع تقرير الخبرة بأمانة الضبط، كما أنه هو الذي يفصل في طلب رد الخبير، وإذا لم يقم الخبير بالمهمة التي قبل بها أو لم ينجز تقريره أو لم يودعه في الأجل المحدد، يمكن للقاضي الحكم عليه بكل ما تسبب فيه من مصاريف وتعويضات مدنية واستبداله.

وتجدر الإشارة في هذا الصدد أنه إذا كان الخبير قد عين تلقائيا من قبل الهيئة القضائية الإدارية دون أن يطلب الخصوم ذلك، فإنه بإمكان أي من الخصوم أو كلاهما وفقا للمادة 133 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية طلب رد الخبير بسبب القرابة المباشرة أو القرابة غير المباشرة لغاية الدرجة الرابعة أو لوجود مصلحة شخصية للخبير المعين أو لأي سبب جدي، ويجب تقديم عريضة تتضمن أسباب الرد خلال 8 أيام من تاريخ تبليغه بهذا التعيين، وتفصل الجهة القضائية في هذا الطلب دون تأخير بأمر غير قابل لأي طعن.

ولأن الخبرة تتميز بطابع تقني؛ ولأن الخبير لا يعين إلا لتنوير المحكمة حول نقاط تتعلق بالوقائع، وبخصوص نتائج تقنية تتضمنها، فإنه من الضروري أن يحدد القاضي إطار الخبرة تحديدا جيدا، لتلافي خروج الخبير عن هذا الإطار، ومن أجل ذلك فإنه يحدد الوقائع المطلوب إبداء الرأي الفني بشأنها، مع احترام حدود الطلب الوارد في الدعوى المتنازع بشأنها، كما يعين له ميعاداً لإيداع التقرير.

بينما تظهر علاقة التعاون بين القاضي والخبير في وجود نوع من الحوار المتبادل بين القاضي والخبير أثناء أداء مهمته، فالقاضي لا يتخلى عن الدعوى عندما يعهد إلى الخبير بمهمة التحقيق فيها، وإنما يظل الخبير طيلة مدة الخبرة تحت رقابة القاضي، فالقاضي الآمر بالخبرة هو الذي يحدد مبلغ التسبيق، وهو الذي يعين الخصم أو الخصوم الذين يتعين عليهم إيداع التسبيق، والخبير يرجع إلى القاضي في حالة تطلب الخبرة اللجوء إلى ترجمة.

وفي إطار هذه العلاقة تلقي على كاهل الخبير مجموعة من الالتزامات يجب عليه احترامها ضمانا لتحقيق الهدف من الأمر بالخبرة، فهو في سبيل ذلك يلتزم بمباشرة الأشغال بمجرد إخطاره بالمهمة؛ ولهذا الغرض يتعين عليه دراسة الوثائق التي بحوزته، وسماع كل من له علم ومن شأنه تزويده بمعلومات، وألا يتردد في الاتصال بمختلف الإدارات التي تحوز وثائق أو معلومات قد تكون حاسمة، وعليه أن يرفع تقريرا إلى القاضي بجميع الإشكالات التي تعترضه، وهذا الأخير يأمر بأي تدبير يراه ضروريا، فعلى الخبير أن لا يتردد في اللجوء إلى الجهة القضائية التي عينته لطلب تدخلها على مستوى الإدارات التي تمتلك أو تحوز معلومات أو وثائق من شأنها أن تساعده على إنجاز مهمته، ويتولى الخبير القيام بكافة المساعي الضرورية وبكل التنقلات اللازمة ليتسنى له حصر وتفهم النزاع جيدا.

والأصل أن الخبير يقوم بالمهمة بنفسه، إلا أنه يمكن له استثناء أن ينيب غيره في إثبات بعض التفاصيل المادية، وله في سبيل القيام بمهمته القيام بكل التحقيقات التي تتطلبها، دون الخروج عن حدود هذه المهمة ودون التطرق إلى المسائل القانونية، وإذا خرج الخبير عن حدود المهمة المسندة إليه، فإن ذلك لا يؤثر في الحكم الذي اقتصر على استعمال العناصر التي تدخل في مهمته لوحدها والتي تضمنها التقرير.

ولأن الخبير ليس قاضيا، فهو لا يمكنه تلقي الشهادة بالمعنى القانوني للكلمة، وليس له إذن أن يطلب ممن يسمعهم أداء اليمين، كما أنه غير ملزم بتحرير محضر سماع أو أن يطلب من الأشخاص الذين تم سماعهم التوقيع على تصريحاتهم. غير أن له سماع الحاضرين من أجل ضمان سير حسن للخبرة. وللقاضي الاعتماد على المعلومات الشفهية التي تلقاها الخبير، وإن كان ليس لها نفس القوة مع المعلومات المستقاة من خلال محضر سماع شهود رسمي.

إن الخبرة هي إجراء من إجراءات الدعوى تخضع للأحكام التي تحكم إجراءات الدعوى القضائية ومن أهمها، مبدأ الوجاهية مما يفرض على الخبير مراعاة ذلك، ضمانا لحقوق الدفاع، فللخصوم حضور إجراءات الخبرة أو تعيين نائب لهم، وتسجل ملاحظاتهم التي تصدر عنهم أثناء الخبرة في تقرير الخبرة عند الاقتضاء، إذ أن الخبير ليس وكيلا عن أصحاب الشأن، ولذلك يتعين عليه إخطار الأطراف بتاريخ وساعة إجراء الخبرة، مع تمكينهم من الحضور أثناء مباشرة إجراءاتها سواء بأنفسهم أو عن طريق من يمثلهم وتقديم ملاحظاتهم، وإخطارهم بإيداع التقرير، وتمكينهم من الاطلاع والتعقيب عليه، وإلا كانت الإجراءات باطلة لمخالفة مبدأ وجاهية الإجراءات. غير أن تقاعس الأطراف عن الاطلاع في الموعد المحدد لا يؤثر على مبدأ الوجاهية.

كما قضت المحكمة العليا بأن عدم إخطار الخبير للخصوم بالأيام والساعات التي يقوم فيها بإجراء أعمال الخبرة لا يؤثر على صحة إجراءات الخبرة متى حضر الخصوم دون إخطارهم، وهذا ترتيبا على أن الهدف من هذا الإخطار هو تمكين الخصوم من الحضور وإبداء ملاحظاتهم واستفادتهم من مزايا مبدأ الوجاهية، فجاء في حكمها: ” من المقرر قانونا أنه يستوجب على الخبير أن يخطر الخصوم بالأيام والساعات التي يقوم فيها بإجراء أعمال الخبرة، ومن المستقر عليه قضاء أن تسبب عدم الإخطار المذكور في منع الأطراف من تقديم ملاحظاتهم وطلباتهم فإن ذلك يؤدي حتما إلى بطلان إجراءات الخبرة…ولما ثبت من قضية الحال أن إجراءات الخبرة تمت بحضور كل الأطراف بما فيها وزارة الدفاع الوطني التي تم تمثيلها بضابطين، ولم يقدما أية ملاحظة فإن ذلك يعني أن أعمال الخبرة تمت بطريقة قانونية”.

وهكذا يبدو أن القاضي يتدخل من أجل المساهمة في إنتاج الأدلة، وفي سبيل ذلك يستعين بالخبراء الفنيين والتقنيين في المسائل التي لا علم له بها، من أجل الوصول إلى الحقيقة، مع احترام الأصول العامة للتقاضي وعلى رأسها مبدأ المواجهة، وفي نفس الوقت فإن استعانته بشخص غريب عن الخصومة في الإثبات لا يعني أن هذا الشخص مكلف بجزء من عبء الإثبات؛ بل هو يعمل تحت تصرف القاضي الذي له سلطة واسعة في الاستعانة به من عدمها، كما أن له سلطة في الأخذ بما وصل إليه الخبير أو طرحه.

 

المطلب الثالث: سلطة قاضي الإلغاء في إجراء المعاينة.

المعاينة وسيلة موضوعية للتحقيق يهدف القاضي من خلالها إلى الحصول على معلومات تتعلق بوقائع متنازع عليها في مكانها من خلال انتقاله بنفسه إلى مكان الوقائع أو الأشياء لإثبات الملاحظات والبيانات واجراء التحقيقات المناسبة، أو الاطلاع على أصول بعض المستندات والوثائق والملفات الإدارية التي تعذر نقلها.

وتعرف المعاينة أيضا بأنها:” وسيلة اختيارية في الإثبات يلجأ إليها القاضي من تلقاء نفسه أو بناء على طلب الخصوم، وفيها تنتقل المحكمة بكامل هيئتها أو ينتقل من تنتدبه لذلك من أعضائها لمشاهدة محل النزاع على الطبيعة.

وتعد المعاينة من أهم الأدلة في المسائل المادية، وقد تكون في بعض الأحوال الدليل القاطع الذي لا يغني عنه دليل سواه، فالمشاهدة على الطبيعة هي التي قد توفر أحيانا الدليل الحاسم على صحة ادعاءات الخصوم أو كذبهم.

وتختلف المعاينة عن الخبرة من حيث أن هدفها هو إثبات الوجود المادي للوقائع أو حالة الأشياء أو البيانات أو المستندات، بينما هدف الخبرة الحصول على رأي فني وعلمي لمساعدة القاضي على تكوين قناعته، كما أن المعاينة تتم من طرف القاضي بنفسه بينما تتم الخبرة من طرف الخبير. وقد تكون المعاينة إجراءًا تكميليا لخبرة ناقصة وغير معبرة عن الواقع، فيأمر قاضي الإلغاء بالانتقال للمعاينة.

الفرع الأول: أهمية المعاينة ومكانتها.

تكمن أهمية المعاينة في اطلاع المحكمة بأقصر الطرق على حقيقة النزاع، إذ أن مشاهدة القاضي بأم عينه محل النزاع يساهم كثيرا في تكوين عقيدته التي يبني عليها حكمه، فتعطيه فكرة مادية محسوسة عن الواقع لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعطيها إياه الوسائل الأخرى للإثبات، كأقوال الشهود وتقارير الخبراء التي يكون فيها الخبير وسيطا بين القاضي والحقيقة ذات الطابع التقني، بالإضافة إلى أن المعاينة تعطي القاضي الثقة والطمأنينة في تكوين عقيدته وبعيدا عن التأثر بكلام الخصوم، إن الهدف من المعاينة هو الاطلاع على الحقيقة عن قرب، فهي توفر للقاضي اتصالا مباشرا مع النزاع.

ومن مزايا المعاينة أن مصاريفها محدودة وغير مرهقة كما أنها لا تستهلك وقتا طويلا يؤخر الفصل في الدعوى، ويسمح الانتقال للمعاينة للقاضي بأن يتعرف بدقة على الوضع والحال والشكل الموضوع الدعوى، لقد عبر Jérémie BOULAY عن هذا المعنى بقوله: “إنها أكثر مرونة من الخبرة، وهذا ما جعلها الوسيلة الأكثر استعمالا في العديد من الدعاوى”، وقد أصبح هذا الإجراء أكثر شيوعا عما كان عليه من قبل، بسبب تطور منازعات التعمير والبيئة ونزع الملكية للمنفعة العامة .

لقد عبر الأستاذ P. delvolvé عن أهمية المعاينة ودورها الحاسم في الكشف عن الحقيقة بعبارة دقيقة في قوله:  “Le juge observé, Le juge constate, la vérité éclate.”.

ولأهميتها البالغة فإنه يمكن الاستعانة بوسيلة المعاينة في جميع ميادين القضاء الإداري، كما يمكن اللجوء إليها لإثبات جميع أوجه عدم المشروعية التي قد تشوب القرارات الإدارية، غير أن المجال الخصب للمعاينة كوسيلة إثبات هو دعاوى القضاء الكامل، وفي الغالب يأمر القاضي بإجراء المعاينة في المسائل العقارية أو الأشغال العامة والبيئة والتعمير ومنازعات نزع الملكية، غير أن القضاء الإداري يلجأ إليها أيضا في دعاوى الإلغاء، كانتقاله للتحقق من البيانات الواردة في أصل القرار الإداري المطعون فيه في حالة تعذر إيداع الأصل ضمن ملف الدعوى.

الفرع الثاني: مظاهر حية قاضي الإلغاء في إجراء المعاينة ومداها.

إعمالا لخاصية حرية القاضي في الأمر بوسائل الإثبات، وعدم تقييده بنتائجها فإن قاضي الإلغاء غير ملزم بالاستجابة لطلبات الخصوم بالانتقال إلى المعاينة، ولو طلبها جميع الأطراف، وقد يأمر بها ولو لم يطلبها أي طرف، شرط أن تكون مجدية، ولا تكون مجدية إذا لم تكن هناك مسألة محل نزاع، أو كان قد أصاب مكان المعاينة تغير أو تعديل، فيكون الحكم الصادر بها حينئذ محلا للإلغاء. كما أنه غير ملزم بالاستناد إلى نتيجة المعاينة في حكمه.

وللقاضي استنادا إلى هذه الحرية العدول عما أمر به من انتقال للمعاينة إذا رأى أن هذا الإجراء أصبح غير مجد، أو أن ما استجد في القضية كاف لتنوير عقيدته.

وإعمالا لمبدأ الوجاهية في الإجراءات يجب أن تتم المعاينة في مواجهة الأطراف وبعلم منهم، ومن ثم فإنه يتعين إخطار الأطراف بيوم وساعة إجراء المعاينة، لتمكينهم من حضور إجراءاتها، وهو إجراء جوهري يترتب على إغفاله بطلان المعاينة وبطلان الحكم الصادر على أساسها. كما لا يمكن للمحكمة القيام بزيارة غير رسمية للأمكنة، وإذا حدث ذلك يجب الامتناع عن ذكرها في الحكم.

ويمكن للقاضي أثناء المعاينة أن يستمع على سبيل الاستدلال لمن يرى فائدة في سماعه. ويتم تحرير محضر تبين فيه الإجراءات وما تم من تحقيقات أو ملاحظات، دون بيان رأي الهيئة أو العضو الذي قام بها، وتدون في المحضر الأقوال التي سمعت خلال المعاينة على سبيل الاستدلال.

ولقد خول المشرع الجزائري لما تولى تنظيم هذا الإجراء في قانون الإجراءات المدنية والإدارية قاضي الإلغاء العديد من السلطات في هذا الشأن منها:

1 إذا تطلب موضوع الانتقال معارف فنية، جاز للقاضي أن يأمر في نفس الحكم بتعيين من يختاره من التقنيين لمساعدته (المادة 147).

2 يمكن للقاضي أثناء تنقله، سماع أي شخص من تلقاء نفسه أو بناء على طلب الخصوم إذا رأى ضرورة لذلك (المادة 148/1).

3 كما يحوز له في نفس الظروف سماع الخصوم (المادة 148/1).

لكن التساؤل الذي يثور في شأن الأشخاص الذي نصت المادة 148/1 على جواز سماعهم، هل يشترط فيهم ما يشترط في الشهود، وهل تسري عليهم القواعد المتعلقة بالشهادة أم لا؟

لقد ذهب جانب من الفقه إلى أن القاضي يمكن له أثناء سماعه لهؤلاء الأشخاص، أن يرى في تلك الأحوال دليلا كاملا يقضي بموجبه، ولذلك وجبت مراعاة القواعد والإجراءات القانونية التي تتبع في سماع الشهود أمام المحكمة، وخاصة تحليفهم اليمين قبل سماع أقوالهم، في حين يرى جانب آخر من الفقه أن سماع الأشخاص في هذه الحالة إنما يكون للمساعدة على إتمام المعاينة وليس لتقديم أدلة إثبات في القضية، ومن ثم لا تخضع أقوالهم للقيود أو الشكل الذي تخضع له الشهادة كدليل إثبات.

إن الرأي الأخير يتفق أكثر من سابقه مع النظام الحر للإثبات الإداري، خاصة مع صعوبة احترام قواعد الشهادة في مثل هذه الحالات؛ لكون السماع خارج المحكمة وغير مهيأ له، وقد يكون حضور الشخص المسموع إلى المكان صدفة.

وأخيرا فإن إتمام إجراءات المعاينة على الوجه الفعال يعتمد على معاونة الجهة التي تقع في حوزتها أو تحت يدها أو في نطاق اختصاصها المستندات أو الوقائع أو الأموال أو الأماكن المراد معاينتها، فإذا كانت الإدارة وجب عليها تقديم المعاونة الكاملة للقاضي الإداري وتسهيل مهمته، ومتي امتنعت عن ذلك أو قامت بعرقلته، يذكر ذلك في المحضر، ويمكن إخطار السلطات الرئاسية إن اقتضى الأمر.

إن قاضي الإلغاء من خلال إجراء المعاينة، يبدو وكأنه يتكفل وحده بالبحث عن الدليل؛ ليس بين ثنايا مذكرات الأطراف والأسانيد التي قدموها أو الوثائق التي أرفقوها، ولكن بالتماس مع مكان النزاع، إنه يبدو متكفلا بعبء الإثبات بشكل أساسي؛ مع الاعتماد بشكل ثانوي على أقوال الخصوم ومن يرى سماعه من الحاضرين، إنه يعتمد بالأساس على ما يتكلم به مكان المعاينة الصامت، وما يراه بأم عينه.

المطلب الرابع: سلطة قاضي الإلغاء في إجراء الاستجواب.

الاستجواب هو استدعاء أحد الخصوم أمام القضاء لسؤاله عن وقائع معينة بغية الحصول على اعترافه وإقراره إزاءها، أو إذا لم يؤد إلى إقراره، على الأقل أسفر ذلك عن توضيح المسائل التي تبدو غامضة أمام القاضي، أو ربما تمكين هذا الأخير من استخلاص قرائن الإثبات، ولهذا فهو أحد أهم طرق التحقيق لفعاليته.

والاستجواب وثيق الصلة بالإقرار، إذ غالبا ما يؤدي الاستجواب بعد مناقشة الخصم في مجلس القضاء، ومجابهته بالحقائق الواضحة إلى التخلي عن أفكاره، ثم إقراره بالواقعة محل النزاع كلا أو جزءا.

لقد رأى بعض الفقه في الاستجواب ما يتنافى مع طبيعة الدعوى الإدارية، ويحمل نوعا من المساس بهيبة الإدارة، لكن أهمية الاستجواب كما سبقت الإشارة إليه وفعاليته شكلت هي الأخرى مبررا لعدم التفريط فيه كوسيلة من أهم وسائل الإثبات أمام قاضي الإلغاء، ولهذا فإن الموقف في كل من الجزائر ومصر وفرنسا تأرجح بين كلا الاعتبارين.

الفرع الأول: الموقف في فرنسا.

لقد نظمت المادة 36 قانون 22 جويلية 1889، الاستجواب أمام مجالس الأقاليم في فرنسا، كما نصت المادة 45/2 من قانون 1889 على إمكانية سماع القاضي أعوان الإدارة واستدعاؤهم للمثول أمامه من أجل تقديم شروحات”، كما نصت عليه المادة 149 من تقنين المحاكم الإدارية والمحاكم الإدارية للاستئناف وتركت السلطة التقديرية للقاضي في إجرائه بطلب من الخصوم أو عدم إجرائه، ورغم ذلك فإن هذا التنظيم لم يلق تطبيقا من المحاكم الإدارية، كما أن مجلس الدولة الفرنسي وهو غير مقيد بنص في هذا الشأن لم يلجأ إلى الاستجواب احتراما لمبدأ الفصل بين القضاء والإدارة العاملة وتجنبا للصدام بينهما، والدخول في خلاف مفتوح مع الإدارة العامة بمناسبة هذا الإجراء.

وفي الحالات القليلة التي تم فيها مثول أصحاب الشأن أمام قاضي الإلغاء ومناقشتهم بمعرفته واستيضاح الوقائع منهم بالجلسة، فإن ذلك لا يكون في الواقع في صورة استجواب ولكن في صورة استيضاح وبيان شفهي.

وبذلك يمكن القول حسب الفقيه Débbasch أن استجواب الأطراف غير معمول به أمام القضاء الإداري الفرنسي شأنه في ذلك شأن اليمين الحاسمة، حيث يعمل مجلس الدولة على تجنيب القضاء الإداري الدخول بمناسبة إجراء الاستجواب في صدام أو خلاف مفتوح مع الإدارة العاملة.

إن هذا الموقف من القضاء الإداري الفرنسي سواء على مستوى المحاكم الإدارية أو على مستوى مجلس الدولة هو الذي دفع إلى التخلي عن الاستجواب كوسيلة من وسائل الإثبات في تعديل تقنين المحاكم الإدارية والمحاكم الإدارية للاستئناف، غير أن كلا منهما أصبحت تلجأ إلى الاستجواب وتطبقه لأن التقنين يذكر في عبارة له: “مختلف تدابير التحقيق” دون أن يسميها، وهي عبارة واسعة تشمل الاستجواب وغيره من التدابير التحقيقية.

إننا نرى أن دور قاضي الإلغاء هو البحث عن الحقيقة، وهو في قيامه باستجواب الإدارة يقوم بعمله في بحث المشروعية ولهذا فإنه وإن كان عزوف قاضي الإلغاء عن ممارسة إجراء الاستجواب في مرحلة مبكرة من نشاطه مبررا فإن هذه المبررات لم تعد مقنعة الآن، وعلى القاضي أن يكون أكثر جرأة في ممارسة هذه الوسيلة، مع ترتيب الأثر اللازم لعدم انصياع الإدارة وتعاونها من أجل الوصول إلى الآثار المرجوة من مباشرتها.

الفرع الثاني: الموقف في مصر.

لقد تبنى المشرع المصري الاستجواب كوسيلة من وسائل تحقيق الدعوى الإدارية إذ نصت المادة 72 من القانون رقم 47 لسنة 1972 المتعلق بمجلس الدولة على أنه: ” للقاضي في سبيل تهيئة الدعوى الاتصال بالجهات الحكومية ذات الشأن للحصول على ما يكون لازما من بيانات وأوراق وأن يأمر باستدعاء ذوي الشأن لسؤالهم عن الوقائع التي يرى لزوم تحقيقها؛ ويعني هذا الإقرار بسلطة القاضي الإداري المصري في استجواب الخصوم، ما دام لفظ ذوي الشأن ينصرف إلى أطراف الدعوى بما فيهم الإدارة. فيجوز للقاضي الإداري اللجوء إليه في تحقيق الدعوى، وترك كيفيته وإجراءاته لقانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية، حيث يطبقها القاضي الإداري فيما لا يتعارض مع طبيعة الدعوى الإدارية.

غير أن أغلب الفقه المصري يقف إلى جانب القضاء الإداري الفرنسي؛ معتبرا أن سلطة القاضي في الاستجواب، تقتصر على استجواب الأفراد دون الإدارة، استنادا إلى مبدأ استقلال الإدارة، وإلى وجوب رعاية الصفة الكتابية لإجراءات الدعوى الإدارية – إذ أن الاستجواب ذو طابع شفوي- وبالتالي على القاضي أن يطلب ما يريده كتابة، وترد عليه الإدارة كتابة، كما يدعو هذا الرأي إلى التفرقة بين استدعاء رجل الإدارة بقصد استجوابه والحصول على إقرار منه وهو أمر غير مقبول، وبين دعوة رجل الإدارة بقصد تنوير القاضي بشأن بعض المسائل الفنية، وهو أمر مقبول وجائز.

في الحقيقة إن التفرقة بين الحالتين في رأينا غير ذات معنى على المستوى العملي، فمناط هذه التفرقة هو قصد القاضي من الاستدعاء وهو أمر نفسي لا يمكن الاطلاع عليه، وغاية ما في الأمر هو اختلاف في العبارات المستعملة في الأمر بهذا الإجراء، ففي الحالة الأولى نسميه استجوابا، وفي الحالة الثانية نسميه استيضاحا أو طلب إيضاحات، وفي كلتا الحالتين إذا أتى هذا الإجراء إلى إقرار، فإنه لا محالة سيكون دليلا معتمدا لدى القاضي، وعلى هذا الأساس فإن الغاية من استبعاد الاستجواب نفسية أكثر منها قانونية.

ورأي القائلين بعدم جواز استجواب الإدارة لا يستند إلى نص قانوني بل هو يخالف صريح القانون، كما أن العمل في القضاء الإداري المصري يكشف أن “رجال الإدارة المختصين لا يجدون غضاضة في المناقشة، ويقدمون ما لديهم من بيانات ومعلومات بكل ارتياح، حيث يعتبرونه نوعا من الخبرة الإدارية العملية التي تسهل مهمة القاضي دون المساس باستقلالهم، وأنه صورة إيجابية للتعاون بين القاضي والإدارة، ولو كانت طرفا في الدعوى تحقيقا لسيادة المشروعية، والنظر إلى الدعوى الإدارية بطريقة موضوعية مجردة عن اللدد في الخصومة”.

وفي الواقع يؤدي الاستجواب في حالات كثيرة إلى تقديم بيانات ومعلومات تفيد في الدعوى ويصعب الحصول عليها دون المناقشة وجها لوجه، وهذا لا يعتبر إخلالا باستقلال الإدارة إذ لا يتضمن الحلول محلها في التقدير، كما لا يتضمن أوامر أو تعليمات رئاسية لها، ولا يعدو أن يكون حوارا ومناقشة موضوعية بين القاضي ورجل الإدارة، حول طبيعة العمل الإداري وظروفه وملابسات وقائع الدعوى لاستيضاح ما غمض منها في جو من التعاون بين الإدارة والقاضية.

الفرع الثالث: الموقف في الجزائر.

رغم أن المشرع الجزائري في قانون الإجراءات المدنية والإدارية أحال في أغلب مواده المتعلقة بوسائل التحقيق إلى الأحكام المنصوص عليها في الجزء المتعلق بوسائل التحقيق أمام جميع الجهات القضائية، إلا أن الاستجواب كوسيلة تحقيق أغفل الإحالة أو النص عليه أمام جهات القضاء الإداري، وهذا ما يعطي الانطباع أن المشرع الجزائري ساير ما استقر عليه العمل في القضاء الإداري الفرنسي الذي لم يلجأ إلى وسيلة الاستجواب.

إلا أن التمعن في نصوص قانون الإجراءات المدنية والإدارية يبين خلاف ذلك، بل يدعو إلى القول بأن المشرع الجزائري، تبنى صراحة وسيلة الاستجواب أمام القضاء الإداري.

ويظهر ذلك من خلال النص عليه في المواضع التالية من قانون الإجراءات المدنية والإدارية:

1) في الكتاب الأول المتعلق بالأحكام المشتركة لجميع الجهات القضائية

أشارت إليه ثلاثة مواضع هي:

المادة 27 الواردة ضمن الباب الثاني من هذا الكتاب والتي جاء فيها: ” يمكن للقاضي أن يأمر في الجلسة بحضور الخصوم شخصيا لتقديم توضيحات يراها ضرورية لحل النزاع…”

وكما أشرنا فإن هذه المادة واردة ضمن الكتاب الأول من القانون والمتعلق بالأحكام المشتركة لجميع الجهات القضائية ومن بينها جهات القضاء الإداري.

وكذلك في القسم الخامس من الفصل الثاني من الباب الرابع من نفس الكتاب والمعنون: ” في حضور الخصوم واستجوابهم“.

حيث نصت المادة 98 على أنه: ” يمكن للقاضي في جميع المواد أن يأمر الخصوم أو أحدهم بالحضور شخصيا أمامه…”.

ويلاحظ أن صيغة في جميع المواد مزيلة لأي لبس بحيث تتدرج مادة المنازعات الإدارية تحتها.

وأخيرا فإن المادة 107، لم تترك مجالا للشك في هذا الشأن من خلال نص فقرتها الأخيرة والتي جاء فيها: ” يمكن أن يأمر بمثول الممثل القانوني للشخص المعنوي، سواء كان خاضعا للقانون العام أو الخاص.”

2) في الكتاب الرابع المتعلق بالإجراءات المتبعة أمام الإجراءات القضائية الإدارية، عندما أحال في أحكام الشهادة أمام جهات القضاء الإداري على أحكامها المشتركة أمام جميع الجهات القضائية، بموجب المادة 859، أضاف بموجب المادة 860/2 أنه يجوز سماع أعوان الإدارة، أو طلب حضورهم لتقديم الإيضاحات. وحتى وإن لم تفصل المادة في إجراءاته فإن يخضع للأحكام الواردة ضمن الكتاب المتعلق بالأحكام المشتركة أمام جميع الجهات القضائية، كل ما في الأمر أن على القاضي أن يقرر بحنكته كيفية التعامل مع الإدارة كخصم مراعيا اختلافها عن الخصوم العاديين.

وعلى هذا الأساس يمكننا القول أنّ للقاضي الإداري الجزائري الأمر بإجراء الاستجواب، وفق إجراءات تراعي طبيعة الدعوى الإدارية، وتحترم استقلالية الإدارة عن القضاء.

إن المبادئ التي تحكم إجراءات الإثبات والمتمثلة في اختيارية وسائل الإثبات والوجاهية في ممارستها، تحكم أيضا إجراء الاستجواب؛ وهكذا فإن اللجوء إلى هذا الإجراء اختياري بالنسبة للقاضي (المادة98) كما يتسم بخاصية المواجهية (المواد من 99 إلى 104) وخاصية الكتابية (المادة 105)، وإذا أدى سماع رجل الإدارة إلى إقرار صريح ومحدد من أحد الأطراف اعتمد عليه، أما إذا لم يؤد إلى مثل هذا الإقرار، واقتصر الأمر على إجابات مبهمة وغير محددة، فقد يستخلص منها القاضي قرائن يعتمد عليها في الإثبات، أما إذا لم يحضر أحد الأطراف أو لم يرد على الاستجواب، أو رفض التوقيع على المحضر، فإن القاضي يقدر قيمة ذلك وأثره في ضوء ظروف الدعوى، وقد ينتهي إلى اعتباره إقرارا ضمنيا من جانبه.

وفي الأخير تجب الإشارة إلى أن دور قاضي الإلغاء يبلغ منتهاه من خلال المادة 863 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية التي خولت رئيس تشكيلة الحكم تعيين أحد أعضائها للقيام بكل تدابير التحقيق غير تلك الواردة في المواد من 858 إلى 861.

إن هذا الموقف المتحرر للمشرع الجزائري يتفق أكثر والنظام الحر للإثبات المتبني في الإثبات الإداري، وذلك من خلال إرشاد قاضي الإلغاء في المادة 860/2 إلى إمكانية سماع رجال الإدارة وطلب التوضيحات منهم، دون أن يحدد له إجراءات معينة يجب إتباعها في ذلك، وأيضا من خلال نص المادة 863 التي خولت قاضي الإلغاء أيضا الأمر بأي تدبير تحقيق لم ينص عليه هذا القانون.

إن المبادئ التي تحكم إجراءات الإثبات والمتمثلة في اختيارية وسائل الإثبات والوجاهية في ممارستها، تبقى تحكم أي إجراء آخر متخذ سواء في إطار المادة 860/2 أو في إطار المادة 863 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية.

المبحث الثالث: دور قاضي الإلغاء

في تقدير الأدلة.

إن دور قاضي الإلغاء في الإثبات على مستوى الإجراءات لا يقتصر على حريته في الأمر بوسائل الإثبات مما يعني مساهمته في إنتاج الدليل، ولكنه بعد كل ذلك له حرية واسعة في تقدير الأدلة التي يتقدم بها الخصوم والأقوال التي يدلون بها أو يدلي بها الشهود.

إن الأمر يتعلق بسلطات قاضي الإلغاء في التحقق من صحة المستندات المقدمة كأدلة للإثبات (المطلب الأول) وسلطاته في تقدير أقوال الشهود (المطلب الثاني)، وسلطاته في تقدير أقوال الخصوم (المطلب الثالث).

المطلب الأول: سلطات قاضي الإلغاء في التحقق من صحة المستندات.

للوثائق المرفقة بملف الدعوى أو التي يطلبها القاضي أو أحد الخصوم دور مهم في الإثبات، وحتى يمكن اعتمادها يجب أن يكون القاضي والأطراف مطمئنين إلى صحتها ومتى ثار الشك بشأنها سواء من طرف القاضي أو الأطراف وجب التحقق من صحتها، وبعدها يمكن الاستناد إلى حجيتها.

ولكن قبل التطرق إلى دور القاضي في التحقق من صحة الوثائق يحسن التطرق أولا إلى حجية الوثائق أمام قاضي الإلغاء، هل لها نفس الحجية وبنفس الترتيب الذي نعرفه أمام القاضي المدني أم أن الأمر يختلف لاختلاف طبيعة الدعوى الإدارية عن طبيعة الدعوى المدنية؟

الفرع الأول: أنواع الوثائق المودعة أمام قاضي الإلغاء وحجيتها.

إن تمتع الإدارة بالشخصية المعنوية، أدى إلى استقلال شخصيتها عن شخصية ممثليها، وهذا استوجب أن تكون لها شخصيتها الخاصة وذمتها المالية الخاصة وذاكرتها الخاصة، وبالتالي فهي تعتمد كليا على الوثائق، ولا تعتمد على ذاكرة موظفيها لأنهم معرضون للفناء أو الانتقال عنها، بينما تتسم شخصيتها بالديمومة، وهذا يؤدي إلى اعتمادها كأصل عام على الوثائق الإدارية، وتعتبر هذه الأخيرة الوسيلة الرئيسية للإثبات أمام قاضي الإلغاء، بل هي أهم الأدلة التي يعتد بها أمام قاضي الإلغاء.

لكن قد يستعاض عنها بأحد الطرق الجائز قبولها أمام قاضي الإلغاء، إلاّ في الحالات التي ينص فيها المشرع صراحة على ضرورة التقيد بالكتابة وفي صورة معينة كوسيلة للإثبات، كضرورة إثبات الجنسية بالشهادات الرسمية الصادرة من السلطة المختصة. وضرورة إثبات الملكية العقارية بموجب سندات رسمية وهي العقود التوثيقية والعقود الإدارية المشهرة بالمحافظة العقارية، أو اشتراط محضر استلام الأشغال أو فاتورة مؤشر عليها قانونا من طرف الإدارة المستفيدة من الخدمة كدليل إثبات على أداء هذه الخدمة.

وتعتبر الوثائق الإدارية حجة بما تضمنته من وقائع فيما لا يتعلق بالموظفين المحررين لها، أما الوثائق الإدارية الصادرة عن الأفراد والمؤشر عليها من طرف الإدارة، فما ورد فيها على لسان أصحابها لا يعتد به كحجة، ولا تكتسب هذه الوثائق حجية إلا بالنسبة لما يدونه ويؤشر به الموظف المختص من بيانات ووقائع عند ورودها إليه مثل تاريخ الورود ورقمه والموافقة عليها أو رفضها.

وليس للأدلة الكتابية قوة واحدة في الإثبات، حيث تختلف تلك القوة بحسب نوع الدليل المقدم، ويمكن تقسيم الوثائق التي يودعها الأطراف من تلقاء أنفسهم أو بطلب من قاضي الإلغاء إلى الوثائق الخاصة، والمحاضر الإدارية، والوثائق الإدارية.

أولا- الوثائق الخاصة:

وتشمل الوثائق الرسمية التي يقوم بتحريرها ضابط عمومي مختص وفقا لأوضاع مقررة قانونا، والوثائق العرفية الصادرة من أفراد عاديين ولم يتدخل موظف عمومي في تحريرها سواء كانت معدة للإثبات كالمستندات أو غير معدة للإثبات كالرسائل والبرقيات والدفاتر.

والوثائق الرسمية هي التي يثبت فيها موظف عام أو شخص مكلف بخدمة عامة ما تم على يديه أو ما تلقاه من ذوي الشأن وتعد حجة لحين الطعن فيها بالتزوير، وتعتبر البيانات المدونة فيها صحيحة إلى أن يثبت العكس عن طريق الطعن فيها بالتزوير، غير أن البيانات المدونة فيها والصادرة من ذوي الشأن ودونها الموظف العمومي على مسؤوليتهم دون أن يتمكن من التحقق من مدى صحتها تعتبر صحيحة إلى أن يثبت العكس بأي طريقة من طرق الإثبات.

أما القرارات الإدارية وعلى الرغم من اعتبارها من الوثائق الرسمية، فإنه ونظرا لصدورها من رجل الإدارة المختص بتحريرها بمناسبة ممارسته لاختصاصه؛ فقد استقر القضاء على اختصاص قاضي الإلغاء بالنظر في الطعون فيها بكافة طرق الإثبات المقبولة أمامه، دون اشتراط الطعن فيها بالتزوير.

أما الوثائق العرفية سواء كانت معدة للإثبات أم لا فقد انقسم الفقه بشأنها إلى قسمين فجانب من الفقه يرى أنها تتمتع بنفس الحجية التي تتمتع بها أمام القاضي العادي، وجانب آخر يرى أنها من قبيل القرائن المكتوبة يقدر قاضي الإلغاء حجيتها في ضوء الظروف المحيطة بها، وما يستشفه من عناصر الملف.

ثانيا – المحاضر الإدارية:

وهي المحاضر التي تحرر بمعرفة الموظفين المختصين بتحريرها، لإثبات وقائع معينة، ومثالها محاضر الشرطة، ومحاضر جلسات المحاكم، ومحاضر جلسات المناقصات والمزايدات، ومحاضر الجلسات التأديبية، ومحاضر اجتماعات مختلف اللجان الإدارية.

وتختلف حجية المحاضر الإدارية؛ فهناك ما ينص القانون على أن ما ورد فيها من بيانات يحوز حجية لحين إثبات العكس عن طريق الطعن بالتزوير، وهي قليلة ومثالها محاضر جلسات المحاكم، ومحاضر كشوف الناخبين، ومنها ما ينص القانون على أن ما جاء فيها من بيانات يحوز حجية لحين إثبات العكس بأي طريق من طرق الإثبات، وهي الأصل ومثالها محاضر مخالفات الطرق، ومنها ما يمكن الاعتداد به فقط على سبيل الاستدلال والاسترشاد، كالمراسلات بين مختلف مصالح المرفق.

ثالثا- الوثائق الإدارية:

ويقصد بها كافة المحررات الموجودة في حوزة الإدارة، والمتضمنة وقائع إدارية معينة، فهي تتضمن الوقائع المتعلقة بالنشاط الإداري أو العاملين به، كالوثائق التي يتضمنها الملف الشخصي للموظف.

وكذلك الشأن بالنسبة للقرارات الإدارية فرغم اعتبارها من الوثائق الرسمية في نطاق القانون الخاص؛ إلا أن اكتسابها الصفة الإدارية، ووجودها في حوزة الإدارة، وتحريرها بمناسبة وقائع تدخل في اختصاص محررها، أدى إلى اعتبارها في مرتبة تختلف من حيث الحجية عن الوثائق الرسمية الأخرى، والمنازعة فيها تكون بأي طريق من طرق الإثبات.

أما باقي الوثائق الإدارية مثل نماذج الاستمارات والإيصالات والإقرارات والمراسلات، والطلبات، والمراسلات المصلحية، والسجلات الإدارية، فقد استقر الفقه والقضاء الإداري على اعتبارها من قبيل القرائن المكتوبة القابلة لإثبات العكس بأي طريق من طرق الإثبات.

وإذا لم تتوافر في السجلات المقدمة للإثبات المظاهر التي تنبئ عن اعتبارها من الوثائق والسجلات الرسمية كأن تكون غير مرقمة الصفحات وغير مختومة بخاتم الدولة ولا يوجد بها أي توقيع الموظف عام، أو مليئة بالشطب والكشط والتصحيح، أو لم يثبت فيها مصدر البيانات الواردة فيها أو تاريخ إثباتها وهل حققها الموظف الذي حررها بنفسه أو تلقاها من موظف آخر أو نقلها عن أوراق أخرى رسمية أو عرفية فإنها تفقد كل قيمة لها باعتبارها أوراقا رسمية.

إن حجية الوثائق إدارية كانت أو غير إدارية، متعلقة فقط بصحة البيانات التي أعدت في الأصل من أجل إثباتها، أما البيانات التي تضمنتها ولم يكن القصد من تضمينها إياها إثباتها، لا تحوز مثل هذه الحجية، فتاريخ الميلاد الوارد بشهادة مدرسية مثلا لا حجية له بموجب هذه الشهادة لأنها أعدت لإثبات المستوى الدراسي وليس لإثبات تاريخ الميلاد، ولا لإثبات الجنسية.

غير أن اطراد أوراق الملف على ذكر وقائع معينة لم تحرر ولم تعد لإثباتها لا يتجرد من أية قيمة؛ فمن شأن هذا الاطراد أن يبعث على الاعتقاد بصحة هذه الوقائع، ووجود أصل لها في ضوء ما يستخلص من أوراق الملف في مجموعها.

الفرع الثاني: سلطات قاضي الإلغاء في التحقق من صحة الوثائق.

إن الوثائق المرفقة بملف الدعوى أو التي يطلبها القاضي أو أحد الطرفين تلعب دورا مهما في الإثبات، وحتى يمكن اعتمادها يجب أن يكون القاضي والأطراف مطمئنين إلى صحتها؛ ومتى ثار الشك بشأنها سواء من طرف القاضي أو الأطراف وجب التحقق من صحتها قبل الاستناد إليها.

ولا ينتظر القاضي ليمارس هذا الدور أن يطعن أحد الخصوم بالتزوير في الوثيقة المودعة إذا كانت رسمية، أو أن ينكرها أو ينكر الخط أو الختم أو بصمة الأصبع أو التوقيع إذا كانت عرفية، ولكنه ملزم قبل أن يعتمد عليها بالتأكد من أن مظهرها يبعث على الاطمئنان إليه كدليل إثبات.

أولا- سلطة قاضي الإلغاء في الرقابة على مظهر الوثائق:

إن أحد أهم الواجبات الملقاة على عاتق القاضي هو التأكد من أن مظهر الوثيقة المقدمة يبعث على الثقة والطمأنينة إليه كدليل إثبات في الدعوى، ولقد خول المشرع المصري في المادة 28 من قانون الإثبات القاضي أن يقدر ما يترتب على الكشط والمحو والتحشير؛ وغير ذلك من العيوب المادية فيه من إسقاط قيمته أو إنقاصها، كما أعطت للقاضي الحق في دعوة الموظف أو الشخص الذي حرر الوثيقة ليوضح له حقيقة الأمر.

كما خولته المادة 58 من نفس القانون الحق في الحكم برد وبطلان الوثيقة من تلقاء نفسه، ودون اشتراط ادعاء أحد الخصوم أمامه لتزويرها؛ إذا تأكد وظهر له بجلاء ووضوح وجود تزوير في المحرر بشرط أن:

  • أن لا يقر الخصم بصحة الوثيقة صراحة أو ضمنا.

  • أن يكون التزوير ظاهرا وجليا بالعين المجردة لا يحتاج إلى تحقيق

ويتحقق القاضي الإداري الفرنسي بنفسه مباشرة من مدى أصلية القرار الإداري، وكذا من مدى صحة التوقيع ودقة التاريخ، ويمارس ذلك وفقا لما خولته له المادة 1-624.R من قانون القضاء الإداري.

أما المشرع الجزائري فقد أكتفي بالإشارة إلى حجية صور الوثائق الرسمية في المادة 326 التي نصت: “يكون الصور الرسمية الأصلية تنفيذية كانت أو غير تنفيذية حجية الأصل متى كان مظهرها الخارجي لا يسمح بالشك في مطابقتها للأصل”.

إننا نفهم بمفهوم المخالفة أنه إذا كان المظهر الخارجي للصورة الرسمية الأصلية يبعث على الشك فإن القاضي لا يمكنه الاعتماد عليها كدليل إثبات له حجية الأصل، وأن عليه طبقا لواجب الفصل في القضية على دراية كاملة أن يبحث مدى صحتها حتى وإن لم يطعن فيها الخصم، أو استبعادها كوسيلة إثبات.

ثانيا – سلطة قاضي الإلغاء إزاء الطعن بالتزوير:

لقد تبنى المشرع الجزائري في قانون الإجراءات المدنية والإدارية سياسة تبسيط الإجراءات وتقليص تكاليف الدعوى، ومراعاة لهذه السياسة أوكل للقاضي الإداري على غرار القاضي المدني النظر في الطعن بالتزوير، بمناسبة نظره في نزاع من اختصاصه.

وأحالت المادة 871 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية إلى أحكام الطعن بالتزوير الواردة ضمن الكتاب الأول المتعلق بالإجراءات أمام جميع الجهات القضائية بقولها: ” تطبيق الأحكام المتعلقة بالتزوير المنصوص عليها في المواد من 175 إلى 188 من هذا القانون أمام المحاكم الإدارية”، وهكذا نصت المادة 180 من نفس القانون على أنه: ” يثار الادعاء الفرعي بالتزوير بمذكرة تودع أمام القاضي الذي ينظر في الدعوى الأصلية”.

ورغم خلو نصوص قانون مجلس الدولة المصري من الإشارة إلى مسألة الطعن بالتزوير إلا أن أحكام المحكمة الإدارية العليا قد جرت منذ أول عهدها على اختصاصها بنظر الطعن بالتزوير فيما يقدم أمامها من مستندات وأوراق مع إتباع القواعد الخاصة بقانون الإجراءات المدنية بشأنه.

أما المشرع الفرنسي فقد أوكل إلى القاضي العادي نظر الطعن بالتزوير في الوثائق المقدمة كأسانيد للإثبات أمام قاضي الإلغاء، ويكون بذلك قد سلك مسلكا مخالفا إذ ألزم القاضي الإداري الذي تودع أمامه أوراق يطعن فيها أحد الخصوم في التزوير بأن يخير الطرف الذي قدم الوثيقة محل الطعن بين سحبها أو تسجيل الطعن بالتزوير ضدها قبل اعتمادها دليلا للإثبات، فإذا اختار سحتها استبعدها القاضي من أدلة الإثبات، أما إذا تمسك بها وجب على القاضي الإداري التوقف عن الفصل في الدعوى لحين حكم المحكمة المختصة في مدى ثبوت التزوير.

لكن يثور التساؤل عن الطعن بالتزوير في القرارات الإدارية التي لها حجية الوثيقة الرسمية هل تخضع لنفس الأحكام أم لا؟

لقد عرف القضاء الإداري الفرنسي بشأنها تطورا كبيرا؛ فبعد أن كان يطبق بشأنها نفس النصوص المطبقة على المستندات الرسمية؛ لاعتبارها مستندات حائزة على حجية لحين الطعن فيها بالتزوير، وبالتالي يتوقف القاضي الإداري عن الفصل في الدعوى لحين صدور حكم القاضي الجزائي بصدد دعوى التزوير الفرعية، تغير الأمر بعد ذلك تدريجيا ابتداء من حكم Jammes ثم حكم Ferrandi واستقر قضاء مجلس الدولة الفرنسي أخيرا على أن القرارات الإدارية ليست محلا للطعن فيها بالتزوير، وأنه هو المختص بالنظر في مدى صحة ما ورد بها في قضية Paloque وحكمه أيضا في قضية Mondat، وكذلك الأمر بالنسبة للأحكام القضائية الإدارية، كما في حكم Athias.

وهكذا فإن قضاء مجلس الدولة الفرنسي استقر على أنه فيما عدا الحالات الاستثنائية التي ينص فيها القانون صراحة على أن القرار الإداري يحوز حجية لحين الطعن فيه بالتزوير، فإن القاضي الإداري هو الذي يتحقق بنفسه من صحة الطعن الموجه للقرار الإداري. لقد أثار الفقه بعض التحفظ من هذا التوجه لمجلس الدولة الفرنسي، بسبب مساسه بمبدأ الاستقلالية بين القضاء الإداري والقضاء العادي.

غير أن التخوف من سهولة إنكار البيانات الواردة في هذه القرارات غير مبرر، فهي ذات طبيعة إدارية محاطة بضمانات وشكليات عديدة، كافية للثقة في صحتها وعدم التساهل في فحص مدى صحة الطعن في صحتها، فعلى القاضي اشتراط أدلة قوية وقاطعة للطعن فيها، وبذل جهد دقيق في التحقق من مدى صحة بياناتها.

وفي رأينا أن مسلك المشرع الجزائري والقضاء الإداري المصري كان موفّقا من حيث تبسيطه لإجراءات التقاضي وتقليصه لوقت الفصل في الدعوى وتكاليفه، ومبررا استنادا إلى أن الادعاء بالتزوير لا يعدو أن يكون وسيلة دفاع في نفس موضوع الدعوى، فالتحقيق فيه هو إجراء من إجراءات الخصومة الأصلية، شأنه في ذلك شأن أي منازعة عارضة، كالمنازعة في واقعة من وقائع الدعوى يحتاج إثباتها إلى تحقيق يتوقف عليه الحكم.

لقد ميزت الأحكام المحال إليها من طرف المادة 871 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية بين الحالة التي يكون فيها محل الطعن بالتزوير ورقة عرفية والحالة التي يكون فيها محل التزوير ورقة رسمية، ففي حالة الطعن بالتزوير في ورقة عرفية فإن القاضي حسب نص المادة 175 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية يتبع بشأنه إجراءات مضاهاة الخطوط المنصوص عليها في المادة 165 وما يليها من نفس القانون.

أما إذا كان محل الطعن بالتزوير ورقة رسمية فإن المادة 180 من نفس القانون نصت على وجوب أن يكون هذا الطعن بموجب مذكرة مستقلة، تتضمن بدقة الأوجه التي يستند إليها المدعي، تحت طائلة عدم قبول الادعاء.

ولقد خلت المادة 181 من نفس القانون سلطات واسعة للقاضي إزاء هذا الطعن، إذ يجوز له أن يصرف النظر عنه، متى رأى أن الفصل في الدعوى لا يتوقف على الوثيقة المطعون فيها، أما إذا كان الفصل في الدعوى يتوقف عليها فإنه يدعو الخصم الذي قدمها إلى التصريح عما إذا كان يتمسك بها، فإذا أجاب بعدم التمسك بالوثيقة المطعون فيها استبعدت من أدلة الإثبات، وإذا تمسك بها دعاه القاضي إلى إيداع أصلها أو نسخة مطابقة عنها بأمانة الجهة القضائية خلال أجل لا يزيد عن ثمانية أيام، وإلا تم استبعادها.

كما أن للقاضي أن يأمر الموظف المودع لديه أصل هذه الوثيقة بتسليمه إلى أمانة الجهة القضائية، متى كان هذا الأصل مودعا بمحفوظات عمومية.

ولا يجوز بحث الطعن بالتزوير إلا إذا كان منتجا في الفصل في النزاع؛ وذلك حتى لا ينشغل القضاء عن الفصل في الدعوى بمسائل لا علاقة لها بها، أو غير مفيدة للفصل فيها، مما يؤدي إلى إطالة أمد الدعوى.

ثالثا- سلطة قاضي الإلغاء في مضاهاة الخطوط:

في الدعوى الإدارية غالبا ما تكون الوثائق المقدمة للإثبات أوراقا رسمية، غير أنه في أحيان نادرة تثور الإشكالية بشأن أوراق عرفية، خاصة فيما يخص التبليغ من عدمه في القضايا التأديبية.

وفي حالة جحد الوثائق العرفية المقدمة في الدعوى، وذلك بعدم الاعتراف بمحتواها، أو الخط أو الإمضاء أو الخاتم أو بصمة الأصبع، يأمر قاضي الإلغاء بتحقيق الخطوط من طرف مختصين وتحت إشرافه، ونظمت هذه العملية في فرنسا المادة R624/1 من تقنين القضاء الإداري الفرنسي.

ورغم عدم إشارة نصوص قانون مجلس الدولة المصري إلى هذه العملية فإن القاضي الإداري المصري يمارسها وفقا للمادة 30 وما بعدها من قانون الإثبات، مراعيا في ذلك طبيعة الدعوى الإدارية.

ولقد عرفت المحكمة الإدارية العليا في مصر عملية تحقيق الخطوط وكيفية حصولها بقولها: “عملية تحقيق الخطوط هي مجموع الإجراءات التي رسمها القانون الإثبات صحة الوثيقة العرفية التي ينكرها الشخص المنسوب إليه صدورها منه. ويحصل التحقيق بالبينة والمضاهاة بواسطة أهل الخبرة في الخطوط أو بإحدى الطريقتين، وتبين المحكمة في حكمها الصادر بإجراء التحقيق الطريقة التي يحصل بها وتعيين الخبراء الذين يستعان برأيهم في عملية المضاهاة”.

أما في الجزائر فقد حددت المادتين 165 و166 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري واللتين أحالت عليها المادة من 862 من نفس القانون الطرق الواجب إتباعها للتحقيق في الوثيقة المطعون عليها بالإنكار، إما بالمضاهاة مع مستندات أخرى أو بسماع الشهود، أو بواسطة خبير، في حين اكتفى المشرع المصري بطريقة المضاهاة أو سماع الشهود.

لقد فرق المشرع الفرنسي في هذه النقطة بين المنازعة العادية والمنازعة الإدارية ففي حين ترك للقاضي اختيار الإجراء الذي يراه مجديا للتوصل إلى الحقيقة في النزاع المدني. ألزم القاضي الإداري أن تكون المضاهاة بمعرفة خبير أو عدة خبراء، ولقد مارسها مجلس الدولة عن طريق خبير كما مارسها في حالات استثنائية بمعرفة موظف موثوق به ومشهود له بالنزاهة.

ووفقا لخاصية اختيارية وسائل وإجراءات الإثبات فإن تحقيق الخطوط خاضع لتقدير القاضي؛ فقد يأمر به من تلقاء نفسه، كما أنه غير ملزم باللجوء إليه ولو طلبه الأطراف، وفي هذا الصدد خول المشرع الجزائري للقاضي أن يرد على المنكر إنكاره، وأن يأخذ بالوثيقة من غير إجراء تحقيق متى رأى أن الدعوى بما تحويه من أوراق ومستندات كافية لاقتناعه بصحة التوقيع؛ حيث أن الغرض من هذا الإجراء اقتناع المحكمة برأي ترتاح إليه في حكمها؛ فإذا كان هذا الاقتناع موجودا بدونه فلا لزوم له.

وهذا ما نصت عليه المادة 165 بقولها: “إذا أنكر أحد الخصوم الخط أو التوقيع المنسوب إليه، أو صرح بعدم الاعتراف بخط أو توقيع الغير، يجوز للقاضي أن يصرف النظر عن ذلك إذا رأى أن هذه الوسيلة غير منتجة في الفصل في النزاع…”.

كما أنه وإعمالا لنفس الخاصية فإن القاضي ليس ملزما بتقرير الخبير، ولا بشهادة الشهود؛ لأنهما من عناصر الإثبات، وأدواته التي تهدف في النهاية إلى إقناع القاضي، فمتى لم يتحقق ذلك ووجد القاضي في ملف الدعوى ما يكفي لتكوين عقيدته، أو رأى أنه من اللازم اللجوء إلى إجراء تحقيق آخر لتحقيق هذا الاقتناع جاز له ذلك.

ويثور التساؤل في هذا الشأن عمن له سلطة تحديد الوثائق المطلوبة لإجراء المضاهاة؟

لقد حددت المادة 167 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية القاعدة في ذلك، أن القاضي يجري المضاهاة على أساس عناصر المقارنة التي في حوزته، كما له أن يأمر الخصوم بتقديم الوثائق التي تسمح له بإجراء المقارنة، وله أيضا أن يأمرهم بكتابة نماذج بإملاء منه، كما حددت له بعض العناصر التي يقبل الاعتماد عليها في المقارنة، وذلك لما تتمتع به من حجية ومصداقية، وهي:

  • التوقيعات التي تتضمنها العقود الرسمية.

  • الخطوط والتوقيعات التي سبق الاعتراف بها.

  • الجزء الذي لم يتم إنكاره من المستند موضوع المضاهاة.

وهكذا فإن المشرع الجزائري أوكل للقاضي مهمة تحديد المستندات والعناصر التي يعتمدها في المضاهاة، غير أنه قيد هذه الحرية بوجوب قبوله اعتماد بعض العناصر في المضاهاة وعدم جواز استبعادها، نظرا للاطمئنان إلى صحتها وبالتالي منطقية اعتمادها كمعيار لصحة العناصر المنكرة من عدمها.

على عكس المشرع المصري الذي أعطى الحق في تحديد الوثائق التي تتخذ أساسا للمضاهاة إلى الخصوم، بينما أعطى للقاضي حق استبعاد أي ورقة لأي سبب من الأسباب، استنادا إلى أن القاضي ليس ملزما بالأخذ بدليل لا يطمئن إليه، أو أن يسير في إجراءات غير مجدية، فأوراق المضاهاة ليست أدلة إثبات على الكتابة أو التوقيع، وإنما هي قرائن تستمد المحكمة منها اقتناعها بأنها هي أو التوقيع لمنكرها.

ولقد حددت المادة 37 من قانون الإثبات المصري الوثائق التي تتخذ أساسا للمضاهاة في حالة عدم اتفاق الخصوم عليها.

أما المشرع الفرنسي فقد كان يأخذ في قانون الإجراءات المدنية السابق بنفس مسلك المشرع المصري، غير أنه ترك في قانون الإجراءات المدنية الجديد اختيار وتحديد الوثائق التي تجري على أساسها المضاهاة لتقدير القاضي.

وتجدر الإشارة إلى أن المشرع الجزائري في المادة 169 من قانون الإجراءات المدنية أعطى للقاضي سلطة توقيع الغرامة التهديدية على الخصم الذي لم يمتثل للأمر بإحضار المستندات والأصول اللازمة لإجراء عملية المضاهاة،

إن المشرع الجزائري إضافة إلى ذلك خول القاضي بموجب المواد 168، 169، 170، 171، 172، 173 اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لحفظ المستندات وأوراق المضاهاة، وتذليل العقبات والصعوبات التي تعرقل العملية سواء قبل الشروع فيها أو بعدها.

وأخيرا فإنه إذا أثبتت عملية تحقيق الخطوط صحة الوثيقة فإنها تصبح في قوة الوثيقة الرسمية، ولا يجوز بعد ذلك الطعن فيها إلا بالتزوير، أما إذا لم تثبت صحتها لم يجز بعد ذلك لمقدمها التمسك بها.

إن دور قاضي الإلغاء في هذه الوسيلة وإن لم يرق إلى إنتاجها، إذ هي مقدمة في الأصل من أحد الخصوم، إلا أن تدخله الإيجابي في التحقق من صحتها أو عدم صحتها وبالتالي استبعادها، يمثل بحق مساهمة فعالة في التكفل بجزء مهم من عبء الإثبات.

المطلب الثاني: سلطة قاضي الإلغاء إزاء وسيلة شهادة الشهود.

الشهادة هي إخبار الشخص أمام القضاء بواقعة حدثت من غيره ويترتب عليها حق لغيره. ويعرفها فقهاء الإسلام بأنها إخبار قاطع، وعرفها المالكية بأنها: “إعلام الشاهد الحاكم بشهادته بما يحصل له العلم بما شهد به”.

وتكتسي هذه الوسيلة طابعا استثنائيا نتيجة السيادة الصفة الكتابية على الإجراءات القضائية الإدارية، وبسبب تفضيل القاضي الإداري اللجوء إلى وسائل التحقيق الأخرى لكونها أقل تعقيدا وتتلاءم أكثر مع مقتضيات السرعة في التحقيق، كما أن الدور الكبير الذي يلعبه إجراء الخبرة في الإثبات جعل البعض يرى أن الخبرة ألغت وسيلة الشهادة عمليا.

ولا يهدف الإثبات بواسطة شهادة الشهود إلى تلافي نقائص القاضي من الناحية التقنية، بل إلى تلافي نقصه في العلم بوقائع معينة؛ ولهذا فإن المجال الخصب للأمر بهذه الوسيلة هو المنازعات التأديبية، والمنازعات الانتخابية، ومنازعات الخسائر الناجمة عن الأشغال العامة.

إلا أنها تلعب دورا هاما في استيضاح بعض المعلومات، وتكملة بعض عناصر ملف الدعوى في الكثير من الدعاوى إذا تعلق النزاع بوقائع لا تدونها الإدارة، كما لو تعلق النزاع بالاختلاف حول تشكيل الملف وتقديمه من عدمه، أو النزاع حول ما إذا احترمت حقوق الدفاع في الإجراءات التأديبية أم لا، أو حالة ضياع الوثائق أو تلفها، أو الوقائع التي من شأنها الدلالة على وجود انحراف بالسلطة، كما لو لم تقصد الإدارة بقرارها المصلحة العامة، وإنما قصدت التنكيل بمن صدر بشأنه القرار، حيث يثبت ذلك من شهادة شهود حضروا جلسة المداولات السابقة على صدور القرار والتي أثيرت فيها رغبة مصدره الانتقام من الشخص الصادر بشأنه.

إن أهم ميزة لشهادة الشهود أنها تخفف عبء الإثبات على المدعي؛ من حيث دخول أشخاص آخرين يساهمون في الإثبات، ويزودون القاضي من خلال سماعهم بالأقوال المؤيدة لادعاءات المدعي، مما يعني في الأخير مساهمة في تحسن وضعيته.

ويساهم قاضي الإلغاء بدور فعال في عبء الإثبات من خلال وسيلة الإثبات بشهادة الشهود، ويتجلى هذا الدور في كافة مراحل هذا الدليل، حيث يحظى قاضي الإلغاء بسلطة كبيرة في إعمال تقديره وقناعته لقبول الإثبات بها، وكذلك في كيفية إجرائها، وفي تقديره لأقوال الشهود.

الفرع الأول: سلطة قاضي الإلغاء في الأمر بالتحقيق بالشهادة والإشراف عليه.

إن وسيلة الشهادة شأنها شأن باقي وسائل تحقيق الدعوى الإدارية لها خاصية الاختيارية، حيث أن للقاضي الإداري وحده تقدير مدى ملاءمة اللجوء إليها، كما أن له رفض الاستعانة بالشهادة حتى ولو طلبها أحد أطراف النزاع شرط ذكر أسباب هذا الرفض في حكمه، كما تخضع لخاصية ومبدأ الوجاهية، إذ يسمح للأطراف الاتصال بكتابة ضبط المحكمة الإدارية للاطلاع على الحكم الآمر بالتحقيق عن طريق شهادة الشهود. كما أن للخصوم إذا لم يحضروا إجراء سماع الشهود أن يطلعوا على محضر سماع الشهود أمام كتابة الضبط في الأجل الذي يحدده القاضي.

فمتى طلب الخصم الذي يدعي أمرا أمام القضاء إثبات دعواه عن طريق شهادة الشهود لتكملة أدلة مقدمة في الدعوى، أو لتكوين دليل فيها، وكانت تلك الواقعة التي يريد إثباتها مما يجوز إثباته بشهادة الشهود، أو لا يجوز إثباتها بشهادة الشهود ولكن خصمه لم يعترض على الإثبات بمقتضاها-حيث يعد عدم الاعتراض تنازلا ضمنيا من الخصم للإثبات بشهادة الشهود لعدم تعلق قواعد إثبات الوقائع بالنظام العام- فإن تقدير هذا الطلب يرجع للقاضي حيث يقوم بفحص الواقعة محل الإثبات بشهادة الشهود من حيث كونها:

  • مما يجوز إثباته بشهادة الشهود.

  • متعلقة بالدعوى المتنازع فيها.

  • منتجة في النزاع.

فإذا رأى القاضي أن الواقعة محل طلب الإثبات بشهادة الشهود تتوافر فيها جميع الشروط السابقة، تعين عليه أن يحدد في حكمه الصادر بالتحقيق بشهادة الشهود الوقائع المراد إثباتها بهذه الطريقة تحديدا دقيقا، حتى يعلم كل طرف ما هو مكلف بإثباته أو نفيه. (المادة 151) من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري.

ويقرر القاضي اللجوء إلى وسيلة سماع شهادة الشهود من تلقاء نفسه أو بطلب من الخصوم إذا رأى أن الدعوى بما تحويه من أدلة وبراهين غير كافية لتكوين اقتناعه، ومن ثمة فإنه يملك العدول عن هذا الإجراء متى رأى أنه أصبح غير منتج وغير مجد، أو أن ما استجد في الدعوى بعد حكم الإحالة على التحقيق كاف لتكوين عقيدته.

وللقاضي الحرية في اختيار الوقائع التي يتم تحقيقها فهو غير مقيد بتحقيق كافة الوقائع التي أوردها الخصم في طلبه، إنما ينتقي منها الوقائع التي يرى أن تحقيقها مفيد ومنتج في حل النزاع، فضلا عن أنه لا يتقيد بالوقائع التي وردت في الحكم الآمر بالتحقيق؛ فللقاضي أن يسمع الشهود في جميع الوقائع الواردة في الدعوى والجائز إثباتها بشهادة الشهود، حتى ولو لم تكن واردة في الحكم الآمر بالتحقيق بشهادة الشهود وهذا ما يستفاد من صياغة وألفاظ المادة 158 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية التي تنص على أنه: “يجوز للقاضي من تلقاء نفسه… أن يطرح على الشاهد الأسئلة التي يراها مفيدة”.

ويحظى القاضي بحرية واسعة في استعمال هذه الوسيلة لتحقيق الدعوى، فلا يشترط في شهادة الشهود أن تتطابق بشأن الحقيقة المراد إثباتها بأكملها وبجميع تفاصيلها على وجه دقيق، بل يكفي أن يكون من شأن الشهادة أن تؤدي إلى تلك الحقيقة.

ويملك القاضي الحرية في ترتيب سماع الشهود، فهو يملك أن يسمع شهود المدعى عليه قبل شهود المدعي، كما له أن يعيد سماع الشهود عدة مرات ويواجه بعضهم ببعض، وهذا ما نصت عليه المادة 152/3 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري، فمواجهة الشهود بعضهم ببعض يمكنه من الوصول إلى الحقيقة من خلال إجراء مقابلة بينهم ومواجهتهم بأقوالهم التي سبق وأن أدلوا بها على انفراد، فيتمكن من التأكد من مدى مصداقية وتلقائية تلك الأقوال.

إن الخصم لا يستطيع أن يوجه أسئلة مباشرة إلى الشاهد، بل يكون ذلك بواسطة القاضي الذي يرجع له تقدير مدى صلة هذه الأسئلة بالواقعة محل الشهادة، لقد نصت على ذلك المادة 159 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية بقولها: ” لا يمكن لأي كان ما عدا القاضي أن يقاطع الشاهد أثناء الإدلاء بشهادته أو يسأله مباشرة”، لقد ذهبت المادة 152 من نفس القانون إلى أبعد من ذلك، فللقاضي إذا استشعر أن وجود الخصم أثناء الإدلاء بالشهادة يؤثر على مصداقية وتلقائية الشهادة أن يطلب من الخصم الخروج أثناء سماعها، فنصت على أنه:” يسمع كل شاهد على انفراد في حضور أو غياب الخصوم”.

ويتوجب على القاضي بمقتضى المادة 160 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية تدوين أقوال الشاهد في محضر يتضمن البيانات الآتية:

  • مكان ويوم وساعة سماع الشاهد.

  • حضور أو غياب الخصوم.

  • اسم ولقب ومهنة وموطن الشاهد.

  • أداء اليمين من طرف الشاهد، ودرجة قرابته أو مصاهرته مع الخصوم أو تبعيته لهم.

  • أوجه التجريح المقدمة ضد الشاهد عند الاقتضاء.

  • أقوال الشاهد والتنويه بتلاوتها عليه.

الفرع الثاني: سلطة قاضي الإلغاء في تقدير أقوال الشهود.

رغم أن الدليل الكتابي يفوق الشهادة في قوته الإثباتية وأن هناك من الوقائع ما لا يجوز إثباتها إلا بالكتابة. غير أن الإثبات بشهادة الشهود يستعمل كثيرا؛ خاصة عندما يتعين إثبات وقائع مادّية.

لكن تبقى الشهادة طريقا ضعيفا في الإثبات؛ ومرجع ذلك ما قد يقع فيه الشهود من أخطاء بسبب ضعف الذاكرة، أو عدم دقة الملاحظة، فضلا عما يمكن أن يتعرضوا له من إغراء، أو ما يمكن أن يكون بينهم وبين أحد الخصوم من كراهية فيدفعهم إلى الشهادة زورا، كما قد يكون الشاهد غير دقيق في ملاحظته، أو يكون مشغول الذهن أثناء الواقعة، لذلك فإن قيمة الشهادة في الإثبات تخضع لتقدير القاضي ومدى اقتناعه؛ بصرف النظر عن عدد الشهود أو مراكزهم.

ويتحقق القاضي من صدق الشاهد عند الإدلاء بأقواله، ويأخذ في اعتباره سن الشاهد ووظيفته ومركزه الاجتماعي، وكذا علاقته بطرفي الخصومة، وهكذا أوجبت المادة 152 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري على الشاهد أن يعرف باسمه، لقبه ومهنته وسنه وموطنه وعلاقته ودرجة قرابته ومصاهرته أو تبعيته للخصوم. وإن كانت هذه العلاقة أو التبعية ليست سببا لرد الشاهد، إلا أن لها تأثير على قيمة الشهادة.

ولا يمكن للشاهد الإدلاء بشهادته حسب نص المادة 159 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري قبل حلفه اليمين بأن يقول الحقيقة وإلا كانت شهادته قابلة للإبطال. ويؤدي الشاهد شهادته شفاهة ودون الاستعانة بأي نص مكتوب.

ولقد أجاز المشرع الفرنسي في المادة 220 من قانون الإجراءات المدنية أن يدون القاضي ملاحظاته فيما يخص سلوك الشاهد عند الإدلاء بأقواله، من ارتباك وقلق وتخوف أو هدوء وثقة واطمئنان، فهو ينقل إلى تشكيلة الحكم صورة حية للشاهد أثناء إدلائه بشهادته. ولا شك أن تشكيلة الحكم تدخل كل هذه الأمور في الاعتبار عند تقديرها لقيمة الشهادة.

ورغم عدم وجود نص مماثل في قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري ولا في قانون القضاء الإداري الفرنسي؛ غير أنه لا يوجد ما يمنع من الأخذ به لما له من أهمية في تقدير أقوال الشهود.

إن القاضي في تقديره لأقوال الشاهد غير مقيد بعدد الشهود، فيمكن له أن يبني عقيدته على شهادة شاهد واحد فقط، ويطرح باقي أقوال الشهود إذا لمس يبني المصداقية والأمانة والموضوعية في شهادته، وهو غير ملزم بالأخذ بأقوال الشاهد كلها أو طرحها كلها، ولكن له أن يأخذ بما يرتاح إليه ويثق فيه ويطرح ما لا يطمئن إليه دون أن يكون ملزما بإبداء أسباب ذلك. بل إن اتفاق الطرفين على أن يشهد شخصا معينا للثقة فيه لا يشل سلطة القاضي في التقدير، فيمكن له أن يأخذ بشهادة غيره.

وعلى مستوى تقدير مضمون ومدلول أقوال الشهود فإن للقاضي أن يأخذ بمعنى أو مدلول معين للشهادة دون غيره من المدلولات طالما أنه لا يتجافى مع عباراتها، ويكفيه أن يقيم قضاءه على أسباب سائغة تؤدي إلى النتيجة التي انتهى إليها، كما يكفيه أن يبين هذه الحقيقة التي اقتنع بها دون أن يكون ملزما بتتبع الخصوم والرد استقلالا على ما يثيرونه.

وإعمالا لخاصية اختيارية وسائل وإجراءات الإثبات فإن للقاضي أن يأخذ في حكمه بما ورد في الشهادة أو أن يطرحه إذا لم يطمئن إلى صحته، وقد استقر مجلس الدولة المصري على تأكيد حق القاضي في تقدير قيمة الشهادة في الإثبات، مع حقه في الاعتماد أو عدم الاعتماد عليها في تكوين عقيدته.

المطلب الثالث: سلطة قاضي الإلغاء في تقدير أقوال الخصوم.

على الرغم من الصفة الكتابية لإجراءات التقاضي الإداري، إلا أن القانون أجاز كما رأينا سماع أعوان الإدارة وأي شخص يرى رئيس تشكيلة الحكم فائدة في سماعه، وهكذا يمكن أن تكون أقوال الخصوم في شكل إقرار أو في شكل يمين.

الفرع الأول: سلطة قاضي الإلغاء في تقدير الإقرار.

يعرف الإقرار بأنه: “اعتراف الخصم أمام القضاء بواقعة قانونية مدعى بها عليه، وذلك أثناء السير في الدعوى المتعلقة بهذه الواقعة”، ويعرفه العلامة السنهوري بأنه: “اعتراف شخص بحق عليه لآخر، سواء قصد ترتيب هذا الحق في ذمته أو لم يقصد”.

وفي الشريعة الإسلامية يعرفه فقهاء المالكية بأنه: ” خبر يوجب حكم صدقه على قائله فقط، بلفظه أو بلفظ نائبه” وقال الحنفية هو: “إخبار عن ثبوت حق للغير على نفسه”، وعند الشافعية هو: ” إخبار عن حق ثابت على المخبر”، وقال الحنابلة ” الاعتراف، وهو إظهار الحق لفظا أو كتابة أو إشارة”.

ولقد عرفت المادة 341 من القانون المدني الجزائري الإقرار بقولها: “الإقرار هو اعتراف الخصم أمام القضاء بواقعة قانونية مدعى بها عليه، وذلك أثناء السير في الدعوى المتعلقة بها الواقعة”.

ولا يعتبر البعض من الفقه الإقرار طريقا من طرق الإثبات، بل يجعله سببا من أسباب الإعفاء من الإثبات. ويعتبر الإقرار في المسائل المدنية حجة قاطعة على المقر، غير أنه في المسائل الجنائية يخضع لمطلق اقتناع القاضي وتقديره. وأمام القاضي الإداري قد يقدم الإقرار من ذوي الشأن شفاهة في الجلسة ويثبت في المحضر وتعمل المحكمة أثره القانوني، وقد يقدم كتابة في المذكرات أو المستندات المودعة بالملف، وهذا هو الغالب كأثر للصفة الكتابية للإجراءات الإدارية.

ويعد إقرارا حسب المادة 61 من القانون الضريبي المصري ما جاء في كشوف التقدير الضريبية السنوية التي تملأ من طرف المكلف بالضريبة، ولقد اعتبر القانون الضريبي أي ورقة تقدم من قبل أي مكلف بالضريبة تعبر عن واقع نشاطه المالي بمنزلة إقرار قضائي ملزم مقدم من المكلف بالضريبة.

وكذلك محاضر التقدير التي تحرر على أساس مناقشة شفوية بين المكلف والإدارة الضريبية تهدف إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن نشاطه ومصادر دخله، وعليه فإن لهذه المحاضر حجية قاطعة بصفتها إقرار من المكلف بما جاء فيها، وبصفتها ورقة رسمية أيضا، لا يمكن الطعن فيها إلا بالتزوير.

كما قد يستخلص الإقرار نتيجة لاستجواب ذوي الشأن ومناقشتهم حيث يصدر منهم إقرار بوقائع معينة تفيد في الإثبات، ويظهر الإقرار أمام قاضي الإلغاء بالخصوص في قضايا الانحراف بالسلطة، وفي حالات العلم اليقيني بالقرار الإداري.

وخلافا لما هو معروف في القانون المدني من أن الاعتراف هو سيد الأدلة فإن قوة الإقرار كوسيلة إثبات أمام القاضي الإداري ليست مطلقة، حيث يترك القاضي تقدير نطاقه وأثره طبقا لظروف الواقع والأوضاع القانونية التي تسود روابط القانون العام، وقد يطرحه القاضي جانبا في بعض الأحيان إذا اقتضى ذلك إنزال حكم القانون على الوجه الصحيح في المنازعة المطروحة، وهكذا يتمتع قاضي الإلغاء بسلطة تقديرية اتجاه تقدير القوة الإثباتية للإقرار.

ويوجد نوعان من الإقرار وهما:

الإقرار غير القضائي وهو الذي لم يصدر أمام القضاء، وهو غير مقيد للقاضي العادي أيضا. ولم يتعرض المشرع الجزائري إلى الإقرار غير القضائي، كما أن المشرع الفرنسي أيضا لم يتعرض له إلا في المادة 1355 من القانون المدني وذلك بوضع قيد على حجية الإقرار غير القضائي الذي يتم شفاهة، بحيث لا يحوز إلا في الأحوال التي يجوز فيها الإثبات بالشهادة.

ونظرا لسكوت المشرع عن الإقرار غير القضائي فإنه يخضع للقواعد العامة للإثبات، ومن ثمة فإن الأمر يرجع برمته إلى قاضي الإلغاء الذي يملك إزاءه سلطات متعددة من حيث التحقق من صحة واقعة الإقرار، فله سلطة واسعة في استخلاص واقعة الإقرار من أي دليل أو ورقة مقدمة إلى جهة أخرى، ومن حيث تقدير قوته في الإثبات يرجع إليه تقدير مدى صحة الإقرار ومدى دلالته على ثبوت الواقعة المراد إثباتها. ومن حيث تكييف الأقوال وتحديد دلالتها والمقصود منها.

أما النوع الثاني من الإقرار فهو الإقرار القضائي وهو الذي يحصل أمام القضاء وأثناء سير الخصومة، ويلزم صاحبه حتى ولو كان أمام الخبير.

ولقد عرفته المادة 341 من القانون المدني الجزائري بأنه اعتراف الخصم أمام القضاء بواقعة قانونية مدعى بها عليه، وذلك أثناء السير في الدعوى المتعلقة بهذه الواقعة.

فيشترط إذا توافر عدة أمور لاعتبار الإقرار قضائيا وهي أن يكون:

  • باعتراف من الخصم.

  • محل الاعتراف واقعة قانونية.

  • أمام القضاء أثناء السير في الدعوى موضوع الإقرار.

والسؤال الذي يثور في هذا الشأن هو: هل يشترط في الإقرار أن يكون صريحا أم أنه يمكن الاعتداد بالإقرار الضمني؟

لم ينص المشرع الجزائري على إلزامية أن يكون الإقرار صريحا -وكذلك الأمر بالنسبة للمشرعين المصري والفرنسي – غير أن مجرد اتخاذ موقف سلبي كسكوت الخصم لا يمثل في حد ذاته إقرارا ضمنيا، إذ لا ينسب لساكت قول، لكن للقاضي السلطة الكاملة في تفسير أقوال الخصوم وتقدير ما إذا كان يمكن اعتبارها اعترافا ببعض وقائع الدعوى أم لا، شرط عدم خروجه في تفسير عبارات الإقرار عن المعنى الظاهر لعباراته، لأن حق القاضي في تفسير الدليل وتحديد معناه لا شبهة فيه.

الفرع الثاني: سلطة قاضي الإلغاء في تقدير يمين الخصوم.

تعرف اليمين بأنها “قول يتخذ فيه الحالف الله شاهدا على صدق ما يقول، أو على إنجاز ما يعد ويستنزل عقابه إذا ما حنث”، كما عرفت بأنها: ” استشهاد الله عز وجل على قول الحق مع الشعور بهيبة المحلوف به وجلاله والخوف من بطشه وعقابه”.

واليمين إما أن تكون حاسمة يوجهها الخصم العاجز عن الإثبات إلى خصمه محتكما إلى ضميره طالما أعوزه الدليل، وهي وسيلة للإعفاء من الإثبات. وإما يمين متممة يوجهها القاضي إلى أحد الخصوم ليستكمل بها الأدلة، ويلجأ إليها بطلب من الخصوم أو من تلقاء نفسه، ويقصد بها إنارة القاضي وإراحة ضميره عندما تكون الأدلة المقدمة في الدعوى غير كافية.

وكلا من اليمين الحاسمة والمتممة تعتبر دليلا من أدلة الإثبات أمام القضاء العادي نص عليهما القانون المدني في المواد من 343 إلى 350.

غير أن اليمين الحاسمة مستبعدة أمام القاضي الإداري لاعتبارات تتعلق بطبيعة الدعوى الإدارية، التي تكون الإدارة أحد أطرافها، وممثلة بشخص عادة ما لا تكون له صلة بالنزاع، ولا يدخل ضمن اختصاصه الإداري، ونظرا لأن القضية الإدارية تكون ذات عدة أبعاد وتدخل ضمنها عدة نشاطات لا يمكن تبين من توجه إليه اليمين. ولكن هذا لا يمكن توجيه اليمن لممثل الإدارة، والذي غالبا ما يكون رئيس قسم المنازعات، أو محاميا وهما بطبيعة الحال لا علاقة لهما بالنشاط محل النزاع القضائي ولا معنى لحلفهما على أمور لا علاقة لهما بها، وما دام الأمر كذلك وتحقيقا للمساواة بين أطراف الدعوى، فإنه يمتنع أيضا توجيه اليمين الحاسمة للأفراد.

أما اليمين المتممة التي يوجهها القاضي الإداري لأحد الخصوم، لاستكمال اقتناعه، لم تشر إليها النصوص، وأغلب الفقه استبعد توجيهها لممثل الإدارة لنفس الاعتبارات التي استبعد من أجلها اليمين الحاسمة.

وانقسم الفقه بين مؤيد ومعارض لتوجيه اليمين المتممة للأفراد فالمعارضون يرون عدم جواز توجيه اليمين المتممة للأفراد إعمالا لمبدأ المساواة بين طرفي الدعوى، وعلى هذا الأساس تستبعد اليمين تماما من الإثبات الإداري.

بينما يرى الاتجاه الغالبة أنه لا مانع من توجيه القاضي الإداري اليمين المتممة للأفراد لتنويره واستكمال عقيدته والاستئناس بها، فهذه اليمين وان كانت مستبعدة اتجاه الإدارة لأنها لا تتفق مع طبيعتها، فهي تتفق وطبيعة الأفراد والقاضي يعامل كل طرف بما يتفق وطبيعته وظروفه، وهذه التفرقة بين الإدارة والأفراد مراعاة الاختلاف طبيعتيهما لا تتضمن إخلالا بمبدأ المساواة أمام القضاء.

ورغم أن المشرع الجزائري خصص المواد من 189 إلى 193 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية لأحكام اليمين أمام جميع الجهات القضائية، إلا أنه لم يحل عليها فيما يتعلق بوسائل تحقيق الدعوى الإدارية، الأمر الذي يدعو إلى القول برفض المشرع الجزائري لتبتي اليمين كوسيلة من وسائل الإثبات الإداري، وهو ما يستشف من نص المادة 189 على أن القاضي يأمر بأداء اليمين في المواد التي يجوز فيها ذلك.

إنني لا أرى ضيرا من توجيه اليمين المتممة لعضو الإدارة أثناء استجوابه حول واقعة هو المختص بها، إذ لا مبرر هنا لاستبعادها، وعلى هذا الأساس لا تثور إشكالية مدى جواز توجيهها للأفراد، فيجوز توجيهها لهم لأنه يجوز توجيهها للإدارة أيضا في الحالات التي لا تتعارض مع طبيعتها.

وهكذا فإن اليمين الحاسمة مستبعدة من الإثبات في الدعوى الإدارية عموما ودعوى الإلغاء خصوصا، بينما أرى أنه من المفيد الاعتراف بجواز توجيه اليمين المتممة للأفراد بشأن إثبات أي واقعة، ولعضو الإدارة بشأن أي واقعة تدخل ضمن اختصاصه وحده، خاصة في ظل سكوت المشرع الجزائري من جهة وفي ظل اعتماده لنظام الإثبات الحر من جهة أخرى وذلك من خلال نص المادة 863 على جواز تعيين رئيس تشكيلة الحكم لأحد أعضائها للقيام بكل تدابير التحقيق غير المنصوص عليها.

وقريب من هذا ما هو معمول به أمام القضاء في النظام الأنجلوسكسوني، حيث يستطيع القاضي أن يوجه اليمين إلى ممثل الإدارة كشاهد وليس كطرف في النزاع.

وقد يقول قائل أنّ في توجيه اليمين لعضو الإدارة مساس بهيبة الإدارة، وبمبدأ الفصل بين السلطات، لكن ذلك في الحقيقة غير صحيح على الإطلاق، فاليمين هي تفويض عضو الإدارة إلى ضميره، وليست اتهاما له ولا للإدارة التي يمثلها.

الفصل الثاني: مساهمة قاضي الإلغاء في التخفيف من عبء الإثبات

على مستوى موضوع دعوى الإلغاء

موضوع الإثبات في دعوى الإلغاء هو عدم مشروعية القرار، إذ يسعى المدعي في دعوى الإلغاء -في سبيل الاستجابة لطلبه – إلى إثبات خرق الإدارة للقانون على مستوى ركن من الأركان المعروفة للقرار الإداري، وهي الاختصاص والشكل والإجراءات والسبب والمحل والغاية، ويسمى خرق القانون على مستوى الركنين الأوليين بعدم المشروعية الخارجية وعلى مستوى الأركان الأخيرة بعدم المشروعية الداخلية.

ولقد رأينا في الفصل الأول من الباب الأول أن الصعوبات التي تعترض المدعي في دعوى الإلغاء في إثبات عدم المشروعية الداخلية للقرار المخاصم أشد ما تكون إذا كان هذا القرار اتخذ على أساس سلطة تقديرية.

وإن كان من المسلم به أن الإدارة عندما تصدر قراراتها بمقتضى ما لها من سلطة تقديرية لا تتمتع بسلطة تحكمية؛ فهي ملزمة في ممارستها لهذه السلطة بأن توازن بين مقتضى السير الحسن للنشاط الإداري من جهة و حقوق الأفراد وحرياتهم من جهة أخرى؛ إلا أن هذا الالتزام الملقى على عاتق الإدارة لا يمثل حدا واضح المعالم، ولا يمكن أن يكون محل اتفاق وإجماع يمكن إثبات الخروج عليه ببساطة، فما يراه المدعي حدا على السلطة التقديرية للإدارة لا تراه الإدارة كذلك، وهذه أهم الصعوبات التي تواجه المدعي في دعوى الإلغاء في إثبات عيبي السبب والمحل في القرار الإداري المطعون فيه.

كما أن ارتباط عيب الانحراف بالسلطة بأمور متعلقة بنفسية رجل الإدارة، واعتبار الكثير من الفقه الفرنسي أن الرقابة عليه هي رقابة شخصية بحتة وأن هدف القاضي هو التعرف على أفكار رجل الإدارة وما دار بخلده، يمثل هو الآخر صعوبة في إثبات عيب الغاية.

أضف إلى ذلك أن القانون لم يلزم الإدارة بتسبيب جميع قراراتها، وهو ما يجعل إثبات المدعي لخروج الإدارة عن المشروعية في قرارها من حيث الأسباب الداعية لاتخاذه صعبا، لأنه لا يعلم الأسباب التي أصدرت الإدارة قرارها استنادا إليها.

وهكذا فإنه إذا لم يخصص المشرع للإدارة أهدافا محددة للقرار الإداري، ولم يقيدها في اختيار أسباب القرار الإداري ومحله ولم يلزمها بذكر الأسباب التي استندت إليها في اتخاذ القرار الإداري؛ فإن هذا الأخير يبدو كأنه غير قابل للمنازعة في مشروعيته الداخلية، ولم يبق للمدعي إلاّ مناقشة المشروعية الخارجية.

إن القاضي الإداري لم يقف موقفا سلبيا إزاء هذا الوضع، بل مارس دورا إيجابيا وفعالا لمساعدة المدعي في إثبات أوجه عدم المشروعية الداخلية في مثل هذه الحالات، سواء من خلال استعمال القرائن كأهم وسيلة لإثبات عیب الانحراف بالسلطة وإلزام الإدارة بالإفصاح عن أسباب قرارها المطعون فيه حتى في الحالات التي لم يلزمها المشرع بشكلية التسبيب، وهو ما يمكن أن ندرجه ضمن الدور التقليدي للقاضي الإداري في إثبات عدم المشروعية الداخلية (المبحث الأول).

أو من خلال ابتداع ما يسميه بعض الفقه نظريات الرقابة على الملاءمة-وهذه التسمية نراها لا تعبر بدقة عن طبيعة هذه الرقابة- ممثلة في نظرية الخطأ الظاهر في التقدير ونظرية الموازنة بين المنافع والتكاليف (نظرية الحصيلة)، اللتان مارس من خلالهما دورا كبيرا في التخفيف من صعوبة إثبات أوجه عدم المشروعية الداخلية على المدعي في دعوى الإلغاء؛ في حالة اتخاذ القرار على أساس من السلطة التقديرية، ويمكن أن نسم هذا الدور بالدور الحديث للقاضي الإداري في إثبات عدم المشروعية الداخلية (المبحث الثاني).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الأول: الدور التقليدي القاضي الإلغاء

في إثبات عدم المشروعية الداخلية.

ساهم قاضي الإلغاء مساهمة كبيرة في إثبات الانحراف بالسلطة من خلال القرائن القضائية، كما تدرج في بسط سلطته في البحث عن عيب السبب بدءا من التحقق من صحة التكييف القانوني للوقائع ومرورا ببحث الوجود المادي لها وصولا إلى إلزام الإدارة بالإفصاح عن أسبابها حتى في الحالات التي لم يلزمها القانون بذكرها في صلب القرار.

إن إثبات عيب المحل في قرار متخذ على أساس اختصاص مقيد سهل لوضوح العيب، ولقد اقتصر دور القاضي في هذه الحالة على التحقق من مدى مخالفة محل القرار الإداري للقانون مخالفة مباشرة أو غير مباشرة.

بينما تثور صعوبة إثبات المحل بحدة في حالة اتخاذ القرار على أساس من السلطة التقديرية، وقاضي الإلغاء في مرحلة أولى لم يمارس دورا إيجابيا ومساعدا للطاعن على الإثبات بهذا الشأن، ولم يبد هذا الدور مساعدا للطاعن بالإلغاء؛ ولهذا فإن كلامنا في هذا المبحث المتعلق بالدور التقليدي للقاضي الإداري في إثبات عدم المشروعية الداخلية سيقتصر – إن شاء الله – على إثبات الانحراف بالسلطة وإثبات عيب السبب فقط.

المطلب الأول: القرائن ودورها في إثبات عيب الانحراف بالسلطة.

عرف فقهاء القانون القرينة بأنها: ” دلالة تستخلص من واقعة معينة ويكون من شأنها أن تشير إلى واقعة أخرى هي التي يراد إثباتها” أو هي: ” شواهد وإمارات نص عليها المشرع أو استنبطها القاضي من الواقعة المعروضة عليه تؤيد المدعى في دعواه أو تخذله”. 2 أو هي: “استخلاص أو افتراض أمر مجهول من واقعة معلومة، وقد تكون القرينة منصوصا عليها في القانون، فتكون قرينة قانونية، وقد يستنبطها القاضي وفق ما يرتاح إليه ضميره، فتكون قرينة قضائية”.

ولقد عرفها فقهاء الإسلام بأنها: ” أمر يشير إلى المطلوب “، كما عرفت بأنها: ” كل أمارة ظاهرة تقارن شيئا خفيا فتدل عليه ” وقيل هي :” ما يلزم من العلم به الظن بوجود المدلول”.

وتصف القرائن إلى قانونية وقضائية، والقرينة القانونية لا عمل فيها للقاضي، فركنها هو نص القانون وحده فهو الذي يختار الواقعة الثابتة وهو الذي يجري عملية الاستنباط، ويقوم القاضي بإنزال إرادة المشرع دون أدنى سلطة له في التقدير ومتى وجدت الواقعة الثابتة قامت القرينة القانونية. ولهذا تعرف القرينة القانونية بأنها: “افتراض قانوني يقوم على استنباط مجرد يحدده القانون إعمالا للواقع العملي الغالب”. ولا يعتبرها العلامة السنهوري وسيلة من وسائل الإثبات بل هي طريق يعفي من الإثبات في رأيه.

ومن القرائن القانونية التي قررها المشرع الجزائري قرينة رفض التظلم، فسكوت الإدارة لمدة شهرين وعدم ردها على التظلم يعتبر رفضا له، وكذلك اعتبار مرور 30 يوما من تاريخ إيداع مداولات المجلس الشعبي التي تتطلب المصادقة من طرف الوالي دون المصادقة عليها من طرف هذا الأخير مصادقة ضمنية، واعتبار سكوت الإدارة وعدم ردها على طلب رخصة البناء لمدة 45 يوما من إيداع الطلب قرينة على قبول الطلب.

أما القرينة القضائية فهي التي يستنتجها القاضي بإعمال فكره من ظروف الدعوى وملابساتها، ووصفت بالقضائية لأنها من عمل القاضي وحده؛ يستخلصها من خلال فهمه للوقائع وما تحمله من دلالات، ويطلق عليها أحيانا القرائن الموضوعية لأنها تستمد من موضوع الدعوى.

والقرائن القضائية على العكس من القرائن القانونية القاطعة، فهي غير قاطعة وقابلة لإثبات العكس؛ لأنها تقوم على استنباط القاضي وخطأ القاضي فيها غير مستبعد، لذلك يكون للخصم الحق في دحض ما جاء بالقرينة بكل طرق الإثبات.

ومن أهم القرائن القضائية التي قررها القاضي الإداري الجزائري، أن رفض التوقيع على محضر التبليغ يعد قرينة على صحة التبليغ، كما أن عدم مثول الإدارة أمام القضاء على الرغم من استدعائها قرينة على أنها لا تعترض على طلبات الخصوم، وأن عدم تقديم الإدارة لوثيقة طلبها القاضي، بدون سبب أو لأسباب واهية، قرينة على صحة ادعاءات المدعي.

كما أقر القضاء الإداري المقارن الكثير من القرائن القضائية التي لاقت الاستقرار وتكرر الاعتراف بها، ومنها قرينة اعتبار ملف الموظف الوعاء الطبيعي والصادق التصوير حالته الوظيفية ومدى انضباطه، واعتبار قصر مدة إصدار القرارات عن الهيئات الجماعية دليل على عدم البحث والدراسة الجدية، واعتبار ارتكاب الموظف المخالفات تأديبية ثم صدور إجراء نقل من أجل المصلحة دليل على الانحراف بالإجراء القصد منه عقوبة مقنعة، وكذلك في حالة نقله من وظيفة أعلى إلى أخرى أدنى.

لقد لعبت القرائن دورا كبيرا في الإثبات الإداري، لكن المجال الخصب للقرائن القضائية كوسيلة من وسائل الإثبات الإداري هو عيب الانحراف بالسلطة، ولهذا ارتأينا أن نتعرض إلى عيب الانحراف بالسلطة وصعوبة إثباته في فرع أول وفي فرع ثاني نتطرق إلى مكانة القرائن القضائية في الإثبات الإداري ودورها في إثبات الانحراف بالسلطة.

الفرع الأول: عيب الانحراف بالسلطة وصعوبة إثباته.

الانحراف بالسلطة هو أحد عيوب المشروعية ينصب على ركن الغاية في القرار الإداري، ويتوافر هذا العيب عندما يستهدف رجل الإدارة من إصدار القرار الإداري غاية لا تمت بصلة إلى الصالح العام أو متصلة به ولكنها تختلف عن الغاية التي حددها المشرع من إصدار القرار. ولهذا يعرف هذا العيب بأنه:” استعمال رجل الإدارة سلطته لتحقيق غرض غير الذي منح من أجله هذه السلطة”.

أولا: صور الانحراف بالسلطة:

حينما يبتغي رجل الإدارة تحقيق هدف إداري معين يجب أن يلتزم ب:

  • توجيه جهوده وحصرها في تحقيق النفع العام والخير المشترك والامتناع عن تحقيق غرض شخصي.

  • تحقيق الأهداف المقصودة من إعطائه ذلك الاختصاص فقط، وعدم السعي إلى تحقيق أهداف أخرى غير مقصودة من منحه الاختصاص، حتى وإن كانت في إطار المصلحة العامة.

وعلى هذا الأساس صنف الفقه الأهداف التي يتوخاها رجل الإدارة وتجعل عمله مشوبا بعيب الانحراف بالسلطة إلى صنفين:

1- الأهداف المجانية للمصلحة العامة:

وهذه الصورة هي الأكثر فظاظة ووضوحا، لكن ولحسن الحظ أنها ليست الأكثر رواجا، وتتمثل هذه الأهداف في الانتقام الشخصي أو المحاباة أو الدافع السياسي أو الديني:

أ- استعمال السلطة بهدف الانتقام الشخصي: قد يستعمل رجل الإدارة السلطات المخولة له من أجل تحقيق المصلحة العامة في الإيقاع بأعدائه، وأكثر ما تتحقق هذه الصورة في مجال الوظيفة العامة، عند استعمال الرؤساء لسلطاتهم في التأديب، أو الترقية، أو النقل لصالح المرفق من أجل أغراض شخصية انتقامية.

ب- استعمال السلطة بهدف تحقيق نفع شخصي: إذ يستعمل رجال الإدارة في بعض الأحيان السلطات المخولة لهم من أجل جلب نفع شخصي لهم أو لأحد معارفهم. أو محاباة لفئة دون غيرها.

ج- استعمال السلطة لهدف سياسي أو ديني: وتتحقق هذه الصورة حينما يسعى رجل الإدارة من خلال السلطات المخولة إلى تحقيق أغراض سياسية أو دينية أو طائفية، ومن صور ذلك استعمال السلطة للتعبير عن رأي سياسي أو التنكيل بالأعداء السياسيين أو الدينيين. ومن ذلك إصدار الإدارة قرارا بمنح إعانة أو وقفها مدفوعة باعتبارات سياسية أو دينية.

2- الأهداف المجانية لفكرة تخصيص الأهداف.

لا يستطيع رجل الإدارة تحقيق كل أهداف المصلحة العامة، فهو مكلف بتحقيق بعضها فقط، وهذا يعني أن لكل طائفة من القرارات الإدارية هدف خاص تستهدفه إلى جانب الهدف العام وهو المصلحة العامة، فهل على قاضي الإلغاء أن يبحث عن الأهداف الخاصة بكل قرار؟

إن هذه المهمة عسيرة؛ لأن القانون وان كان يفصح أحيانا في وضوح عن الأهداف الخاصة لبعض القرارات الإدارية، إلا أنه لا يفعل ذلك دائما، وأحيانا يكون الهدف محددا لكنه غير واضح، وفي بعض الأحيان يسكت القانون سكوتا تاما عن تحديد الهدف الخاص، فيضطر القاضي إلى الاستعانة بالأعمال التحضيرية للقانون، وطبيعة السلطات الممنوحة للإدارة ليخلص منها إلى معرفة الهدف الخاص المقصود تحقيقه.

فإذا سعى رجل الإدارة إلى تحقيق أهداف لا تدخل ضمن اختصاصه، أو أن القانون لم ينط به تحقيقها، أو أن يكون تحقيق هذه الأهداف من اختصاصه لكنه استعمل وسيلة لم ينط بها القانون تحقيق تلك الأهداف، وإنما خصص القانون لتحقيقها وسائل أخرى، حتى ولو كانت هذه الأهداف تتصل بالمصلحة العامة؛ فإن قراره يكون مشوبا بعيب الانحراف بالسلطة لمجانبته فكرة تخصيص الأهداف.

ثانيا- صعوبة إثبات عيب الانحراف بالسلطة:

يعد عيب الانحراف بالسلطة أصعب العيوب إثباتا، لأن القرار المشوب بالانحراف هو قرار سليم من جميع نواحيه الظاهرة، فهو عمل صادر من جهة مختصة، ووفقا للشكل الذي يتطلبه القانون، ويقوم على محل سليم، والمدعي إنما يتهم الإدارة في هذه الصورة أنها حادت عن الطريق السليم وأرادت تحقيق أغراض غير مشروعة، وذلك إنما يعود إلى بواعث نفسية، وهو أمر خفي يحتاج تحقيقه إلى وقت طويل وجهود شاقة، ولذلك فإن مجلس الدولة الفرنسي لا يقبل كل ادعاء من هذا القبيل إلا إذا قامت لديه قرائن قوية على جدية الاتهام.

وتظهر صعوبة إثبات عیب الانحراف بالسلطة أكثر من عيوب القرار الإداري الأخرى باعتباره أشد العيوب خفاء، وبالنظر إلى طبيعة هذا العيب المتعلق بالقصد الشخصي لمصدر القرار وأغراضه، وارتباطه بالمصلحة العامة باعتبارها مفهوما قانونيا غير محدد المعالم.

ولا يعتبر هذا العيب متعلقا بالنظام العام، وبالتالي يتعين على صاحب الشأن إثارته، وليس للقاضي أن يستند إليه دون طلب المدعي الذي يتعين عليه تقديم الإثبات الكافي على الانحراف؛ فعبء إثبات هذا العيب على عاتق المدعي وإذا أخفق رفضت دعواه.

ولقد ترتب على الصعوبة التي تواجه القاضي والمدعي في إثبات الانحراف بالسلطة أن تحول هذا العيب إلى عيب احتياطي لا يلجأ القاضي إليه إلا إذا لم تفلح أوجه الطعن الأخرى في إلغاء القرار الإداري.

ويرى الكثير من الفقه أن رقابة القضاء الإداري على ركن الغاية هي رقابة شخصية بحتة، وأن هدف القاضي هو التعرف على أفكار رجل الإدارة، وما دار بخلده، والدوافع والبواعث الشخصية التي دفعت به إلى إصدار القرار الإداري المطعون فيه، غير أن الأستاذ محمد سليمان الطمّاوي، يرى أن ذلك ليس صحيحا دوما، فحجر الزاوية في نظرية الانحراف بالسلطة ليس هو وجود دافع غير مشروع، وإنما الحقيقة أن إثبات ذلك الدافع غير المشروع لا يقصد به إلا إقامة الدليل على انعدام الباعث المشروع.

إنه وإن كان هذا العيب في أكثر صوره إنما يكون الباعث عليه شخصيا تحقيق منفعة أو انتقام – غير أن ذلك ليس صحيحا دائما فمن صوره أيضا مجانبة فكرة تخصيص الأهداف، وهي فكرة لا علاقة لها بالبواعث الشخصية.

ومن جهة أخرى فإننا نرى أن عمل القاضي في إثبات هذا العيب لا يعتمد على البحث في نية رجل الإدارة ودواخل نفسه، دون أي اعتبارات موضوعية، فملف القضية، والوقائع الثابتة، وجميع وسائل الإثبات ذات الطابع الموضوعي، تدل في غالب الأحيان دلالة قاطعة على الأمور الخفية. فلكل باطن ظاهر، والظاهر في غالب الأحوال دليل على الباطن، وكل إناء بما فيه ينضح، وإلا كان إيماننا بالله مجردا من أي دليل ما دمنا لا نراه، لكننا نستدل عليه بالآيات الكونية، والأمارات الظاهرة في خلقه والدّالة على وجوده ووحدانيته، وجميع صفاته من قدرة وعلم وحكمة وخبرة…، ونحن لم نشاهده وإنما شاهدنا من الأمارات ما يدل على ذلك. ولهذا قال الأعرابي صاحب الفطرة السليمة، “البعرة تدل على البعير، والقدم يدل على المسير، أفنهار ساج ووليل داج وسماء ذات أبراج لا تدل على الحكيم الخبير”.

إن قرار الرئيس الإداري بعزل الموظف من أول خطأ يرتكبه- على الرغم من اختصاصه بذلك، وإتباعه للشكليات وصحة الوقائع المنسوبة إلى الموظف ومطابقة العقوبة لما نص عليه القانون – بعد تهديده لرفض هذا الأخير الانصياع لأوامر الرئيس غير المشروعة، وعلى الرغم من أن الكثير من الموظفين ارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه الموظف ولم يعاقبوا ولم يتابعوا، مع ثبوت وجود عداوة سياسية وعائلية بين الرئيس والمرؤوس المعاقب، ليدل دلالة قاطعة على نية الرئيس وإن كانت مستترة داخل نفسه، وقطعا لا يستطيع أحد اتهامنا بادعاء علم الغيب.

ثالثا- إثبات عيب الانحراف بالسلطة:

إن القضاء الحديث لمجلس الدولة الفرنسي يبدو عليه طابع التساهل والرغبة في تخفيف عبء الإثبات على الأفراد، تشجيعا لهم في السهر على مبدأ سيادة القانون، وتقديرا لوضعهم كطرف ضعيف يلقى على عاتقه دائما عبء الإثبات، وأمامهم طرف قوي يتمتع دائما أو في معظم الأحوال بمركز المدعى عليه.

لقد خطا مجلس الدولة الفرنسي خطوات واسعة جدا نحو التضييق من نطاق السلطة التقديرية للإدارة إلى أقل حد ممكن في مجالات النشاط الإداري، ونحو تسليط سيف الانحراف بالسلطة على كل قرار يشتم منه رائحة الانحراف؛ حتى ليكاد يخيل إلينا على حد تعبير الدكتور أحمد حافظ نجم أن المجلس بدأ يتوجه نحو إلغاء فكرة السلطة التقديرية المطلقة.

إن مجلس الدولة الفرنسي وهو بصدد تحري بواعث الإدارة ودوافعها استقر على عدم اضطلاعه باستجواب رجل الإدارة، كما لا يستطيع أن يأمر بإجراء تحقيق في هذا الشأن ولهذا فهو مضطر إلى تلمس هذه الدوافع والبواعث في ملف القضية والظروف المحيطة بالقرار الإداري المطعون فيه، ولهذا فإن الدليل في غالب الأحيان متوقف على الإدارة المطعون في قرارها، أو بمعنى أدق على هفوة ترتكبها وتترك أثر نيتها في الأوراق.

ولكن المجلس وإن ضيق على نفسه من ناحية قصره مصدر إثبات عيب الانحراف بالسلطة على ملف القضية، إلا أنه توسع في مفهوم ملف القضية؛ إذ فستره تفسيرا في غاية الاتساع، حتى ليكاد يكون من غير الممكن عملا حصر وسائل الإثبات التي قرر المجلس أنها تندرج تحت تلك التسمية.

إن توسع قاضي الإلغاء في تفسير المقصود بملف القضية ذهب بالبعض إلى القول أنه لعب دورا فعالا فتجاوز ملف القضية إلى أدلة أخرى غير مباشرة تمثلت في استنباط القرائن الدالة على الانحراف، بل ذهب إلى أبعد من ذلك فاعتد في إثبات الانحراف بظروف خارجة عن النزاع المطروح.

وعلى هذا الأساس فإن قاضي الإلغاء إما أن يعتمد في إثبات عيب الانحراف بالسلطة على أدلة مباشرة من ملف القضية تدل دلالة واضحة على الهدف الحقيقي من القرار المطعون فيه، وهذه الأدلة قليلة ونادرة، وإما أن يعتمد على الأدلة غير المباشرة ونقصد بها القرائن القضائية الدالة على الانحراف.

وقد يكون مصدر الأدلة المباشرة نص القرار المطعون فيه، أو المناقشات الشفهية، أو المراسلات، أو التفسيرات والإيضاحات التي يطلبها القاضي من الإدارة، إذ قد تشير هذه المصادر إلى الغرض الحقيقي صراحة، وحينها نكون بصدد الحصول على الدليل المباشر الذي يثبت الانحراف في حالة ما إذا أشارت هذه المصادر إلى غرض مجانب للمصلحة العامة أو الفكرة تخصيص الأهداف. وقد يثبت من هذه المصادر حصول وقائع ثابتة يمكن أن تعتمد في استنباط وقائع مجهولة وهي الغرض الحقيقي من القرار، وهو ما نسميه بالقرائن القضائية.

  • نص القرار المطعون فيه: فأحيانا يلزم المشرع الإدارة بتسبيب قراراتها، ونظرا للعلاقة الوثيقة بين السبب والغاية فإنه كثيرا ما تدل هذه الأسباب على الغاية الحقيقية لرجل الإدارة، كما قد يكتشف القاضي ذلك من عبارات القرار حتى وإن لم تكن الإدارة ملزمة بالتسبيب، فقد يرد في نص القرار اعتراف الإدارة بالهدف الحقيقي والذي تتصوره صحيحا، فإذا به غير الهدف الذي حدده القانون لها.

ولقد كان مجلس الدولة الفرنسي في البداية حريصا على أن يكون الانحراف بالسلطة واضحا وصريحا في نصوص القرار ذاته، وإلا رفض دعوى الانحراف دون أن يحاول البحث في أماكن أخرى، وكأنه يشترط أن يعلن مصدر القرار صراحة أنه لا يستهدف من قراره تحقيق المصلحة العامة، ومن غير المنطقي أن يضع رجل الإدارة نفسه في هذا المأزق، إلا أن مجلس الدولة عدل عن هذا الموقف، وبدأ يقلب الأوراق المحفوظة في ملف الدعوى، وظروف صدور القرار، والقرائن القوية التي يعضد بعضها بعضا والمستمدة من ظروف إصدار القرار ومن غيره من الظروف السابقة أو المعاصرة أو اللاحقة لصدور القرار سواء كانت متعلقة به أو خارجة عنه بحثا عن دليل يستخلص منه وجود ذلك العيب أو عدم وجوده.

  • المناقشات الشفهية: التي تدور داخل المجالس أو اللجان التي لها سلطة إصدار القرار، وفي هذا الشأن ذهبت محكمة القضاء الإداري المصرية بأن: “نقل أستاذ مساعد بإحدى الجامعات إلى وظيفة أخصائي بوزارة الصحة مشوب بعيب إساءة استعمال السلطة، حيث ثبت من مناقشات المجلس الأعلى للجامعات أن السبب الحقيقي للقرار ليس عدم حصوله على الدكتوراه، بل القول بفقدان الانسجام بينه وبين بعض زملائه بالكلية”، وهكذا عرفت المحكمة من خلال المناقشات الشفهية التي دارت في المجلس الأعلى للجامعات أن الهدف الحقيقي هو معاقبة المدعي محاباة لبعض زملائه في الكلية.

وفي الواقع لا يكون إثبات الانحراف بهذه الوسيلة ميسورا دائما، حيث أن مناقشات إصدار القرار تكون في حجرات مغلقة، وغالبا ما تكون محاطة بسرية يعجز المدعي عن اختراقها، فلا يستطيع معرفة ما دار فيها لإثبات الانحراف بواسطتها.

  • المراسلات: التي سبقت أو لحقت إصدار القرار المطعون فيه، فهي كثيرا ما تكشف عن نوايا الإدارة وأهدافها. ففي قضية Monbouyran قرر مجلس الدولة الفرنسي بأنه: “اتضح من الخطابات المتبادلة بين رئيس مجلس إدارة المكتب الإقليمي وبين نقابة موظفي المكاتب العامة لمساكن الإيجار المتوسطة، وكذا من مداولات مجلس إدارة المكتب في 05 نوفمبر 1968، أن فصل المدعي من منصبه لم يكن لدواعي اقتصادية، ولكنه استهدف التخلص من المدعي بسبب نشاطه النقابي.

كما اعتدت المحكمة الإدارية العليا المصرية بالمراسلات المتبادلة بين جهات الإدارة في إلغائها لقرار نقل مسؤول نقابي بسبب نشاطه النقابي المناوئ للإدارة، ودفاعه المتواصل عن حقوق العاملين بالمرفق. غير أن كون هذه المراسلات بحوزة الإدارة، وامتناعها عن تقديمها إلى القاضي بزعم عدم وجودها يحول دون تحقيق الفائدة المرجوة منها.

  • التوجيهات العامة والخاصة: حيث يفحص مجلس الدولة الفرنسي التوجيهات العامة (المنشورات) والخاصة التي يصدرها الرؤساء الإداريون إلى مرؤوسيهم والتي بمقتضاها اتخذ القرار المطعون فيه، فقد يسترشد مجلس الدولة الفرنسي بتلك التوجيهات في الكشف عن مدى وجود انحراف بالسلطة.

ومما يقلل من أهمية الاعتماد على هذه التوجيهات في الكشف عن الانحراف بالسلطة اتسامها بالسرية وبالتالي استبعاد اطلاع القاضي عليها.

  • التفسيرات والإيضاحات: التي يطلبها القاضي من الإدارة؛ إذ قد تؤدي إلى إقرار رجال الإدارة بالهدف الحقيقي للقرار، فإذا امتنعت الإدارة عن تقديم التفسيرات والإيضاحات التي يطلبها القاضي والتي لا يمكنه الحكم إلا في ضوئها، فإن بوسعه الحكم ضدها.

الفرع الثاني: مكانة القرائن القضائية في الإثبات الإداري ودورها في إثبات الانحراف بالسلطة.

إن إثبات الوقائع القانونية يبقى حقيقة نسبية، فهو إثبات ترجيحي وليس إثبات يقيني، فيكتفي بإثبات ما يرجح حدوث الواقعة محل النزاع أو انتفاؤها، وهذا ما يسمى بالقرينة، ولقد قص الله عز وجل علينا في كتابه الكريم استعمال هذه الوسيلة في الأمم السالفة في قوله تعالى:” وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم”. واستدل جمهور فقهاء الإسلام بهذه الآية وآيات أخريات بالإضافة إلى مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة على مشروعية الأخذ بالقرائن كأدلة إثبات.

ولم يرد تعريف للقرينة القضائية في القانون المدني الجزائري ولا قانون الإجراءات المدنية والإدارية، شأنه في ذلك شأن المشرع المصري الذي لم يورد لها تعريفا أيضا لا في القانون المدني ولا في قانون الإثبات، إلا أن المشرع الفرنسي عرف القرائن بموجب المادة 1349 من القانون المدني بأنها: “النتائج التي يستخلصها القانون أو القاضي من واقعة معلومة لمعرفة واقعة مجهولة”.

ولقد أشارت المادة 340 من القانون المدني الجزائري إلى القرائن القضائية بقولها: “يترك لتقدير القاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون، ولا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بالبينة”.

كما أشارت إليها المادة 100 من قانون الإثبات المصري بقولها: ” يترك لتقدير القاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون، ولا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بشهادة الشهود”.

والمادة 1353 من القانون المدني الفرنسي بقولها:” القرائن التي لم ينص عليها القانون تترك لنظر القاضي وتقديره، ولا يجوز أن يؤخذ إلا بقرائن قوية الدلالة، ودقيقة التحديد، ظاهرة التوافق….

و لقد اجتهد الفقه في وضع تعريفات للقرينة تمحورت حول معنى واحد وهو أن: القرينة استنباط القاضي الأمر غير ثابت من أمر ثابت بناء على الغالب من الأحوال، أو أنها: علاقة منطقية يستنتجها القاضي بين واقعة معلومة وأخرى مجهولة يريد إثباتها.

وتسمى الوقائع المعلومة بشواهد الحال أو الدلائل، وتشكل العنصر المادي للقرينة، بينما يتمثل العنصر المعنوي في استنباط الوقائع المجهولة.

أولا- مكانة القرائن في الإثبات الإداري:

إن الأهمية الواسعة للقرائن كوسيلة من وسائل الإثبات في مجال القضاء هي جعلت الفقيه الكبير غارو يقول:” إن القاضي يعيش ويتحرك في جو من القرائن”.

وتشكل القرائن القضائية وسيلة إثبات في غاية الخطورة لكونها لا تمثل في أحيان كثيرة الحقيقة الكاملة، فمن الممكن وقوع القاضي في الغلط في استنباطاته، وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل الفقه الكلاسيكي لا يعترف بها كوسيلة للإثبات في القانون الإداري؛ إضافة إلى اعتقاد فقهاء هذه الفترة بخصوصية الإجراءات التنازعية أمام مجلس الدولة.

فقد سكت هؤلاء الفقهاء عن أي دور احتمالي للقرائن في إنشاء القانون من قبل القاضي الإداري، فالقانون الإداري القضائي أساسا، هو قانون عصري، ومجلس الدولة حامي الحريات العامة، يستند على القانون والمبادئ العامة للقانون ولا يمكن له أن يترك مكانا لوجود القرائن التي تعتبر وسائل قديمة وأقل أمانا.

لقد مر الاعتراف بالقرائن كوسيلة للإثبات لدى الفقه الإداري الفرنسي بعدة مراحل، فابتداء من 1950 اكتشف فقه القانون الإداري القرائن واهتم أساسا بالهدف الذي تلعبه في إنشاء القانون الإداري، فصرح الفقيه Rivero بأن قرينة الشرعية تسيطر على القانون الإداري الفرنسي برمته، وقبله نبه الفقيه Horiou عن وجود نفس القرينة.

أما الأستاذ Charlier فإنه أول من لجأ إلى القرائن في دراسة له متعلقة بالمرافق العامة الصناعية والتجارية. وبعد عدة سنوات دعا Latournerie في دراسة خاصة بالدفاع عن فرضية المرفق العام إلى استعمال القرائن لإيجاد حل للمشاكل العويصة التي تطرح على القاضي والمتقاضي.

وأهم عمل حول الإثبات بالقرائن في المنازعات الإدارية هو رسالة الدكتوراه لـــ Louis de costoines بعنوان: ” les presomptions en droit administratif” تحت إشراف الفقيه Delaubadere.

واليوم تعتبر القرائن القضائية في مقدمة طرق الإثبات أمام القضاء الإداري، إذ يستطيع القاضي القضاء في ضوء ما يتمتع به من حرية في الإثبات أن يدحض بها الادعاء أو يثبته. فعندما يخلو ملف الدعوى من أدلة الإثبات الكافية، أو عندما يتعذر على الطرف المكلف بالإثبات تقديم المستندات المؤيدة لطلبه، يلجا القاضي إلى تأسيس حكمه على القرائن المستقاة من الأمارات والشواهد التي تنبئ عنها الأوراق والتي تشكل في مجملها قرائن قضائية إذا بلغت من القوة درجة تخلخل قرينة الصحة التي تتمتع بها القرارات الإدارية، بحيث تنشأ قرينة قضائية على صحة الادعاء ناقلة لعبء إثبات العكس إلى عاتق الإدارة.

ويرجع Pactet هذه الأهمية للقرائن القضائية إلى ما يلي:

  • اتساع السلطة الممنوحة للقاضي الإداري أثناء نظر الدعوى فهو لا يتقيد بدليل معين، وهو ما يبرره اعتناق مذهب الإثبات الحر.

  • أن معظم وقائع القانون الإداري وقائع مادية.

  • أنها تقوم بين طرفين غير متساويين، ومن ثمة يقتضي الأمر إطلاق يد القاضي في استنباط القرائن التي تعين المدعي في دعواه وتخفف عبء الإثبات الملقى على عاتقه.

وهكذا فإن القوانين أصبحت تترك للقاضي استنباط أي قرينة لم يقررها القانون، فالقرينة القضائية هي علاقة بين واقعتين إحداهما ثابتة في الدعوى والأخرى مجهولة يستدل عليها بالأولى، فللقرائن القضائية عنصرين: العنصر الأول وهو العنصر المادي الذي يتكون من وقائع ثابتة تسمى الدلائل أو الأمارات، والثاني هو العنصر المعنوي الذي يتمثل في عملية الاستنباط أو الاستخلاص التي يقوم بها القاضي ليصل من هذه الدلائل والأمارات إلى ثبوت للوقائع المجهولة، ويتمتع القاضي في شأن العنصرين المادي والمعنوي بسلطة تقديرية مطلقة، إذ يترخص في اختيار الوقائع الثابتة التي يستنبط منها القرينة، بالإضافة إلى حريته في تكوين عقيدته. والقرائن القضائية يجوز كأصل عام إثبات عكسها بجميع طرق الإثبات ومنها القرائن.

وإذا كانت القرائن القضائية دليلا مقيدا، أمام القضاء العادي فلا يمكن الإثبات بواسطتها في غير الأحوال التي يجوز الإثبات فيها بشهادة الشهود. فإن الأمر يختلف أمام قاضي الإلغاء، فالقانون لم يحدد الأدلة المقبولة أمام قاضي الإلغاء، وهو يتمتع بسلطة تقديرية واسعة في وزن وتقدير ما يقدم إليه من أدلة وعناصر، دون أن يكون لأي منها حجية أو قوة محددة في الإثبات تفضل غيرها طالما أن المشرع لم يحدد ذلك، ومن ثمة فإن تقدير الأدلة خاضع أصلا لوزن وتقدير القاضي، ولهذا فإن القرائن القضائية تعتبر في مقدمة طرق الإثبات أمام قاضي الإلغاء.

وما المستندات وغيرها من الأوراق الإدارية إلا قرائن مكتوبة قابلة لإثبات العكس، تتآلف مع بعضها البعض لإثبات الوقائع المتنازع عليها، لذلك كان من الطبيعي أن يقيم القاضي حكمه في الكثير من الأحيان على القرائن القضائية وحدها ودون اشتراط دليل آخر.

وهكذا فإنه عندما يخلو ملف الدعوى من الإثبات أو يتعذر على المدعي تقديم ما يؤيد طلباته من مستندات، يتجه القضاء الإداري إلى تأسيس حكمه على الأمارات، والشواهد والدلائل التي تظهر من مختلف أوراق الملف، وبذلك يستخلص قاضي الإلغاء القرائن القضائية، التي تؤدي إلى نقل عبء الإثبات إلى عاتق الطرف الآخر.

وتؤدي القرائن القضائية التي يستخلصها القضاء الإداري على هذا النحو إلى تيسير عبء الإثبات الملقى على عاتق رافع دعوى بالإلغاء لأنه هو المدعي دوما. ويؤدي ذلك غالبا إلى إعفائه بصفة مؤقتة من عبء الإثبات إلى أن تقدم الإدارة ما يفند القرائن القائمة لصالحه.

وتظهر أهمية هذه القرائن وفعاليتها على وجه الخصوص في الحالات التي يتعذر أو يصعب فيها الحصول سلفا على أدلة الإثبات أو بالنسبة للوقائع التي ليس من شأنها عدم الرصد في الأوراق الإدارية.

ثانيا- دور قاضي الإلغاء في استنباط القرائن القضائية والأخذ بها:

للقاضي دور هام في استنباط القرائن القضائية، فقد سميت قضائية للدلالة على الدور الذي يلعبه القضاء فيها، ولكن لا يهم أن يقوم القاضي بنفسه بعملية الاستنباط، أو يقوم بها أحد الخصوم، وللقاضي سلطة تقديرية في قبول الاستنباط الذي توصل إليه الخصم من عدم قبوله، فإذا أقره القاضي نسب إليه ولم ينسب إلى الخصم.

والسؤال الذي يثور في هذا الشأن هو: هل يحظى القاضي بحرية مطلقة في اختيار الواقعة أساس الاستنباط وفي استخلاص واستنتاج حدوث الواقعة المرتبة للأثر القانوني، أم أن هناك قيودا ترد على حريته في ذلك. ثم هل أن القاضي ملزم بالأخذ باستنباطات الخصوم التي تبدو معقولة أم أن له مطلق الحرية في الأخذ بها أو ردها؟

1- سلطة قاضي الإلغاء في اختيار الواقعة أساس الاستنباط:

يحظى القاضي بحرية مطلقة في اختيار الواقعة التي يتخذها أساسا لاستنباطه، فيمكن أن يختارها من الوقائع التي كانت محلا للمناقشة بين الخصوم، أو في ملف الدعوى، أو حتى من تحقيقات باطلة.

كما يمكن للقاضي أن يستنبط القرينة من واقعة امتناع الخصم عن الحضور للجلسة المحددة للاستجواب، أو واقعة امتناع الإدارة عن تقديم المستندات المطلوبة منها، أو رفض الإجابة عن الأسئلة الموجهة أثناء الاستجواب، أو رفض تقديم التوضيحات المطلوبة، أو رفض الإدارة لإجراء التحقيقات الإدارية المطلوبة منها…

وكل ما على القاضي هو أن يتحقق ما إذا كانت واقعة معينة ثابتة في الدعوى، ولا يهم الطريق الذي ثبتت به هذه الواقعة؛ ما دام ثبوتها يقينيا على سبيل الجزم بحيث لا تحتمل الشك، فلا يتقيد بأن تكون هذه الواقعة مستمدة من أوراق الدعوى أو من أوراق أخرى خارجة عنها، كتحقيق أجري في دعوى أخرى أو أمام جهة إدارية، كما لا يتقيد بقيود الإثبات العادية في تقديره إن كانت تلك الواقعة ثابتة في الدعوى أم لا، فله أن يعتبرها ثابتة ما دام قد اقتنع بوجودها، وإن شهد بها شاهد أمام الخبير دون أن يؤدي اليمين؛ مادام القاضي مقتنعا بشهادته.

2- سلطة قاضي الإلغاء في عملية الاستنباط:

إن عملية الاستنباط عملية عقلية تعتمد على فهم القاضي لوقائع الدعوى، وتقدير صلتها بوقائع النزاع، ولهذا فإن نتيجة عملية الاستنباط تختلف من قاض إلى آخر، وذلك لتفاوت شخصيات القضاة، وتبعا لما يتمتع به كل قاض من ذوق وتقدير وفطنة وفراسة، ولهذا فقد ترك المشرع للقاضي الحرية الكاملة في الاستنتاج، ولم يقيده بأي شرط، فيحكم القاضي وفق ما اقتنع به وبما أملاه عليه ضميره، لا يخضع في عمله هذا لرقابة محكمة النقض، ما دام قد تقيد بقواعد العقل والمنطق في استنباطه واحترمها بحيث يكون انتقاله من المعلوم إلى المجهول انتقالا سليما، ومتى لم تكن عملية الاستخلاص متناقضة مع ما هو ثابت في الأوراق، وكانت مستساغة عقلا ومنطقا مع المبني عليه في غالب الأحوال.

وتستدعي عملية الاستنباط تقرير أن الواقعة الثابتة يرجح قيام الواقعة المسببة للأثر القانوني المتنازع فيه، وللقاضي الإداري أيضا سلطة تقديرية واسعة في ذلك، فقد يقيم من واقعة واحدة قرينة على قيام الواقعة محل النزاع، وقد يرفض أن يقيم من عدة وقائع قيام هذه الواقعة، دون رقابة المحكمة النقض عليه.

إن المادة 1353 من القانون المدني الفرنسي تنص على أن: “القرائن التي لم ينص عليها القانون تترك لنظر القاضي وتقديره، ولا يجوز أن يؤخذ إلا بقرائن قوية الدلالة، ودقيقة التحديد، ظاهرة التوافق…”.

وهكذا يبدو أن المشرع الفرنسي لم يجعل حقوق المتخاصمين لمطلق تقدير القاضي، ولكنه بعد أن أعطى للقاضي حرية في إعمال فكره وعقله في استنباط المجهول من المعلوم، قيده بأن يكون ذلك على قدر كبير من الدقة والتحديد وقوة الحجة.

وعلى هذا الأساس فإنه ولكي تصح استنباطات القاضي كقرائن يستند إليها في إصداره لحكمه، فإنه يتعين أن تتوافر في تلك القرينة المستخلصة قضائيا الوضوح وسلامة الاستخلاص، والاتصال الوثيق بالواقعة محل الإثبات.

وهذه الشروط وإن لم ينص عليها المشرع الجزائري إلا أنها مطلوبة على أساس أن مصطلح الاستنباط يأخذ معناه العلمي، ولا يكون كذلك إذا لم تتوافر فيه هذه الشروط؛ فيجب أن تكون القرينة واضحة لاعتبارها أحد وسائل الإثبات أمام القضاء الإداري والتي يمكن للقاضي الاستناد إليها في حكمه.

وقد تكون القرينة التي يعتمد عليها قاضي الإلغاء واحدة وواضحة بحيث يراها كافية وقوية بذاتها، ومن ثم يمكنه تأسيس حكمه استنادا إليها وحدها، وقد تتضافر عدة قرائن بحيث يشكل اجتماعها قوة في الإثبات الأمر الذي يجعل القاضي يعتمد عليها في حكمه.

كما يجب أن يكون الاستخلاص سليما سائغا ومعقولا ومنطقيا، بالنظر إلى الوقائع التي استنتجت منها القرينة. وأخيرا فإنه يلزم لصحة القرينة أن يكون هناك اتصال وثيق بين القرينة والواقعة محل الإثبات.

3- سلطة قاضي الإلغاء في تقدير حجية القرينة:

إن دلالة الوقائع الثابتة على الوقائع غير الثابتة ليست ملزمة للقاضي، فالخصم يعرض على القاضي الوقائع الثابتة التي يريد أن يجعلها أساسا لاستنباط ما يدعيه، ويكون للقاضي كامل الحرية في أن ينتقي منها ما يشاء، وأن يستنبط ما يختاره منها سواء كان هذا الاستنباط متفقا مع إرادة الخصم أو عكسها.

وما دامت القرينة القضائية تقوم على الاستنباط القائم على الظن والترجيح، ولما كان من الممكن الغلط في هذا الاستدلال، فقد انعقد إجماع الفقه على أن القاضي لا يتقيد بعدد القرائن ولا بتطابقها، فقد تقنعه قرينة واحدة قوية الدلالة، ولا تقنعه قرائن متعددة.

وأخيرا فإن قاضي الإلغاء يستطيع الأخذ بالقرائن كوسيلة لإثبات أي واقعة مادية، أما التصرفات القانونية فلا يمكن الاعتماد على القرائن في إثباتها إلا في الحالات التي يجوز فيها الاستناد إلى شهادة الشهود.

ثالثا- أهم القرائن القضائية الدالة على الانحراف بالسلطة:

مع بداية الربع الثاني من القرن العشرين لم يعد مجلس الدولة الفرنسية يكتفي بفحص نص القرار المطعون فيه، والأوراق المحفوظة بملف الدعوى فقط، بل بدأ بحثه يمتد إلى القرائن المحيطة بظروف النزاع إذا لم يجد في نص القرار أو أوراق الدعوى ما يعينه على اكتشاف الانحراف.

لقد أدرك القضاء الإداري بخبرته أن المدعي في دعوى الإلغاء لو ترك وشأنه اعتمادا على ملف الدعوى فإنه سوف ينوء حتما بعبء الإثبات، فباستثناء حالة اعتراف الإدارة، وهي حالة نادرة تماما، وكذلك حالة إعلان الإدارة عن هدفها المخالف لفكرة تخصيص الأهداف معتقدة صحته، فمن المؤكد أن المدعى سيلقى صعوبة بالغة في إثبات الانحراف بالسلطة.

وانطلاقا من حرص قاضي الإلغاء على إعلاء مبدأ المشروعية فإنه تجاوز ملف الدعوى في إثبات الانحراف بالسلطة إلى غيره من الأدلة التي يمكن للمدعي تقديمها، وهي مجموعة من القرائن من شأنها التشكيك في نوايا الإدارة وسلامة غاياتها من وراء إصدار القرار، بحيث ينتقل عبء إثبات عكس هذه القرائن إلى عاتق الإدارة ذاتها، فإذا سكتت ولم تقدم الإجابة الشافية التي تقنع القاضي اعتبر ذلك تسليما منها بادعاءات المدعي. وأهم هذه القرائن:

  • قرينة الموقف السلبي من الادعاء:

قد يبدي المدعي وقائع يستشف منها انحراف الإدارة بسلطتها، فإذا لم تنكرها الإدارة أو لم يتوافر في الأوراق ما ينفيها، عدّ ذلك قرينة على توافر الانحراف بالسلطة، والواقع أن تلك القرينة عامة للإثبات سواء في مجال الانحراف بالسلطة أو غيره من العيوب، إلا أن أهميتها تزداد في مجال الانحراف بالسلطة.

والإدارة تستطيع بعد أن يطالبها القاضي بتقديم ملفاتها وأوراقها أن توازن مكرهة بين تقديم أوراقها فتسمح للطاعن أن يستخلص منها عناصر إثبات لصالحه، أو أن تمتنع عن ذلك فتتحمل نتيجة القرينة التي يمكن استخلاصها لصالح المدعي من هذا الامتناع، إذ لا يجوز للإدارة أن تعرقل إثبات المدعي لادعاءاته عن طريق لزومها للصمت، وعلى هذا الأساس ذهبت المحكمة الإدارية العليا في مصر إلى اعتبار تقاعس الإدارة في الرد على ادعاءات المدعي بتوافر عيب الانحراف بالسلطة -رغم منح المحكمة لها أكثر من أجل، لكي تتمكن من الرد- يقيم قرينة لصالح المدعي على انحراف الإدارة بسلطتها.

  • قرينة التفرقة في المعاملة بين متماثلي المراكز القانونية:

الاستجابة لطلب فئة دون أخرى بغير مبرر قانوني ظاهر، فهو قرينة على محاباة فئة على حساب غيرها، أو إصدار قرار لا يطبق في الواقع إلا على فئة معينة دون غيرها، ولقد وجدت هذه القرينة لها مجالا للتطبيق في العديد من قرارات القضاء الإداري الجزائري والمصري، كما وجدت لها تطبيقات في قضاء مجلس الدولة الفرنسي؛ من ذلك حكمه في قضية Casting حيث وصل إلى أعمق مدى في البحث عن هذا العيب من خلال البحث عنه في الظروف الخارجة عن النزاع المعروض والتي لا تمت إليه بأي صلة مباشرة.

إذ طعن السيد Casting في قرار وزير الصحة الذي رفض منحه الترخيص بفتح صيدلية، على أساس أن المدينة لا تحتاج إلى فتح صيدليات جديدة، وألغى مجلس الدولة هذا القرار بسبب الانحراف بالسلطة؛ لأنه اكتشف أن الوزير وافق على منح الترخيص بفتح صيدليتين في نفس المدينة وفي تواريخ لاحقة لطلب المدعي، رغم أن احتياجات المدينة إلى صيدلية لم تتغير في تلك الفترة.

  • قرينة ظروف وملابسات إصدار القرار وتنفيذه:

ويستنبط القاضي هذه القرينة على قيام الانحراف بالسلطة من الظروف التي صاحبت إصدار القرار أو الكيفية التي نقذ بها، كما هو الحال في إصدار قرار الفصل من طرف الرئيس المعين حديثا قبل تسلمه للعمل، ثم تنفيذه بسرعة غير عادية، أو قرينة إصدار الوزير لقرار بعد أن قدم استقالته وقبل قبولها. أو وجود خلافات جوهرية بين الرئيس مصدر القرار التأديبي ومرؤوسة المعني بهذا القرار. أو قيام الإدارة بتكليف الموظف ببعض الأعمال الهامة قبل صدور القرار الذي يعتبره غير مؤهل للقيام بتلك الأعمال وبعد صدوره كذلك، فهذا قرينة على أن الموظف مؤهل للقيام بتلك الأعمال، وعلى الإدارة إثبات عكس مدلول هذه القرينة.

ولقد ألغي مجلس الدولة الفرنسي قرار الإدارة استبعاد أحد المتقدمين بعطاء في مناقصة، حين كشفت ظروف إصداره عن انحرافها بالسلطة، وقد استنبط المجلس ذلك من محاولات الإدارة المتكررة لإبعاد المقاول.

وفي قضية السيدة L’hermitte قرر مجلس الدولة إلغاء قرار فصل السيدة L’hermitte من وظيفة سكرتير البلدية نصف الوقت لما تحقق من أن المجلس البلدي قام بتحويل وظيفة سكرتير البلدية كل الوقت إلى وظيفة سكرتير البلدية نصف الوقت لكي يدفع بالسيدة L’hermitte إلى الاستقالة، لكنها قبلت العمل بالوظيفة الجديدة، فقام المجلس بإلغاء الوظيفة نهائيا، وكلف سكرتير إحدى البلديات بالقيام بنفس المهام.

ومن أمثلة استنباط المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة المصري عيب الانحراف بالسلطة من ظروف وملابسات إصدار القرار حكمها في قضية إلغاء قرار النقل في حق موظف في أعقاب رفعه تقرير لا ترضى عنه الإدارة إلى رئيس مجلس الوزراء.

وحكمها بإلغاء قرار عزل موظف من الخدمة، بعد أن قامت الإدارة بتوقيع ثلاث جزاءات متوالية عليه، ثم امتنعت عن ترقيته رغم إدراج اسمه في كشوف الترقية، ثم نقلته إلى وظيفة أدنى من وظيفته الأصلية، ثم إصدار قرار العزل محل الإلغاء، كل ذلك على إثر اعتراضه هو وبعض زملائه على بعض التنظيمات الإدارية.

  • قرينة طريقة إصدار القرار:

فإذا صدر القرار بناء على طلب مقدم إلى الإدارة، واتضح من ظروف الحال أنها لم تقم ببحث الطلب قبل إصدار القرار، فإن صدور القرار على هذا النحو قرينة على الانحراف بالسلطة، متى كانت طبيعة ذلك القرار تتطلب نوعا من التحري والبحث، سواء كان الرد بالرفض أو القبول، كما هو الحال في القرارات التي ترد على طلب الرخص، والقرارات التي ترد على طلب التوظيف مثلا.

  • قرينة انعدام الدافع المعقول:

وتقوم هذه القرينة عندما يثير المدعي ادعاءات بانعدام الدافع أو المبرر المعقول لإصدار القرار الإداري أو يتضح ذلك من ظروف الحال، حتى ولو كان القانون يعطي سلطة تقديرية للإدارة في أن تتخذ القرار أو لا تتخذه.

المطلب الثاني: دور قاضي الإلغاء في إثبات عیب السبب.

تمكن السلطة الواسعة للقاضي الإداري في الرقابة على السبب من أداء دور متقدم في إثبات عیب السبب؛ فبعد أن كان دوره يقتصر على الرقابة على الوجود المادي للوقائع التي أفصحت الإدارة أنها استندت إليها كأسباب للقرار الإداري، ومدى مشروعيتها، وتكييفها القانوني، وفي أبعد الأحوال تقدير مدى أهميتها، أصبح يطالب الإدارة بالإفصاح عن الأسباب التي استندت إليها في إصدار القرار.

وبهذا الدور يكون قاضي الإلغاء قد ساعد المدعي في دعوى الإلغاء في التخلص من واحدة من صعوبات الإثبات التي تطرقنا إليها في الفصل الأول من هذا البحث، وهي افتقاره لأدلة الإثبات؛ فبمجرد ادعاء المدعي في دعوى الإلغاء أن الإدارة تستند إلى أسباب غير مشروعة في إصدار قرارها يملك قاضي الإلغاء أن يطلب من الإدارة الإفصاح عن الأسباب الحقيقية، وهنا إما أن تكشف الإدارة عن الأسباب الحقيقية التي تتيح للطاعن الطعن في مشروعيتها على دراية، وإما أن تمتنع فيخول هذا الامتناع القاضي أن يستنتج ما يلزم من قرائن تساهم هي الأخرى في تخفيف عبء الإثبات على المدعي.

ويتطلب التعرف على دور قاضي الإلغاء في إثبات عيب السبب التعرف أولا على رقابة قاضي الإلغاء على الوجود المادي للوقائع وتكييفها في الفرع الأول، ثم التطرق في الفرع الثاني إلى رقابة قاضي الإلغاء على أهمية الأسباب وخطورتها وأخيرا إلى سلطة قاضي الإلغاء في إلزام الإدارة بالإفصاح عن أسباب قرارها في الفرع الثالث.

الفرع الأول: رقابة قاضي الإلغاء تكييفها على الوجود المادي للوقائع وتكييفها

إلى غاية سنة 1914 لم يبحث مجلس الدولة الفرنسي المسائل المتعلقة بالوقائع، ولم يكن حتى ذلك الحين أقره إلا في حالات استثنائية، وبمناسبة حكمه في قضيةGomel  أقر بحقه في الرقابة على التكييف القانوني للوقائع وبالضبط رقابته لتكييف الموقع الذي شيد عليه المبنى هل يعد موقعا تذكاريا، والطبيعة الفنية والجمالية للمنشآت التذكارية والمواقع، حيث كان الأمر يتعلق بمعرفة ما إذا كانت ساحة Beauvau في باريس جادة تذكارية في مفهوم النصوص المتعلقة بالمدينة، ولقد فصل مجلس الدولة في ذلك بعكس ما أخذت به الإدارة من تكييف لهذه الساحة. كما راقب تكييف الإدارة للطبيعة الفنية لإحدى هيئات الموظفين، وما إذا كانت بعض العروض أو المنشورات تمثل خطرا على الشباب، كما مارس رقابته على تكييف الإدارة لمفهوم إعالة أسرة. ومدى اعتبار عقوبات أنها ذات طابع سياسي.

غير أن الخطأ في التكييف القانوني للوقائع لا يؤدي بالضرورة إلى الحكم بعدم مشروعية القرار الإداري وإلغائه، فقاضي الإلغاء يمكنه استبدال هذا السبب بأسباب أخرى صحيحة.؟

وبعد عامين من حكم Gomel الذي أقر فيه مجلس الدولة حقه في الرقابة على التكييف القانوني للوقائع أقر هذا الأخير بمناسبة حكمه في قضية Camino سلطته في الرقابة على الوجود المادي للوقائع والتي لم تظهر إلا بعد ظهور سلطة الرقابة على التكييف القانوني للوقائع؛ وقد يستغرب البعض ذلك؛ لأن إلغاء قرار يستند إلى واقعة لم تحدث أسهل من إلغائه بسبب قيامه على واقعة حدثت ولكن الإدارة أخطأت في تكييفها.

لكن القضاء الإداري الفرنسي كان يعتبر ولعهد طويل أنه حتى باعتبار الغلط في الواقع ثابتا فإن ذلك لا يعد تجاوزا للسلطة، استنادا إلى أن الشرعية لا تشمل إلا مسائل القانون وليس لوجود الأفعال من عدمه أي دور فيها وبالتالي فإن الإدارة وحدها المختصة ببحث مادية الوقائع، وليس للقاضي أن يحل محلها في هذا البحث.

ولقد شبهت رقابة مجلس الدولة الفرنسي على الوقائع في هذه الحالة برقابة قضاء النقض؛ الذي يبحث فقط مدى تطبيق القانون دون البحث في الوقائع ما إذا كانت صحيحة أم لا، غير أن قاضي النقض وإن كان يتخلى عن الرقابة على مادية الوقائع فذلك لأن قاضي الموضوع قد سبقه إليها، وقاضي الموضوع يمكن الركون إليه في هذه المسألة نظرا لحياده أولا، ونظرا للإجراءات القضائية وما فيها من ضمانات ثانيا، أما قاضي الإلغاء فليس له شيء من هذا القبيل؛ لأن الذي سبقه إلى بحث مادية الوقائع هو رجل الإدارة الذي أصدر القرار، وهو رجل ليس له حياد القاضي، وإجراءاته ليست فيها الضمانات القضائية.

وهكذا فإن مجلس الدولة الفرنسي أدرك عدم منطقية هذه التبريرات فقرار ما لا يمكن أن يكون قانونيا إلا إذا استند إلى واقعة ما وغياب هذه الواقعة يجعله غير مطابق للقانون، كما أن اختصاص الإدارة لا يستبعد اختصاص القاضي بمراقبة مدى مشروعية ممارستها لهذا الاختصاص.

لقد عد M. Long et autres حكم Camino البذرة الأولى لكل القضاء اللاحق الذي ييسر مهمة المدعي في الإثبات، والذي وصل إلى إلزام الإدارة بالإفصاح عن أسباب قرارها في وقت لاحقة.

وهكذا تلاحقت قرارات مجلس الدولة الفرنسي التي تقر بحقه في الرقابة على الوجود المادي للوقائع؛ إذ تعززت بقرار سنة 1922 ويتعلق الأمر بحكم مجلس الدولة في قضية Trepont ، والتي تتلخص وقائعها في أن المدعي تمت إحالته على التقاعد بموجب قرار أشير فيه إلى أن هذه الإحالة جاءت بناء على طلبه، وقام المدعي برفع دعوى لإلغاء هذا القرار لعدم صحة واقعة تقديم الطلب، وفي معرض ردها على دفوعات المدعي اتخذت الإدارة من واقعة استدعاء الوزير للطاعن، ومحادثته شفويا بخصوص الإحالة على التقاعد، وموافقة هذا الأخير على الإجراء سببا يقوم مقام الطلب ويبرر قرار الإحالة.

لقد أشار مفوض الدولة في تقريره المقدم بمناسبة هذه القضية إلى أن فكرة الاتفاق تحظى بقسط من المرونة وليس لها نفس المعنى عندما تقوم بين الند والند أو بين الموظف والوزير، وبالتالي فإن الموظف قبل باعتباره موظفا عليه واجب الاحترام لإجراء لا يستطيع دفعه، وهذا لا يمكن أن يقوم مقام الطلب.

ولم يتردد مجلس الدولة في تبني تقرير مفوض الدولة في حكمه الذي جاء فيه: “…وأنه بإصدار القرار مؤسسا على أنه تم بناء على طلبه، فإن الوزير يكون قد أقامه على واقعة غير صحيحة ماديا … ومن ثمة يكون هناك محل لإلغائه لمجاوزة السلطة”.

ولقد واصل مجلس الدولة هذا التوجه خاصة في إلغاء قرارات الإحالة إلى التقاعد التي كانت تدعي الإدارة أنها جاءت بناء على طلب المعني، ويتبين بعد طلب إلغائها عدم وجود واقعة الطلب، كما مثلت القرارات التأديبية مجالا فسيحا هي الأخرى لمثل هذه الرقابة حيث يتبين في العديد من القضايا أن الإدارة تصدر قراراتها التأديبية استنادا إلى أخطاء يثبت بعد ذلك أنها لم ترتكب.

غير أنه -ورغم أهمية رقابة قاضي الإلغاء على الوجود المادي للوقائع وتكييفها – إلا أن دوره في تخفيف عبء الإثبات لا يكمن في هذه الدائرة من الرقابة لأن إثبات عدم وجود واقعة أو الخطأ في توصيفها وفقا للقانون أمر سهل مقارنة بإثبات عدم شرعية قرار إداري من حيث سببه إذا كان هذا السبب موجود ماديا وتكييفه القانوني صحيح، وكل ما في الأمر أنه ليس من الخطورة بحيث يستوجب تدخل رجل الإدارة.

الفرع الثاني: رقابة قاضي الإلغاء على أهمية الوقائع وخطورتها.

يبلغ دور القاضي منتهاه في إثبات عيب السبب عندما يراقب تقدير الإدارة لأهمية الوقائع في القرار الإداري، وهو الدور الذي عبر عنه Edouard SAUVIGNON بالحد من السلطة التقديرية عن طريق حرية البحث عن أهمية الأسباب، ويراقب القاضي ما إذا كانت الوقائع على جانب من الخطورة تكفي لتبرير الإجراء المتخذ بحقها أو في مواجهتها.

ولقد مارس مجلس الدولة الفرنسي هذه الرقابة على قرارات الضبط التي تمس الحريات العامة، وبصفة خاصة الإجراءات الصادرة عن سلطات الضبط المحلية، فإذا كان من حق العمد اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحفاظ على النظام والأمن فإن شرط مشروعية هذه الإجراءات أن تكون ضرورية لكفالة النظام العام، وذلك حرصا من قاضي الإلغاء على تضييق نطاق السلطة التقديرية للإدارة في هذا المجال المهم المتعلق بحريات وحقوق الإنسان، وهذا ما أدى إلى تفهم الفقهاء لهذه الرقابة.

ويعد حكم مجلس الدولة في قضية Benjamin الانطلاقة الحقيقية لهذه الرقابة، وتتلخص وقائعه في أن عمدة Nevers منع المحاضر Benjamin من إلقاء محاضرة عامة بسبب تخوفه من الاضطرابات التي قد تتسبب فيها هذه المحاضرة، ومع اعتراف مجلس الدولة بالمخاطر التي قد تنجم عنها وما يستتبع ذلك من مساس بالنظام العام، فإنه أكد على أن تلك المخاطر المحتملة لا تبلغ درجة من الخطورة بحيث يعجز معها العمدة -بما لديه من وسائل – من السيطرة عليها أو منع حدوثها إذا سمح بهذه المحاضرة.

وقد اضطرد قضاء مجلس الدولة الفرنسي بعد هذه القضية على وجوب التزام سلطات الضبط باحترام حرية الأفراد في عقد الاجتماعات والتوفيق بينها وبين ضرورة الحفاظ على النظام العام، وبالتالي عدم التعرض لهذه الحرية وغيرها من الحريات إلا في حالة وجود اضطرابات خطيرة تهدد النظام العام لا يمكن تفاديها إلا بمنع عقد مثل هذه الاجتماعات.

غير أنه وإن كان المجال الخصب الذي مارس فيه القضاء الإداري هذا الشكل من الرقابة هو دعاوى إلغاء قرارات الضبط الإداري، التي لم يقتصر فيها القاضي على رقابة الوجود المادي للوقائع وتكييفها، ولكنه بسط رقابته على مدى وجود تناسب بين الخطر الذي يهدد النظام العام وبين إجراء الضبط الذي اتخذته الإدارة، إلا أن مجلس الدولة الفرنسي مارس هذا النوع من الرقابة في مجالات أخرى، وهكذا قدر مجلس الدولة الفرنسي أن أفعال سكر قديمة، لا تحول دون الالتحاق بوظيفة تلميذ مراقب سجن Elève surveillant de prison وقضى في المقابل أنه بالإمكان رفض دخول مسابقة مفتش شرطة بالنسبة لمرشح شارك في مظاهرات عامة عدة مرات جرح فيها وتم استجوابه بمناسبتها.

كما بسط مجلس الدولة المصري أيضا رقابته على تقدير أهمية الوقائع، وفي هذا الصدد قضت محكمته الإدارية العليا بما يلي: ” القانون قد يفسح للإدارة قدرا من الحرية تستقل من خلاله بوزن مناسبات إصدار القرار وتقدير ملاءمة إصداره، غير أنه إذا كانت الإدارة حرة في تقدير مناسبة القرار الإداري وملاءمة أو عدم ملاءمة إصداره، فإن ثمة التزاما عليها أن تضع نفسها في أفضل الظروف وأنسب الحلول للقيام بهذا التقدير وأن تجریه بروح موضوعية بعيدا عن البواعث الشخصية وبشرط أن يكون لديها العناصر اللازمة لإجرائه، ومؤدى ذلك أن تقدير الملاءمة يجب أن يقوم على أسباب مقبولة تخضع فيها الجهة الإدارية لرقابة قاضي الإلغاء الذي لا يتعرض لتقدير الجهة الإدارة في ذاته وإنما للظروف التي أحاطت به”.