القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
الكتاب : القصاص
دراسة في الفقه الجنائي المقارن
تأليف : د. هاني السباعي
القصاص
دراسة في الفقه الجنائي المقارن
تأليف
د. هاني السباعي
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(
(البقرة:178)
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى
لندن
1425هـ 2004م
مركز المقريزي للدراسات التاريخية
تقدمة
بقلم/ العلامة الدكتور عباس مهاجراني
يعتبر القصاص في الشريعة الإسلامية من أكبر وأهم العوامل لاستقرار العدل في المجتمع والأمن في نفوس الناس، وفيه أيضاً الاحتفاظ بكرامة الإنسان وحريته.
(1/1)
لقد أراد الإسلام للإنسان أن يحيا حياة طيبة كريمة؛ يمتاز بها الإنسان عن الأحياء التي تعيش الحياة النباتية والحياة الحسية الحيوانية، قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24) دعاهم وهم أحياء بالحياة الحيوانية إلى الحياة العقلية الطيبة التي تناسب الكرامة التي خص الله الإنسان بها في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الاسراء:70) ولا تحصل هذه الكرامة للإنسان إلا بالعدل والقيام بالقسط والعيش الآمن. وبهذا الصدد شرع الله العزيز الحكيم القصاص لصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض، وحقنا لدمائهم، وقال سبحانه وتعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) (البقرة 179). وفي هذه الآية عرف القصاص ونكر الحياة، للإشعار بأن الحياة المترتبة على القصاص نوع خاص من الحياة عظيم، لا يقف على أهميتها ومدى منافعها وغاياتها إلا أولو الألباب وأصحاب البصائر والعقول الذين خاطبهم الله في نهاية الآية (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب). لقد شدد الله تعالى في مواضع من الذكر الحكيم في دم المؤمن واعتبر قتل واحد من البشر وإراقة دمه كقتل الناس جميعاً وقال سبحانه: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي
(1/2)
الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة:32)
وكان من آخر وصايا النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأمته في حجة الوداع قوله: (أيها الناس فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) (البخاري: كتاب الحج الحديث 1739).
وقال سبحانه في محكم التنزيل: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً)(الاسراء:33). وقال صلى الله عليه وسلم: – أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَتْلُ مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا ). (النسائي: باب تحريم الدم حديث رقم 4003).
وقال صلى الله عليه وسلم : (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) (صحيح مسلم: باب البر والصلة حديث رقم 6706). وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: (إن الله سبحانه أنزل كتاباً هادياً بين الخير والشر، فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشر تقصدوا، الفرائضَ الفرائضَ، أدّوها إلى الله تؤدّكم إلى الجنة، إنّ الله حرّم حراماً غير مجهول، وأحلّ حلالاً غير مدخول، وفضّل حرمة المسلم على الحُرَم كلها، وشدّ بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها، فالمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه إلا بالحق) (نهج البلاغة: خطبة 165).
ومع الأسف البالغ فإن مباحث الحدود والقصاص بالرغم من أهميتها قد بقيت مهجورة منذ ترسب القوانين الوضعية الأوربية إلى البلدان الإسلامية وانهيار سرح سلطان الإسلام، وضعف الملوك والحكام في العالم الإسلامي، وتركيز قدرتهم على الاستبداد وقهر الشعوب.
(1/3)
والفقهاء بذلوا جهودهم في بسط فقه العبادات من الطهارة والصلاة والصيام وغيرها واتفق أن فقيهاً كبيراً أطال البحث في منزوحات البئر إذا ماتت فيه فأرة مثلاً لمدة ستة أشهر أو سنة كاملة!! ولم يتعرض لدراسة أحكام الدماء والقصاص!! ولم يكن هذا الإعراض عن الدخول في مبحث القصاص إلا لليأس عن إمكان تطبيقها في المجتمعات الإسلامية ذات حكومات علمانية.
وتمخض من عدم العناية بالقصاص وترك دراستها في الحوزات العلمية السنية والشيعية فراغ وخلاءٌ في المكتبات من تأليفات وتصنيفات في الحدود والقصاص ليرجع إليها الباحث إلى أن رافق التوفيق الباحث هاني السيد السباعي يوسف الذي قدم إلى الجامعة العالمية الإسلامية منذ بضع سنين رسالة موضوعها (نظرية القصاص في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة) ثم حصل بجدارة بعد مناقشتها على درجة الإجازة العلمية M.PHIL (ماجستير فلسفة القانون) طبقاً لقانون الدراسات العليا في الجامعات البريطانية.
فشكر الله سعيه حيث بذل جهداً واسعاً في تحقيق هذا الموضوع ودرس الجوانب المختلفة من فقه القصاص وراجع كثيراً من المصادر من فقه المذاهب الإسلامية المختلفة ، وناقش البحث نقاشاً منصفاً شاملاً وتعرّض لآراء وسنن الأقوام والملل في القصاص، كما أنه بسط القول في القصاص في العهدين: التوراة والإنجيل، واستند في البحث إلى أمهات الكتب الفقهية والتفسير. ورد على شبهات المعارضين لعقوبة الإعدام، ومن أهم تلكم الشبهات ما قاله الشاعر والروائي الفرنسي الشهير في يوم الخامس عشر من سبتمبر عام 1848م أمام المجلس التأسيسي لقانوني الجمهورية الثانية لفرنسا، “بأن الحياة منحة من الخالق إلى عباده وهي حق لله يعطيها من يشاء ويأخذها ممن يشاء فعليكم التكريم والاحترام لحق الله”.
(1/4)
وقد نسي هؤلاء المعارضون أن قاتل العمر هو الذي لم يحرم ما حرم الله وبادر إلى إفناء وإزهاق حياة ودم المقتول، ولم يرض بما وهبه ربّه من نعمة الحياة، والقصاص يمنح الآخرين من الاعتداء على حياة الباقين من البشر.
وقام المؤلف بمقارنة القصاص في الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية لا سيما قانون العقوبات المصري مستفيداً من تأليفات عدد من العلماء والباحثين المعاصرين. فأصبح الكتاب مرجعاً وسنداً مفيداً للباحثين الذين يصعب عليهم المراجعة إلى المطولات وخصوصاً طلبة الجامعات.
نسأل الله له التوفيق والمزيد من الإنتاج العلمي، وخير الدنيا والآخرة.
دكتور عباس مهاجراني
لندن في غرة ربيع الثاني 1425هـ
مقدمة الكتاب
بقلم/ المؤلف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
(ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) آل عمران/102.
(ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. إنّ الله كان عليكم رقيباً) النساء/1.(ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما) الأحزاب/69 : 71.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
بادئ ذي بدء:
(1/5)
يعتبر فقه الجنايات الإسلامي العمود الفقري للمنظومة الإسلامية.. فإذا ضعف ضعفت.. وإذا استقام قويت.. بل إن المؤامرات التي تحاك قديماً وحديثاً ضد الإسلام هدفها القضاء على هذه المنظومة الجنائية التي هي جنة الراعي والرعية.. والتي هي عنوان الشريعة الغراء التي تجذب الناس ليدخلوا في دين الله أفواجاً..
وقد رأيتني وأنا أعيش في كتب المذاهب الإسلامية على اختلاف مشاربها وجدت رابطاً يربطهم جميعاً ألا وهو الذود عن الإسلام والرد على شبه المبطلين وانتحال الغالين المتربصين بالإسلام سوءاً.. فكل هؤلاء الفقهاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتمس..
بل إني أزعم أن كتاباً واحداً من كتبهم كاف لمشروع بقانون متكامل بمذكرته التوضيحية والتفسيرية.. ليحكم مجتمعاً بشرياً لأية دولة في هذا العالم.. لكنهم يا للحسرة.. استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير!!
وقد قدمت أنموذجاً لمجموعة من فقهاء المذاهب كانوا بمثابة هيئة دفاع في قضية واحدة وذلك عند استعراضي لحكمة مشروعية القصاص والرد على شبه المعارضين لتطبيق أحكام القصاص في النفس والأطراف.
وقد كان مسلكي في هذا البحث الذي أعددته ليكون كتاباً مبسطاً في متناول طلبة العلم والباحثين في قضايا الفقه الجنائي المقارن على النحو التالي:
هدف الكتاب:
إن الشريعة الإسلامية منظومة فريدة من لدن حكيم خبير.. وقد اتخذت هذه الشريعة الغراء كافة التدابير الاحترازية لمعالجة تفشي الجريمة في المجتمع الإسلامي، وتصدت بحزم للقضاء على الانحراف الإجرامي.. وكان للشريعة الإسلامية الدور الريادي في علاج ظاهرة الإجرام والتقليل من ارتفاع مؤشر الجريمة في المجتمع الإسلامي عندما كانت في سدة الحكم.
(1/6)
ولقد أراد الله بشريعته تكريم هذه الأمة، فختم بها شرائعه، وجعلها عامة للناس، وسماها رحمة، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).. لاشتمال أحكامها على حفظ المقاصد الشرعية، الضرورية منها والحاجية والتحسينية. وفي مقدمة المقاصد الضرورية: حفظ النفس البشرية، وهي أعظم ما جاء به التشريع لمصالحها، ففتح كل باب يعود عليها بالحياة، وجعلها موطن التكليف، ومحل التنفيذ، ووسيلة العمل، وأداء ما ينفع البشر، وشرّع القصاص على من يعتدي عليها، إن لم يكن الإعتداء مشوباً بالخطأ، أو بأي قرينة تدفع القصد، وتبعد نية الإعتداء.
والعقوبات في الشريعة الإسلامية ليست نظاماً واحداً، بل أنظمة متعددة بغية ردع المجرم والحفاظ على لحمة ووحدة المجتمع.
وأنظمة العقوبات في الشريعة الإسلامية أربعة: عقوبات الحدود/ عقوبات القصاص/ عقوبات الدية/ عقوبات التعزير.
والعقوبات في الشريعة الإسلامية عقوبات هادفة للردع العام وأيضاً للردع الخاص.. فهي هادفة لتأديب المجرم وتهذيبه وإصلاحه في نفس الوقت..
والشريعة الإسلامية لها منظورها الخاص في مجال الجريمة.. فهناك جرائم لم يعط المشرع الإسلامي أية سلطة تقديرية للقاضي ولا لولي الأمر وهي جرائم الحدود لأنها جرائم تهدد بنية المجتمع وتقوض أركانه ويقابلها في التشريعات الحديثة الجرائم المخلة بأمن الدولة.
وعقوبات القصاص من هذا القبيل فهي عقوبات مقدرة بنص شرعي ثابت مثل جرائم الحدود.. لكن المشرع جوز عفو المجني عليه أو ولي الدم في أية حالة من مراحل الدعوى, ومع ذلك يجوز لولي الأمر أن يوقع عقوبات تعزيرية كي لا يجترئ ضعاف النفوس على اقتراف الجريمة..
(1/7)
ومجال عقوبات القصاص – الذي هو موضوع البحث- هو جرائم القتل العمدي والإيذاء البدني.. وحيث إن القصاص نظام من أنظمة العقوبات في الشريعة الإسلامية فقد يبدو فيه الصرامة والشدة.. لكنه بعيد كل البعد عن أن يكون تعذيباً للجاني أو تنكيلاً به.. فالقصاص من أنجع وسائل الردع العام وهو رحمة حازمة تحافظ على كيان المجتمع وتماسكه..
وفي المقابل نجد التشريعات الوضعية الحديثة التي استبعدت القصاص من تشريعاتها ورغم المجالس النيابية والنخب الفكرية وأساطين القانون وعلماء البحث الجنائي والاجتماعي والسياسي وكافة مؤسسات الدولة العصرية لم تستطع أن توقف تزايد الجريمة وخاصة في مجال جرائم القتل العمدي والإيذاء البدني.. بل إن معدل الجريمة في ارتفاع مخيف، وصارت لعالم الإجرام رجالاته وقوانينه الخاصة، فهناك الجريمة المنظمة والجريمة غير المنظمة.. وهناك نظريات عن المجرم بالوراثة والمجرم السيكوباتي و جرائم السوقة وجرائم ذوي الياقات البيضاء..إلخ
والهدف من هذا البحث إبراز محاسن ا لشريعة الإسلامية في مجال التصدي للانحراف الإجرامي، وكيف عالج الإسلام جرائم القتل العمدي والإيذاء البدني من خلال تطبيق عقوبة القصاص على الجاني. كما أحب أن أشير أن تطبيق عقوبة القصاص أو حتى تطبيق الحدود ليس معناه تطبيق الإسلام!! فالإسلام أكبر من ذلك الفهم القاصر.. فالإسلام منظومة كبرى تعنى بحياة المسلم من مهده إلى لحده.. وإذا كانت هناك بعض التجارب المعاصرة التي رفعت شعار تطبيق الحدود ذراً للرماد في العيون! وتغافلت عن بقية المنظومة الشرعية.. فإنها تجربة مبتسرة بل ومشوهة للمشروع الإسلامي المتكامل..
منهج البحث:
(1/8)
قد اعتمدت منهج الدراسة المقارنة.. ومن أجل هذا قمت بالإطلاع على آيات القصاص في القرآن الكريم والسنة النبوية، والمراجع اللغوية، والإطلاع على كتب التفسير الشارحة لآيات القصاص… واطلعت على آراء كثير من علماء الإسلام وأصحاب المذاهب الإسلامية (الأحناف /الإمامية/ الشافعية / المالكية / الحنابلة / الظاهرية /الزيدية /الإباضية) في كتبهم ومراجعهم الأصلية؛ أو كتب الفقه المقارن القديم منها والحديث.. وقد أثبتها في الهوامش وفي ثبت المراجع في آخر البحث بعد الخاتمة.. وفي المقابل قمت بالإطلاع على شروح قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية وكتب فقهاء القانون الوضعي في مجال جرائم القتل العمدي والإيذاء البدني وخاصة قانون العقوبات المصري وشروحه.. وغيرها من كتب حديثة أثبتها في الهوامش وثبت المراجع.. وقد اطلعت بفضل الله على كثير من المراجع التي لها صلةـ وإن لم أنقل عنهاـ بموضوع القصاص حتى تكونت لدي خلفية متكاملة تتناسب وموضوع البحث.
وقد قسمت البحث على النحو التالي:
الفصل الأول:
القصاص لدى الأمم القديمة والأديان السماوية.
المبحث الأول: أول جريمة قتل في تاريخ بشرية.
المبحث الثاني: القصاص لدى الأمم القديمة: بابل/اليونان/الرومان/اليابان.
المبحث الثالث: القصاص في الأديان السماوي: عند اليهود/النصارى.
المبحث الرابع: القصاص عند العرب.
الفصل الثاني:
تعريف القصاص والحكمة من مشروعيته.
المبحث الأول: تعريف القصاص.
المبحث الثاني: مشروعية القصاص.
المبحث الثالث: حكمة مشروعية القصاص.
المبحث الرابع: شبهات حول تطبيق عقوبة القصاص.
الفصل الثالث:
استيفاء القصاص
المبحث الأول: مستحق القصاص ومستوفيه.
المبحث الثاني: شروط استيفاء القصاص.
المبحث الثالث: كيفية استيفاء القصاص.
الفصل الرابع:
شروط القصاص
المبحث الأول: أن يكون القاتل مكلفاً.
المبحث الثاني: ألا يكون القاتل والداً للمقتول.
المبحث الثالث: أن يكون القاتل مختاراً.
(1/9)
المبحث الرابع: أن يكون المقتول مكافئاً للقاتل.
الفصل الخامس:
سقوط القصاص
المبحث الأول: فوات محل القصاص.
المبحث الثاني: العفو.
المبحث الثالث: الصلح.
المبحث الرابع: إرث حق القصاص.
خاتمة البحث:
وهي نهاية تطواف الدراسة المقارنة بين المنظومة الإسلامية والمنظومة الوضعية الحديثة وفيه خلاصة ما وصل إليه البحث من نتائج.
وأخيرا/ هذا مسلكي في إعداد هذا الكتاب، فإن وفقت فيه إلى الصواب، فهذا ما أصبو إليه، وهو من توفيق الله لي، وفضله علي، وإن أخطأت فهو مني ومن الشيطان وحسبي أني كنت أبغي الحقيقة.
وأسأل الله التوفيق والسداد..
الفصل الأول
الفصل الأول
تاريخ القصاص لدى الأمم القديمة والأديان السماوية
ويتكون هذا الفصل من عدة مباحث على النحو التالي:
المبحث الأول:
أول جريمة قتل في تاريخ البشرية.
المبحث الثاني:
القصاص لدى الأمم القديمة/بابل/اليونان/ الرومان/ اليابان.
المبحث الثالث:
القصاص عند اليهود وعند النصارى.
المبحث الرابع:
القصاص عند العرب.
ونشرع الآن بإلقاء الضوء على كل مبحث من المباحث السابقة:
المبحث الأول
أول جريمة قتل في تاريخ البشرية
(1/10)
لقد قص القرآن الكريم علينا أول جريمة قتل حدثت في تاريخ البشرية إذ نزغ الشيطان بين قابيل وهابيل ابني آدم عليه السلام فحسد قابيل أخاه هابيل فسولت له نفسه قتل أخيه فقتله حيث يقول الله تعالى في محكم التنزيل عن هذين الأخوين: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال لأقتلنك، قال إنما يتقبل الله من المتقين لأن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار. وذلك جزاك الظالمين. فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين. فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه. قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين. من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً. ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون)(1)
وقد اختلف المفسرون حول كون القاتل والمقتول هل هما من أبناء آدم لصلبه أم من بني إسرائيل:
الأول: أنهما ابنا آدم لصلبه وهما هابيل وقابيل. وهذا رأي جمهور فقهاء الإسلام.
الثاني: أنهما كانا رجلين من بني إسرائيل وهو قول الحسن البصري والضحاك بن مزاحم.
ويطرح ابن العربي القولين في تفسيره على النحو التالي:
__________
(1) المائدة/آية 27 : 32.
(1/11)
“اختلف في المجني عليه على قولين : أحدهما : أنه من بني إسرائيل . الثاني : أنه ولد آدم لصلبه، وهما قابيل وهابيل؛ وهو الأصح ؛ وقاله ابن عباس والأكثر من الناس، جرى من أمرهما ما قص الله سبحانه في كتابه. والدليل على أنه الأصح ما روي في الحديث الثابت الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من قتيل يقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل)”(1)
__________
(1) ابن العربي: أحكام القرآن/ج2/ص589
(1/12)
ويرد ابن العربي على من استند إلى قوله تعالى (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس.. الآية) .. بأن القاتل والمقتول من بني إسرائيل: “تعلق بهذا من قال إن ابني آدم كانا من بني إسرائيل، ولم يكن قبلهم. وهذا لا يصح لأن القتل قد جرى قبل ذلك، ولم يخل زمان آدم ولا زمان من بعده من شرع. وأهم قواعد الشرائع حماية الدماء عن الاعتداء وحياطته بالقصاص كفاً وردعاً للظالمين الجائرين، وهذا من القواعد التي لا تخلو عنها الشرائع، والأصول التي لا تختلف فيها الملل؛ وإنما خص الله بني إسرائيل بالذكر للكتاب فيه عليهم؛ لأنه ما كان ينزل قبل ذلك من الملل والشرائع كان قولاً مطلقاً غير مكتوب، بعث الله إبراهيم فكتب له الصحف، وشرع له دين الإسلام، وقسم ولديه بين الحجاز والشام، فوضع الله إسماعيل بالحجاز مقدمة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأخلاها عن الجبابرة تمهيداً له، وأقرّ إسحاق بالشام، وجاء منه يعقوب وكثرت الإسرائيلية، فامتلأت الأرض بالباطل في كل فج. وبغوا فبعث الله سبحانه موسى ولكمه وأيده بالآيات الباهرة، وخط له التوراة بيده، وأمره بالقتال ووعده النصر، ووفى له بما وعده، وتفرقت بنو إسرائيل بعقائدها، وكتب الله جل جلاله في التوراة القصاص محدداً مؤكداً مشروعاً في سائر أنواع الحدود، إلى سائر الشرائع من العبادات وأحكام المعاملات، وقد أخبر الله في كتابنا بكثير من ذلك”(1)
الرأي الثاني: قول الحسن والضحاك:
“فقال الحسن البصري: ليسا لصلبه، كانا رجلين من بني إسرائيل ضرب الله بها إبانة حسد اليهود ـ وكان بينهما خصومة ـ فتقربا بقربانين ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل”(2)
__________
(1) ابن العربي: أحكام القرآن/ج2/ص591.
(2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن/ج6/ص132
(1/13)
ويرد القرطبي على رأي الحسن البصري مستئنساً بقول ابن عطية: “قال ابن عطية: وهذا وهم، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل يقتدي بالغراب؟! والصحيح أنهما ابنا آدم لصلبه؛ وهذا قول الجمهور من المفسرين وقاله ابن عباس وابن عمر وغيرهما، وهما قابيل وهابيل)(1)
ويرجح الطبري القول الأول في تفسيره: “وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب أن الذين قربا القربان كانا ابني آدم لصلبه، لا من ذريته من بني إسرائيل. وذلك أن الله عز وجل يتعالى أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن تقريب القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم دون الملائكة والشياطين وسائر الخلق غيرهم. فإذا كان معلوماً ذلك عندهم فمعقول أنه لو لم يكن معنياً با بني آدم اللذين ذكرهما الله في كتابه ابناه لصلبه لم يفدهم بذكره جل جلاله إياهما فائدة لم تكن عندهم وإذا كان غير جائز أن يخاطبهم خطاباً لا يفيدهم به معنى فمعلوم أنه عنى ابني آدم لصلبه، لا ابني بنيه الذين بعد منه نسبهم مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل على أنهما كانا ابني آدم لصلبه وفي عهد آدم وزمانه، وكفى بذلك شاهداً”(2)
المبحث الثاني
القصاص لدى الأمم القديمة
لقد ظهرت قوانين في التاريخ القديم لمعاقبة الجاني وكانت في بدايتها أشبه بأعراف وعادات ثم تطورت إلى قوانين مكتوبة من أمثلتها:
في بابل:
__________
(1) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن/ج6/ص132.
(2) الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن/ج6/ص189 ، 190
(1/14)
“وقام العقاب في أول الأمر على مبدأ قانون القصاص ” النفس بالنفس والعين بالعين “. فإذا كسر إنسان لرجل شريف سنا أو فقأ له عينا أو هشم له طرفا من أطرافه حل به نفس الأذى الذي سببه لغيره. وإذا انهار بيت وقتل من اشتراه حكم بالموت على مهندسه أو بانيه وإذا تسبب عن سقوطه موت ابن الشاري حكم بالموت على ابن البائع أو الباني وإذا ضرب إنسان بنتاً وماتت لم يحكم بالموت على الضارب بل حكم به على ابنته. ثم استبدل بهذه العقوبات النوعية شيئا فشيئا غرامات مالية وبدأ ذلك بأن أجيز دفع فدية مالية بدل العقوبة البدنية ثم أصبحت الفدية بعدئذ العقوبة الوحيدة التي يجيزها القانون. فكانت جزاء فقئ عين السوقى ستين شاقلا من الفضة فإذا فقئت عين عبد كان جزاء فقئها ثلاثين. ذلك أن العقوبة لم تكن تختلف باختلاف خطورة الجريمة وحسب بل كانت تختلف أيضا باختلاف مركز الجاني والمجنى عليه. فإذا ارتكب أحد السراة جريمة كانت عاقبه اشد من عقاب السوقى إذا ارتكب الجريمة نفسها أما الجريمة التي ترتكب ضد أحد الأشراف فقد كانت غالية الثمن”(1) أما إذا اقترف الجريمة عوام الناس مع بعضهم أو ضد من هم أعلى منهم طبقة فيقول ول ديورانت: “واذا ضرب أحد السوقة آخر من طبقته غرم عشرة شواقل أو ما يقرب من خمسين ريالا فإذا ما ضرب شخصا ذا لقب أو ذا مال غرم سبعة أضعاف هذا المبلغ. والى هذه العقوبات الرادعة كانت هناك عقوبات همجية هي بتر الأعضاء والإعدام. فإذا ضرب رجل أباه جوزى بقطع يده. وإذا تسبب طبيب أثناء عملية جراحية في موت المريض أو في فقد عين من عينيه قطعت أصابع الطبيب. وإذا استبدلت قابلة طفلا بآخر عن علم بفعلتها قطع ثدياها. وكانت جرائم كثيرة يعاقب عليها بالموت منها هتك العرض وخطف الأطفال وقطع الطرق والسطو والفسق بالأهل وتسبب المرأة في قتل زوجها لتتزوج بغيره ودخول كاهنة خمارة أو فتحها إياها
__________
(1) ول ديورانت: قصة الحضارة/ ص258 من موقع www.culture.net
(1/15)
وإيواء عبد آبق والجبن في ميدان القتال وسوء استعمال الوظيفة وإهمال الزوجة شئون بيتها أو سوء تدبيرها إياها وغش الخمور. بهذه الوسائل التي دامت آلاف السنين استقرت التقاليد والعادات التي أدت إلى حفظ النظام وضبط النفس والتي أضحت فيما بعد عن غير قصد جزءا من الأسس التي قامت عليها الحضارة”(1)
أقول: القانون الذي ذكره “ول ديورانت” هو القانون الذي شرعه حمورابي 1792-1750 قبل الميلاد وهو سادس ملوك السلالة البابلية الأولى 1894-1594 قبل الميلاد ،ويحتوي هذا القانون 282 مادة على مسلة من حجر )الديورايت) الأسود وقياس المسلة 225 سم طولا و60سم القطر وهي أسطوانية الشكل “وهذا القانون عبارة عن تدوين للعادات الشائعة في عصره وهو يتطرق إلى العقوبات ويبينها على قاعدة القصاص أي العين بالعين والسن بالسن وهكذا. وكان هذا القانون يتصف بالقسوة في معاملة المجرمين والمديونين والأرقاء. فمثلاً يعاقب بالإعدام على من ارتكب جرم الرق، وجرم الزنا أو الاغتصاب بالقوة أو افتعال الحريق أو الخطف… وقد تطرق هذا القانون إلى امتيازات الموظفين وعقود التجارة والدين والحجر… كما ورد في قانون حمورابي احترام بعض الحقوق الأساسية منها حرية الملكية الفردية واعتمد قاعدة الأصل براءة الذمة”(2)
__________
(1) ول ديورانت: قصة الحضارة/ ص285 من الموقع السابق.
(2) الحقيل: سليمان بن عبد الرحمن: حقوق الإنسان في الإسلام/ص20 ومابعدها.
(1/16)
لكن صاحب كتاب تاريخ الشرق الأدنى له مآخذ على تشريعات حمورابي بعد سرده للجوانب الإيجابية إذ يقول: “كانت هذه أهم النواحي الطيبة في تشريعات حمورابي، أما ما يعاب عليها، فهو اعترافها بالتفاوت في الحقوق والعقوبات بين الطبقات، فهي وإن استحدثت مبدأ العين بالعين والسن بالسن (م196) والولد بالولد، إلا أنها قصرت تطبيقه وأمثاله على أفراد الطبقة الواحدة ولمصلحة الطبقة العليا بخاصة، بينما قضت بالتعويض المادي وحده جزاء لاعتداء أحد أفراد الطبقة العليا على فرد من طبقة أخرى أقل منزلة من طبقته. فجعلت فقأ عين العامي أو كسر عظمه نصف مينه من الفضة، وجزاؤهما بالنسبة للعبد نصف ثمنه. وإذا صفع رجل أرقى منزلة منه جلد ستين جلدة علناً، وإذا صفع رجلاً من طبقته دفع مينه من الفضة، وإذا صفع عامي عامياً آخر دفع عشرة شواقل من الفضة. وجعلت غرامة إجهاض المرأة من الخاصة عشرة شواقل فإذا ماتت قتلت ابنة قاتلها، وغرامة إجهاض المرأة من العامة خمسة شواقل، فإذا ماتت ففديتها نصف مينه من الفضة، وغرامة إجهاض الأمة شاقلين، فإذا ماتت ففديتها ثلث مينه من الفضة (169م ـ 214). وتضمنت التشريعات أنه إذا اتهم مواطن مواطناً آخر بالاشتغال بالسحر، كان على المدعى عليه أن يلقي بنفسه في النهر فإذا ابتلعه الماء ورثه الآخر، وإذا نجا أعدم من اتهمه وآلت أملاكه إليه. وقضت بأنه إذا أدت العملية الجراحية إلى وفاة مريض حر أو ذهاب نور عينه قطعت يد الطبيب”(1)
التشريعات الآشورية:
__________
(1) عبد العزيز صالح (الدكتور): الشرق الأدنى القديم ـ مكتبة الأنجلو المصرية ـ القاهرة ـ ط2 ـ 1976م ـ الجزء الأول مصر والعراق ـ ص 464 ، ص465.
(1/17)
“عالجت هذه التشريعات كثيراً مما عالجته التشريعات العراقية السابقة لها من شئون الأسرة وأمور البيع والشراء والقروض والرهون والاعتداءات على الغير اعتداء أدبياً أو مادياً، ولكن لوحظ من تجديداتها أنها استفادت من العقوبات العامة والخاصة لصالح الدولة، فضمنتها تسخير المذنبين في أعمال الملك (أي مشاريع الدولة) لفترات تتراوح بين عشرين يوماً وبين أربعين يوماً، وهددت بالخصي والإعدام على الخازوق في بعض عقوباتها، واشتدت في اشتراط التسجيل والإعلان وإشهاد الشهود في كثير من موضوعاتها، وأجازت رهن أفراد الأسرة ضماناً للديون، وحرمت الاشتغال بالسحر وجعلت عقوبته الإعدام. ولأمر ما جعلت أمور النساء محوراً لعدد كبير من بنودها، واشتدت على سيئات السلوك منهن. فقضت على سارقة المعبد بتنفيذ قضاء ربه فيها (م1)، وكفلت لزوجها حق تشويه أذنيها إذا سرقته وهو مريض، أو العفو عنها إذا شاء (م3 ـ4). وحرية افتدائها إذا سرقت شيئاً ذا قيمة من جاره، أو التخلي عنها ليشوه المسروق أنفها بنفسه (م5). وقضت على من تضع يديها على مواطن بتغريمها 30 مينه من الرصاص وجلدها عشرين عصا (م7). فإذا أصابت خصيته قطعوا إصبعها، وإذا أضرت الخصيتين فقأوا عينيها (م8)، وتعني بذلك سيئات السلوك. وقضت على من تجهض نفسها بإعدامها على الخازوق، وتوعدت من يتستر عليها (م53). وجعلت التشريعات للزروج ولاية كاملة على زوجته، وسمحت له بأن يعفو عنها إن أخطأت أو يطبق عليها بنقسه العقوبات البدنية التي فرضها القانون على مثل حالتها، فإذا كانت هذه العقوبات مما يسبب عاهات دائمة مثل فقأ العين أو صلم الأذنين أو الجلد المبرح تفذها أمام القضاة وبحضور موظف مسئول، فإذا أتت أمراً لم يتناوله القانون جاز له أن يحلق شعرها أو يعرك أذنيها دون عقاب عليه (م57ـ59). فإذا شردت عنه وآوت إلى بيت آخر وبقيت به ثلاثة أيام كان له أن يشوه أذنيها أو يعفو عنها، ويجوز له أن يطالب بصلم أذني من
(1/18)
آوتها وتغريم زوجها إن كان شريكاً لها بغرامة كبيرة”(1)
أما في اليونان:
“فكانت تشريعات “صولون” الإغريقي، الذي عاش بين القرنين السادس والسابع قبل الميلاد(640 ــ 560 ق.م) وقد قام بإصلاحات تشريعية وإدارية عديدة منها الإفراج عن المسجونين بسبب الدين، ثم منع استرقاق المديونين… وأعطى المرأة بعض الحقوق الأدبية. وقد أسس مجلس نواب مكون من أربعمائة عضواً تنتخبه قبائل أثينا الأربع إلا أنه كان يؤمن بالطبقات حيث قسم أفراد الشعب إلى أربع طبقات حصر الحكم في طبقة الأغنياء”(2)
أما في روما:
جاء في روح الشرائع:
“أثار دجال، كان يدعى أنه قسطنطين دوكاس، فتنة كبيرة في القسطنطينية، فقبض عليه وحكم بجلده، ولكن بما أنه اتهم أناساً من ذوي الوجاهة فإنه حكم عليه بالحرق كمفتر. ومن الغرابة أن تقدر العقوبات هكذا بين جرم الاعتداء على ولي الأمر وجرم الافتراء. ويذكر هذا بكلمة لملك انكلترا شارل الثاني، فقد رأى وهو مار رجلاً مشهراً على عمود فسأل عن سبب وجوده هنالك، فقيل له: ذلك لأنه هجا وزراءك يا مولاي. فقال الملك: يا له من أحمق كبير! لماذا لم يكتب هجاءه ضدي؟ كان لا يصنع به شئ لو فعل هذا!”(3)
“فقد صدر قانون الألواح الإثنى عشر من أوائل عصر الجمهورية على أثر ثورة عارمة على طبقة الأعيان في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد حيث جمعت العادات الرومانية السائدة في ذلك الوقت، ثم نقشت على اثني عشر لوحاً نحاسياً وتعتبر هذه الألواح نواة لكل تشريع روماني لاحق، حيث ألغيت الفوارق بين الشعب الروماني فقيره وغنيه ووضعت أصول المحاكمات والعقوبات التي امتازت بالقسوة فمثلاً نص:
__________
(1) عبد العزيز صالح (الدكتور): الشرق الأدنى القديم ـ ج1 ص 504 ، ص505.
(2) ا الحقيل: حقوق الإنسان في الإسلام/ص21.
(3) مونتسكيو: روح الشرائع ـ ترجمة عادل زعيتر ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ ط 1953م ـ ص136.
(1/19)
“على إعدام السارق المتلبس بالسرقة، وقد أجاز للأب بيع أولاده، وعلى حصر الوارث في قرابة العصب دون قرابة الرحم..” هذا ما كان عن حقوق الإنسان في العصور القديمة”(1)
أما في اليابان:
يقول مونتسكيو: “يعاقب بالقتل تقريباً على جميع الجرائم في اليابان، لأن معصية إمبراطور عظيم كعاهل اليابان جرم عظيم، وليست المسألة إصلاح المذنب، بل انتقام للأمير، وقد استنبطت هذه الأفكار من بدأ الفدادية(2)، وقد أتت هذه الأفكار، على الخصوص، من المبدأ القائل: بما أن الإمبراطور مالك لجميع الأموال فإن جميع الجرائم تقترف ضد مصالحه رأساً. ويعاقب بالقتل على الأكاذيب التي تؤتى بها أمام الحكام، أي أن يُصنع أمرٌ مخالف للدفاع الطبيعي. وكل ما ليس ظاهر الجرم مطلقاً يعاقب عليه بشدة هنالك، ومن ذلك أن الرجل الذي يجازف بالمال في القمار يُجازى بالقتل”(3)
“كان التشريع القانوني في اليابان مكملاً عنيفاً لما كان يتم بالاغتيال وبالثأر وقد استمد ذلك التشريع بعض أصوله من تقاليد الشعب القديمة كما استمد بعضها الآخر من التشريعات الصينية في القرن السابع ذلك أن القانون قد صحب الدين في هجرة الثقافة من الصين إلى اليابان وبدأ ” تنشي تبنو” صياغة مجموعة من القوانين كملت وأذيعت في عهد الإمبراطور اليافع “مومو” عام 702 لكن هذا التشريع وغيره من تشريعات العصر الإمبراطوري أهملت في العصر الإقطاعي إذ جعل كل حاكم إقطاعي يسن لنفسه ما شاء من تشريع مستقلاً عن سائر المقاطعات ولم يعترف الرجل من طبقة ” السيافين ” بقانون إلا ما يريده وما يأمر به مولاه”(4)
ويقول صاحب قصة الحضارة:
__________
(1) الحقيل: حقوق الإنسان في الإسلام/ص21.
(2) الفدادية: نسبة إلى الفداد، وهو ابن الأرض الذي لا يحق له أن يخرج منها.
(3) مونتسكيو: روح الشرائع ـ ترجمة عادل زعيتر ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ ط 1953م.
(4) ول ديورانت: قصة الحضارة/ المرجع السابق ص927.
(1/20)
“وكانت العادة في اليابان حتى سنة 1721 أن تكون الأسرة كلها مسئولة عن كل فرد من أفرادها فتضمن حسن سلوكه وكذلك كانت الأسرة الواحدة – في معظم الأقاليم – توضع في مجموعة من خمس أسرات تكون كل منها مسئولة عن سائر أفراد المجموعة فالرجل إذا حكم عليه بالصلب أو بالحرق قضي كذلك بالموت على أبنائه الكبار وبالنفي على أبنائه الصغار عندما يبلغون الرشد وكان نظام المحنة متبعاً في التحقيق على نحو ما كان متبعاً في العصور الوسطى ولبث التعذيب شائعاً – في صوره الخفيفة – حتى هذا العصر الحديث واصطنع اليابانيون من وسائل التعذيب إزاء المسيحيين ناسجين على منوال محاكم التفتيش نسجاً فيه انتقام لما أنزله المسيحيون أنفسهم بأنفسهم في تلك المحاكم لكنهم كثيراً ما كانوا أدق في وسائلهم التعذيبية. فيربطون الرجل بحبال في وضع وثيق. يزيد المربوط ألماً كلما مرت به لحظات الزمن لحظة بعد لحظة وكثيراً ما كانوا يلجأون إلى الضرب بالسياط لأتفه الأخطاء وكان الإعدام لديهم عقوبة على كثير جداً من أنواع الجرائم وجاء الإمبراطور شومو (724 – 56) فألغى عقوبة الإعدام وجعل الرحمة أساس حكمه لكن الإجرام زادت نسبته بعد موته حتى لم يقتصر الإمبراطور ” كوشين ” (770 – 81) على إرجاع عقوبة الإعدام بل أضاف إلى ذلك أنه أمر بأن يضرب اللصوص بالسياط علناً حتى يلفظوا الروح وكانوا ينفذون الإعدام بالخنق وجز الرأس والصلب وقطع الجسد أربعة أرباع والحرق أو الغلي في الزيت وكان ” أيياسو ” قد ألغى العادة التي تقضي بأن يمزق المتهم نصفين بشده بين ثورين كما ألغى العادة التي تقضي بأن يربط المتهم في عمود وسط الملأ ثم يطلب من كل مار أن يأخذ نصيبه في تقطيع جسده بمنشار ينشره من كتفه فأسفل وكان من رأي ” أيياسو ” أن كثرة الالتجاء إلى العقوبات الصارمة لا تدل على إجرام الشعب بمقدار ما تدل على فساد الموظفين وعجزهم وكم ساء ” يوشيموني ” أن يجد سجون عصره بغير استعدادات
(1/21)
صحية وأن بين المسجونين فئة بدأت محاكماتها منذ ست عشرة سنة ولم تنته بعد حتى لقد نسيت الاتهامات الموجهة إليهم مات الشهود وأخذ هذا الحاكم العسكري الذي كان أكثر هذه الطائفة استنارة في إصلاح السجون وعمل على السرعة في الإجراءات القضائية وألغى المسئولية الأسرية وواصل العمل المضني بغية أن يصوغ أول تشريع موحد للقانون الإقطاعي في اليابان(1729)”(1)
المبحث الثالث
القصاص عند اليهود والنصارى
أولاً: القصاص عند اليهود:
جاء في سفر العدد الإصحاح 35:
__________
(1) ول ديورانت: المرجع السابق ص927.
(1/22)
“إن ضربه بأداة حديد فمات فهو قاتل. إن القاتل يقتل. وإن ضربه بحجر يد مما يقتل به فمات فهو قاتل.. إن القاتل يقتل أو ضربه بأداة يد من خشب مما يقتل به فهو قاتل.. إن القاتل يقتل.. ولي الدم يقتل القاتل حين يصادفه يقتله وإن دفعه ببغض أو ألقى عليه شيئاً بتعمد فمات أو ضربه بيده بعداوة فمات فإنه يقتل الضارب لأنه قاتل.. ولي الدم يقتل القاتل حين يصادفه ولكن إن دفعه بغتة بلا عداوة أو ألقى عليه أداة ما بلا تعمد أو حجراً ما مما يقتل به بلا رؤية أسقطه عليه فمات وهو ليس عدواً له ولا طالباً أذيته.. تقضي الجماعة بين القاتل وبين ولي الدم حسب هذه الأحكام وتنقذ الجماعة القاتل من يد ولي الدم وترده الجماعة إلى مدينة ملجأه التي هرب إليها فيقيم هناك إلى موت الكاهن العظيم الذي مسح بالدهن المقدس ولكن إذا خرج القاتل من حدود مدينة ملجأه التي هرب إليها ووجده ولي الدم خارج حدود مدينة ملجأه وقتل ولي الدم القاتل فليس له دم لأنه في مدينة ملجأه يقيم إلى موت الكاهن العظيم وأما بعد موت الكاهن العظيم فيرجع القاتل إلى أرض ملكه فتكون هذه لكم فريضة حكم إلى أجيالكم في جميع مساكنكم: كل من قتل نفساً فعلى فم شهود يقتل القاتل وشاهد واحد لا يشهد على نفس للموت.. ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذذنب للموت بل إنه يقتل ولا تأخذوا فدية ليهرب إلى مدينة ملجأه فيرجع ويسكن في الأرض بعد موت الكاهن”(1)
في سفر التثنية الإصحاح 19:
__________
(1) الكتاب المقدس: العهد القديم ـ سفر العدد/الإصحاح35/ص274 ، 275.
(1/23)
“لا يسفك دم برئ في وسط أرضك التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فيكون عليك دم. ولكن إذا كان إنسان مبغضاً لصاحبه فكمن له وقام عليه وضربه ضربة قاتلة فمات ثم هرب إلى إحدى تلك المدن.. يرسل شيوخ مدينته ويأخذونه من هناك ويدفعونه إلى يد ولي الدم فيموت.. لا تشفق عينك عليه، فتنزع دم البريء عن إسرائيل فيكون لك خير.. لا يقوم شاهد واحد على إنسان في ذنب ما أو خطية ما من جميع الخطايا التي يخطي بها. على فم شاهد أو على فم ثلاثة شهود يقوم الأمر. إذا قام شاهد زور على إنسان ليشهد عليه بزيغ يقف الرجلان اللذان بينهما الخصومة أمام الرب أمام الكهنة والقضاة الذين يكونون في تلك الأيام.. فإن فحص القضاة جيداً وإذا الشاهد شاهد كاذب قد شهد بالكذب على أخيه.. فافعلوا به كما نوى أن يفعل بأخيه فتنزعون الشر من وسطكم.. ويسمع الباقون فيخافون ولا يعودون يفعلون مثل ذلك الأمر الخبيث في وسطك.. لا تشفق عينك: نفس بنفس.. عين بعين.. سن بسن.. يد بيد .. ر ِجل برجل”(1)
أقول: ويتضح مما سبق أن القود كان واجباً على القاتل عند اليهود، سواء كان في النفس أو في فيما دونها، حتى إن القصاص كان ثابتاً على الحيوان إذا قتل إنساناً.
وكان لولي الدم أن يقتل القاتل في غير المعبد، وفي بعض الملاجئ، بدون إذن السلطان أو الحاكم!! أما إذا كان القتل خطأ فلا قصاص، وإنما يهرب القاتل لئلا يقتله ولي الدم.
ورغم أن القصاص كان مفروضاً عليهم إلا أنهم أفرطوا في القتل فشدد الله عليهم.. ولذلك يعتبرون أول أمة نزل الوعيد في حقهم ـ كما ذكر المفسرون ـ مكتوباً عليهم في قتل الأنفس حيث كان قبل ذلك قولاً مطلقاً.. نلمح هذا الوعيد من قوله سبحانه وتعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً).
ثانياً: القصاص عند النصارى:
__________
(1) الكتاب المقدس العهد القديم ـ سفر التثنية ـ الإصحاح 19 ص 209 ، ص210.
(1/24)
يعتبر القتل جريمة بشعة عند النصارى، كما هي في جميع الملل، إلا أن ظاهر الإنجيل يفيد عدم مشروعية القصاص وسنحاول أن نثبت عكس ذلك:
جاء في إنجيل متى الإصحاح 5:
“لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل فإني: الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل .. قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم إن من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم. سمعتم أنه قيل عين بعين، وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر بالشر، بل من لطمك على خدك الأيمن، فحول له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك، ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخرك ميلاً واحداً، فاذهب معه اثنين.. سمعتم أنه قبل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم، أحبوا مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم”(1)
أقول: فظاهر النصوص السابقة أنه لا قود على القاتل عند النصارى، وهو قول جمهرة من العلماء. ولكن هل تجب الدية؟ ذهب غالبيتهم إلى وجوب الدية على القاتل وذهب بعضهم إلى أن الواجب هو العفو. قال الفخر الرازي: والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط”(2)
ويبدو أن نص إنجيل متى السابق ليس فيه نفي للقود وأن قوله (لا تقاوموا الشر بالشر) يجري مجرى العفو والتسامح الوارد في كثير من الآيات في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)(3)
__________
(1) الكتاب المقدس/ العهد الجديد انجيل متى/الإصحاح 5 ص8 ، 9.
(2) الرازي : التفسير الكبير/ج5/46.
(3) فصلت/آية 34.
(1/25)
وعلى ذلك تخرج كل عبارات الأناجيل الداعية إلى العفو عمن يسئ إليك ولا يتصور أن يكون المسيح ـ عليه السلام ـ يسن نظاماً لا يقتل فيه قاتل، ولا يضرب معتد، ولا يسجن ظالم، وعلى ذلك يكون ما في الأناجيل من وصايا بالعفو في الجرائم الشخصية ليس قانوناً ينفذ ولكنه وصية لشخص المجني عليه إن أراد اتبعها وإلا فالقانون هو الذي ينفذ”(1)
أقول بعد استعراض ما سبق أميل إلى الرأي القائل بأن الشريعة المسيحية عرفت عقوبة القصاص وذلك قوله تعالى على لسان عيسى بن مريم عليه السلام: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة)(2)
ولما جاء على لسان عيسى عليه السلام في الإنجيل: (ما جئت لأنقض الناموس، وإنما جئت لأكمل).. ويؤكد ذلك قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص)(3)
هكذا عرفت الشريعة المسيحية عقوبة الإعدام لأن هذا ما يتفق ومقاصد الشرائع السماوية ويتفق وميزان عدل الله في عباده.
المبحث الرابع
القصاص عند العرب
قام نظام القصاص عند العرب على أساس أن القبيلة كلها تعتبر مسؤولة عن الجناية التي يقترفها فرد من أفرادها، إلا إذا خلعته وأعلنت ذلك في المجتمعات العامة.
“ولهذا كان ولي الدم يطالب بالقصاص من الجاني وغيره من قبيلته، ويتوسع في هذه المطالبة توسعاً ربما أوقد نار الحرب بين قبيلتي الجاني والمجني عليه. وقد تزداد المطالبة بالتوسع إذا كان المجني عليه شريفاً أو سيداً في قومه. على أن بعض القبائل كثيراً ما كان يهمل هذه المطالبة، ويبسط حمايته على القاتل ولا يعير أولياء المقتول أي اهتمام، فكانت تنشب الحروب التي تودي بأنفس الكثير من الأبرياء”(4)
__________
(1) يوسف علي محمود : الأركان المادية والشرعية لجريمة القتل العمد/ج1/ص33.
(2) الصف/آية 6.
(3) المائدة/ية 45.
(4) السيد سابق: فقه السنة/ج2/ص461.
(1/26)
ولقد أفرط العرب في القتل وفرطوا وكان ذلك يتبع قوة القبيلة وضعفها فإذا وقع القتل بين قبيلتين إحداهما أشرف من الأخرى فالأشراف كانوا يقولون: لنقتلن بالمرأة منا الرجل منهم وبالعبد منا الحر منهم وبالرجل منا الرجلين منهم.
كما أن “أفراد القبيلة متضامنون أشد ما يكون من تضامن، ينصرون أخاهم ظالماً أو مظلوماً، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانا
حتى إذا جنى أحدهم جناية حملته قبيلته..”(1)
“ونستطيع أن نضرب مثلاً بحرب البسوس التي استمرت بين قبيلتين أربعين عاماً. فقد كان كليب عزيز قومه يحمي مواقع السحاب فلا يجرؤ أحد أن يرعى حماه، وذات يوم شردت ناقة من عقالها وهي مارة بحمى كليب، وكانت لامرأة تسمى البسوس بنت منقذ وهي خالة جساس بن مرة. ووطئت الناقة حمى كليب. فعز عليه ذلك فضربها بسهم في ضرعها، فعدت ترغو إلى صاحبتها، ففزعت البسوس إلى ابن أختها جساس، فأحمته وأثارته، فخرج إلى كليب فقتله وهو في غفلة، وبدأت الحرب واعتزل هذه الحرب الحارث بن عباد فارس النعامة فلم يشارك فيها، ولكن مهلهلاً قتل ابناً للحارث اسمه بجير وقيل له ألا تدري ماذا قال مهلهل حين قتل ابنك بجيراً قال: لا. قالوا: إن مهلهلاً حين قتله قال: بؤ بشسع نعل كليب. فغضب الحارث وأدركته حمية الجاهلية وعز عليه أن يوضع ابنه في مقابل قطعة جلد في حذاء كليب واندفع للثأر قائلاً:
قربا مربط النعمة مني *** لقحت حرب وائل عن حيال
قربا مربط النعامة مني *** إن قتل الكريم بالشسع غالي
قربا مربط النعامة مني *** شاب رأسي وأنكرتني عيالي
قربا مربط النعامة مني *** قرباها وقربا سربالي
__________
(1) احمد أمين : فجر الإسلام /ص10. أقول: لكن في الفقه الإسلامي تطالب العاقلة بالدية إذا كان القتل وقع خطأ أما دية العمد فتجب في مال الجاني كما هو مبين في كتب الفقه الإسلامي.
(1/27)
لم أكن من جنايتها علم الله *** وإني بحرها اليوم صالي
فالانتقام الخاص أو الثأر كان هو الجزاء على قمع الظلم عند العرب وكان من شأنه إرضاء ضمير المنتقم هو وقبيلته”(1) ويلخص لنا القرآن الكريم حالة العرب والعالم قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)(2)..
صفوة القول
“من هذا العرض الوجيز، الذي بينا به نظرة الشرائع الأخرى إلى جريمة القتل ـ نرى أن معظمها يتخذ القتل عقوبة للقتل، وأنها على وجه عام تميل في شأن تنفيذها، إما إلى جانب الإفراط، أو جانب التفريط: فالتوراة: تتجه في تشريعها إلى جانب المجني عليه، فتفرض لوليه قتل الجاني، ولا تقبل هوادة فيه، وهذا تفريط في شأن الجاني، وإفراط في شأن المجني عليه.
والإنجيل: على ما يفهم كثير من الناس ـ يغض النظر عن الجناية، ويحذر دفع الشر بالشر، ويحتم العفو على ولي الدم. وهذا عكس الأول. تفريط في شأن المجني عليه، وإفراط في النظر إلى الجاني.
__________
(1) أحمد فتحي بهنسي : العقوبة في الفقه الإسلامي/ ص62 ، 63.
(2) آل عمران: 103.
(1/28)
والقانون الروماني: في قديمه ـ يعطف على الجاني إذا كان من الأشراف، ويقسو عليه إذا كان من غيرهم، وكأن غير الشريف في نظرهم لا يلتقي مع الشريف في صلب رجل واحد، ولا تنتظمها الإنسانية الواحدة، فهو مع نفسه في جانب التفريط بالنسبة إلى الشريف، وجانب الإفراط بالنسبة إلى غيره. وبينما ترى هؤلاء الثلاثة: (التوراة، والإنجيل، والقانون الروماني القديم) في هذا الوضع الذي وصفنا، وتراها تلتزم في جانب العقوبة أخذ الواحد بالواحد من غير تعد ولا إسراف ــ ترى العرب يسرفون. فيأخذون غير الجاني بالجاني، والكثير بالواحد، في الأشخاص، والجراحات، والديات. وبينما ترى الشرائع القديمة كلها تجعل الحق لولي الدم، نظراً إلى أن الجناية تقع أولاً وبالذات ترى أن الوضع الجنائي الذي صارت إليه الأمم الحديثة، واستمر العمل به إلى الآن، يعتبر أن الجريمة الواقعة على الأفراد جرائم عامة، ويجعل الحق في العقوبة والعفو عنها لولي الأمر، رضي ولي الدم أم أبى”(1)
أقول: إن جعل الحق في العفو عن الجاني لولي الأمر أو القاضي الجنائي أو النيابة العامة يعتبر افتئات على حق ولي الدم بل وتعد على نص قرآني (فقد جعلنا لوليه سلطاناً).. فلهذا القتيل أو المجني عليه أو وليه فله وحده حق العفو وليس لولي الأمر على التفصيل الذي سنذكره في مسقطات القصاص بعون الله.
الفصل الثاني
الفصل الثاني
تعريف القصاص والحكمة من مشروعيته
نتناول في هذا الفصل المباحث التالية:
المبحث الأول: تعريف القصاص.
المبحث الثاني: مشروعية القصاص.
المبحث الثالث: الحكمة من مشروعية القصاص.
المبحث الرابع: شبهات حول تطبيق عقوبة القصاص.
المبحث الأول
تعريف القصاص
معنى القصاص:
__________
(1) شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة/ ص309 ، 310.
(1/29)
“القَصُّ تَتَبُّعُ الأثَر يقالُ قَصَصْتُ أَثَرَهُ والقَصَصُ الأثرُ قال : (فَارْتَدّ عَلَى آثَارِهمَا قَصَصاً – وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) ومنه قيل لِمَا يَبْقَى مِنَ الكَلإِ فَيُتَتَبَّعُ أَثَرُهُ قَصِيصٌ وقَصَصْتُ ظُفْرَهُ والقَصَصُ الأخْبَارُ المُتَتّبَّعةُ قال : ( لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ – فِي قَصصِهِمْ عِبْرَةٌ – وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ – نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقصَصِ – فَلنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ – يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ – فَاقْصُصِ الْقَصَصَ ) والقِصاصُ تَتَبُّعُ الدَّم بالقَوَدِ قال : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ – وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ) ويقال قصَ فُلانٌ فُلاناً وضَرَبَهُ ضَرْباً فأقَصَهُ أي أدْناهُ مِنَ المَوْتِ”(1)
“والقصاص: القود وقد أقصّ الأمير من فلان إذا اقتص له منه فجرحه مثل جرحه أو قتله قوداً. واستقصه سأله أن يُقصه منه”(2)
ويعرف القصاص في الفقه الجنائي الإسلامي: “القصاص عقوبة مقدرة شرعاً، ويتم بإعدام الجاني في جريمة القتل العمد الموجبة للقصاص. ومعاقبة الجاني بمثل ما ألحقه بالمجني عليه في جرائم الاعتداء على ما دون النفس الموجبة للقصاص “(3)
صورة فرض القصاص:
__________
(1) الأصفهاني: معاني مفردات القرآن الكريم/ ص389.
(2) الرازي: مختار الصحاح/دار الكتاب العربي/بيروت/ص538.
(3) علي علي منصور (المستشار): نظام التجريم والعقاب في الإسلام/مؤسسة الزهراء للإيمان/ المدينة المنورة/ السعودية. ص410 ..أقول: لقد قدم المستشار علي منصور مشروعاً بقانون لتطبيق أحكام القصاص بنوعيه في النفس وفيما دون النفس لإحدى الدول الإسلامية رغبة منها في تقنين قانون الجنايات الإسلامي على صورة مواد قانونية تكون سهلة التطبيق وفي متناول القضاة.
(1/30)
قال القرطبي: “وصورة فرض القصاص: هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل، الاستسلام لأمر الله، والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليه، وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل؛ وهو معنى قوله عليه السلام: “إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرام ورجل أخذ بذحول الجاهلية)(1). قال الشعبي وقتادة وغيرهما: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان؛ فكان الحي إذ كان فيه عزّّ ومنعة فقتل لهم عبد؛ قتله عبد قوم آخرين قالوا: لا نقتل به إلا حراً، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلاً وإذا قتل لهم وضيع قالوا: لا نقتل به إلا شريفاً؛ ويقولون: (القتل أوفى للقتل) بالواو والقاف، ويروى (أبقى) بالباء والقاف، ويروى (أنفى) بالنون والفاء؛ فنهاهم الله عن البغي فقال: (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد) الآية، وقال: (ولكم في القصاص حياة) وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم”(2)
المبحث الثاني
مشروعية القصاص
الأصل في مشروعية القصاص؛ القرآن الكريم والسنة النبوية.
المصدر الأول: القرآن الكريم:
__________
(1) الذحل: الحقد والعداوة يقال طلب بذحله أي ثأره والجمع ذحول انظر: الرازي: مختار الصحاح/ص220.
(2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن/ ج2 / ص249 ، 250.
(1/31)
1 ـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(1) 2 ـ (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(2) 3 ـ (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(3) 4 ـ (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(4) 5 ـ (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً)(5)
أقول: ومعنى (كتب) في الآية: فرض وأثبت. كما قال الله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)(6)
قال ابن العربي: “معنى (كتب) فرض وألزم، وكيف يكون هذا والقصاص غير واجب ! وإنما هو لخيرة الوليّ؛ ومعنى ذلك كُتب وفُرض إذا أردتم استيفاء القصاص فقد كتب عليكم”(7)
__________
(1) البقرة: 178.
(2) البقرة: 179.
(3) البقرة: 194.
(4) المائدة: 45.
(5) الإسراء: 33.
(6) البقرة: 183.
(7) ابن العربي: أحكام القرآن/ دار المعرفة/ مج1/ص61.
(1/32)
أما قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) وإن كان هذا النص نزل في بني إسرائيل، إلا أنه شرع لنا، لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ولم يرد ناسخ فعلاً، كما أنه جاء في شرعنا ما يؤكده.
قال ابن جرير:”يقول تعالى ذكره: وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك يا محمد صلى الله عليه وسلم، وعندهم التوراة فيها حكم الله. ويعني قوله (كتبنا) فرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النفس إذا قتلت نفساً بغير حق بالنفس، يعني: أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة. (والعين بالعين) يقول: وفرضنا عليهم فيها أن يفقئوا العين التي فقأ صاحبها مثلها من نفس أخرى بالعين المفقوءة، ويجدع الأنف بالأنف، ويقطع الأذن بالأذن، ويقلع العين بالعين، ويقتص من الجارح غيره ظلماً للمجروح. وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود، وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم بعد إقراره بنبوته وإدباره عنه بعد إقباله، وتعريف منه له جراءتهم قديماً وحديثاً على ربهم وعلى رسل ربهم وتقدمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل؛ يقول جل ذكره له: وكيف يرضى هؤلاء يا محمد صلى الله عليه وسلم بحكمك إذا جاءوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرؤون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى الله عليه وسلم فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصنين، وقضائي بينهم أن من قتل نفساً ظلماً فهو بها قود، ومن فقأ عيناً بغير حق فعينه بها مفقوءة قصاصاً، ومن جدع أنفاً فأنفه به مجدوع، ومن قلع سناً فعينه بها مقلوعة، ومن جرح غيره جرحاً فهو مقتص منه مثل الجرح الذي جرحه، ثم هو مع الحكم الذي عندهم في التوراة من أحكام يتولون عنه ويتركون العمل به؛ يقول: فهم بترك حكمك وقضائك بينهم أحرى وأولى”(1)
__________
(1) الطبري: جامع البيان/ج2/ص114
(1/33)
وقال تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً قفد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً)(1) قال أهل التفسير: السلطان المذكور في الآية هو القود. فهذه النصوص القرآنية آنفة الذكر تدل على مشروعية القصاص.
المصدر الثاني: السنة:
هناك عدة روايات وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على مشروعية القصاص.. نختار منها الأحاديث الآتية:
1 ـ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم يشهد ألا لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة)(2)
قال ابن رجب حول هذه الخصال الثلاث :
“هي حق الإسلام التي يستباح بها دم من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث متفق عليه بين المسلمين. فأما زنا الثيب فأجمع المسلمون على أن حدّه الرجم حتى يموت، وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً والغامدية. وأما النفس بالنفس فمعناه أن المكلف إذا قتل نفساً بغير حق عمداً فإنه يقتل بها، وقد استشهد على ذلك بقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) وقال تعالى (ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى)”(3)
__________
(1) الإسراء: 33.
(2) ابن حجر: فتح الباري/ج14/ص183/ الحديث رقم 6878.
(3) ابن رجب: جامع العلوم والحكم/ص 106 و107 بتصرف..
(1/34)
2 ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة قال: فرماها يهودي بحجر قال: فجئ بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلان قتلك، فرفعت رأسها فأعادها عليها قال: فلان قتلك؟ فرفعت رأسها فقال لها في الثالثة: فلان قتلك؟ فخفضت رأسها فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله بين الحجرين”(1)
وفي البخاري أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه: “أن يهودياً رضّ رأس جارية بين حجرين فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان أو فلان؟ حتى سُّّّمي اليهودي فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل به حتى أقرّ فرُضّّ رأسُهُ بالحجارة”(2)
3 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن خزاعة قتلوا رجلاً. وقال عبد الله بن رجاء: حدثنا حرب، عن يحيى، حدثنا أبو هريرة أنه عام فتح مكة قتلت خزاعة رجلاً من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليهم رسله والمؤمنين ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ألا وإنها أحلت لي ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه حرام لا يُختلى شوكُها، ولا يُعْضَدُ شجرها، ولا يلتقط ساقطتها، إلا مُنشد، ومن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يودي وإما أن يقاد، فقال رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاة فقال: اكتب لي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاة. ثم قام رجل من قريش فقال: يا رسول الله إلا الإذخر فإنما نجعله في بيوتنا وقبورنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر”(3)
__________
(1) ابن حجر: فتح الباري/ج14/ص182 / الحديث رقم 6877
(2) ابن حجر: فتح الباري /ج14/ص179 ، ص180 / الحديث رقم 6876
(3) ابن حجر: فتح الباري/ج14/ ص188 ، ص189/ الحديث رقم 6880
(1/35)
وفي سنن أبي داود: عن أبي شريح الكعبي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل، وإني عاقله، فمن قُتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين: إما أن يأخذوا العقل أو يقتلوا”(1)
4 ـ جاء في البخاري: (باب قتل الرجل بالمرأة) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يهودياً بجارية قتلها على أوضاح لها”(2)
5 ـ عن قتادة قال: سمعت زرارة بن أبي أوفى عن عمران بن حصين أن رجلاً عضّ يد رجل فنزع يده من فمه فوقعت ثَنيتاه، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يعض أحدُكم أخاه كما يعض الفحلُ لا ديةَ له”(3)
وفي البخاري أيضاً تحت باب (إذا عض رجلاً فوقعت ثناياه) ساق بسنده إلى صفوان بن يعلى عن أبيه قال: خرجت في غزوة فعضّ رجلٌ فانتزع ثنيته فأبطلها النبي صلى الله عليه وسلم”(4)
6 ـ عن ابن عباس رضي الله عنه قال: “كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجلٌ من قريظة رجلاً من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فودي بمائة وسق من تمر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم، فأتوه فنزلت (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) والقسط النفس بالنفس، ثم نزلت (أفحكم الجاهلية يبغون)”(5)
__________
(1) أبو داود: سنن أبي داود /ج4 / ص171 / الحديث رقم 4504.
(2) ابن حجر: فتح الباري/ج14/ص199 / الحديث رقم 6885.
(3) ابن حجر : فتح الباري / ج14 / ص207 / الحديث رقم 6892
(4) ابن حجر: فتح الباري/ ج14/ ص207/ الحديث رقم 6893.
(5) أبو داود: سنن أبي داود /ج4 / ص 166 ، ص167 / الحديث رقم 4494.
(1/36)
7 ـ عن أبي شريح الخزاعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أصيب بقتل أو خَبْل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم”(1)
كل هذه الأحاديث السابقة تدل دلالة واضحة على حرمة النفس وعظم قتل المؤمن.
المبحث الثالث
حكمة مشروعية القصاص
لقد شرع الله تعالى القصاص لمكافحة الجريمة، والرذيلة وصيانة المجتمع من الفساد والمعاصي وحماية مصالح أساسية أجمعت الشرائع السماوية المحافظة عليها وهي: حفظ الدين، وحفظ النسل، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وهي المعروفة بالضروريات الخمس وسميت بذلك لأنه لا قيام لحياة الإنسان وصلاحه إلا بتوافرها وتواجدها، وحفظها من الاعتداء عليها، وقد أحكم الله سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام وشرعها على أكمل الوجوه.
وحول الحكمة من تشريع هذه العقوبات يقول ابن القيم:
“فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان والأعراض والأموال، كالقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس. وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقه”(2)
__________
(1) أبو داود: سنن أبي داود /ج4 /ص167 / الحديث رقم 4496. ومعنى الخبل: إذا أفسد عقله أو عضوه ويقصد به الجراح
(2) ابن القيم: إعلام الموقعين/مكتبة الكليات الأزهرية/ القاهرة/ج1/ص393.
(1/37)
وحول هذه الغاية من العقاب في الشريعة الإسلامية بصفة عامة والحكمة من مشروعية عقوبة القصاص بصفة خاصة، يمكن تلخيص الحكمة من ذلك فيما يلي:
أولاً: في تطبيق القصاص حياة للمجتمع وصيانته:
يقول الله تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون)(1)..
قال ابن جرير الطبري: “ولكم يا أولي العقول فيما فرضت عليكم، وأوجبت لبعضكم في النفوس والجراح والشجاج ما منع به بعضكم من قتل بعض، وأوجبت لبعضكم على بعض من القصاص في النفوس والجراح والشجاج ما منع به بعضكم من قتل بعض فحييتم بذلك فكان لكم في حكمي بينكم حياة”(2)
وساق الطبري عن قتادة قوله: “(ولكم في القصاص حياة) جعل الله هذا القصاص حياة ونكالاً وعظة لأهل السفه والجهل من الناس، وكم من رجل قد هم بداهية لولا مخافة القصاص، لو وقع بها، ولكن الله حجز بالقصاص بعضهم عن بعض، وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح الدنيا والآخرة ولا نهى الله عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين، والله أعلم بالذي يصلح خلقه”(3)
__________
(1) البقرة: 179.
(2) الطبري: جامع البيان/ ج2/ ص114.
(3) الطبري: جامع البيان/ ج2 /ص114.
(1/38)
ويقول الطبرسي: “ثم بين سبحانه وجه الحكمة في إيجاب القصاص فقال (ولكم) أيها المخاطبون (في القصاص حياة) فيه قولان: (أحدهما): أن معناه في إيجاب القصاص حياة لأن من همّ بالقتل فذكر القصاص ارتدع فكان ذلك سبباً للحياة عن مجاهد وقتادة وأكثر أهل العلم. (الثاني): أن معناه لكم في وقوع القتل حياة لأنه لا يقتل إلا القاتل دون غيره بخلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية الذين كانوا يتفانون بالطوائل عن السدي والمعنيان جميعاً حسنان ونظيره من كلام العرب (القتل أنفى للقتل) إلا أن ما في القرآن أكثر فائدة وأوجز في العبارة وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة وأحسن تأليفاً بالحروف المتلائمة فأما كثرة الفائدة فلأن فيه جميع ما في قولهم (القتل أنفى للقتل) وزيادة معاني منها إبانة العدل لذكره القصاص ومنها إبانة الغرض المرغوب فيه وهو الحياة ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة وحكم الله به وإما الإيجاز في العبارة فإن الذي هو نظير القتل أنفى للقتل قوله (القصاص حياة) وهو عشرة أحرف وذلك أربعة عشر حرفاً وأما بعده من الكلفة فهو أن في قولهم (القتل أنفى للقتل) تكريراً غيره أبلغ منه وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فإنه مدرك بالحس وموجود باللفظ فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام فباجتماع هذه الأمور التي ذكرناها كان أبلغ منه وأحسن وإن كان الأول حسناً بليغاً وقد أخذه الشاعر فقال:
أبلغ أبا مسمع عني مغلغلةً *** وفي العتاب حياة بين أقوامِ
وهذا وإن كان حسناً فبينه وبين لفظ القرآن ما بين أعلى الطبقة وأدناها وهذا استدعاء إلى العدل وفي ذلك ابهام وفي الآية بيان عجيب”(1)
__________
(1) الطبرسي: مجمع البيان في تفسير القرآن /ج1/ص266
(1/39)
وقال في جوامع الجامع”(ولكم في القصاص حياة) فيه فصاحة عجيبة وذلك أن القصاص قتل وتفويت للحياة وقد جعل ظرفاً ومكاناً للحياة، وفي تعريف القصاص وتنكير الحياة معنى أن لكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة ويقتلون بالمقتول غير قاتلة فتقع الفتنة، فكانت في القصاص حياة أي حياة أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل فيسلم صاحبه من القتل وسلم هو من القود فكأن القصاص سبب حياة نفسين”(1)
“في هذه الآية بيان لمحاسن القصاص، ذلك أن الله تعالى جعل القصاص محلاً لضده وهو الحياة. وفي هذا من البلاغة ما فيه، ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلغه الوصف. والمعنى: ولكم في هذا الحكم الذي شرعه الله بقاء وحياة، لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصاً إذا قتل آخر كف عن القتل، وانزجر عن التسرع إليه، والوقوع فيه، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية”(2)
__________
(1) الطبرسي: جوامع الجامع/ ج2/ص122.
(2) صديق حسن خان: فتح البيان في مقاصد القرآن/ج1/ص285 بتصرف وقال ابن كثير في قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة): “يقول تعالى وفي شرع القصاص لكم، وهو قتل القاتل، حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس. وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل.. فجاءت هذه العبارة في القرآن أقصح وأبلغ وأوجز (ولكم في القصاص حياة). قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل= يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل. وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان” راجع: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم/ج1 ص314.
(1/40)
وقال صاحب المنار: “فالآية الحكيمة قررت أن الحياة هي المطلوبة بالذات، وأن القصاص وسيلة من وسائلها، لأن من علم أنه إذا قتل نفساً يقتل بها يرتدع عن القتل؛ فيحفظ الحياة على من أراد قتله وعلى نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع. وإن من الناس من يبذل الكثير لأجل الإيقاع بعدوه. وفي الآية من براعة العبارة وبلاغة القول ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة. ويوطن النفس على قبول حكم المساواة؛ إذ لم يسم العقوبة قتلاً أو إعداماً؛ بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم”(1)
ويقول صاحب كتاب الإسلام عقيدة وشريعة: “من سنة القرآن في تشريعيه (المدني والجنائي) أن يلهب النفوس إلى الامتثال ببيان ما في التشريع من حكم وفوائد تعود عليها بخيري الدنيا والآخرة، وكان ذلك بمنزلة إقامة البراهين العقلية على قضايا النظر، فتتقبلها العقول، ويزول عنها الشك في أحكامها. وعلى هذه السنة جاءت هذه الآية تشير إلى ما في القصاص، تشريعاً وتنفيذاً، من حياة عظيمة تحفظ فيها الأرواح، وتطمئن النفوس، ويستقر النظام. ولا ريب أن من علم أنه إذا قتل قتل، وأن القصاص له بالمرصاد كفّ نفسه عن قتل صاحبه، فتحفظ لهما حياتهما، ويسلما: هذا من القتل، وهذا من القصاص. وكذلك في تنفيذ القصاص على الوجه الذي شرع الله، وهو قتل القاتل وحده دون إسراف بقتل غيره، وقوف بالقتل في دائرة ضيقة، وحفظ للقبائل من الفناء، الذي يجر إليه إسراف الجاهلية في الأخذ بالثأر والانتقام”(2)
ثانياً: القصاص جزاء وفاق للجريمة؛ فالجريمة اعتداء متعمد على النفس، والعدالة أن يؤخذ الجاني بمثل فعله إذ لا يعقل أن يفقد والد ولده، ويرى قاتله يروح ويغدو بين الناس، وقد حرم هو من رؤية ولده.
__________
(1) محمد رشيد رضا: تفسير المنار/ دار المعرفة/ بيروت/ ج2/ ط2 / ص130.
(2) شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة/ ص377 وما بعدها>
(1/41)
ثالثاً: إنه يشفي غيظ المجني عليه وأوليائه، ولا يشفيهم سجن الجاني مهما طال ذلك وشفاء غيظهم أمر لا بد منه. ولكن القصاص وإن كان فيه التشفي أو جبر النفس إلا أنه عقوبة تقصد في الأصل إلى زجر وإرهاب الجاني لمصلحة الأمة.
المبحث الرابع
شبه المعارضين في عقوبة القصاص
هناك فريق من الناس وخاصة المشتغلين بعلم الجريمة والعقاب في وقتنا الحاضر “يرون عدم صلاحية القصاص لأن يكون عقوبة، ويقولون إنه من القسوة وحب الانتقام. ويرون أن المجرم الذي يسفك الدم، ويرمل النساء، ويروع الأسر، يجب أن تكون عقوبته تربية وتهذيباً، لا قسوة وانتقاماً، ويشددون النكير على من يحكم بالقتل بغير الإقرار. ويرون أن الحكومة إذا علمت الناس التراحم كان أحسن تربية لهم”(1)
كلام نفيس لصاحب الميزان
__________
(1) شلتوت: المرجع السابق/ص310.
(1/42)
وذكر في تفسير الميزان جملة أقوال المعارضين لتطبيق عقوبة القصاص على الجاني: “وقد اعترض على القصاص مطلقا وعلى القصاص بالقتل خاصة بأن القوانين المدنية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جوازها وإجراءها بين البشر اليوم. قالوا: إن القتل بالقتل مما يستهجنه الإنسان و ينفر عنه طبعه ويمنع عنه وجدانه إذا عرض عليه رحمة وخدمة للإنسانية، وقالوا: إذا كان القتل الأول فقدا لفرد فالقتل الثاني فقد على فقد، و قالوا: إن القتل بالقصاص من القسوة وحب الانتقام، وهذه صفة يجب أن تزاح عن الناس بالتربية العامة ويؤخذ في القاتل أيضا بعقوبة التربية، وذلك إنما يكون بما دون القتل من السجن والأعمال الشاقة، و قالوا: إن المجرم إنما يكون مجرما إذا كان مريض العقل فالواجب أن يوضع القاتل المجرم في المستشفيات العقلية ويعالج فيها، وقالوا: إن القوانين المدنية تتبع الاجتماع الموجود، و لما كان الاجتماع غير ثابت على حال واحد كانت القوانين كذلك فلا وجه لثبوت القصاص بين الاجتماع للأبد حتى الاجتماعات الراقية اليوم، ومن اللازم أن يستفيد الاجتماع من وجود أفرادها ما استيسر، ومن الممكن أن يعاقب المجرم بما دون القتل مما يعادل القتل من حيث الثمرة و النتيجة كحبس الأبد أو حبس مدة سنين و فيه الجمع بين الحقين حق المجتمع وحق أولياء الدم، فهذه الوجوه عمدة ما ذكره المنكرون لتشريع القصاص بالقتل”(1)
__________
(1) الطباطبائي: تفسير الميزان/ج1 تفسير الآيتين: 178: 179 من سورة البقرة/ من موقع www.holyquran.net
(1/43)
وقال الصابوني: “ولقد رقت قلوب قوم من رجال (التشريع الوضعي) فاستفظعوا قتل القاتل، ورحموه من القتل، ولقد كان (المقتول ظلماً) أولى بالرحمة والشفقة والعطف، وإذا رحموا القاتل فمن يرحم المجتمع من سطوة المجرمين من أهل الفساد!! وماذا نصنع مع العصابات التي كثرت في هذه الأيام واتخذت لها طريقاً إلى ترويع المجتمع بالسلب والنهب وسفك الدماء؟ لقد نظروا نظرة ضيقة بفكر غير سليم، ولو نظروا نظرة عامة شاملة بفكر وعقل مستنير لرحموا الأمة من المجرمين، بالأخذ بشدة على أيدي العابثين، فإن من يرحم الناس يسعى لتقليل الشر عنهم، وكف عادية المعتدين، وبذلك تتضح حكمة الله الجليلة بتشريع القصاص”(1)
شبهات وردود
سنحاول أن نلقي الضوء على بعض هذه الشبه والرد عليها على النحو التالي:
1) شبهة: “ينادى فريق من يزعمون الإصلاح الاجتماعي بإلغاء عقوبة الإعدام ـ القصاص ـ وذلك أن قتل الإنسان تدمير للبنية الإنسانية، وبقتل القاتل نضيف تدميراً وتهديماً آخر نفعله بإرادتنا قصاصاً، والواجب أن نرمم ما تهدم بقدر الإمكان، لا أن نزيد فيه”(2)
الرد علي هذه الشبهة:
إن الإنسان المجرم إذا علم أنه لا يقتص منه، فإنه يتشجع على قتل آخر، وبالتالي يكثر القتل، وهنا يزداد تدمير وتهديم البنية الإنسانية بأيدي الناس أنفسهم. وبصورة غير عادلة، فخير لنا أن نتفادى التدمير الكثير الجائر الذي تحدثه الفوضى بالقليل الذي توقعه أيدي العدالة على سبيل العقاب المماثل الذي لا سبيل للوقاية إلا به، فإنه لا يمنع الرامي شئ كيقينه بأن سهمه سينعكس إلى صدره.
ويرد الطباطبائي على ذلك بقوله:
__________
(1) الصابوني: محمد محمد علي الصابوني: روائه البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن ـ دار السلام ـ القاهرة ـ ج1 ص172.
(2) يوسف علي محمود: الأركان المادية والشرعية لجريمة القتل العمد/ج2/ص17.
(1/44)
“و قد أجاب القرآن عن جميع هذه الوجوه بكلمة واحدة، و هي قوله تعالى: (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)(1)
بيان ذلك: أن القوانين الجارية بين أفراد الإنسان و إن كانت وضعية اعتبارية يراعى فيها مصالح الاجتماع الإنساني غير أن العلة العاملة فيها من أصلها هي الطبيعة الخارجية الإنسانية الداعية إلى تكميل نقصها ورفع حوائجها التكوينية، وهذه الواقعية الخارجية ليست هي العدد العارض على الإنسان ولا الهيئة الواحدة الاجتماعية فإنها نفسها من صنع الوجود الكوني الإنساني بل هي الإنسان و طبيعته وليس بين الواحد من الإنسان والألوف المجتمعة منه فرق في أن الجميع إنسان ووزن الواحد والجميع واحد من حيث الوجود. وهذه الطبيعة الوجودية تجهزت في نفسها بقوى وأدوات تدفع بها عن نفسها العدم لكونها مفطورة على حب الوجود، وتطرد كل ما يسلب عنه الحياة بأي وسيلة أمكنت وإلى أي غاية بلغت حتى القتل والإعدام، ولذا لا تجد إنسانا لا تقضي فطرته بتجويز قتل من يريد قتله ولا ينتهي عنه إلا به، و هذه الأمم الراقية أنفسهم لا يتوقفون عن الحرب دفاعا عن استقلالهم وحريتهم وقوميتهم، فكيف بمن أراد قتل نفوسهم عن آخرها، و يدفعون عن بطلان القانون بالغا ما بلغ حتى بالقتل و يتوسلون إلى حفظ منافعهم بالحرب إذا لم يعالج الداء بغيرها، تلك الحرب التي فيها فناء الدنيا و هلاك الحرث و النسل”(2) ويستطرد الطباطبائي قائلاً: “ولا يزال ملل يتقدمون بالتسليحات وآخرون يتجهزون بما يجاوبهم، وليس ذلك كله إلا رعاية لحال الاجتماع وحفظا لحياته وليس الاجتماع إلا صنيعة من صنائع الطبيعة فما بال الطبيعة يجوز القتل الذريع والإفناء و الإبادة لحفظ صنيعة من صنائعها، وهي الاجتماع المدني ولا تجوزها
__________
(1) المائدة: 32.
(2) الطباطبائي: تفسير الميزان/مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ج1 تفسير الآيتين: 178: 179 من سورة البقرة.
(1/45)
لحفظ حياة نفسها؟ وما بالها تجوز قتل من يهم بالقتل ولم يفعل ولا تجوزه فيمن هم و فعل؟ وما بال الطبيعة تقضي بالانعكاس في الوقائع التاريخية، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ولكل عمل عكس عمل في قانونها لكنها تعد القتل في مورد القتل ظلما و تنقض حكم نفسها”(1) أما عن قيمة الإنسان في نظر الشرع يقول الطباطبائي: “على أن الإسلام لا يرى في الدنيا قيمة للإنسان يقوم بها ولا وزنا يوزن به إلا إذا كان على دين التوحيد فوزن الاجتماع الإنساني ووزن الموحد الواحد عنده سيان، فمن الواجب أن يكون حكمهما عنده واحداً، فمن قتل مؤمنا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر إزرائه وهتكه لشرف الحقيقة كما أن من قتل نفسا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر الطبيعة الوجودية، وأما الملل المتمدنة فلا يبالون بالدين ولو كانت شرافة الدين عندهم تعادل في قيمتها أو وزنها ـ فضلا عن التفوق ـ الاجتماع المدني في الفضل لحكموا فيه بما حكموا في ذلك. على أن الإسلام يشرع للدنيا لا لقوم خاص وأمة معينة، والملل الراقية إنما حكمت بما حكمت بعد ما أذعنت بتمام التربية في أفرادها وحسن صنيع حكوماتها ودلالة الإحصاء في مورد الجنايات والفجائع على أن التربية الموجودة مؤثرة وأن الأمة في أثر تربيتهم متنفرة عن القتل والفجيعة فلا تتفق بينهم إلا في الشذوذ وإذا اتفقت فهي ترتضي المجازاة بما دون القتل، والإسلام لا يأبى عن تجويز هذه التربية وأثرها الذي هو العفو مع قيام أصل القصاص على ساق. ويلوح إليه قوله تعالى: في آية القصاص (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان)، فاللسان لسان التربية و إذا بلغ قوم إلى حيث أذعنوا بأن الفخر العمومي في العفو لم ينحرفوا عنه إلى مسلك الانتقام”(2) وعن وضع الإنسان في الأمم الأخرى يقول صاحب تفسير الميزان: “وأما غير هؤلاء الأمم
__________
(1) الطباطبائي: المرجع السابق.
(2) الطباطبائي: المرجع السابق.
(1/46)
فالأمر فيها على خلاف ذلك والدليل عليه ما نشاهده من حال الناس وأرباب الفجيعة و الفساد فلا يخوفهم حبس ولا عمل شاق ولا بصدهم وعظ و نصح، وما لهم من همة ولا ثبات على حق إنساني، و الحياة المعدة لهم في السجون أرفق وأعلى وأسنى مما لهم في أنفسهم من المعيشة الردية الشقية فلا يوحشهم لوم ولا ذم، ولا يدهشهم سجن ولا ضرب، وما نشاهده أيضا من ازدياد عدد الفجائع في الإحصاءات يوما فيوما فالحكم العام الشامل للفريقين ـ والأغلب منهما الثاني ـ لا يكون إلا القصاص وجواز العفو فلو رقت الأمة وربيت تربية ناجحة أخذت بالعفو والإسلام لا يألو جهده في التربية ولو لم يسلك إلا الانحطاط أو كفرت بأنعم ربها وفسقت، أخذ فيهم بالقصاص ويجوز معه العفو. وأما ما ذكروه من حديث الرحمة والرأفة بالإنسانية فما كل رأفة بمحمودة و لا كل رحمة فضيلة، فاستعمال الرحمة في مورد الجاني القسي و العاصي المتخلف المتمرد و المتعدي على النفس والعرض جفاء على صالح الأفراد، وفي استعمالها المطلق اختلال النظام وهلاك الإنسانية وإبطال الفضيلة. وأما ما ذكروه أنه من القسوة وحب الانتقام فالقول فيه كسابقه، فالانتقام للمظلوم من ظالمه استظهارا للعدل و الحق ليس بمذموم قبيح، و لا حب العدل من رذائل الصفات، على أن تشريع القصاص بالقتل غير ممحض في الانتقام بل فيه ملاك التربية العامة وسد باب الفساد. وأما ما ذكروه من كون جناية القتل من الأمراض العقلية التي يجب أن يعالج في المستشفيات فهو من الأعذار ونعم العذر الموجبة لشيوع القتل و الفحشاء ونماء الجناية في الجامعة الإنسانية، وأي إنسان منا يحب القتل والفساد علم أن ذلك فيه مرض عقلي وعذر مسموع يجب على الحكومة أن يعالجه بعناية ورأفة وأن القوة الحاكمة و التنفيذية تعتقد فيه ذلك لم يقدم معه كل يوم على قتل. وأما ما ذكروه من لزوم الاستفادة من وجود المجرمين بمثل الأعمال الإجبارية و نحوها مع حبسهم و منعهم عن الورود في
(1/47)
الاجتماع فلو كان حقا متكئا على حقيقة فما بالهم لا يقضون بمثله في موارد الإعدام القانوني التي توجد في جميع القوانين الدائرة اليوم بين الأمم؟ وليس ذلك إلا للأهمية التي يرونها للإعدام في موارده، وقد مر أن الفرد والمجتمع في نظر الطبيعة من حيث الأهمية متساويان”(1)
وتحت عنوان: (حيرة القوانين الوضعية بين الإبقاء على عقوبة الإعدام وإلغائها) يقول صاحب كتاب نظام التجريم والعقاب: “ولقد ثار جدل منذ زمن في ظل التشريعات الجنائية الوضعية حول عقوبة الإعدام، وهل تبقي عليها التشريعات الجنائية أم تعدل عنها. والواقع أن قانون المصلحة البشرية فحسب هو الذي يحكم التشريع الإنساني كله، فكل مجتمع له نظام معين وفلسفة معينة واقتصاد معين يحمي نفسه ومن بين وسائل الحماية عقوبة الإعدام ـ ودليل ذلك أننا نجد اختلافاً واضحاً في التوسعة والتضييق في هذه العقوبة في هذا العصر الذي نعيش فيه فبينما تجعل بعض الدول ذات النظام الرأسمالي هذه العقوبة قاصرة على بعض الجرائم كالقتل العمد مع ظروف معينة وجريمة الخيانة العظمى ـ نجد دولاً أخرى ذات نظام شيوعي أو اشتراكي تكثر من استعمال هذه العقوبة وتجعلها جزاء لجرائم عديدة كجريمة الرشوة والتزوير والمضاربات المالية كما في الاتحاد السوفيتي (سابقاً) كما أن الإعدام عقوبة مقدرة على جرائم التخريب والتآمر وعددها أكثر من 25 جريمة في رومانيا وأكثر من ذلك كله أن قانون العقوبات في تشيكو سلوفاكيا (سابقاً) تجاهل التقسيم التقليدي في الجرائم إلى جنايات وجنح ومخالفات واكتفى بالنص على أن الخطر على المجتمع هو المقياس الوحيد الذي يحدد العقاب على الجرائم ـ وهذا يصل إلى الإعدام في حالات عديدة كالإهمال والتخريب وعرقلة القرارات العامة أو اتخاذ موقف سلبي منها. وهذا تناقض في النظر والاختلاف في الأصول ذاتها يبرز لنا فضل الشريعة الإسلامية ـ ويكفي في هذا التناقض والخلاف أن
__________
(1) الطباطبائي: المرجع السابق.
(1/48)
نذكر أن عملاً تعاقب عليه التشريعات في بعض الدول (روسيا سابقاً) بالإعدام كالإضراب عن العمل تعده بعض البلاد الأخرى حقاً دستورياً (إنجلترا ودول أوربا الغربية) ـ ونجد جريمة كتهريب النقد أو المضاربة فيه تعاقب عليه بعض القوانين بالحبس أو الغرامة يعاقب عليها في دول أخرى بالإعدام ـ وهذا أقوى دليل على أن النظر ليس إلى النفس الإنسانية ذاتها ولكنه النظر إلى المصلحة المحدودة بالزمان والمكان. أما الشريعة فإن القصاص فيها (الذي هو في معنى الإعدام) مقرر لجريمة قتل النفس ـ فالنفس الإنسانية في كرامتها التي فرضها الله لها ـ فلا يهدر دم إلا إذا أهدره صاحبه بارتكاب جريمة قتل نفس حرم الله قتلها ـ وهو فعل لم يختلف فيه نظر الناس جميعاً في مكان من الأمكنة وزمن من الأزمان ومع ذلك فقد فتحت الشريعة باباً للخروج من هذه العقوبة إذا عفا أولياء الدم عن القاتل ورضيت نفوسهم بإحيائه بمقابل أو بلا مقابل ـ فيكون استحياؤه بحق ومن يطالع حجج المنكرين لعقوبة الإعدام أو حجج المدافعين عن إبقائها يجد وجه الحق ظاهراً في حكم الشرع ولله الحجة البالغة”(1)
2) شبهة: “إن الحياة منحة من الخالق، وليست هبة من المجتمع حتى يحق له أن يسلبها أو يستردها”(2)
الرد على هذه الشبهة:
(أ) إن الحياة منحة من الخالق، وليست هبة من المجتمع، وهذا صحيح، وفي نفس الوقت إن القصاص من القاتل هو من أمر الله تعالى إن أراده ولي الدم، ونحن مطالبون بتنفيذ أمر الله تعالى.
__________
(1) علي علي منصور: نظام التجريم والعقاب في الإسلام/ ص45 بتصرف.
(2) يوسف على محمود (الدكتور): الأركان المادية والشرعية لجريمة القتل العمد/ج2/ص17
(1/49)
(ب) ومن ناحية أخرى يمكن التمسك بهذه الحجة بالنسبة للعقوبات السالبة للحرية بصفة عامة، لأن الحرية هي أيضاً منحة من الخالق، فالإنسان يولد حراً وبالتالي ليست هبة للفرد من المجتمع، وعليه يمكن أن نقول بالنسبة لها أيضاً إنه لا يجوز للمجتمع أن يستردها أو يسلبها من الفرد.
(ج) إن سلب الحياة في الأحوال التي يقررها المجتمع مبرر على أساس أن الضرورة تقتضيه، وتكون الضرورة قائمة إذا كان أي عقاب آخر لا يمكن أن يحل محل الإعدام في درجة ردعه.
3) شبهة: “هذه العقوبة لا يمكن الرجوع فيها أو تلافيها وإزالة آثارها إذا نفذت في شخص واتضح بعد ذلك أن الحكم خطأ أو رؤى بعد ذلك أنه يستحق العفو عنه”(1)
الرد عليها: إن العقوبة لا تنفذ على القاتل إلا بعد ثبوت الجريمة بالطرق الشرعية وإن أي قرينة تدل على عدم قصد العدوان بما يقتل غالباً فإنها تدفع القتل.
4) شبهة: “إن هذه العقوبة سيئة الأثر في المسجونين وعمال السجن وموظفيه فقد لوحظ أنه عند تنفيذ عقوبة الإعدام في أحد السجون أن المسجونين الآخرين في السجن يصابون باضطرابات نفسية شديدة كما يتعرض لهذه الإصابات نفسها موظفو السجن وعماله في البلاد المتمدنة”(2)
ويرد عليها:
(أ) إن إصابات البعض باضطرابات نفسية لا يدل على عدم مشروعية العقوبة ذلك أن الإنسان قد يصاب بمثل ذلك عند رؤيته عملية جراحية خطيرة لإنسان، أو قطع عضو متآكل دون مخدر لظروف اقتضت ذلك.
(ب) وثبت أن البلاد التي تطبق هذه العقوبة تنفيذاً لأمر الله لم يصب أفرادها باضطرابات نفسية.
__________
(1) يوسف على محمود: المرجع السابق/ج2/ص18.
(2) يوسف على محمود: المرجع السابق/ج2/ص18
(1/50)
أقول: قد كنت أذهب شخصياً بحكم عملي إلى سجن الاستئناف بالقاهرة وهو المكان المخصص لتنفيذ حكم الإعدام لزيارة بعض المسجونين وأحياناً بعض المحكوم عليهم الذين سينفذ فيهم حكم الإعدام ولم أشاهد هذه الاضطرابات النفسية رغم اكتظاظ السجن بمسجونين آخرين لم يحكم عليهم بنفس العقوبة.
5) شبهة: “هذه العقوبة تؤدي إلى طول أمد المحاكمة وازدياد تحرج القضاة في الحكم بها. فالقضاة في الجرائم التي يعاقب عليها القانون بالإعدام يميلون إلى الأناة وإلى توفير أوسع للفرص أمام المتهم للدفاع عن نفسه، فضلاً عن أنهم يتشددون في وزن الأدلة فتزيد فرص الإفلات من العقوبة”(1)
ويرد عليها أبو زهرة قائلاً:
“إن الذين يفكرون في الجاني، ولا يفكرون في ولي المجني عليه، ولا في الجماعة التي يعيشون فيها ـ أنظارهم قاصرة كليلة تخص ولا تعم. وإنه قريب من أولئك الذين يفتحون باب التخفيف على مصراعيه، ويصغون بآذانهم للظروف المخففة ونحوها ويطيلون في أزمان التقاضي، وأولياء الدم تتلظى نفوسهم، وتتقرح قلوبهم، وربما لا يلهمون الصبر فيندفعون كأهل الجاهلية إلى الأخذ بالثأر. وقد لاحظ ذلك المؤتمر الذي عقده المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية لمكافحة الجريمة فجاء في توصياته: أن تكفل الإجراءات القضائية سرعة البت في جرائم القتلى، وأن تكون عقوبة القتل للثأر رادعة بالقدر لتهدئة ثائرة ذوي المجنى عليه وردهم عن محاولة القصاص بأنفسهم، ولإرضاء الشعور العام”(2)
أقول: كنا نتمنى مع الشيخ أبي زهرة أن تكون هذه التوصية شاملة لكل أنواع القتل، وليست خاصة بجريمة القتل للثأر، فإن الردع الكافي ضروري لكل مجرم قتل، ولا ردع إلا بالقصاص الذي فيه الحياة الفاضلة للأمة.
__________
(1) يوسف علي محمود: الأركان المادية والشرعية لجريمة القتل العمد/ج2/ص18
(2) أبو زهرة: العقوبة /ص256.
(1/51)
وفي تعليق ماتع لأبي زهرة على طول أمد المحاكمات في قضايا القتل: “وإننا في هذا العصر نرى حكم القصاص يتراخى للقوي، ويشتد على الضعيف؛ لأن القوي يستطيع أن يستأجر المحامي المدره، فبقوة بيانه، وحسن تنسيق أداته، وقدرته على اللحن بحجته، يستطيع أن يبدي ظروفه المخففة، وقد يقال إنه يندب له من يترافع عنه في الجنايات وقضايا القتل من أولاها، ونقول إنه لا يختار هو بل يختار له، ولا تكون مع الأسف عناية من المحامي المأجور، وبذلك يكون الفقير الضعيف هدفاً للتنفيذ، والقوي الغني يفتح له باب الإفلات، ولو أنه نفذت أحكام الشريعة ما كان ذلك التفاوت؛ لأن الشريعة تعتبر القتل المقصود موجباً للقصاص مادام بآلة من شأنها أن تقتل من غير التفات إلى البواعث، والغيات والظروف المخففة أو المشددة، وبذلك يكون الناس جميعاً على سواء لا فرق بين قوي وضعيف، وغني وفقير، إذ لا عذر لقاتل، والاعتذار له يمنع التساوي في المقاضاة”(1)
6) شبهة: “إن هذه العقوبة غير مفيدة في الردع لأنه لوحظ أن نسبة الإجرام المعاقب عليه بها لم تقل في البلاد التي تطبقها ولم تزد في البلاد التي ألغتها”(2)
الرد على هذه الشبهة:
__________
(1) أبو زهرة: العقوبة / ص260.
(2) علي يوسف محمود: الأركان المادية والشرعية لجريمة القتل العمد/ج2/ص17
(1/52)
يرد على هذه الشبهة صاحب كتاب التشريع الجنائي الإسلامي قائلاً: “ليس في العالم كله قديمه وحديثه عقوبة تفضل عقوبة القصاص، فهي أعدل العقوبات إذ لا يجازى المجرم إلا بمثل فعله، وهي أفضل العقوبات للأمن والنظام؛ لأن المجرم حينما يعلم أنه سيجزى بمثل فعله لا يتركب الجريمة غالباً. والذي يدفع المجرم بصفة عامة للقتل والجرح هو تنازع البقاء وحب التغلب والاستعلاء، فإذا علم المجرم أنه لن يبق بعد فريسته أبقى على نفسه بإبقائه على فريسته، وإذا علم أنه إذا تغلب على المجني عليه اليوم فهو متغلب عليه غداً لم تطلع إلى التغلب عليه عن طريق الجريمة، وأمامنا على ذلك الأمثلة العملية نراها كل يوم، فالرجل العصبي المزاج السريع إلى الشر تراه أهدأ ما يكون وأبعد عن الشر وطلب الشجار إذا رأى خصمه أقوى منه أو قدر أنه سيرد على الاعتداء بمثله، والرجل المسلح قد لا يثنيه شئ عن الاعتداء ولكنه يتراجع ويتردد إذا رأى خصمه مسلحاً مثله ويستطيع أن يرد على الاعتداء بالاعتداء؛ والمصارع والملاكم لا يتحدى أيهما شخصاً يعلم أنه أكثر قوة أو مراناً أو جلداً ولكنه يتحدى بسهولة من يظنه أقل منه قوة وأضعف جلداً.
تلك هي طبيعة البشر وضعت الشريعة على أساسها عقوبة القصاص، فكل دافع نفسي يدعو إلى الجريمة يواجه من عقوبة القصاص دافعاً نفسياً مضاداً يصرف عن الجريمة، وذلك ما يتفق تمام الاتفاق مع علم النفس الحديث. والقوانين الوضعية الحديثة تعترف بعقوبة القصاص ولكنها تطبقها على جريمة القتل فقط، فتعاقب بالإعدام على القتل ولكنها لا تعاقب بالقصاص على الجراح، وتكتفي في عقاب الجارح بالغرامة والحبس أو بأحدهما”(1)
__________
(1) عبد القادر عودة (المستشار): التشريع الجنائي الإسلامي/ج1/ص665 .
(1/53)
الشريعة الإسلامية كانت منطقية: “ولا شك في أن الشريعة الإسلامية حين سوت بين القتل والجراح في نوع العقوبة كانت طبيعية ومنطقية. أما القوانين الوضعية فقد باعدت بين نفسها وبين المنطق وطبائع الأشياء حين فرقت في نوع العقوبة بين هاتين الجريمتين، ذلك أن جريمتي القتل والجرح من نوع واحد وينبعثان من دافع واحد، فالجريمتان نوعهما واحد وأصلهما الجرح، وعقوبتهما من نوع واحد وهو القصاص، وإحدى الجريمتين تنتهي بقتل المجني عليه وعقوبتها قتل المجرم، والجريمة الثانية تنتهي بجرح المجني عليه وعقوبتها جرح المجرم، وهذا هو منطق الشريعة الدقيق وفنها العميق الذي لم يصل إليه القانون بعد والذي قد يصل إليه بعد حين طويل أو قصير ولكنه سيصل إليه دون شك؛ لأن الأساس الأول في الشرائع على العموم هو المنطق، وما دامت القوانين تعترف بعقوبة القصاص وتطبقها في جريمة القتل، وما دام المنطق يقضي بأن تطبق هذه العقوبة على جريمة الجرح أيضاً، فلا بد من أن تخضع القوانين لهذا المنطق الذي أخذت بأسبابه واعترفت بمقدماته”(1)
__________
(1) عبد القادر عودة: المرجع السابق/ ج1/ص665 ، ص666 بتصرف.
(1/54)
أقول: لو لم تفد عقوبة القصاص في الردع لما أبقتها وسنتها القوانين الوضعية الحديثة وخاصة في بعض الجرائم الخطيرة كالخيانة العظمى والجاسوسية وحتى الدول التي ألغت عقوبة القصاص في جرائم القتل عادت إليها مرة أخرى.. فهي دول حائرة مترددة بين الإلغاء والإبقاء بسبب ضغط منظمات حقوق الإنسان الدولية التي تطالب بإلغاء عقوبة القصاص حتى في جرائم الجاسوسية!! لكن هل حلت مشكلة تنامي جرائم القتل في الدول التي ألغت عقوبة القصاص سواء في جرائم القتل العمد أو الجراح.. ولكي ندرك حكمة الشريعة الإسلامية وسبب تشددها في جرائم الحدود والقصاص نجد أن معظم الجرائم التي تقع في وتتكرر هي جرائم الحدود والقصاص فعلى سبيل المثال لو ذهب المرء واطلع على السجل اليومي للقضايا التي ينظرها قاضي الجنح أو قاضي الجنايات يجدها في ارتفاع مخيف ففي دائرة صغيرة لإحدى المدن يصل عدد قضايا الجنح يوميا إلى 300 جنحة وأحياناً إلى 500 جنحة ما بين ضرب وقتل خطأ وسب وقذف ومخالفات هذا في دائرة واحدة صغيرة.. فكيف لو أحصينا كل الدوائر والمحافظات مجتمعة مع ضم قضايا الجنايات القتل العمد.. بالطبع سيكون الرقم مخيفاً.. ومن يتابع الصحف اليومية وخاصة في صفحة الحوادث يجد أن معظم الجرائم هي جرائم الحدود من زنا وسرقة وقتل وضرب .. فلو جمعنا ما يصدر عن الصحف يومياً من أخبار الحوادث لكانت لدينا إحصائية مخيفة عن ارتفاع معدل الجريمة في المجتمعات التي لا تطبق الشريعة الإسلامية تطبيقاً صحيحاً.
إحصائية جنائية في الأربعينيات
(1/55)
وقديما ذكر لنا عبد القادر عودة إحصائية قيمة يثبت من خلالها أن جرائم الحدود والقصاص هي أكثر الجرائم وقوعاً في الحياة اليومية إذ يقول: “إذا رجعنا إلى الإحصائيات الجنائية، فإن هذه الإحصائيات تدل دلالة قاطعة على أن جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية هي أكثر الجرائم وقوعاً في الحياة اليومية، وأن هذه الجرائم الإثنى عشرة لو انقطع وقوعها لما عرف الناس الجريمة ولما شعروا بوقوع الجرائم، ونستطيع أن نتخذ الإحصائيات الجنائية المصرية دليلاً على ذلك فقد بلغ عدد الجنايات 8175 جناية في سنة 1942 ـ 1943 ـ منها 1752 جناية قتل عمد، 1119 جناية شروع في قتل، 989 جناية سرقة بإكراه وشروع فيها، س243 جناية هتك عرض وفسق، 326 جناية ضرب أفضى للموت، 1196 جناية ضرب نشأ عنه عاهة مستديمة، 634 جناية عود وكلها تقريباً سرقات، وهذه جميعاً من جرائم الحدود والقصاص والدية ومجموعها 6270 جناية ومعنى هذا أن جرائم الحدود والقصاص في الجنايات تقع بنسبة 76.6% من مجموع الجنايات.
وبلغ عدد الجنح 297557 جنحة في سنة 1942 ـ 1943 منها 97320 جنحة سرقة، 14828 جنحة جرح خطأ، 1182 جنحة قتل خطأ، 60223 جنحة ضرب، 405 جنحة هتك عرض، 1929 جنحة قذف وسب، 4695 جنحة تعد ومقاومة. وهذه كلها من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ومجموعها 181762 جنحة ومعنى هذا أن جرائم الحدود والقصاص في الجنح تقع بنسبة 61% من مجموع الجنح تقريباً”(1)
__________
(1) عبد القادر عوده: التشريع الجنائي الإسلامي/ج1/ص710 ، ص711.
أقول: هناك إحصائية قدمتها وكالة المباحث الفيدرالية الأمريكية أف . بي . آي سنة 1979م عن معدل الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية:
A summary statistics that talk about the spread of crimes in U.S., based on U.S. Government references, is presented below:
One murder every 24 minutes
One forcible rape every 7 minutes
One rubbery every 68 seconds
One violent crime every 27 seconds
One crime index offence every 3 seconds
One burglary every 10 seconds
One larceny/ theft every 5 seconds
One motor vehicle theft every 29 seconds
One property crime every 3 seconds
Source: Federal Bureau of Investigation, Uniform Crime Reports, 1979 (Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1980) P.5.
The Uniform Crime Report (UCR) issued by the U.S. Federal Bureau of investigation (FBI) revealed that the number of reported crimes increased by 4.6% in one year, from 1984 to 1985. Arrests in 1985 totalled 11.9 million, an increase of 3% over 1984. The UCR figures are widely believed by criminologists to be low. A more reliable index is probably the U.S. Bureau of Justice Statistics’ National Crime Survey (NCS). An annual report on household crime victimization based on census surveyors. This survey under covers crimes not reported to police. Its 1985 survey showed that 25% (1 in every 4 households in the U.S.) had experienced crimes against individual members of the household or against the household itself during that year. As these statistics show, crime, in all its different forms, has become a major threat to societal and individual security”
The universality of Islam: by: Dr. Abdullah Al- Kahtany published – by: Almuntada Al-Islami / 2000 / pg. 62 – 63.
(1/56)
إحصائية جنائية في الثمانينات
وفي إحصائية للحوادث الجنائية بجمهورية مصر العربية(1) من عام 1983 إلى عام 1987م نلحظ ارتفاع حوادث الجرائم ومعظمها جرائم الحدود والقصاص والدية والجدول التالي يوضح بالأرقام نسبة هذه الجريمة في الأعوام 1983 : 1987م:
السنة … عدد السكان … الجنايات … الجنح … المجموع
1983 … 44817000 … 1635 … 1031694 … 1033329
1984 … 46063000 … 1808 … 1086221 … 1088029
1985 … 46694000 … 2019 … 1259114 … 1261133
1986 … 48847000 … 2112 … 1285733 … 1287845
1987 … 49681000 … 6446 … 138933 … 1386379
أقول: وفي إحصائية لمعدل الجريمة لعام 1988م تبين ارتفاع نسبة الجريمة في الدول التي لم تطبق عقوبة القصاص:
“في أسبانيا (77,26) في ألمانيا الغربية (41,71) في إيطاليا (20,08) في الدانمرك (60,52) في فرنسا (32,27) في استراليا (75,00) في كوريا (12,42)”(2)
وهناك تقرير للأمم المتحدة عن مؤشر الجريمة في دولة نيوزلندا كما في الجدول التالي:
Percent variation … Percent … Cleared … Reported … Year
in reported offences … Cleared
– … 39.6 … 160335 … 404411 … 1987
0.92 … 40.6 … 165622 … 408137 … 1988
4.87 … 40.8 … 174626 … 428029 … 1989
2.08 … 37.4 … 163548 … 436928 … 1990
6.06 … 36.5 … 169224 … 463422 … 1991
7.19 … 35.1 … 174529 … 496732 … 1992
2.27 … 37.8 … 192156 … 508029 … 1993
-3.20 … 43.1 … 212135 … 491748 … 1994
2.40 … 42.9 … 216093 … 503558 … 1995
2.43 … 42.7 … 220481 … 515809 … 1996
تقرير واشنطن بوست
__________
(1) إبراهيم مبارك الحوير: أثر تطبيق الشريعة الإسلامية في حل المشكلات الاجتماعية/مكتبة العبيكان/الرياض/ ص34.
(2) سليمان الحقيل: حقوق الإنسان في الإسلام/ص137.
(1/57)
وفي تقرير حديث نشرته جريدة واشنطن بوست الأمريكية بتاريخ 23 /6/ 2002 يشير إلى ارتفاع نسبة الجريمة بعد 9 سنوات من الهبوط:
“جرائم القتل قفزت 3.1 % في 2001، بينما رأت السرقات وسرقة السيارات زيادات كبيرة أيضا، مكتب التحقيقات الفدرالي يقول:
عدد الجرائم الرئيسية في الولايات المتّحدة زاد السنة الماضية للمرة الأولى فطبقا لإحصائيات مكتب التحقيقات الفدرالي: تضمّنت الزيادة 3.1 بالمائة إرتفاع في جرائم القتل ذكر بأقسام الشرطة في عموم البلاد، سويّة مع القفزات الهامّة في أعداد السرقات وسرقة سيارات، طبقا لمسح مكتب التحقيقات الفدرالي التمهيدي، الذي حصل عليه بالواشنطن بوست. عموما فإن الجرائم الرئيسية في 2001 كانت 2 بالمائة من السنة سابقة..
يجيء الانعكاس وسط الضغوط الرخيصة على العديد من أقسام الشرطة المحليّة بسبب الانحطاط السريع في عائدات الضريبة التي تجمّع بالحكومات الرسمية والمحليّة. بالإضافة، مكتب التحقيقات الفدرالي ـ الذي كان متورطاً جدا في المخدرات الرئيسية وتحقيقات العصابة ـ في وسط إعادة تنظيم رئيسية التي ستؤدّي إلى انتباه أقل إلى الجرائم التقليدية لمصلحة الجهود التي استهدفت إحباط الهجمات الإرهابية.
وقد حذّر العديد من رؤساء الشرطة وcriminologists بأنّ السيول في أعداد المراهقين وإطلاق سراح السجناء، سويّة مع الانحطاط الاقتصادي الأخير، يهدّد بعودة أن ترتفع جريمة.
إن مسح مكتب التحقيقات الفدرالي لا يعطي التفاصيل حول الضواحي المعيّنة، ولو أنّ تقارير جريمة في المناطق في ضاحية المدينة عموما كانت فوق 2.2 بالمائة. فقط المنطقة الشمالية الشرقية. الزيادة الأكبر كانت في الولايات الغربية، تلى بالجنوب ووسط الغرب، مكتب التحقيقات الفدرالي قال:
(1/58)
الوفيّات من هجمات 11 سبتمبر/أيلول استثنيت من حسابات مكتب التحقيقات الفدرالي. إذا تلك الوفيّات اعتبرت حالات القتل، مكتب التحقيقات الفدرالي قال، عدد جرائم القتل كان سيزيد ب26 بالمائة من 2000.
(كرمينولوجيستس) منقسم على الذي يسبّب نسب الجريمة للزيادة، ولو أنّ أكثر يعتقد بأنّ الاقتصاد والخصائص السكانية تلعب أدوار حاسمة. رايلي وخبراء الجريمة الآخرين قالوا نهوض السنة الماضي يمكن أن يوضّحوا على الأقل جزئيا باقتصاد راكد.
بالإضافة، عدد النزلاء أصدر من السجون الرسمية والاتحادية السنة الماضية ارتفعت لأكثر من 600,000 كما الكثير أدانوا أثناء وباء كراك كوكائين أواخر الثمانينات عادت إلى الشوارع، طبقا للتخمينات الاتحادية. مسؤولوالشرطة أيضا قلقون بشأن زيادة مستمرة في السكان المراهقين، الذي كان من الناحية التاريخية المجموعة العمرية على الأغلب لارتكاب الجرائم.
“انتهت فترة جريمة التسعينيات العظيمة بالتسعينيات؛ تجلب الألفية الجديدة صورة مختلفة، “قال جيمس ألن فوكس، أستاذ عدالة إجرامي في الجامعة الشمالية الشرقية في بوسطن. “هذا يخبرنا نحن لا يمكن أن نكون راضين حول مستويات الجريمة. نحن يجب أن إعادة تشدّد جهودنا.”
أغلب زيادة الجريمة في 2001 قيدت بالقفزات في جرائم الملكية المختلفة — بقيادة سرقة السيارات في 6 بالمائة — بينما العدد العامّ للجرائم العنيفة إرتفع بنسبة أقل من 1 بالمائة.
(1/59)
وقال خبراء الجريمة الارتفاعات في جرائم القتل والسرقات كانتا تقلقان خصوصا بسبب التأثير الحادّ عندهم على الأحياء والجاليات.زادت حالات القتل بحدّة في العديد من المدن الأمريكية السنة الماضية، بضمن ذلك قفزة من 67 بالمائة في بوسطن ونسبة مئوية ثنائية في (هيوستن ) و(أتلانتا) و(سانت لويس) و(فينكس).. وقد زادت جرائم القتل أيضا في النسب الأصغر في شيكاغو ولوس أنجليس”(1)
أقول: “هكذا تبين لنا الإحصائيات بصفة قاطعة أن الشريعة حين احتفلت بجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية على قلة عدد هذه الجرائم إنما قصدت أن تقضي على أكثر الجرائم تكراراً وأشدها هولاً، أو قصدت أن تقضي على الجرائم قضاء مبرماً، والواقع أننا لو رفعنا من الإحصائيات جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية لما بقي في الإحصائيات إلا الجنايات والجنح التافهة أو الاعتبارية التي لا تخل بالأمن ولا تزعزع النظام ولا تؤذي الأخلاق والتي يكفي في ردع مرتكبيها عقوبات التعزير المختلفة.
(7) شبهة: “هذه العقوبة بشعة، تضعف شعور الجمهور بالإنسانية وبقيمة الحياة البشرية.
الرد عليها:
أقول: لقد اتفقت جميع الملل والنحل منذ بدء الخليقة على بشاعة جريمة القتل العدوان، وأن المجرم بفعله الشنيع قد سلخ نفسه من الإنسانية. ولذلك فإنه يستحق القتل جزاء ما كسبت يداه فما بالهم يشفقون على المجرم، ولا يشفقون على المجني عليه وأوليائه، والإنسانية المهددة. إذن فالجاني الذي لم يرحم المجني عليه ولم تأخذه بالقتيل شفقة ولا رأفة لا يستحق بالمقابل شفقة ولا رأفة ولا رحمة ومن لم يرحم لا يرحم.. جزاءً وفاقاً لما اقترفت يداه..
وليست حياة الجاني أفضل من حياة المجني عليه لذا فإن المنطق السليم أن يكون الجزاء من جنس العمل.
__________
(1) جريدة الواشنطن بوست بتصرف/ بتاريخ 23/ 6/ 2002 من موقع الجريدة على الأنترنت: www.washingtonpost.com
(1/60)
إن الشريعة الإسلامية كالطب، فإذا وجد بإنسان عضو تالف أو عاطب يهدد حياته بالموت والهلاك، فخير لنا أن نقطع هذا العضو حتى نحافظ على حياة الشخص لأن العضو الفاسد يؤدي إلى سراية بالبدن وبالتالي يؤدي إلى قتل صاحبه، فهو بمثابة (الغنغرينا) التي لا حل لها إلا البتر والقطع ، فعلى الطبيب أن يقطع هذا العضو، ليحافظ على سائر الجسد.. وهكذا فبالقصاص نستطيع أن نتخلص من هذا المجرم حتى نحافظ على استقرار المجتمع وعلى الحياة الإنسانية الكريمة.
الفصل الثالث
الفصل الثالث
استيفاء القصاص
نتكلم في هذا الفصل عن مستحق القصاص ومستوفيه وقد قسمته إلى عدة مباحث:
المبحث الأول: مستحق القصاص ومستوفيه.
المبحث الثاني: شروط استيفاء القصاص.
المبحث الثالث: كيفية استيفاء القصاص.
المبحث الأول
مستحق القصاص ومستوفيه
اتفق الفقهاء على أن مستحق القصاص هو ولي الدم لقوله تعالى (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً)(1) لكن العلماء اختلفوا في الولي الذي له حق استيفاء القصاص على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
يستحق القصاص جميع الورثة على فرائض الله تعالى سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، وبه قال الحنفية والشافعية والحنابلة وفي قول للشافعية يستحقه الوارث من النسب دون السبب.
وقد احتج أصحاب هذا الرأي على أن الدم حق لجميع الورثة من الرجال والنساء بعدة أدلة منها:
__________
(1) الإسراء: 33.
(1/61)
أولاً: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها من كانوا، ولا يرثوا إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها، وهم يقتلون”(1)
ثانياً: حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول، فالأول، وإن كانت امرأة”(2)
وأراد بالمقتتلين أولياء المقتول الطالبين القود وينحجزوا: أي ينكفوا عن القود بعفوا أحدهم ولو كان امرأة وقوله: الأول فالأول: أي الأقرب فالأقرب”(3)
ثالثاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُفْدَى وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ)(4)
القول الثاني:
__________
(1) رواه الخمسة إلا الترمذي.. قال الشوكاني: حديث عمرو بن شعيب في إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكجولي وقد وثقه غير واحد وتكلم فيه غير واحد وحديث عائشة في اسناده حصن بن عبد الرحمن. ويقال ابن محصن أو حذيفة الدمشقي قال أبو حاتم الرازي: لا أعلم روى عنه غير الأوزاعي راجع: نيل الأوطار/ الشوكاني/ ج7 / ص32
(2) رواه أبو داود والنسائي.
(3) الشوكاني: نيل الأوطار/ ج7 /ص33
(4) رواه مسلم: في باب الحج رقم الحديث 33171 وفي البخاري رقم الحديث: 6880.
(1/62)
وهو قول المالكية إذ يرون أن استيفاء القصاص للعصبة الذكور فلا دخل فيه لزوج إلا أن يكون ابن عم لزوجته المقتولة ولا يكون لذوي الأرحام ولا لأصحاب الفروض من غير العصبات كأولاد الأم والجدات من جهة الأم أو جهة الأب، ولا يكون للمرأة حق في القصاص: “قال ابن خويز منداد: الولي يجب أن يكون ذكراً؛ لأنه أفرده بالولاية بلفظ التذكير. وذكر إسماعيل بن إسحاق في قوله تعالى: (فقد جعلنا لوليه) ما يدل على خروج المرأة من مطلق لفظ الولي، فلا جرم، ليس للنساء حق في القصاص لذلك ولا أثر لعفوها، وليس لها الاستيفاء”(1)
لكن المالكية يقولون: للمرأة حق في القصاص إذا توفرت فيها شروط ثلاثة:
“أولاً: أن تكون وارثة كبنت أو أخت. ثانياً: أن لا يساويها عاصب في الدرجة بأن لا يساويها أصلاً أو وجد أنزل منها درجة كالعم مع البنت أو الأخت، وعلى هذا ليس للبنات مع البنين ولا الأخوات مع الأخوة قول في قصاص أو عفو.
ثالثاً: أن تكون بحيث لو كان في درجتها رجل ورث بالتعصيب وعلى هذا تخرج الأخت للأم والزوجة والجدة لأم. وترتب درجات الأولياء على ترتيب العصبات على ذلك الرأي، فتقدم جهة البنوة على جهة الأبوة، وجهة الأبوة على جهة الأخوة، بيد أن الجد يكون في درجة الأخوة والأخوات الشقيقات أو الأب، وكذلك الأخوة والجد المباشر يقدمون على أولاد الإخوة، وهكذا يكون الترتيب على مذهب مالك”(2)
__________
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن/ج10 / ص259.
(2) ابن رشد: بداية المجتهد/ ج2 /ص413 وص414 بتصرف. وانظر: الدسوقي: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير /ج4 /ص256 . وعبد القادر عوده: التشريع الجنائي الإسلامي/ ج2 /ص140. وأبو زهرة: العقوبة/ص378 بتصرف.
(1/63)
“وحجة هذا القول تقوم على ثلاثة اعتبارات: أولها: أن هؤلاء (العصبة) هم أقرب الناس إليه (القتيل) بدليل اختصاصهم بأعظم تركته، والحديث الذي أثبت الميراث لهم بعد بيان أنصبتهم في كتب الله تعالى صرح بعبارة تفيد أن السبب هو الأقرب، فقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ (ما بقي بعد أصحاب الفرائض، فلأقرب رجل ذكر). الثاني: من الإعتبارات التي أوجبت أن تكون الولاية لهم أنهم هم الذين يعقلون عنه إذا جني، فكان ذلك دليلاً على كمال المعاونة بينهم وبينه، وبتلك المعاونة يكونون أحق بالمطالبة بدمه، لأنه عضو فقدوه من بين الأعضاء في الأسرة.
الثالث: من الاعتبارات أن الأقارب هم الذين تكون بهم النصرة، وهم الذين يلحقهم العار إذا ذهب دمه هدراً ولم يقتص له، وقد كان الناس في الجاهلية يأخذون ثأرهم، ويشفون غيظ نفوسهم، ويشتطون شططاً كبيراً، فجاء الإسلام، ولم يجعل القصاص للولي ولكن جعل له سلطاناً في المطالبة أو التنازل للعصبة، الذين كانوا يثورون في الجاهلية لدم قتيلهم، لو كان في حدود الشرع، ومن غير أن يمتد إلى غيره بغير حق، وغير مقاضاة يجري فيها الإدعاء والإثبات، ولا تتجاوز القصاص، فالنفس بالنفس وإن هلكت”(1)
القول الثالث: للظاهرية:
__________
(1) أبو زهرة: العقوبة /ص378.
(1/64)
حق طلب القصاص لأهل القتيل سواء كانوا ورثة أو غير ورثة رجالاً أو نساء لقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) وقوله صلى الله عليه وسلم : (من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يأخذوا العقل وبين أن يقتلوا) فجعل الله تعالى القصاص حقاً وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل القتيل بين خيرتين: إما أخذ العقل وإما القتل، فساوى بين الأمرين أيهما شاءوا. واحتج ابن حزم بحديث عبيد الله بن عمر القواريري وساق بسنده عن رافع بن خديج :”أن محيصة بن مسعود، وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل، فاتهموا اليهود، فجاء أخوة عبد الرحمن، وابنا عمه حويصة، ومحيصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه ـ وهو أصغر منهم ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبر، الكبر، أو قال: ليبدأ الأكبر؟ فتكلما في أمر صاحبهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم خمسون منكم على رجل عنهم فيدفع برمته؟ فقالوا: أمر لم نشهده فكيف نحلف؟ وذكر باقي الخبر. ففي هذا الخبر الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الحق في طلب الدم لابن العم لسنه، كما جعله للأخ للأب الوارث دون ابن العم، وأنه عليه الصلاة والسلام بدأ ابن العم لسنه ـ فبطل بهذا قول من راعى أن الحق للأقرب فالأقرب، أو للوارث دون غيره. وصح أن الحق للأهل كما جاء في القرآن، والسنة الصحيحة، وابن العم من الأهل بلا شك في لغة العرب ـ وهذا هو الإجماع الصحيح، لأنه كان يعلم الصحابة بالمدينة إذ قتل مثل عبد الله بن سهل، وقيام بني حارثة في طلب دمه لا يمكن استتار مثله عن أحد من قومه، وعن المهاجرين، فإذاً الحق للجميع سواء، فمن الباطل أن يغلب أحدهم على الآخرين منهم إلا بنص، أو اجماع ـ ولا نص ولا إجماع في ذلك”(1)
القول الرابع: رأي الإمامية
__________
(1) ابن حزم: المحلى / تحقيق عبد الغفار البنداري/ج11 /ص126 و 127.
(1/65)
قال في شرائع الإسلام: “ويرث القصاص من يرث المال عدا الزوج والزوجة فإن لهما نصيبهما يتقرب بها، وهو الأظهر، وقيل ليس للنساء عفو ولا قود على الأشبه”(1)
إذن هناك عدة روايات لدى الإمامية في مستحق استيفاء القصاص:
الأول: يرث القصاص من يرث المال، عدا الزوج والزوجة. فإن لهما نصيبهما من الدية في عمد أو خطأ.
الثاني: لا يرث القصاص إلا العصبة دون الإخوة والأخوات من الأم ومن يتقرب بها، وهو الأظهر.
الثالث: وقيل ليس للنساء عفو ولا قود على الأشبه.
قال الطوسي: “لا ترث الزوجة من القصاص شيئاً وإنما يرثه الأولياء فإن قبلوا الدية كان لها نصيبها منها. ثم قال: دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم”(2)
يتضح فيما سبق أن اختلاف الفقهاء فيمن يستحق القصاص ينحصر في التالي: فمنهم من خص استحقاق القصاص بالعصبة ومنهم من جعله للورثة جميعهم رجالاً ونساء، ومنهم من جعله للورثة من النسب دون السبب، ومنهم من أطلق ذلك للأقرباء دون تمييز بين رجل أو امرأة وارث أو غير وارث.
الرأي المختار:
والذي نميل إليه من جملة هذه الآراء هو مذهب الظاهرية الذي يرى أن حق طلب القصاص لأهل القتيل سواء كانوا ورثة أو غير ورثة رجالاً أو نساء وهذا ما ذهب إليه ورجحه الشيخ محمد أبو زهرة إذ قال: “والذي نراه هو مذهب أهل الظاهر، وهو شمول القصاص لكل الأقارب لأن جميع الأقارب ينالهم الأذى بقتله، وطلب الدم فيه يخفف الأذى عن نفوسهم، وإن توسعة حق المطالبة بالقصاص يقرب المعنى مما يجري بين أهل القانون الذي يعتبرونه حقاً عاماً.”(3) ويعتبر رأي ابن حزم أقرب الأراء لما يطبق في القانون الوضعي فالقانون الوضعي المصري يعطي الحق لكل من له صفة في دعوى القتل أن يتابع الدعوى كمدع بالحق المدني و في حالة الحكم على الجاني فإنه يحق للمدعي بالحق المدني رفع دعوى تعويض ضد المتهم.
__________
(1) الحلي: شرائع الإسلام/ج8 / ص226.
(2) الطوسي: الخلاف /ج2 /ص344.
(3) أبو زهرة: العقوبة /ص379.
(1/66)
السلطان ولي من لا ولي له
من الذي يتولى القصاص إذا لم يكن للمقتول ولي ؟
لقد قرر الفقهاء : “أن السلطان هو ولي الدم، ولا يتأتى العفو لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السلطان ولي من لا ولي له) فالولاية العامة التي تثبت لولي الأمر تقوم مقام الولاية الخاصة، إذا لم يوجد ولي لها، فإذا قتل لقيط غير معروف الأب ولا الأم، وبالتالي لا تعرف له قرابة، فإن ولي الأمر هو الذي يتولى القصاص له ممن قتل، إذ أن ماله يؤول إلى بيت المال، فهو في حكم وارثه، على رأي بعض الأئمة، وإذا كان كذلك فهو يتولى القصاص إذا ثبتت شروطه باعتباره وارثاً أو كالوارث، وبمقتضى الولاية العامة على خلاف في ذلك لأبي يوسف. والحربي إذا جاء إلى دار الإسلام وأسلم فيها، فإنه لا يعرف له أقارب في دار الإسلام، فإنه من المؤكد ليس في دار الإسلام أقارب يمكن أن يطلبوا بدمه فتكون الولاية للسلطان على أي مذهب من المذاهب.
والذين يشترطون التعصيب يعتبرون الولي غير موجود إذا لم تكن هنالك عصبة في دار الإسلام، فتكون الولاية للسلطان، لأنهم قصروا الولاية الخاصة على العصبات، فلا تكون لذوي الأرحام. ومن يشترطون الميراث للولاية، فإنه إذا لم يكن ثمة وارث تكون الولاية أيضاً للسلطان، لأنه ولي من لا ولي له، وذلك كمسيحي يسلم، ثم يقتل بعد إسلامه، وليس له أقارب إلا من المسيحيين، وهؤلاء لا يرثونه إذا مات، ففي هذه الحال ليس له ولي إلا ولي الأمر، لعدم وجود الولاية الخاصة. والذين يجعلون الولاية للأقارب مطلقاً بمقتضى تطبيق مذهبهم يكون للأقارب المطالبة بالدم لتحقيق القرابة، ــ فإذا لم يوجد قرابة فالسلطان ولي الدم في هذه الحالة ــ والله سبحانه وتعالى أعلم”(1)
المبحث الثاني
شروط استيفاء القصاص
يشترط في استيفاء القصاص عدة شروط على النحو التالي:
الشرط الأول
أن يكون المستحق للقصاص مكلفاً
__________
(1) أبو زهرة: المرجع السابق/ص379.
(1/67)
اتفق الفقهاء على أن غير المكلف ليس أهلاً للاستيفاء بعد تكليفه بدليل أنه لا يصح إقراره ولا تصرفه. فإن كان مستحق القصاص صغيراً أو مجنوناً لم يجز لوليه استيفاؤه ويحبس القاتل إلى أن يزول المانع أي حتى يبلغ الصغير ويعقل المجنون. وحجتهم في ذلك: أن فيه حظاً للقاتل بتأخير قتله. ولأن فيه حظاً للمستحق بإيصاله إلى حقه، لأنه استحق قتله، وفيه إتلاف نفس ومنفعة، فإذا تعذر استيفاء النفس لعارض بقي إتلاف المنفعة سالماً عن المعارض. ولا يخلى القتيل بكفيل، لأنه قد يهرب، ويفوت الحق. ولذا لا يجوز لولي الصغير أو المجنون استيفاء القصاص، لأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ وذلك لا يحصل باستيفاء الولي. فإن أراد الولي أن يعفو عن القود إلى غير مال لم يجز، لأنه لا يملك إسقاط حق الصغير أو المجنون، وإن أراد أن يعفو إلى مال فإن كان للصبي أو المجنون كفاية من غيره لم يجز: لأن فيه تفويت حقه من غير حاجة. فإن كان فقيراً فلولي المجنون العفو على المال، لأنه ليست حالة معتادة ينتظر فيها رجوع عقله أما ولي الصغير ففيه قولان:
أحدهما: يجوز لحاجته إلى المال لحفظه. رجحه ابن قدامة الحنبلي.
الثاني: لا يجوز لأنه لا يملك استيفاء حقه من القصاص ولا يملك إسقاط قصاصه، وأما حاجته، فإن نفقته في بيت المال، ورجحه صاحب الروضة لأن للصبي غاية تنتظر بخلاف المجنون، وصحح ابن قدامة الحنبلي الأول، لأن وجوب النفقة في بيت المال لا يغنيه إذا لم يحصل.
(1/68)
وإن وثب الصغير أو المجنون فقتل القاتل فهل يصير مستوفياً؟ وجهان عند الشافعية: أحدهما: لا يصير مستوفياً، لأنه ليس من أهل الإستيفاء. والثاني: يصير مستوفياً كما لو كانت له وديعة فأتلفها. ورجح الشافعية الأول، وبالثاني قال الحنابلة(1)
ومن القائلين بانتظار بلوغ الصبي وعدم استيفاء وليه له: الإمامية قال في شرائع الإسلام: “وقال لو كان الولي صغيراً، وله أب أو جد لم يكن لأحد أن يستوفي حتى يبلغ، سواء كان القصاص في النفس أو في الطرف، وفيه إشكال، وقال: يحبس القاتل حتى يبلغ الصبي أو يفيق المجنون وهذا أشد إشكالاً من الأول”(2)
وللحنفية قولان:
__________
(1) النووي: روضة الطالبين /ج9 /ص214. وشرح منهاج الطالبين /ج2 /ص122. ومغني المحتاج /ج4 / ص40. وتكملة المجموع /ج17 / ص283. وكذا: ابن قدامة: المغني /ج9 / ص349 .. البهوتي: كشاف القناع عن متن الإقناع / ج5 /ص533.
(2) الحلي: شرائع الإسلام/ج8 /ص230.
(1/69)
قال بعضهم ينتظر بلوغ الصبي. وقال بعضهم: يستوفيه القاضي. وذهب الحنفية إلى أن الأبوة من ولاية استيفاء القصاص فللأب والجد أن يستوفي قصاصاً وجب للصغير في النفس وفيما دون النفس، لأن هذه ولاية نظر ومصلحة كولاية الانكاح فتثبت لمن كان مختصاً بكمال النظر والمصلحة في حق الصغير. وكذلك لأبي المعتوه القود والصلح على مال لأن في الصلح منفعة للمعتوه. والأب له تمام الشفقة والرأفة. وله ولاية على المعتوه فقام مقامه. وذكر بعضهم أن الصلح لا يكون على أقل من الدية. فإن كان على أقل لم يجز ويجب كمال الدية. وقال بعضهم: لأبي المعتوه مطلق الصلح من غير قيد بقدر الدية، فيجوز الصلح على أقل من الدية، وإنما جاز صلحه على المال، لأنه أنفع للمعتوه من القصاص، فإن جاز استيفاء القصاص فالصلح أولى، والنفع يحصل بالقليل والكثير. أما القصاص فالصلح أولى، والنفع يحصل بالقليل والكثير. أما القتل فلأن القصاص شرع للتشفي ودرك الثأر، وكل راجع إلى النفس بولايته ولاية على نفسه فيليه كالانكاح كما ذكرنا؛ بخلاف غير الأب كالأخ وأمثاله، حيث لا يكون لهم استيفاء قصاص وجب للمعتوه، لأن الأب لوفور شفقته جعل التشفي الحاصل للإبن، ولهذا يعد ضرر ولده ضرراً على نفسه. وأما العفو على غير مال فلا يصح، لأنه إبطال لحقه بلا عوض ولا مصلحة فلا يجوز. وأما الوصي فلا يلي استيفاء القصاص في النفس، لأن تصرف الوصي لا يصدر عن كمال النظر، والمصلحة في حق الصغير لقصور في الشفقة الباعثة عليه بخلاف الأب والجد أما القاضي فهو كالأب في استيفاء القصاص في الصغير الذي لا ولي له وهو ما قاله المتأخرون وذكره الناطفي أنه لا يملك(1)
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع /ج10 /ص4639. وتكملة البحر الرائق/ ج8 / ص342.
(1/70)
وللمالكية: “لولي الصغير من أب أو غيرهما إذا استحق الصغير قصاصاً وحده بلا مشاركة كبير أن يقتص من القاتل قبل بلوغ الصغير، وله أن يأخذ الدية كاملة، ويجب عليه فعل الأصلح من القصاص أو الدية، فإن صالح ولي الصغير الجاني على أقل من الدية مع مال الجاني رجع الصغير بعد رشده على القاتل، ولا يرجع القاتل على الولي بشئ. وإن صالحه مع عسر الجاني على أقل من الدية جاز”(1)
وقال ابن رشد: “ويلزم على هذه الرواية إذا كان للمقتول أولياء صغار وكبار أن يؤخر القتل إلى أن يكبر الصغار، فيكون لهم الخيار، ولا سيما إذا كان الصغار يحجبون الكبار؛ مثل الذين مع الأخوة. قال القاضي: وقد كانت وقعت هذه المسألة بقرطبة حياة جدي ـ رحمه الله ـ فأفتى أهل زمانه بالرواية المشهورة، وهو ألا ينتظر، فأفتى هو ـ رحمه الله ـ بانتظاره على القياس، فشنع عليه أهل زمانه ذلك عليه لما كانوا عليه من شدة التقليد حتى اضطر أن يطبع في ذلك قولاً ينتصر فيه لهذا المذهب”(2)
أقول: يتضح من كلام ابن رشد أن فقهاء الأندلس قبل وأثناء حياة جده كانوا لا ينتظرون حتى يكبر الصغير حتى جاء جده وألف رسالة يؤيد مذهب الانتظار حتى يكبر الصغير. وقال الظاهرية: “والذي نقول به إن القول قول من دعا إلى القود فللكبير، وللحاضر العاقل: أن يقتل ولا يستأني بلوغ الصغير، ولا إفاقة المجنون، ولا قدوم الغائب”(3)
الشرط الثاني
اتفاق المستحقين على استيفاء القصاص
__________
(1) الدسوقي: الشرح الكبير وحاشية الدسوقي/ج4 /258. مالك بن أنس: المدونة / ج16 / ص243.
(2) ابن رشد: بداية المجتهد/ج2 / ص479.
(3) المحلى / ج11 / ص131 بتصرف يسير.
(1/71)
ذكر الفقهاء هذه المسألة في كتبهم وخلاصتها كالتالي: إذا تعدد الأولياء وكانوا جميعاً مكلفين، فلا بد من اتفاقهم على استيفاء القصاص إن أرادوه، لأن الاستيفاء حق مشترك لجميع المستحقين لا يمكن تبعيضه، فلم يكن لبعضهم الاستقلال به، فلا يستوفيه بعضهم دون بعض، لأنه يكون مستوفياً لحق غيره بغير إذن، ولا ولاية له عليه، فأشبه الدين. لكن الظاهرية والإمامية لهم رأي مخالف.
ففي كتب الشافعية والحنابلة: فإن بادر أحد المستحقين وقتل الجاني بغير إذن الباقي فلا قصاص عليه عند جمهور الفقهاء، لأنه مشارك في استحقاق القتل، فلم يجب عليه قود، كما لو كان مشاركاً في ملك جارية، ووطئها فلا حد عليه. وللشافعية قول بأنه يجب القود على المبادر، لأنه اقتص في أكثر من حقه، فيجب عليه القصاص كما لو وجب له القصاص في طرفه فقتله، ولأن القصاص يجب بقتل بعض النفس إذا عري عن الشبهة، ولهذا يجب على كل واحد من الشريكين في القتل ـ في حالة كونهما اثنين ـ وإن كان قاتلاً لبعض النفس، والنصف الذي لأخيه لا شبهة فيه، فوجب عليه القصاص بقتله. واستظهر صاحب الروضة الأول وهو عدم القود على المبادر، وصححه صاحب المهذب. وعلى ذلك إذا لم يقتص من المبادر فلشريكه أو شركائه حقهم من الدية عند الشافعية والحنابلة، ولكن ممن يأخذها الشريك، قولان: أحدهما: من المبادر. وأظهرهما: من تركة الجاني. قاله في الروضة. وفي العدة: وعلى المبادر قسط شريكه من الدية، لأنه استوفى جميع النفس وليس له إلا بعضها وهل يرجع شريكه عليه بما استحق أو يرجع إلى مال القاتل؟ فيه وجهان: أحدهما: يرجع على شريكه، لأنه أتلف حقهما جميعاً فكان الرجوع عليه بعوض نصيبه، كما لو كانت لهما وديعة فأتلفها. والثاني: يرجع في مال القاتل ثم يرجع ورثة القاتل على قاتله لأن حقه من القصاص سقط بغير اختياره فوجبت له الدية في مال القاتل، كما لو قتله أجنبي، وفارق الوديعة، فإن أجنبياً لو أتلفها كان الرجوع عليه،
(1/72)
فكذلك شريكه وههنا بخلافه، لأن القاتل لو قتله أجنبي لم يجب حقه عليه.(1) وفي كتب الحنفية والمالكية: إن المبادر بقتله الجاني يكون قد استوفى القصاص للجميع. فليس لشركائه شئ من المال. لأن حقهم من القصاص قد قام به أحدهم. حتى إن الحنفية والمالكية يقولون: لو أن رجلاً قتل جماعة فبادر أحد أولياء الجماعة وقتل القاتل فلا شئ لأولياء الآخرين وسقط حقهم لفوات محل الاستيفاء.(2)
أما الظاهرية فقالوا: “إن اتفاق المستحقين على استيفاء القصاص ليس بشرط، فإذا طلب أحدهم القود قضي له به”(3)
وقال الإمامية: “لم يجز الاستيفاء إلا بعد الاجتماع، إما بالوكالة أو بالإذن لواحد، وفي قول: يجوز لكل منهم المبادرة. ولا يتوقف على إذن الآخرين ولكن يضمن حصص من لم يأذن”(4)
قال الطوسي: “إذا قتله رجل عمداً ووجب القصاص على قاتله وكان له ابنان أو أكثر من ذلك كان لهم قتله قوداً مجتمعين بلا خلاف، وعندنا أن لكل واحد من الأولياء قتله منفرداً أو مجتمعاً ولا يقف ذلك على إذن الباقين فإن بادر أحدهم بقتله لا يخلو الباقون من أحد أمرين: إما أن يكونوا عفواً عن نصيبهم أو لم يعفوا فإن لم يعفوا ضمن هذا القاتل نصيبهم من الدية وإن كانوا قد عفوا ضمن مقدار ما عفى الأولياء لأولياء المقاد منه من الدية”(5)
__________
(1) النووي: روضة الطالبين/ ج9 / ص216 وص217.. والمهذب/ ج2 /ص184. والبهوتي: كشاف القناع / ج5 /ص534. والمقدسي: العدة شرح العمدة / ص496 وص497 بتصرف.
(2) مالك بن أنس: الموطأ شرح الزرقاني /ج5 /ص175 بتصرف . منلا خشرو: درر الحكام في شرح غرر الأحكام /ج2 /ص95..
(3) ابن حزم: المحلى /ج11 /ص130.
(4) الحلي: شرائع الإسلام / ج8 / ص230
(5) الطوسي: الخلاف /ج2 /ص360.
(1/73)
أقول: نرى أن الرأي القائل بلا قود على المبادر لاستحقاقه وهذا يتفق ومذهب الظاهرية وبه قالت الحنابلة والراجح في مذهب الشافعية والمنصوص عليه في فقه الإمامية إذ لا قود على المبادر لكنه ضامن نصيب باقي الأولياء من الدية.
لكن بقيت مسألة ذكرها الفقهاء متعلقة بهذا الموضع وهي: إذا كان بعض المستحقين كباراً غائبين، وبعضهم حاضرين، أو كان بعض الأولياء قاصرين لجنون أو صغر، فاختلف الفقهاء في ذلك:
الحالة الأولى: إذا كان في المستحقين غائب: اختلف الفقهاء فيه على قولين:
القول الأول: لا يجوز للحضور استيفاء القصاص إذا كان أحد الأولياء غائباً فلا بد من انتظار عودة الغائب، لاحتمال عفوه، فلا يستوفى مع الشك، ولا يختص باستيفائه بعض المستحقين دون بعض. وبه قال الحنفية والشافعية والمالكية مع تفصيل في ذلك والحنابلة.(1)
أما عن تفصيل المسألة لدى المالكية:
لقد فرق المالكية بين ما إذا كانت غيبة الولي المستحق مع الحاضر غيبة بعيدة، وبين ما إذا كانت غيبته قريبة إلا أن ظاهر نص المدونة اطلاق ذلك إذا لم تفرق بين الغيبة البعيدة أو القريبة.
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع / ج10 /ص4639 . مالك بن أنس: المدونة /ج16 ص238. المقدسي: العدة شرح العمدة /ص496.
(1/74)
جاء في المدونة: “قلت: أرأيت لو أن رجلاً قتل وله ابنان أحدهما حاضر، والآخر غائب، فأراد الحاضر أن يقتل. قال: قال مالك: ليس له ذلك إنما له أن يعفو فيجوز العفو على الغائب وأما أن يقتل فليس ذلك له حتى يحضر الغائب” وفي أقرب المسالك: “وانتظر غائب قربت غيبته لا بعيد. وهو قول ابن القاسم في المجموعة” وقال سحنون: “ينتظر الغائب إلا أن يبعد جداً أو ييأس منه كالأسير ونحوه. وقال بعضهم: إن هذا تقييد للمدونة. وقال بعضهم: إن كلام سحنون مقابل للمدونة لا تقييد لها وأنها باقية على إطلاقها، وممن قال بذلك ابن رشد وأبو عمران واختاره ابن عرفة. والغيبة القريبة بحيث تصل الأخبار للغائب. والظاهر أنهم إذا غابوا كلهم انتظروا مطلقاً قربت الغيبة أو بعدت”(1)
القول الثاني: يجوز للحضور استيفاء القصاص، فلا يشترط حضور الغائب. وبه قال أهل الظاهر(2) والإمامية بشرط أن يضمن المستوفي حصة الغائب من الدية. قال في الخلاف: إذا كان أولياء المقتول جماعة لا يولى على مثلهم جاز لواحد منهم أن يستوفي القصاص وإن لم يحضر شركاؤه سواء كانوا في البلد أو كانوا غائبين بشرط أن يضمن لمن لم يحضر نصيبه من الدية. ثم قال: ودليلنا إجماع الفرقة. وأيضاً قوله تعالى: (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً) وهذا ولي، فيجب أن يكون له سلطان).(3)
الحالة الثانية: إذا كان من المستحقين للقصاص صغير أو مجنون. اختلف الفقهاء في جواز استيفاء القصاص للعاقل الكبير إذا وجد معه صغير أو مجنون مستحق للقصاص على قولين:
__________
(1) مالك بن أنس: المدونة/ ج16 / ص238. والشرح الصغير على أقرب المسالك/ ج4 / ص359. وحاشية الصاوي على الشرح الصغير/ ج4 /ص359. = وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير /ج4 / ص257. ووراجع أيضاً: جواهر الإكليل /ج2 /ص262.
(2) : ابن حزم: المحلى /ج11 /ص131.
(3) الطوسي: الخلاف /ج2 /ص357. والحلي: شرائع الإسلام /ج8 /ص231.
(1/75)
القول الأول: يجوز للكبير والعاقل أن يستوفي القصاص قبل بلوغ الصغير وإفاقة المجنون. وبه قال أبو حنيفة ومالك وأهل الظاهر والإمامية وهو رواية عن الإمام أحمد. ويشترط الإمامية أن يضمن المستوفي حصة الصغير والمجنون من الدية.
وقد أوضح الحنفية وجهة نظر أبي حنيفة في ذلك واحتجوا بما يلي:
أولاً: إن القصاص يثبت ابتداء للورثة لا بحق الوراثة، وإنما بحق القرابة لأنه لو كان بحق الوراثة لكان مؤدى ذلك أن يثبت ابتداء للميت، ثم عن طريقه يكون للورثة. لكن لما كان المقصود من القصاص هو التشفي. وأنه لا يحصل للميت ويحصل للورثة فكان حقاً لهم ابتداء والدليل على أنه يثبت لكل واحد منهم على الكمال كأن ليس معه غيره لا على سبيل الشركة أنه حق لا يتجزأ، والشركة فيما لا يتجزأ محال، إذ أن الشركة المعولة هي أن يكون البعض لهذا والبعض لذلك كشريك الأرض، وذلك فيما لا يتبعض محال. والأصل أن ما لا يتجزأ من الحقوق إذا ثبت لجماعة وقد وجد سبب ثبوته في حق كل واحد منهم يثبت لكل واحد منهم على سبيل الكمال، كأن ليس معه غيره كولاية الانكاح وولاية الأمان”(1)
ثانياً: “لما جرح ابن ملجم ـ لعنه الله ـ علياً كرم الله وجهه قال للحسن رضي الله إن شئت فاقتله وإن شئت فاعف عنه وإن تعفو خير لك فقتله سيدنا الحسن رضي الله عنه وكان في ورثة سيدنا علي رضي الله عنه صغار”(2)
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع /ج7 / ص240
(2) السابق /ج7 /ص240.
(1/76)
وجه الدلالة في هذا الخبر من وجهين كما يقول الكاساني: “أحدهما: يقول سيدنا علي رضي الله عنه والثاني: بفعل سيدنا الحسن رضي الله عنه؛ أما الأول فلأنه خيّّر سيدنا الحسن رضي الله عنه حيث قال: إن شئت فاقتله.. مطلقاً من غير التقييد ببلوغ الصغار وأما الثاني: فلأن الحسن رضي الله عنه قتل ابن ملجم ـ لعنه الله ـ ولم ينتظر بلوغ الصغار وكل ذلك بمحضر من الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولم ينقل أنه أنكر عليهما أحد فيكون إجماعاً”(1)
القول الثاني: لا يجوز للكبير أن يستوفي القصاص دون الصغير، ولا للعاقل دون المجنون لأن استيفاء القصاص مشترك بينهما فلا يجوز لأحدهما أن ينفرد به. ولذلك لا بد من تأخير القصاص إلى وقت بلوغ الصغير وإفاقة المجنون. ويحبس القاتل إلى أن يبلغ الصغير ويفيق المجنون لاحتمال عفوه وبه قال: أبو يوسف ومحمد من الحنفية، والشافعية والحنابلة.. قال في شرح العمدة: “وإن ثبت لمكلف وغيره كصبي أو مجنون فإنه ليس للمكلف استيفاؤه حتى يبلغ الصبي أو يفيق المجنون”(2)
وأجاب صاحب العدة على استدلال الأحناف بخبر ابن ملجم بقوله: “فأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله لكفره لأنه قتل علياً مستبيحاً دمه معتقداً كفره، وقيل لسعيه في الأرض بالفساد وإظهاره السلاح فيكون قتله متحتماً إلى الإمام وكان الحسن رضي الله عنه الإمام ولذلك لم ينتظر الغائبين”(3)
__________
(1) السابق/ ج7 / ص240.
(2) المقدسي: العدة شرح العمدة /ص566.
(3) :المرجع السابق/566.
(1/77)
قال في المغني: “والدليل على أن للصغير والمجنون فيه حقاً أربعة أمور (أحدها) أنه لو كان منفرداً لاستحقه ولو نافاه الصغر مع غيره لنافاه منفرداً كولاية النكاح (والثاني) أنه لو بلغ لاستحق ولو لم يكن مستحقاً عند الموت لم يكن مستحقاً بعده كالرقيق إذا عتق بعد موت أبيه (والثالث) أنه لو صار الأمر إلى المال لاستحق ولو لم يكن مسستحقاً للقصاص لما استحق بدله كالأجنبي (الرابع) أنه لو مات الصغير لا ستحقه ورثته ولو لم يكن حقاً لم يرثه كسائر ما لم يستحقه فأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله بكفره لأنه قتل علياً مستحلاً لدمه معتقداً كفره متقرباً بذلك إلى الله تعالى، وقيل قتله لسعيه في الأرض بالفساد وإظهار السلاح فيكون كقاطع الطريق إذا قتل وقتله متحتم وهو إلى الإمام والحسن هو الإمام ولذلك لم ينتظر الغائبين من الورثة ولا خلاف بيننا في وجوب انتظارهم وإن قدر أنه قتله قصاصا فقد اتفقنا على خلافه فكيف يحتج به بعضنا على بعض”(1)
لكن الكاساني يرد على ذلك بقوله: “أما القول بأن استيفاء القصاص مشترك بين الكبير والصغير فإن هذا لا يعني عدم جواز استيفاء للقصاص قبل بلوغ الصغير لأنه يمكن القتل بثبوت ولاية الاستيفاء للكبير في نصيبه بطريق الأصالة وفي نصيب الصغير بطريق النيابة شرعاً كالقصاص إذا كان بين إنسان وابنه الصغير، والجامع بينهما حاجتهما إلى استيفاء القصاص لاستيفاء النفس، وعجز الصغير عن الاستيفاء بنفسه وقدرة الكبير على ذلك، وكون تصرفه في النظر والشفقة في حق الصغير مثل تصرف الصغير بنفسه لو كان أهلاً ولهذا يلي الأب والجد استيفاء قصاص وجب كله للصغير فهذا أولى”(2)
رأي ابن حزم
__________
(1) ابن قدامة: المغني /ج9 /ص459 ، 460.
(2) الكاساني: بدائع الصنائع / ج7 / ص241.
(1/78)
أما ابن حزم فإنه من القائلين بأن للكبير أن يستوفي القصاص قبل بلوغ الصغير “والذي نقول به أن القول قول من دعا إلى القود فللكبير، وللحاضر العاقل: أن يقتل ولا يستأني بلوغ الصغير، ولا إفاقة المجنون، ولا قدوم الغائب”(1) لذا فقد شنع على أبي حنيفة لاحتجاجه بقصة ابن ملجم، و شنع أيضاً على من قال بأن ابن ملجم قتل حداً لفساده.. وخلاصة رده عليهم :”فكان من اعتراض الشافعيين أن قالوا: إن الحسن بن علي رضي الله عنهما كان إماماً فنظر في ذلك بحق الإمامة، أو قتله محاربة لا قود، وهذا ليس بشئ، لأن عبد الرحمن بن ملجم لم يحارب، ولا أخاف السبيل. وليس للإمام عند الشافعيين ولا للوصي، أن يأخذ القود لصغير حتى يبلغ فبطل تشنيعهم إلا أن هذه القصة عائدة على الحنفيين بمثل ما شغبوا به على الشافعيين سواء سواء، لأنهم والمالكيون لا يختلفون في أن من قتل آخر على تأويل فلا قود في ذلك. ولا خلاف بين أحد من الأمة أن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل علياً ـ رضي الله عنه ـ إلا متأولاً مجتهداً مقدراً أنه على صواب”(2)
أقول: الرأي القائل بأن للكبير أن يستوفي القصاص قبل بلوغ الصغير وإفاقة المجنون هو أقرب للصواب للأدلة التي ذكرها هذا الفريق منها قتل الحسن رضي الله عنه لابن ملجم قبل بلوغ الصغار من أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.. كما أن هذا الرأي يتناسب والحكمة التي شرع من أجلها القصاص.
الشرط الثالث
أن يؤمن في الاستيفاء التعدي إلى غير القاتل
__________
(1) ابن حزم: المحلى / ج11/ ص131.
(2) ابن حزم: المرجع السابق/ ج11 / ص130.
(1/79)
الأصل في هذا الشرط قوله تعالى: (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً).. وبناء على ذلك إذا كان القصاص على امرأة حامل لم يقتص منها في نفس ولا جرح حتى تضع ولدها ويستغني عنها.. و قتل هذه المرأة الحامل اسراف.. قال الحلي في شرائع الإسلام: “لا يقتص من الحامل حتى تضع، ولو تجدد حملها بعد الجناية”(1) وقال المقدسي في العدة: “وقتل الحامل قتل لغير القاتل فيكون إسرافاً، وروى ابن ماجه بإسناده عن جماعة منهم شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قتلت المرأة عمداً لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملاً وحتى تكفل ولدها وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها)(2) وهذا نص، وليس في المسألة اختلاف بين أهل العلم فيما نعلم، وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبن، لأن الولد لا يعيش إلا به في الغالب. ثم إن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتى تفطمه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للغامدية: (اذهبي حتى ترضعيه)(3) وفي حديث عبد الرحمن بن غنم (وحتى تكفل ولدها) ولأنه لما أخر القتل لحفظه وهو حمل فلأن يؤخر وهو ولد لحفظه أولى، فأما إن وجدت من يرضعه جاز قتلها لأنه يستغني عن الأم، وإن وجد من ترضعه مترددة أو جماعة يتناولنه أو بهيمة يشرب من لبنها جاز قتلها أيضاً. ويستحب للولي أن يؤخر قتل الأم لأن على الولد ضرراً في اختلاف اللبن عليه
__________
(1) الحلي: شرائع الإسلام / الحلي /ج8 / ص235.
(2) الحديث ضعيف أخرجه ابن ماجه برقم 2694 باب العفو عن القصاص بإسناده من طريق عبد الرحمن بن غنم حدثنا معاذ وأبو عبيدة وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس بهذا اللفظ. قال البوصيري في الزوائد: في إسناده ابن أنعم اسمه عبد = الرحمن بن زياد بن أنعم ضعيف وكذلك الراوي عنه عبد الله بن لهيعة. أهـ انظر/ هامش العدة شرح العمدة /ص568.
(3) جزء من حديث صحيح عن المرأة الغامدية التي زنت أخرجه مسلم.
(1/80)
وشرب لبن البهيمة.”(1)
أقول: إن تأخير تنفيذ حكم الإعدام على الحامل تأخذ به القوانين الوضعية الحديثة وقد نص قانون الإجراءات الجنائية المصري مادة 477: (يوقف تنفيذ عقوبة الإعدام على الحبلى وإلى ما بعد شهرين من وضعها).
المبحث الثالث
كيفية استيفاء القصاص
اختلف الفقهاء في كيفية استيفاء القصاص، فهل يستوفى القصاص بالسيف أم بقتل القاتل بمثل ما قتل؟
القول الأول
لا قود إلا بالسيف
قال الأحناف: “لا قود إلا بالسيف. فالقصاص لا يستوفى إلا بالسيف عندنا”(2)
احتج القائلون بوجوب القود بالسيف بالأدلة التالية:
__________
(1) المقدسي: العدة شرح العمدة /ص568.
(2) الكاساني: بدائع الصنائع /ج7 / ص245.
(1/81)
1 ـ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِى عَازِبٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ ». “(1)
__________
(1) ابن ماجه: سنن ابن ماجه ـ الحديث رقم 2769 ورواه ابن ماجه أيضاً في باب = الديات عن الحسن : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُسْتَمِرِّ حَدَّثَنَا الْحُرُّ بْنُ مَالِكٍ الْعَنْبَرِىُّ حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَن = عَنْ أَبِى بَكْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ » اين ماج÷ سنن ابن ماجه رقم الحديث: 2770. ورواه الدارقطني : “حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْفَارِسِىُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمِصِّيصِىُّ بِكَفْرِ بَبَا حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ سَيَّارٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -= صلى الله عليه وسلم- « لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ ». سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ مَتْرُوكٌ. الدراقطني: سنن الدراثطني رقم الحديث 3154 .وفي نفس سنن الدارقطني أيضاً: “حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ الطَّرَسُوسِىُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ هُوَ ابْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِى بَكْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ ». الدارقطني سنن الدارقطني رقم الحديث 3221. وبنص آخر عند الدراقطني: “حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّعْمَانِىُّ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَرْجَرَائِىُّ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ عَنْ مُبَارَكٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ ». قَالَ يُونُسُ قُلْتُ لِلْحَسَنِ عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَذْكُرُ ذَلِكَ. الدارقطني: سنن الدراقطني رقم الحديث 3222. وأورده البيهقي في كتاب النفقات: ” أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ : أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ أَخْبَرَنَا عَلِىُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّعْمَانِىُّ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَرْجَرَائِىُّ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ عَنْ مُبَارَكٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ ». قَالَ يُونُسُ قُلْتُ لِلْحَسَنِ : عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا؟ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَذْكُرُ ذَلِكَ. البيهقي: سنن البيهقي: الحديث رقم 16514. وقال ابن حجر في التلخيص: ” (حديث لا قود إلا بالسيف). ابن ماجة من حديث النعمان بن بشير ورواه البزار والطحاوي والطبراني والدارقطني والبيهقي = وألفاظهم مختلفة وإسناده ضعيف ورواه ابن ماجة والبزار والبيهقي من حديث أبي بكرة. قال البزار تفرد به الحر بن مالك والناس يروونه مرسلا. وقال أبو حاتم هذا حديث منكر. وأفاد بن القطان أن الوليد بن صالح تابع الحر بن مالك عليه وهو عند الدارقطني وأعله البيهقي بمبارك بن فضالة راويه عن الحر عن أبي بكرة. وقال البزار أحسبه خطأ لأن الناس يروونه عن الحر مرسلا انتهى. وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أشعث وغيره عن الحر مرسلا. وفي الباب عن أبي هريرة رواه الدارقطني والبيهقي، وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك، وعن علي؛ رواه الدارقطني وفيه يعلى بن هلال وهو كذاب، وعن ابن مسعود رواه الطبراني = والبيهقي وإسناده ضعيف جدا، قال عبد الحق: طرقه كلها ضعيفة وكذا قال بن الجوزي وقال البيهقي لم يثبت له إسناد” ابن حجر: تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير ـ تحقيق أبي عاصم حسن بن عباس ـ مؤسسة قرطبة ـ القاهرة ـ 1416هـ /1995م ـ ج4 ص38 ،ص39.
أقول: وقد تتبع الزيلعي في نصب الرابة حديث (لا قود إلا بالسيف) عن أربعة من الصحابة وهم أبوبكرة والنعمان بن بشير وابن مسعود وعلي رضي الله عنهم.: ” فحديث أبي بكرة: أخرجه ابن ماجه في “سننه” عن الحر بن مالك عن المبارك بن فضالة عن الحسن عن أبي بكرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال: لا قود إلا بالسيف، اتتهى. ورواه البزار في “مسنده” وقال: لا نعلم احداً أسنده بأحسن من هذا الإسناد، ولا نعلم أحداً قال: عن أبي بكرة إلا الحر بن مالك، وكان لا بأس به، وأحسبه أخطأ في هذا الحديث، لأن الناس يروونه عن الحسن مرسلاً، انتهى. قلت: بل تابعه الوليد بن صالح، كما أخرجه الدارقطني، ثم البيهقي في “سننيهما” فأخرجاه عن الوليد بن محمد بن صالح الأيلي عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن أبي بكرة مرفوعاً، ورواه ابن عدي في “الكامل”، وأعله بالوليد، وقال: أحاديثه غير = محفوظة، انتهى. قال البيهقي: ومبارك بن فضالة لا يحتج به، قلت: أخرج له ابن حبان في صحيحه، والحاكم في “المستدرك”، ووثقه، والمرسل الذي أشار إليه البزار رواه أحمد في “مسنده” حدثنا هشيم ثنا أشعث بن عبد الملك عن الحسن، مرفوعاً: لا قود إلا بحديدة، انتهى. وكذلك رواه ابن أبي شيبة في “مصنفه” حدثنا عيسى بن يونس عن أشعث، وعمرو عن الحسن مرفوعاً نحوه.
وأما حديث النعمان: فأخرجه ابن ماجه أيضاً عن جابر الجعفي عن أبي عازب عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : “لا قود إلا بالسيف” انتهى. ورواه البزار في “مسنده” ولفظه، قال: القود بالسيف، ولكل خطأ أرش، وقال: لا نعلم رواه عن النعمان إلا أبو عازب ولا عن أبي عازب إلا جابر الجعفي، انتهى. وقال عبد الحق في “أحكامه”: وأبو عازب مسلم بن عمرو لا أعلم روى عنه إلا جابر الجعفي، انتهى. قال ابن الجوزي في “التحقيق”: وجابر الجعفي اتفقوا على ضعفه، قال في “التنقيح”: وقال في موضع آخر: وجابر الجعفي فقد وثقه الثوري، وشعبة، وناهيك بهما، فكيف يقول هذا، ثم يحكي الاتفاق على ضعفه؟ ! هذا تناقض بيِّن، قال: وأبو عازب اسمه مسلم بن عمرو، وقاله أبو حاتم، وغيره، وهو غير معروف، وقال غيرهم: = اسمه مسلم بن أراك، كما تقدم تسميته، عند الدارقطني في حديث القتل بالمثقل، قال البيهقي في “المعرفة”: وطرق هذا الحديث كلها ضعيفة، وبهذا الإسناد رواه الدارقطني، ثم البيهقي في “سننيهما” بلفظ: كل شيء خطأ إلا السيف، ورواه الطبراني في “معجمه” بلفظ: كل شيء خطأ إلا السيف، والحديدة، وفي لفظ له: قال: لا عمد إلا بالسيف، وسيأتي، وأخرجه الدارقطني في “سننه” عن المبارك بن فضالة عن الحسن عن النعمان بن بشير.
وأما حديث ابن مسعود: فرواه الطبراني في “معجمه” حدثنا الحسين بن السميدع الأنطاكي ثنا موسى بن أيوب النصيبي ثنا بقية بن الوليد عن أبي معن عبد الكريم = عن إبراهيم عن علقمة عن عبد اللّه، مرفوعاً نحوه سواء، = وكذلك أخرجه الدارقطني في “سننه” عن عبد الكريم بن أبي المخارق عن إبراهيم، ورواه ابن عدي في “الكامل”، وأعله بعبد الكريم، وضعفه عن جماعة.
وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه الدارقطني في “سننه” في “الحدود” عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم، نحوه سواء، قال الدارقطني: وسليمان بن أرقم متروك، انتهى. ورواه ابن عدي في “الكامل”، وأعله بسليمان بن أرقم، وأسند عن البخاري، وأبي داود، والنسائي، وأحمد، وابن معين، قالوا: هو متروك.
وأما حديث علي: فأخرجه الدارقطني أيضاً عن معلى بن هلال عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي، قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : “لا قود في النفس وغيرها إلا بحديدة” انتهى. قال الدارقطني: ومعلى بن هلال متروك، انتهى.” الزيلعي: نصب الراية لأحاديث الهداية ـ تحقيق أيمن صالح شعبان ـ دار الحديث ـ القاهرة ـ 1415هـ /1995م ـ ج6 ص338 : ص340.
(1/82)
قال السرخسي: “بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا قود إلا بالسيف) وهذا تنصيص على نفي وجوب القود واستيفاء القود بغيرالسيف والمراد بالسيف السلاح هكذا فهمت الصحابة رضي الله عنهم من هذا اللفظ حتى قال علي رضي الله عنه العمد السلاح وقال أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه لا قود إلا بالسلاح وإنما كني بالسيف عن السلاح لأن المعد للقتال على الخصوص بين الأسلحة هو السيف فإنه لا يراد به شئ سوى القتل”(1)
2 ـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما “أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني، فقال: حتى تبرأ، ثم جاء إليه، فقال: أقدني، فأقاده، ثم جاء إليه، فقال: يا رسول الله، عرجت، فقال: قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله، وبطل عرجك. ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح، حتى يبرأ صاحب”(2)
“وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجراح (فأمرهم أن يستأنوا سنة) وعن جابر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يستقاد من الجرح حتى يبرأ)”(3)
وجه الدلالة:
__________
(1) المبسوط / السرخسي / ج26 / ص122.
(2) قال الصنعاني في سبل السلام: رواه أحمد والدارقطني وأعل بالإرسال. ثم قال معلقاً على الحديث: وفي معناه أحاديث تزيده قوة وهو دليل على أنه لا يقتص من الجراحات حتى يحصل البرء من ذلك وتؤمن السراية.. وقد أشار إليه الألباني بالصحة وقال: وهذا إسناده حسن رجاله كلهم ثقات معروفون، وفي مهدي بن جعفر كلام لا يضر. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي (8 / 67): سنده جيد. ثم قال: فهذا أمر قد روي من عدة طرق يشد بعضها بعضاً”انظر سبل السلام/الصنعاني / ج3 / ص1584 ، ص 1585 بتصرف.
(3) الطحاوي: شرح معاني الآثار / ج3 / ص184.
(1/83)
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بعدم القود من الجراح حتى تبرأ فلو فعل بالجاني مثل فعله ولم ينتظر البرء لم يكن للإستيناء أي الانتظار معنى فلما ثبت الإستيناء دل على أن حكم الجراحة بما يؤول إليه حالها. قال في شرح معاني الآثار:
“فلو كان فعل بالجاني كما فعل كما قال أهل المقالة الأولى لم يكن للإستيناء معنى لأنه يجب على القاطع قطع يده إن كانت جنايته قطعاً برأ أم لم يبرأ من ذلك المجني عليه أو مات فلما ثبت الإستيناء لينظر ما يؤول إليه الجناية ثبت بذلك أن ما يجب فيه من القصاص هو ما يؤول إليه الجناية لا غير ذلك “(1)
3 ـ عن شداد بن أوس قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته)(2)
وجه الدلالة:
“إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس بأن يحسنوا القتلة، وأن يريحوا ما أحل الله لهم ذبحه من الأنعام، فما أحل الله لهم قتله من بني آدم، فهو أولى وأحرى أن يفعل به ذلك”(3)
4 ـ واستدل القائلون بأن لا قود إلا بالسيف بأحاديث النهي عن المثلة فمن ذلك:
أ ـ عن سعيد بن جبيرقال: مر ابن عمر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها فلما رأوا ابن عمر تفرقوا عنها، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا؟”(4)
وفي رواية عن شعبة” قال سمعت هشام بن زيد بن أنس بن مالك دار الحكم بن أيوب فإذا قوم قد نصبوا دجاجة يرمونها. قال: فقال أنس: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم”(5)
__________
(1) الطحاوي: السابق/ ج3 / ص184.
(2) مسلم: رقم الحديث: 5168.
(3) الطحاوي: شرح معاني الآثار/ ج3 / ص185.
(4) مسلم: صحصح مسلم رقم الحديث: 5173.
(5) مسلم: صحيح مسلم رقم الحديث: 5169
(1/84)
ب ـ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً”(1)
ج ـ “قال ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل شئ من الدواب صبراً”(2)
وجه الدلالة في هذه الأحاديث:
لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المثلة بالحيوان ونهى أن يتخذ شئ من الحيوان غرضاً بناء على ذلك فإن قتل القاتل بمثل ما قتل فيه مثلة.. قال الطحاوي: “ويدخل أيضاً على من يقول إن الجاني يقتل كما قتل، أن يقول إذا رماه بسهم فقتله أن ينصب الرامي فيرميه حتى يقتله وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولكن يقتل قتلاً لا يكون معه شئ من النهي ألا ترى لو أن رجلاً نكح رجلاً فقتله بذلك أنه لا يجب للولي أن يفعل بالقاتل كما فعل ولكن يجب له أن يقتله لأن نكاحه إياه حرام عليه فكذلك صبره إيه فيما وصفنا حرام عليه ولكن له قتله كما يقتل من حل دمه بردة أو بغيرها هذا هو النظر في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم”(3) وبه قال الحلي: “ولا يقتص إلا بالسيف ولا يجوز التمثيل به بل يقتصر على ضرب عنقه، ولو كانت الجناية بالتفريق أو بالتحريق أو بالمثقل أو بالرضخ”(4)
القول الثاني
يقتل كل قاتل بمثل ما قتل أو بالسيف
__________
(1) مسلم: صحيح مسلم رقم الحديث: 5171.
(2) مسلم: صحيح مسلم رقم الحديث: 5175.
(3) الطحاوي: شرح معاني الآثار/ ج3 / ص184.
(4) الحلي: شرائع الإسلام / ج8 / ص235.
(1/85)
وممن قال بهذا الرأي الشافعية وفي إحدى الروايتين عن الحنابلة قال الشافعي في الأم: “فولاة المقتول أن يفعلوا بالقاتل مثله وذلك قبل أن يشدخ رأسه بصخرة فيخلى بين ولي المقتول وبين صخرة مثلها ويصبر له القاتل حتى يضربه بها عدد ما ضربه القاتل إن كانت حصول فلا يزد عليها وإن كانت اثنتين فاثنتين وكذلك إن كان أكثر فإذا بلغ ولي المقتول عدد الضرب الذي ناله القاتل من المقتول فلم يمت خلى بينه وبين أن يضرب عنقه بالسيف ولم يترك وضربه بمثل ما ضربه به إن لم يكن له سيف وذلك أن القصاص بغير السيف إنما يكون بمثل العدد فإذا جاوز العدد كان تعدياً من جهة أنه ليس من سنة القتل وإنما مكن من قتله بالسيف لأنه كانت له افاتة نفسه مع ما ناله به من ضرب فإذا لم تفت نفسه بعد الضربات فبالسيف الذي هو أوحى القتل.. وهكذا إذا قتله بخشبة ثقيلة على رأسه وما أشبه هذا أمكنت منه ولي القتيل.. وإن كان ربطه ثم ألقاه في نار أحميت له نار كتلك النار لا أكثر منها وخلي ولي القتيل بين ربطه بذلك الرباط والقائه في النار قدر المدة التي ألقي فيها الملقي فإن مات وإلا أخرج منها وخلي ولي القتيل فضرب عنقه “(1)
وقريب من قول الشافعية ما ذهب إليه أحمد في قول فمن قتل آخر بتحريق أو القاء من شاهق أو رض رأس، أو تقطيع أو نحوها فإنه يفعل به مثل فعله، وإلا قتل بالسيف.
أما المالكية فقالوا بقتل القاتل بمثل ما قتل به لكنهم استثنوا القتل بالمحرم كالخمر واللواط فقالوا يقتل بالسيف.. واختلفوا في القتل بالتحريق إذ برى ابن الماجشون أن من قتل بالنار أو بالسم لا يقتل به.. في حين يرى القرطبي وآخرون من المالكية أنه يقتل بذلك لعموم آية المماثلة (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)(2)
__________
(1) الشافعي: الأم / ج6 / ص 62 , 63 بتصرف.
(2) البقرة: 194.
(1/86)
قال القرطبي في تفسير هذه الآية (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم): “لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية أصل في المماثلة في القصاص، فمن قتل بشئ قتل بمثل ما قتل به؛ وهو قول الجمهور، ما لم يقتله بفسق كاللوطية واسقاء الخمر فيقتل بالسيف. وللشافعية قول: إنه يقتل بذلك؛ فيتخذ عود على تلك الصفة ويطعن به في دبره حتى يموت، ويسقى عن الخمر ماء حتى يموت. وقال ابن الماجشون: إن من قتل بالنار أو بالسم لا يقتل به لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعذب الله بالنار إلا الله) والسم نار باطنة. وذهب الجمهور إلى أنه يقتل بذلك لعموم الآية”(1)
أما الضرب بالعصا: “فقال مالك في إحدى الروايتين: إنه إن كان في القتل بالعصا تطويل وتعذيب قتل بالسيف؛ رواه عنه ابن وهب وقاله ابن القاسم. وفي (الرواية) الأخرى: يقتل بها وإن كان فيه ذلك؛ وهو قول الشافعي. وروى أشهب وابن نافع عن مالك في الحجر والعصا أنه يقتل بها إذا كانت الضربة مجهزة؛ فأما أن يضرب ضربات فلا. وعليه لا يرمى بالنبل ولا بالحجارة لأنه من التعذيب”(2) وقال ابن العربي في آية المماثلة في القصاص (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم): “تعلق علماؤنا بهذه الآية في مسألة من مسائل الخلاف؛ وهي المماثلة في القصاص، وهو متعلق صحيح وعموم صريح. قال علماؤنا (المالكية) يقتل بكل ما قتل إلا في وجهين وصفتين: أما الوجه الأول: فالمعصية كالخمر واللواط، وأما الوجه الثاني: فالسم والنار لا يقتل بهما. والصحيح من أقوال علمائنا أن المماثلة واجبة إلا أن تدخل في حد التعذيب فلتترك إلى السيف”(3)
__________
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن/ ج2 / ص356.
(2) القرطبي: الجامع /ج2 / ص356 وص357.
(3) ابن العربي: أحكام القرآن / ج1 / ص113.
(1/87)
أما ابن حزم فإنه يرى أن يقتل القاتل بمثل فعله كما قال الشافعي لكنه لا يراعي عدد الضربات فمن ضرب آخر بعصا ضربة أو ضربتيين فمات فإنه يضرب أبداً حتى يموت وكذلك إن قتله جوعاً أو عطشاً جوّع وعطش حتى يموت ولا تراعي المدة أبداً.
الأدلة التي احتج بها القائلون بقتل القاتل بمثل فعله بما يلي:
أ ـ قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى)(1)
ب ـ قال تعالى: (والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)(2)
ج ـ قال تعالى: (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)(3)
د ـ وقال تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها)(4)
هـ ـ وقال تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)(5)
ز ـ وقال تعالى: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق. أولئك لهم عذاب أليم)(6)
أما الأدلة من السنة فقد احتجوا بالأحاديث التالية:
1 ـ عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)(7)
قال ابن حزم: “فمن قتل أحداً بغير السيف ظالماً عامداً: فبشرة غير القاتل محرمة على المستقيد، وغيره، إذ قد صح تحريمها، ولم يأت نص، ولا اجماع بإباحتها، إنما حل من بشرة القاتل، ومن التعدي عليه مثل ما انتهك هو من بشرة غيره، ومثل ما تعدى عليه به قط ـ ومن خالف هذا فهو كمن أفتى من فقئت عيناه ظلماً بأن يجدع هو أشراف أذني فاقئ عينيه ـ ولا فرق”(8)
__________
(1) البقرة: 178.
(2) البقرة: 194.
(3) البقرة: 229.
(4) الشورى: 40.
(5) النحل: 126.
(6) الشورى: 41 و 42.
(7) البخاري: رقم الحديث: 7078 .
(8) المحلى /ج10 / ص257.
(1/88)
2 ـ عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ “أن جارية قد وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها من صنع هذا بك؟ فلان، فلان. حتى ذكروا لها يهودياً فأومأت برأسها. فأخذ اليهودي فأقر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ترض رأسه بين الحجارة”(1)
3 ـ عن أنس بن مالك: “أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسْلاَمِ فَاسْتَوْخَمُوا الأَرْضَ وَسَقُمَتْ أَجْسَامُهُمْ فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَقَالَ « أَلاَ تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِى إِبِلِهِ فَتُصِيبُونَ مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا » . فَقَالُوا بَلَى . فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَصَحُّوا فَقَتَلُوا الرَّاعِىَ وَطَرَدُوا الإِبِلَ فَبَلغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ فِى آثَارِهِمْ فَأُدْرِكُوا فَجِىءَ بِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسُمِرَ أَعْيُنُهُمْ ثُمَّ نُبِذُوا فِى الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا . وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ فِى رِوَايَتِهِ وَاطَّرَدُوا النَّعَمَ . وَقَالَ وَسُمِّرَتْ أَعْيُنُهُمْ. “(2)
وفي صحيح مسلم “عن أنس بن مالك قال: إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعين الرعاء ـ فهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره الذي لا يسع أحداً الخروج عنه”(3)
ورد ابن حزم على أدلة الأحناف قائلاً:
__________
(1) مسلم: صحيح مسلم رقم الحديث 4458.
(2) مسلم: صحيح مسلم رقم الحديث 4446
(3) المحلى / ج10 / ص258.
(1/89)
“القود في لغة العرب: المقارضة بمثل ما ابتدأه به، لا خلاف بين أحد في أن قطع اليد باليد، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والنفس بالنفس، كل ذلك يسمى قوداً. فقد صح يقيناً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرنا بالقود فإنه إنما أمرنا بأن يعمل بالمعتدي في القتل فما دونه مثل ما عمل هو سواء سواء ـ هذا أمر تقتضيه الشريعة واللغة “(1) ثم فند أدلة الأحناف ودافع عن رأيه حيث قال عن حديث (لا قود إلا بالسيف) إنه مرسل ولا يحل الأخذ به. أما حديث (من بدل دينه أو رجع عن دينه فاقتلوه ولا تعذبوا بعذاب الله أحداً) قال ابن حزم: لم نخالفهم قط في أن المثلة لا تحل، لكن قلنا: إنه لا مثلة إلا ما حرم الله عز وجل، وأما ما أمر به عز وجل فليس مثلة.
أما احتجاج الأحناف بحديث (إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)..
قال ابن حزم: وهذا صحيح، وغاية الإحسان في القتلة هو أن يقتله بمثل ما قتل هو ـ وهذا هو عين العدل والإنصاف (والحرمات قصاص) وأما من ضرب بالسيف عنق من قتل آخر خنقاً أو تغريقاً، أو شدخاً، فما أحسن القتلة، بل إنه أساءها أشد الإساءة، إذ خالف ما أمر الله عز وجل به، وتعدى حدوده، وعاقب بغير ما عوقب به وليه، وإلا فكله قتل، وما الإيقاف لضرب العنق بالسيف بأهون من الغم، والخنق، وقد لا يموت من عدة ضربات واحدة بعد أخرى ـ هذا أمر قد شاهدناه ـ ونسأل الله العافية ـ فعاد هذا الخبر حجة عليهم”(2)
سبب اختلافهم
__________
(1) ابن حزم: المحلى / ج10 / ص258
(2) ابن حزم: السابق/ ج10 / ص262.
(1/90)
هكذا يتبين لنا من عرض ما سبق أن سبب اختلاف الفقهاء هو نظرتهم إلى معنى القصاص فمن “نظر في القصاص إلى معناه الأصلي وهو ازهاق روح من قتل من غير نظر إلى شئ سوى النفس بالنفس، ولم يعتبر الآلة جزءاً من موضوع القصاص، فالمماثلة تتحقق بهلاك النفس المعتدية في مقابل النفس البريئة، أما بالنسبة للآلة فقد نظروا إلى أقرب طريق للموت، وأسهلها، والآخرون قالوا: إن المماثلة تتحقق في كل شئ. ومع ذلك فإن الذين قرروا وجوب المماثلة في الآلة قرروا أيضاً أن يكون القود بالسيف لأنه أسهل، وأنه خير للولي ألا يسرف، وأن يكتفي بمجرد ازهاق الروح”(1)
أقول: لكن ابن حزم يرى وجوب المماثلة وأن من قتل بالتغريق أو الخنق أو التحريق يقتل بالمثل وإذا قتل بالسيف فإن ذلك تعدياً حسب رأيه.
استيفاء القصاص بغير السيف
وقد أثار بعض العلماء المعاصرين المسألة التالية:
هل يجوز استيفاء القصاص بما هو أسرع من السيف؟
جاء في التشريع الجنائي الإسلامي: “الأصل في اختيار السيف أداة للقصاص، أنه أسرع في القتل وأنه يزهق روح الجاني بأيسر ما يمكن من الألم والعذاب، فإذا وجدت أداة أخرى أسرع من السيف وأقل ايلاماً فلا مانع شرعاً من استعمالها، فلا مانع من استيفاء القصاص بالمقصلة، والكرسي الكهربائي وغيرهما مما يفضي إلى الموت بسهولة واسراع ولا يخلف الموت عنه عادة، ولا يترتب عليه تمثيل بالقاتل ولا مضاعفة تعذيبه، أما المقصلة فلأنها من قبيل السلاح المحدد، وأما الكرسي الكهربائي فلأنه لا يتخلف الموت عنه عادة مع زيادة السرعة وعدم التمثيل بالقاتل دون أن يترتب عليه مضاعفة التعذيب”(2)
فتوى شيخ الأزهر عبد المجيد سليم
__________
(1) أبو زهرة: العقوبة / 386 وما بعدها.
(2) عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي/ ج2 /ص154.
(1/91)
وقد أفتى عبد المجيد سليم شيخ الأزهر الأسبق بأن القصاص بالشنق جائز شرعاً ففي الفتوى رقم 468 المؤرخة في: شعبان سنة 1356 هـ الموافق 31 /10/1937م ورد سؤال للشيخ عبد المجيد على النحو التالي:
“سئل: من حضرة سكرتير مجلس ولاية بهويال بالهند والي محمد بما ترجمته حسبما ورد من وزارة الحقانية بكتابها رقم 5007/46/21 في 24 أكتوبر 1937.. سيدي العزيز تحية واحتراماً وبعد/ فإن عقوبة تنفذ فيمن يحكم عليهم بها في الولايات الإسلامية الهامة في الهند مثل بهويال وحيدر آباد، ونوتسك، وخير بور وغيرها على أنها قصاص. وذلك بمباشرة فصل الرأس عن الجسم بتراً بالسيف، ويرى بعضهم أن هذه الطريقة فيها شئ من القسوة. ويقترحون استبدالها بطريقة الإعدام شنقاً. ولكن أئمة الدين الإسلامي وعلماءه (في الهند) يخالفونهم في الرأي ويرون التمسك بالطريقة المعمول بها قديماً وهي استخدام السيف في فصل الرأس عن الجسم عند إعدام المحكوم عليه. فحبذا لو تكرمتم بإفادتي بما هو متبع في مصر وتركيا وإيران وتونس ومراكش وبما يراه المبرزون من رجال الدين بمصر في هذه النقطة. وإني أستميحكم العذر وأرجو أن تتفضلوا بقبول شكري سلفاً مع عظيم احتراماتي”.
وأجاب شيخ الأزهر: إجابة مطولة نختار منها الخلاصة التالية: “اطلعنا على الترجمة العربية لكتاب حضرة سكرتية مجلس ولاية بهويال بالهند المؤرخ 18 أغسطس سنة 1937 بشأن الإستفتاء من تنفيذ القصاص بغير السيف: 1 ـ اختلف العلماء في كيفية استيفاء القود: فذهب الكثير منهم إلى أنه يقتل بمثل ما قتل به القتيل إلا إذا كان قتله بمحرم فلا يجوز ذلك. وذهب علماء الكوفة ومنهم أبو حنيفة وأصحابه إلى أن القصاص لا يكون إلا بالسيف لحديث لا قود إلا بالسيف وغيره. 2 ـ الظاهر من مذهب الحنفية هو عدم إرادة منع الاستيفاء بغير السيف إذا كان غيره أسهل وأيسر في إزهاق الروح.
(1/92)
3 ـ إذا كان الاستيفاء بغير السيف أيسر وأسرع، فإنه يجوز الاستيفاء به بدلالة نص الحديث (لا قود إلا بالسيف) إذا كان غيره مثله في يسر وسرعة إزهاق الروح، ولأن العلة في كون القصاص بالسيف هي أن القتل به أيسر وأسهل. فإذا وجد نوع من القتل بطريقة لم تكن معهودة وكانت أسرع في إزهاق الروح، فالظاهر أنه يجوز بها.بدلالة نص الحديث. 4 ـ إذا كان القتل بالمشنقة أسرع وأيسر من القتل بالسيف جاز ذلك”(1)
وممن قال بهذا الرأي أيضاً شيخ الأزهر الأسبق شلتوت: “ونحن نرى أخذاً من الحديث الصحيح المتفق على صحته وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) أن الشريعة الإسلامية لم تعين آلة خاصة لاستيفاء القصاص، وإنما طلبت (إحسان القتلة) وإحسانها يكون بكل ما لا يحدث مثلة ولا مضاعفة ألم، وعلى ذلك يجب التنفيذ بكل آلة تحقق الإحسان على هذا الوجه، وكلما تقدمت الحياة في ابتكار وسائل حسان في القتلة على هذا الوجه وجب شرعاً المصير إلى التنفيذ به”(2)
أقول: بعد هذا التطواف حول استيفاء القصاص بالسيف أو بغيره أرى أن الرأي القائل بأن يقتل القاتل بمثل ما قتل به هو الأقرب إلى الصواب نظراً للأدلة التي احتجوا بها كما أرى أنه لا بأس بأن يختار ولي الدم القود بالسيف إذا رأى ذلك. أما ما ذكره بعض الفقهاء المعاصرين من جواز ابتكار وسيلة أسهل وأسرع من السيف أرى أن هذا الرأي يطبق في حالة من يرى القود بالسيف أما من يرى القود بالمثل فإنه لا ينبغي أن يفرض عليه هذا الرأي أو هذه الوسيلة لأنه من حق ولي الدم أن يقتل القاتل بمثل ما قتل به المجني عليه كما ذكرنا آنفاً.
__________
(1) لجنة الفتوى بالأزهر: موسوعة فتاوى دار الإفتاء المصرية مع لجنة الفتوى بالأزهر/ على الأنترنت/ www.alazhr.org
(2) شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة / ص225.
(1/93)
هل يجوز للسلطان اليوم أن يستأثر باستيفاء القصاص؟
“الرأي الراجح عند الفقهاء أن لا يترك الولي (ولي الدم) ليستوفي بنفسه القصاص في الجراح لأن القصاص في الجراح يقتضي خبرة ودقة فوق ما يجب فيه من البعد عن الحيف والتعذيب، ولما كانت الخبرة لا تتوفر في معظم الأولياء. فقد رأى الفقهاء أن يتولى القصاص خبراء يوكلهم الأولياء، ولا مانع من أن يأخذ هؤلاء الخبراء أجرهم من خزانة الدولة، أما الاستيفاء في القتل فقد ترك للولي، إذا كان يحسن الاستيفاء وإذا استوفاه بآلة صالحة. فإذا لم يكن يحسنه وكل من يحسنه، فحق الولي في الاستيفاء بنفسه متوقف على إحسانه وعلى استعماله الآلة الصالحة، ولقد كان الناس قديماً يحملون السلاح ويحسنون استعماله غالباً، أما اليوم فيقل أن تجد من يحسن استعمال السيف، بل قد لا تجد في القرية كلها سيفاً واحداً صالحاً للاستعمال فإذا أضيف إلى هذا أن وسيلة الشنق والمقصلة والكرسي الكهربائي أسرع بالموت من السيف كما هو ثابت بالتجربة، وأن المقصلة أو غيرها لا يمكن أن يحصل عليها الأفراد وأنها في حيازة الدولة، وإذا روعي هذا جميعه أمكن القول أن الضرورات اليوم تمنع من ترك الولي يستوفي حقه على الطريقة القديمة، وأنها تقضي بحرمان الأولياء من استيفاء القصاص بأنفسهم وترك الاستيفاء لمن تعينهم الدولة من الموظفين الخبيرين، وللأولياء أن يأذنوا لهم بالتنفيذ إذا شاءوا القصاص أو لا يأذنوا إذا رأوا العفو”(1)
موقف القانون الوضعي من حضور ولي الدم تنفيذ الإعدام
__________
(1) عبد القادر عوده: التشريع الجنائي الإسلامي/ ج2 / ص155.
(1/94)
أقول: القوانين الوضعية الحديثة لا تسمح بحضور ولي الدم ساعة ومكان تنفيذ الإعدام بل إن القانون الوضعي قد يحكم على المتهم القاتل حتى ولو عفا عنه ولي الدم!! لأن قانون الجنايات الوضعي يعتبر نفسه حارساً ومدافعاً عن المجتمع حتى وإن تصالح ولي الدم مع المتهم ومن هنا فقد أعطى القانون للقاضي سلطة تقديرية في ايقاف تنفيذ العقوبة أو الحكم بالإعدام أو تخفيف العقوبة في حالة الصلح أو العفو.. فمثلاً نجد قانون الإجراءات الجنائية المصري ينص في المادة 472: (لأقارب المحكوم عليه بالإعدام أن يقابلوه في اليوم الذي يعين لتنفيذ الحكم على أن يكون ذلك بعيداً عن محل التنفيذ) بل إن قانون الإجراءات الجنائية المصري ينص على سبيل الحصر الأشخاص الذين يتواجدون في مكان تنفيذ عقوبة الإعدام حيث تنص المادة 774: (يجب أن يكون تنفيذ عقوبة الإعدام بحضور أحد وكلاء النائب العام ومأمور السجن وطبيب السجن أو طبيب آخر تندبه النيابة العامة ولا يجوز لغير من ذكروا أن يحضروا التنفيذ إلا بإذن خاص من النيابة العامة ويجب دائماً أن يؤذن للمدافع عن المحكوم عليه بالحضور)..
هكذا نلاحظ أن القانون سمح فقط للمحامي المدافع عن المتهم فقط بالحضور وهو الموكل من ولي الدم.. لكن لماذا لا يسمح القانون بولي الدم نفسه بالحضور لأن الحكمة من القصاص شفاء غيظه وهذا من حقه فقد يعفو في آخر لحظة وأثناء التنفيذ!!
لكن القانون الوضعي لا يسمح لهذا العفو أن يوقف تنفيذ عقوبة الإعدام طالما صدر بعد الحكم النهائي الذي أقرته محكمة النقض.. أما قانون الجنايات الإسلامي لا يسمح فقط بوقف التنفيذ في حالة عفو ولي الدم بل إنه واجب وهو حق أصيل لولي الدم وليس من حق القاضي أو ولي الأمر أن يهدرهذا العفو الصحيح لحظة التنفيذ..
(1/95)
ومن ثم يستبين لنا رحمة الشريعة الإسلامية مع الطرفين المتهم، وولي الدم عكس القوانين الوضعية التي تهدر هذا الحق الأصيل لولي الدم بحجة أنه صدر بعد استنفاذ درجات التقاضي وصار الحكم نهائياً غير قابل للطعن.
الفصل الرابع
الفصل الرابع
شروط القصاص
سنتكلم ـ بمشيئة الله ـ في هذا الفصل عن شروط القصاص التي ذكرها أصحاب المذاهب الإسلامية، ونلقي الضوء على أوجه الاختلافات بين أصحاب المذاهب، ونستعرض حجج كل فريق، ونناقش الأدلة التي يعتمد عليها كل صاحب رأي، ثم نخلص إلى الرأي المختار الذي نميل إليه. بعد هذه التقدمة السريعة نتكلم الآن عن الشروط التي بموجبها يقتص من الجاني على النحو التالي: يشترط في القاتل الذي يقتص منه عدة شروط عبر عدة مباحث:
المبحث الأول
أن يكون القاتل مكلفاً
ويتضمن هذا الشرط قضيتين: أحدهما: البلوغ. والثاني: العقل:
الأول: البلوغ: هناك إجماع بين أصحاب المذاهب الإسلامية على عدم القصاص من الصبي.. قال مالك في الموطأ: “الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا َقوَدَ بين الصبيان وأن عمدهم خطأ”(1)
قال الأسروشني الحنفي:
__________
(1) مالك بن أنس: الموطأ / ص744.
(1/96)
“البلوغ تارة يكون بالسن، وتارة يكون بالعلامة. فالعلامة في الجارية، الحيض، والاحتلام، والحبل. وأدنى المدة تسع سنين، وهو المختار. والعلامة في الغلام، الاحتلام، والإحبال، وأدنى المدة، اثنتا عشرة سنة. وأما السن: إذا دخل الغلام في التاسعة عشرة، وفي الجارية، إذا دخلت في السابعة عشرة. وفي بعض الروايات عن أبي يوسف ـ رحمه الله ـ: أنه اعتبر نبات الشعر وهو قول مالك ـ رحمه الله تعالى. وعن أبي يوسف ومحمد ـ رحمهما الله ـ : إذا بلغ الغلام والجارية خمس عشرة سنة، فقد بلغا. وذكر صدر الإسلام أبو اليسر ـ رحمه الله ـ في باب العدة: والفتوى في زماننا يجب أن تكون على قولهما، لقصر أعمار أهل زماننا”(1)
يقول أقارضا المدني في بيان شروط القصاص: ” لا قصاص على الصبي ما لم يبلغ خمسة عشر سنة أو ما بحكمه من الميل إلى النكاح وغيره سواء صبياً أو بالغاً على المشهور بين الأصحاب بل عن الطوسي في الخلاف إجماع الفرقة الإمامية عليه وذلك لنفي التكليف عنه بالإجماع ولصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: عمد الصبي وخطأه واحد. وما رواه إسحاق بن عمار أن علياً عليه السلام كان يقول: عمد الصبي خطأ يحمل على العاقلة”(2)
__________
(1) الأسروشني: محمد بن محمود الأسروشني الحنفي ت 632هـ: جامع أحكام الصغار ـ تحقيق د. أبي مصعب البدري ومحمود عبد الرحمن عبد المنعم ـ دار الفضيلة ـ القاهرة ـ ج1 ـ ص177.
(2) أقارضا علي المدني: كتاب القصاص للفقهاء والخواص/ ص93.
(1/97)
أقول: الخلاف بين بعض الفقهاء في سن البلوغ فقط؛ فهناك رواية أخرى في مذهب الإمامية بجعل سن البلوغ عشر سنين، لكن صاحب كتاب الشرائع اعتبرها رواية شاذة وقد نبه على ذلك صاحب كتاب القصاص إذ قال: “لا إشكال في تحقق البلوغ في الصبي ببلوغه خمسة عشر سنة. وبالاحتلام والميل إلى النكاح والإنبات.. وأما بلوغه عشر سنين كما في النهاية للشيخ رحمة الله عليه فلا دليل عليه.. نعم في كتاب الشرائع للمحقق طاب ثراه قال في رواية يقتص من الصبي إذا بلغ عشراً، وأيضاً قال محمد بن إدريس في السرائر: وحده عشر سنين ولكنها رواية شاذة لا يلتفت إليها ولا يعرج عليها لأنها مخالفة لأصول مذهبنا ولظاهر القرآن والسنة”(1)
الثاني: العقل:
لا قصاص على مجنون و مستندهم في ذلك حديث رفع القلم عن ثلاثة، ونصه كالتالي:
(رفع القلم عن ثلاثة؛ عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يكبر، وعن المجنون حتى يفيق)(2)
( رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَكْبَرَ )(3) وبصيغة أخرى: ( رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ )(4)
__________
(1) أقارضا علي المدني: كتاب القصاص / ص93.
(2) رواه أحمد بلفظ قريب الحديث: 896 وأبو داود الحديث رقم 3822 والترمذي برقم: 1343.
(3) أبو دادو: سنن أبي داود الحديث رقم 4400
(4) أبو داود: سنن أبي داود الحديث رقم 4403.
(1/98)
وبصيغة ثالثة: ( رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَبْلُغَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَبْرَأَ )(1)
__________
(1) أبو داود: سنن أبي داود الحديث رقم 4404.. وفي سنن أبي داود رواية أخرى = : عَنْ عَلِىٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِىٍّ رضى الله عنه عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- زَادَ فِيهِ « وَالْخَرِفِ » الحديث رقم 4405. ونفس الحديث موجود في: في سنن الترمذي: كتاب الحدود الحديث رقم: 1488. وفي سنن النسائي: كتاب الطلاق الحديث رقم 3445. وفي سنن ابن ماجه: كتاب الطلاق. باب طلاق المعتوه والصغير والنائم. الحديث رقم 2119. وفي مسند أحمد: الحديث رقم 952. والحديث رقم: 25431. وفي سنن البيهقي: كتاب الإقرار. الحديث رقم 11786. وفي سنن الدارقطني: الحدود والديات الحديث رقم 3315. وفي سنن الدارمي: كتاب الحدود الحديث رقم 2351.
(1/99)
وحديث رفع القلم عن ثلاثة رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي والدارقطني وابن خزيمة وغيرهم من أئمة الحديث.. وقد رمز له السيوطي قديماً بالصحة وحكم له الألباني حديثاً بالصحة.(1)
قال في المغني: “لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا قصاص على صبي ولا مجنون وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر فيه مثل النائم والمغمى عليه ونحوهما، والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق) ولأن القصاص عقوبة مغلظة فلم تجب على الصبي وزائل العقل كالحدود ولأنهم ليس لهم قصد فهم كالقاتل خطأ”(2) ويعتبر قتل الصغير والمجنون في حكم الخطأ عند جمهور الفقهاء؛ الحنفية، والمالكية، والحنابلة، والامامية وغيرهم.
__________
(1) ذكره السيوطي في الجامع الصغير بقوله: ” رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ و عن الصبي حتى يحتلم” قال الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم: 3512 في صحيح الجامع. . وفي رواية بصيغة أخرى: ” رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ و عن المبتلى حتى يبرأ وعن الصبي حتى يكبر ” (صحيح) انظر حديث رقم: 3513 في صحيح الجامع. وجاء في رواية ثالثة في الجامع الصغير: “رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ و عن الصبي حتى يشب و عن المعتوه حتى يعقل” قال الألباني: = (صحيح) انظر حديث رقم: 3514 في صحيح الجامع. راجع تخريج الحديث في: الألباني: محمد ناصر الدين: صحيح الجامع الصغير وزيادته المسمى (الفتح الكبير) ـ المكتب الإسلامي ـ بيروت ـ طبعة ثالثة ـ مج 1 ـ ص659. وتخريج الحديث تجده أيضاً في: ابن حجر العسقلاني: تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الراقعي الكبير ـ تحقيق حسن بن عباس بن قطب ـ مؤسسة قرطبة ـ القاهرة ـ ج1 ـ ص328.
(2) ابن قدامة: المغني/ ج9/ ص357.
(1/100)
وفي لسان الحكام: “وعمد الصبي وخطؤه سواء عندنا ـ أي الأحناف ـ حتى تجب الدية في الحالين ويكون ذلك في حالة قتل العمد”(1)
وفي تهذيب المدونة: “إذا جنى الصبي أو المجنون عمداً أو خطأ بسيف أو غيره فهو كله تحمله العاقلة إن بلغ الثلث، وإن لم يبلغ الثلث ففي ماله ويتبع به ديناً في ذمته، وإن كان كالمجنون يفيق أحياناً فما جني في حالة الإفاقة فكالصحيح في حكمه في الجراح والقتل”(2)
قال في المجموع: “ولا يجب القصاص على صبي ولا مجنون لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة؛ عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق) ولأنه عقوبة مغلظة فلم يجب على الصبي والمجنون كالحدود والقتل بالكفر”(3)
قال النووي: “ولو أكره بالغ مراهقاً فعلى البالغ القصاص إن قلنا عمد الصبي عمد وهو الأظهر”(4)
أما الإمامية: ففي الرواية المشهورة أنه يقتص من الصبي إذا بلغ خمس عشرة سنة كما ذكر آنفاً. قال في جامع المدارك في بيان شروط القصاص كمال العقل: ” فلا يقاد المجنون ولا الصبي وجنايتهما عمداً وخطأ على العاقلة، وفي رواية اقتص من الصبي إذا بلغ عشراً، وفي أخرى إذا بلغ خمسة أشبار، ويقام عليه الحدود، والأشهر أنّ عمده خطأ حتى يبلغ التكليف”(5)
وحجة الامامية في ذلك:
__________
(1) ابن الشحنة: لسان الحكام في معرفة الأحكام/ ص391.
(2) البرادعي: تهذيب المدونة/ ص372.
(3) النووي: المجموع تحقيق المطيعي/ج20/ ص271.
(4) النووي: منهاج الطالبين وعمدة المفتين /ص270.
(5) الخوانساري: جامع المدارك /ج7/ص233.
(1/101)
“صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: (كان أمير المؤمنين عليه السلام يحمل جناية المعتوه على عاقلته خطأ كان أو عمداً) ومنها صحيحته الثانية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (عمد الصبي وخطأه واحد).. ومنها معتبرة إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه عليه السلام: إن علياً عليه السلام كان يقول: عمد الصبيان خطأ، يحمل على العاقلة..”(1)
وجاء في المسئولية الجزائية في الفقه الجعفري:
“وقد نص الفقهاء على أن الصبي إذا قتل بالغاً، أو صبياً مثله متعمداً لقتله لا يكون مسئولاً، ولم يخالف بذلك أحد إذا كان دون العاشرة من العمر، أو كان فوقها ما لم يبلغ الحلم، وقد خالف في ذلك الشيخ الطوسي حيث وضعه في مستوى المسئولية إذا بلغ العاشرة من سنيه اعتماداً على بعض المرويات التي أعرض عنها الفقهاء ووصفوها بالضعف. وجاء في رواية عن الإمام (ع) أنه قال: إذا بلغ الغلام ثمانية أعوام جاز أمره في ماله ووجبت عليه الفرائض والحدود، ولكن هذه وغيرها من المرويات التي تحمل الصبي نتيجة أعماله وتصرفاته وصفها الفقهاء بالشذوذ والقصور عن مقاومة غيرها من المرويات التي تجعله في حل من جميع التصرفات ما لم يبلغ الحلم، كما أعرضوا عن غيرها من المرويات التي تنص على أنه إذا بلغ خمسة أشبار يعاقب على جريمته بالقتل أو الدية ولم يأخذ بها إلا الطوسي والصدوق وبعض الفقهاء الذين لا يمثلون الفقه الشيعي في هذا الرأي. وقد جاء في أكثر المرويات إن عمد الصبي خطأ تحمله العاقلة أي أنه ليس مسئولاً حتى في الغرامة المالية التي لا تتوقف على القصد والاختيار”(2)
اختلاف الجاني وولي الجناية:
__________
(1) الخوانساري: السابق/ ج7/ ص233.
(2) هاشم الحسني: المسئولية الجزائية في الفقه الجعفري /المطبعة الحديثة/ بيروت/ ص271 ، ص272.
(1/102)
قد يحدث خلاف أثناء تطبيق القصاص وصورة هذا الخلاف على النحو التالي: إذا اختلف الجاني وولي الجناية فقال الجاني: قتلته وأنا غير بالغ. وقال ولي الجناية: بل كنت بالغاً… وبناء على ذلك تصدى الفقهاء للإجابة على هذه المشكلة على النحو التالي:
قال في الشرح الكبير في الفقه الحنبلي: “فإن اختلف الجاني وولي الجناية فقال إني كنت صغيراً حال الجناية، وقال ولي الجناية كنت بالغاً فالقول قول الجاني مع يمينه إذا احتمل الصدق لأن الأصل الصغر وبراءة ذمته من القصاص”(1)
وقال صاحب المبسوط في فقه الإمامية: “فإن اختلف الصبي وولي القتيل بعد بلوغ الصبي فقال وليه قتلته وأنت بالغ فعليك القود. وقال بل وأنا صبي فلا قود عليّ فالقول قول الجاني لأن الأصل الصغر حتى يعلم زواله. وإن اختلف هو والمجنون: فقال: قتلته وأنت عاقل. فقال: بل وأنا مجنون، نظرت فإن كان يعرف له حال جنون وإفاقة، فالقول قول الجاني لأنه أعرف بوقته، وإن لم يعرف له حال جنون فالقول قول الوالي، لأن الأصل صحته وسلامته حتى يعلم أنه مجنون. فإذا ثبت هذا فإن كان القتل خطأ فالدية على العاقلة بلا خلاف، وإن كان عمداً فلا قود عليه، وكان خطأ الدية على العاقلة”(2) أما إذا كان المجنون يفيق أحياناً، وقتل حال إفاقته اقتص منه حال إفاقته فإن جن بعد جنايته هل يقتص منه؟ قال: “يؤخر المجنون حتى يفيق، نص عليه في المدونة”(3)
وقال في لسان الحكام:
__________
(1) ابن قدامة: المغني والشرح الكبير/ج9/ص350.
(2) الطوسي: المبسوط في فقه الإمامية/ ج7 /ص15.
(3) مالك بن أنس: المدونة الكبرى/ ج16/ ص199.
(1/103)
“وإذا كان الرجل يجن ويفيق وقتل رجلاً في حال إفاقته ذكر في الأصل أنه والصحيح سواء. فإن جن بعد ذلك هل يسقط القصاص؟ لم يذكر محمد هذا في الأصل. قال شيخ الإسلام خواهر زاده: إن بعض مشايخنا فصلوا فيه تفصيلاً فقالوا: إن كان الجنون مطبقاً يسقط القصاص. وإن كان غير مطبق لا يسقط القصاص”(1) لكنْ للإمامية رأي آخر يخالف ما ذكره خواهر زاده الحنفي حيث يقول الحسيني: “واتفقوا أيضاً (أي فقهاء الشيعة) على أن المجنون سواء كان جنونه مطبقاً أو لم يكن إذا جنى على أحد في حال جنونه لا يعاقب على جنايته مهما كان نوعها كما يدل على ذلك الحديث المشهور والمعروف (رفع القلم) بالإضافة إلى غيره من المرويات عن الأئمة (ع) التي تنص على عدم إلزامه بشئ”(2)
أما في القانون الوضعي:
“يختلف القانون المصري والقانون الفرنسي عن الشريعة الإسلامية في هذه المسألة، كلاهما لا يجعل المجنون مسئولاً مدنياً عن جرائمه ولكنه يحمل المسئولية على الشخص المكلف بملاحظة المجنون باعتبار أنه أهمل في ملاحظته، ويعللون عدم مسئولية المجنون مدنياً بأنه فاقد الشعور والاختيار وأن كل مسئولية تقتضي وجود خطأ ولا خطأ إذا لم تكن هناك إرادة. وليس للمسئول عن ملاحظة المجنون أن يرجع على المجنون بما سببه له من المسئولية بفعله “(3)
جناية السكران:
اختلف الفقهاء في مسئولية السكران إذا ارتكب ما يوجب القصاص على قولين:
القول الأول: يقتص من السكران:
وبه قال المالكية والحنفية والشافعي في الأم والحنابلة في قول..
__________
(1) ابن الشحنة: لسان الحكام/ ص393.
(2) هاشم معروف الحسني: المسئولية الجزائية /ص272.
(3) عبد القادر عودة: لتشريع الجنائي الإسلامي / ج1 / ص595.
(1/104)
أما المالكية فقد قال في الموطأ: “حدثني يحيى عن مالك: أنه بلغه أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية بن أبي سفيان يذكر أنه أتى بسكران قد قتل رجلاً فكتب إليه معاوية: إن اقتله به”(1) وقال القرافي: “ويقتص من السكران لأن المعاصي لا تكون أسباب الرخص”(2) وفي الأم للشافعي: “قال لا قصاص على من لم تجب عليه الحدود وذلك من لم يحتلم من الرجال، أو تحيض من النساء أو يستكمل خمس عشرة سنة وكل مغلوب على عقله بأي وجه ما كانت الغلبة إلا بالسكر، فإن القصاص والحدود على السكران كهي على الصحيح “(3)
وقال النووي في المنهاج: “والمذهب وجوبه على السكران”(4)
ومن قال بالإقتصاص من السكران الحنابلة: قال في الشرح الكبير: “إذا قتل السكران وجب عليه القصاص، ذكره القاضي وذكر أبو الخطاب أن وجوب القصاص عليه مبني على طلاقه وفيه روايتان فيكون في وجوب القصاص عليه وجهان أحدهما: لا يجب عليه لأنه زائل العقل أشبه المجنون ولأنه غير مكلف فأشبه الصبي. ولنا (أي الحنابلة) أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أقاموا سكره مقام قذفه فأوجبوا عليه حد القاذف فلولا أن قذفه موجب للحد عليه لما وجب الحد بمظنته، وإذا وجب الحد فالقصاص المتمحض حق آدمي أولى ولأنه حكم لو لم يوجب عليه القصاص والحد لأفضى إلى أن من أراد أن يعصي الله تعالى شرب ما يسكره ثم يقتل ويزني ويسرق ولا يلزمه عقوبة ولا مأثم ويصير عصيانه سبباً لسقوط عقوبة الدنيا والآخرة عنه ولا وجه لهذا وفارق الطلاق لأنه قول يمكن الغاؤه بخلاف القتل فإن شرب أو أكل ما يزيل عقله غير الخمر على وجه محرم فإن زال عقله بالكلية بحيث صار مجنوناً فلا قصاص عليه وإن كان يزول قريباً ويعود من غير تداو فهو كالسكران على ما فصل فيه”(5)
__________
(1) مالك بن أنس: الموطأ/ ص761.
(2) القرافي: الذخيرة / ج5 / ص228.
(3) الشافعي: الأم / ج6 / ص5.
(4) النووي: المنهاج/ ص481.
(5) ابن قدامة: المغني مع الشرح الكبير/ ج9 / ص351.
(1/105)
والمشهور لدى الإمامية أيضاً ثبوت القصاص على السكران كالصاحي.. لكن هناك روايات ترى إعفاء السكران وتفصيل ذلك على النحو التالي: “لقد جاء في الشرائع وشروحها، وفي ثبوت القود على السكران والإثم في سكره تردد وخلاف، ولكن الثبوت أشبه وفاقاً للأكثر، وادعى الفقيهان؛ صاحب غاية المرام وصاحب الإيضاح إجماع الفقهاء على ذلك. ومهما يكن الحال فقد حاول فريق من الفقهاء منهم الشهيد الثاني في مسالكه إعفاء السكران إذا جنى متعمداً من القصاص، لأن القصد الجنائي من الأركان الرئيسية في جرائم العمد، والسكران على حد قوله لا يتصرف عن قصد وإدراك كما هو المعلوم من حاله، ولكن الفريق الآخر الذين حملوا السكران نتيجة جريمته وألحقوه بغيره من المجرمين يدعون بأن السكران وإن كان مسلوب القصد والإدراك أي أنه فاسد القصد والإدراك ولكنه لما كان هو السبب في فساد قصده بدون عذر مشروع، حيث اختار لنفسه أن يكون في صفوف المعتوهين والمجانين وهيئها لارتكاب الجريمة كان مستحقاً للعقوبة كغيره”(1)
القول الثاني: لا يقتص من السكران:
وممن قال بإعفاء السكران من المسئولية الجنائية ابن حزم الظاهري حيث رد على القائلين بالقود من السكران باختياره مع ملاحظة أن ابن حزم وإن كان يتفق مع القائلين بعدم القصاص من المجنون إلا أنه يخالفهم في المسئولية المدنية فابن حزم لا يرى على المجنون دية ولا ضماناً، وننقل ما ذكره في هذه المسألة:
“ولا قود على مجنون فيما أصاب في جنونه، ولا على سكران فيما أصاب في سكره ـ المخرج له من عقله ـ ولا على من لم يبلغ، ولا على أحد من هؤلاء: دية ولا ضمان، وهؤلاء والبهائم سواء.
__________
(1) هاشم معروف الحسني: المسئولية الجزائية في الفقه الجعفري/ص274.
(1/106)
فأما السكران فروينا عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): أن سكارى تضاربوا بالسكاكين؛ وهم أربعة فجرح اثنان، ومات اثنان: فجعل علي دية الإثنين المقتولين على قبائلهما، وعلى قبائل اللذين لم يموتا، وقاص الحيين من ذلك بدية جراحهما ـ وأن الحسن بن علي رأى أن يقيد للحيين الميتين ولم ير علي ذلك، وقال: لعل الميتين قتل كل واحد منهما الآخر ـ وهذا لا يصح عن علي (رضي الله عنه) لأنه من طريق فيها سماك بن حرب عن رجل مجهول، رواه حماد بن سلمة عن سماك، فقال: عن عبيد بن القعقاع. ورواه أبو الأحوص عن سماك فقال: عن عبد الرحمن بن القعقاع، وكلاهما لا يدري من هو ـ وسماك يقبل التلقين. ولو صح لكان مخالفاً لقول الحنفيين، والشافعيين، والمالكيين.
ومن طريق يحيى بن سعيد الأنصاري وعبد الرحمن بن أبي الزناد: أن معاوية أقاد من السكران، قال ابن أبي الزناد: وكان القاتل محمد بن النعمان الأنصاري ـ والمقتول عمارة بن زيد بن ثابت.
(1/107)
قال أبو محمد (ابن حزم): وهذا لا يصح، لأن يحيى لم يولد إلا بعد موت معاوية، وعبد الرحمن بن أبي الزناد في غاية الضعف، وأول من ضعفه: مالك، ولا نعلم في هذا الباب عن أحد من الصحابة شيئاً غير ما ذكرنا ـ وصح عن الزهري، وربيعة وبه يقول أبو حنيفة، ومالك والشافعي: يقاد من السكران ـ ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مما خالفوا فيه النصوص وما روي عن الصحابة، والقياس كما ذكرنا”(1) ويزيد ابن حزم بسرد بعض الروايات حيث ساق بسنده عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: ” أن في كتاب لأبيه عن عمر بن الخطاب قال: لا قود، ولا قصاص، ولا حد، ولا جراح، ولا قتل، ولا نكال على: من لم يبلغ الحلم حتى يعلم ماله في الإسلام وما عليه. وقد صح عن عثمان بن عفان: أن السكران لا يلزمه طلاق ـ فصح عنده أنه بمنزلة المجنون ـ وبهذا يقول أبو سليمان، والمزني، والطحاوي، وغيرهم. وإيجاب الغرامة شرع، فإذا كان بغير نص قرآن أو سنة ـ فهو شرع من الدين لم يأذن به الله ـ نعوذ بالله من هذا. قال أبو محمد: إلا أن من فعل هذا من الصبيان، أو المجانين، أو السكارى في دم، أو جراح، أو مال: ففرض ثقافه في بيت ليكف أذاه، حتى يتوب السكران، ويفيق المجنون، ويبلغ الصبي. لقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)(2) وتثقيفهم تعاون على البر والتقوى، وإهمالهم تعاون على الإثم والعدوان”(3)
الرأي المختار:
أقول: الرأي الذي تميل إليه النفس ما ذهب إليه جمهور الفقهاء في القود من السكران إذا تعاطى المسكر مختاراً وفي ذلك حماية للأنفس وصيانة للدماء وسداً للذرائع.
السكر والمسئولية المدنية:
__________
(1) ابن حزم: المحلى/تحقيق:عبد الغفار البنداري دار الكتب العلمية بيروت/ ج10/ص 218 : 220 بتصرف.
(2) المائدة / 2.
(3) ابن حزم: المحلى/ج10/ دار الكتب العلمية بيروت/ ص220.
(1/108)
“ومهما يكن الحال فالصغير والمجنون والسكران عندما نقول بإعفائهم من المسئولية الجزائية التي هي عبارة عن العقوبة، لا يعني ذلك إعفاءهم من المسئولية المدنية التي هي عبارة عن الغرامة المالية التي فرضها الشارع لكل جريمة حتى ولو لم تتوافر فيها شروط العمد، فهم مسئولون بالتعويض عن الأضرار التي يلحقونها بالغير مهما كان نوعها، والأعذار الشرعية في الغالب لا ترفع الضمان عن الجاني مهما كان حاله”(1)
ويؤكد عودة على وجوب مساءلة السكران مدنيا: “يسأل السكران مدنياً عن فعله ولو أعفي من العقاب لسكره، فالمسئولية المدنية لا ترتفع عن السكران بحال، ذلك أن الدماء والأموال معصومة أي محرمة طبقاً للقاعدة العامة في الشريعة، والأعذار الشرعية لا تتيح عصمة المحل، أي أن رفع العقوبة عن السكران بسبب عدم الإدراك لا يمنع من مسئوليته مدنياً عن تعويض الأضرار التي سببها للغير؛ لأن عدم الإدراك إذا صلح سبباً لرفع العقاب فإنه لا يصلح سبباً لإهدار الدماء والأموال”(2)
هكذا تتفق القوانين الوضعية مع الشريعة الإسلامية في رفع العقاب عن السكران إذا تناول مسكراً مكرهاً أو غير عالم به فقد جاء في نص المادة 62 من قانون العقوبات المصري: “لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل، إما لجنون أو عاهة في العقل. وإما لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أياً كان نوعها إذا أخذها قهراً عنه أو على غير علم منه بها”(3)
__________
(1) هاشم معروف الحسني: المسئولية الجزائية /ص275.
(2) عبد القادر عودة (المستشار): التشريع الجنائي الإسلامي/ ج1 / ص584.
(3) المكتبة القانونية: قانون العقوبات/ القاهرة/ باب9: أسباب الإباحة وموانع العقاب ص 22ا.
(1/109)
أقول: هناك بعض الأمراض التي يصاب بها الإنسان أرى أنها قد تلحق بحكم الجنون أو كل ما يغير العقل ويخرجه عن حالته الطبيعية وقد أشار إلى هذه الأمراض صاحب التشريع الجنائي الإسلامي حيث ذكر العته والصرع والتنويم المغناطيسي والهستيريا وانفصام الشخصية وغيرها.
كما أرى أن هناك نصاً شرعياً أشار إلى هذه الأمراض بطريقة مجملة وقد ورد هذا النص في سنن أبي داود حيث ساق بسنده عن حماد بن سلمة عن إبراهيم، عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر”(1)
الشاهد في هذا الحديث قوله (المبتلى) وهذه لفظة تشمل أي نوع من الابتلاء الذي يصاب به الإنسان ويؤثر على قواه العقلية ويشل إرادته مثل الجنون والعته والصرع والهستيريا والتنويم المغناطيسي وتسلط الأفكار الخبيثة وانفصام الشخصية وما أشبه ذلك.
وسنلقي الضوء على بعض المبتلين بهذه الأمراض:
أولاً: تسلط الأمراض الخبيثة:
“ويلحق بالجنون ما يسمونه في عصرنا الحاضر تسلط الأفكار الخبيثة؛ وهي حالة مرضية تنشأ عن ضعف الأعصاب أو الوراثة ومظهرها وقوع الإنسان تحت سلطان فكرة معينة،والشعور القوي الذي لا يدفع بالرغبة في إتيان فعل معين استجابة للفكرة التسلطية كمن يعتقد أنه مضطهد، أو أن أناساً يريدون قتله أو تسميمه فيشعر بالرغبة الجامحة في قتل من يتوهم أنه يريد قتله أو الانتقام منه، وقد يأت المريض الفعل استجابة لميل غريزي جامح تحت تأثير فكرة متسلطة عليه. وحكم المرضى من هذا النوع إلحاقهم بالمجانين إذا كانوا يأتون الفعل وهم فاقدوا الإدراك أو كان إدراكهم من الضعف بحيث يساوي إدراك المعتوه فإن لم يكونوا كذلك فهم مسئولون جنائياً”(2)
__________
(1) أبو داود: سنن أبي داود الحديث رقم 7398 / ج4 / الدار المصرية اللبنانية/ القاهرة.
(2) عبد القادرعودة: التشريع الجنائي الإسلامي/ ج1 / ص588.
(1/110)
ثانياً: ازدواج الشخصية:
“هي حالة مرضية نادرة تصيب الإنسان فيظهر في بعض الأحيان بغير مظهره العادي، وتتغير أفكاره ومشاعره وقد تتغير ملامحه ويأتي أعمالاً ما كان يأتيها وهو في حالته العادية، ثم تزول الحالة الطارئة فلا يذكر شيئاً مما حدث له بعد أن يعود إلى حالته الطبيعية. وحكم هذه الحالة أنه يعتبر مجنوناً إذا لم يدرك ما يفعل؛ لأنه كان فاقداً عقله وقت ارتكاب الفعل”(1)
المبحث الثاني
ألا يكون القاتل والداً للمقتول
وهذا الشرط هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وجملة ذلك أن الأب لا يقتل بولده والجد لا يقتل بولد ولده وإن نزلت درجته سواء في ذلك ولد البنين أو ولد البنات وهو ما سنوضحه على النحو التالي:
القول الأول: ألا يقتل والد بولده مطلقاً.
القول الثاني: أن يقتل الوالد بولده إذا أضجعه ليذبحه.
القول الثالث: أن يقتل والد بولده مطلقاً.
ونشرع الآن في تفصيل هذه الأقوال على النحو التالي:
القول الأول
ألا يقتل والد بولده مطلقاً
قال في الهداية في الفقه الحنفي: “ولا يقتل الرجل بابنه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقاد الوالد بولده)(2)
__________
(1) عبد القادرعودة: السابق/ ج1 / ص588 ، 589.
(2) تتبع الزيلعي تخريج هذا الحديث ” قلت: روي من حديث عمر بن الخطاب، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث سراقة بن مالك، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
– فحديث عمر: أخرجه الترمذي، وابن ماجه في “الديات” عن حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يقول: “لا يقاد الوالد بالولد”، انتهى. ورواه أحمد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد في “مسانيدهم” قال صاحب “التنقيح”: قال يحيى بن معين في حجاج: صدوق، ليس بالقوي، يدلس عن محمد بن عبيد اللّه العرزمي عن عمر بن شعيب، وقال ابن المبارك: كان الحجاج يدلس، فيحدثنا بالحديث عن عمرو بن شعيب مما يحدثه العرزمي، والعرزمي متروك، قال: وقد أخرجه البيهقي عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن = عمر بن الخطاب، فذكر قصة، وقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يقول: “لا يقاد الأب من ابنه” لقتلتك، هلم ديته، فأتاه بها، فدفعها إلى ورثته، وترك أباه، انتهى. قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح، انتهى. والبيهقي رواه كذلك في “المعرفة”، وكذلك الدارقطني في “سننه”، وأخرجه الحاكم في “المستدرك” عن عمر بن عيسى القرشي عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، قال: جاءت جارية إلى عمر بن الخطاب، فقالت: إن سيدي اتهمني، فأقعدني على النار، حتى أحرق فرجي، فقال لها عمر: هل رأى ذلك منك؟ قالت: لا، قال: فاعترففت له بشيء؟ قالت: لا، فقال عمر: علي به، فقال له عمر: أتعذب بعذاب الله؟! قال: يا أمير المؤمنين اتهمتها في نفسها، قال: هل رأيت ذلك عليها؟ قال: لا، قال: فاعترفت لك به؟ قال: لا، قال: والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يقول: “لا يقاد مملوك من مالك، ولا ولد من والده” لأقدتها منك، ثم برزه، فضربه مائة سوط، ثم قال لها: اذهبي، فأنت حرة لله تعالى، وأنت مولاة اللّه ورسوله، انتهى. وقال حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، أخرجه في “العتق – وفي الحدود” وتعقبه الذهبي في “مختصره”: فقال: عمر بن عيسى القرشي، منكر الحديث، قلت : أخرجه كذلك ابن عدي في “الكامل”، والعقيلي في “ضعفائه”، وأعلاه بعمر بن عيسى، وأسندا عن البخاري أنه قال فيه: منكر الحديث، انتهى” الزيلعي: نصب الراية لأحاديث الهداية ـ تحقيق أيمن صالح ـ دار الحديث القاهرة ـ ج6 ص335 : ص336. أقول: وهناك رواية أخرى عن عمر بن شعيب علق عليها الزيلعي أيضاً قائلاً: ” وأما حديث حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: فأخرجه أحمد في “مسنده” (6) عن ابن لهيعة ثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم، قال: لا يقاد والد من ولده، انتهى. قال في “التنقيح”: وابن لهيعة لا يحتج به، وقال أبو حاتم الرازي: لم يسمع ابن لهيعة من عمرو بن شعيب = شيئاً، قال: وقد رواه الدارقطني في “الأفراد” من حديث محمد بن جابر اليماني عن يعقوب بن عطاء بن أبي رباح عن عمرو به، ومحمد، ويعقوب لا يحتج بهما، انتهى كلامه. ورواه أبو يعلى الموصلي في “مسنده”، إلى أن قال فيه: عن جده عن عمر، فذكره، فينظر – مسند أحمد – وأخرجه الدارقطني في “سننه” (7) عن يحيى بن أبي أنيسة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم، قال: لا يقاد الوالد بولده، وإن قتله عمداً، انتهى. ويحيى بن أبي أنيسة ضعيف جداً” الزيلعي: نصب الراية المرجع السابق ـ ج6 ص337 ، ص338.
(1/111)
وهو بإطلاقه حجة على مالك في قوله يقاد إذا ذبحه ذبحاً، ولأنه سبب لإحيائه، فمن المحال أن يستحق له إفناؤه ولهذا لا يجوز له قتله وإن وجده في صف الأعداء مقاتلاً أو زانياً وهو محصن. والجد من قبل الرجال أو النساء وإن علا في هذا بمنزلة الأب”(1)
وجاء في نتائج الأفكار: “قال (ولا يقتل الرجل بابنه الخ) لا يقتل الإنسان بولده لقوله صلى الله عيه وسلم (لا يقاد الوالد بولده) وهو معلول بكونه سبباً لإحيائه وهو وصف معلل ظهر أثره في جنس الحكم المعلل به، فإنه لا يجوز أن يقتل والده وإن وجده في صف الأعداء مقاتلاً أو وجده زانياً وهو محصن فيجوز أن يتعدى به الحكم من الوالد إلى الجد مطلقاً وإلى الأم والجدات كذلك فإنهم أسباب لإحيائه فلا يجوز أن يكون سبباً لإفنائهم”(2)
__________
(1) ابن قودر: نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار/ وهي تكملة فتح القدير/ للكمال بن الهمام على الهداية شرح بداية المبتدي للميرغناني/ ج10 / 220 ، 221.
(2) ابن قودر: نتائج الأفكار / ج10 / ص221.
(1/112)
وعند الحنابلة قال في شرح العمدة في بيان شروط القصاص: “أن لا يكون أباً للمقتول، فلا يقتل الوالد بولده وإن سفل لما رواه عمر بن الخطاب وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يقتل والد بولده” رواه ابن ماجه. ذكر ابن عبد البر هذا حديث مشهور عند أهل العلم في الحجاز والعراق مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه حتى يكون الإسناد فيه تكلفاً مع شهرته، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنت ومالك لأبيك)(1)
__________
(1) حديث أنت ومالك لأبيك ذكره الزيلعي متتبعاً طرقه قائلاً: ” قلت: روي من حديث جابر، ومن حديث عائشة، ومن حديث سمرة بن جندب، ومن حديث عمر بن الخطاب، ومن حديث ابن مسعود، ومن حديث ابن عمر. – فحديث جابر: رواه ابن ماجه في “سننه” حدثنا هشام بن عمار ثنا عيسى بن يوسف ثنا يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي عن محمد بن المنكدر عن جابر أن رجلاً، قال: يا رسول اللّه إن لي مالاً وولداً، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي قال: ” أنت ومالك لأبيك”، انتهى. قال ابن القطان: إسناده صحيح، وقال المنذري: رجاله ثقات، وقال في “التنقيح”: ويوسف بن إسحاق من الثقات المخرج لهم في “الصحيحين” قال: وقول = الدارقطني فيه: غريب تفرد به عيسى عن يوسف لا يضره، فإن غرابة الحديث والتفرد به لا يخرجه عن الصحة، وقال الدارقطني في “حديث الاستخارة”: غريب من حديث عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد عن جابر، وفي حديث “رحم اللّه رجل سمحاً إذا باع”: تفرد به أبو غسان عن محمد، وفي حديث “كل معروف صدقة”: تفرد به علي بن عباس عن محمد، وكلها مخرجة في “صحيح البخاري”، إلى غير ذلك، انتهى كلامه.- طريق آخر: أخرجه الطبراني في “معجمه الصغير”، والبيهقي في “دلائل النبوة” عن عبيد ابن خلصة ثنا عبد اللّه بن عمر = المدني عن المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر، قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال: يا رسول اللّه إن أبيه يريد أن يأخذ ماله، فقال عليه السلام: أدعه ليه، فلما جاء قال له عليه السلام: إن ابنك يزعم أنك تأخذ ماله، فقال: سله، هل هو إلا عماته، أو قراباته، أو ما أنفقه على نفسي وعيالي؟ فقال: فهبط جبريل عليه السلام، فقال: يا رسول اللّه إن الشيخ قال في نفسه شعراً، لم تسمعه أذناه، فقال له عليه السلام: قلت في نفسك شعراً لم تسمعه أذناك فهاته، فقال: لا يزال يزيدنا اللّه تعالى بك بصيرة ويقيناً، ثم أنشأ يقول:
غذوتك مولوداً، ومنتك يافعاً، * ** تعل بما أحني عليك وتنهل،
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت *** لسقمك إلا ساهراً أتململ،
تخاف الردى نفسي عليك، وإنها * لتعلم أن الموت حتم موكل،
كأني أنا المطروق دونك بالذي * ** طرقت به دوني، فعيني تهمل،
فلما بلغت السن والغاية التي، *** إليها مدى ما فيك كنت أؤمل،
جعلت جزائي غلظة وفظاظة، *** كأنك أنت المنعم المتفضل،
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي، *** فعلت كما الجار المجاور يفعل،
قال: فبكى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم أخذ بمنكب ابنه، وقال له: “اذهب فأنت ومالك لأبيك” وعقد له البيهقي باباً في “الدلائل” فقال: “باب إخباره عليه السلام الشعر ثم ذكره”، واللّه أعلم. – وأما حديث عائشة: فرواه ابن حبان في “صحيحه” في النوع الثاني والأربعين، من القسم الثالث عن عبد اللّه بن كيسان عن عطاء عن عائشة أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم يخاصم أباه في ديْن له عليه، فقال له عليه السلام: “أنت ومالك لأبيك”، انتهى.- وأما حديث سمرة بن جندب: فأخرجه البزار في “مسنده”، والطبراني في “معجمه” عن أبي إسماعيل الحوراني، واسمه عبد اللّه بن إسماعيل عن جرير بن حازم عن الحسن عن سمرة، فذكره، بلفظ ابن ماجه، قال البزار: ورواه غير أبي إسماعيل، فأرسله، ولا نعلم أسنده إلا أبو إسماعيل، انتهى. وأعله العقيلي في “ضعفائه” بعبد اللّه بن إسماعيل، وقال: إنه منكر الحديث، لا يتابع على شيء من حديثه، قال: وفي الباب أحاديث من غير هذا الوجه، انتهى.- وأما حديث عمر: فأخرجه البزار في “مسنده” عن سعيد بن بشير عن مطر الوراق عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن عمر مرفوعاً، بلفظ ابن ماجه، قال البزار: لا نعلمه يروى عن عمر إلا من هذا الوجه، وأعله ابن عدي في “الكامل” بسعيد بن بشير، وضعفه عن البخاري، والنسائي، وابن معين، ووثقه عن شعبة.- وأما حديث ابن مسعود: فأخرجه الطبراني في “معجمه” عن معاوية = بن يحيى الطرابلسي ثنا إبراهيم بن عبد الحميد بن ذي حماية عن غيلان بن جامع عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن علقمة بن قيس عن ابن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال لرجل: “أنت ومالك لأبيك”، انتهى. ورواه في “معجمه الصغير”، وقال: تفرد به ابن ذي حماية، وكان من الثقات، انتهى. وأعله ابن عدي في “الكامل” بمعاوية بن يحيى، وضعفه تضعيفاً = يسيراً، وقال: إن في بعض رواياته ما لا يتابع عليه”الزيلعي: نصب الراية لأحاديث الهداية ـ ج4 ص135 : ص138.
(1/113)
وقضية هذه الإضافة يملكه إياه فإذا لم يثبت حقيقة الملك بقيت الإضافة شبهة في درء القصاص لأنه يدرأ بالشبهات. والأم كالأب، والجد وإن علا كالأب سواء كان من قبل الأب أو الأم لأنه والد فيدخل في عموم الخبر، ولأنه حكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه القريب والبعيد”(1)
وفي رواية لأحمد أن الأم تقتل بولدها لكن ابن قدامة يرى أن الصحيح في مذهب الحنابلة هو ألا تقتل الأم بولدها: ” قال الخرقي: (والأم في ذلك كالأب). هذا الصحيح من المذهب وعليه العمل عند مسقطي القصاص عن الأب، وروي عن أحمد رحمه الله ما يدل على أنه لا يسقط عن الأم فإن (مُهنا) نقل عنه في أم ولد قتلت سيدها عمداً تقتل، قال: من يقتلها؟ قال: ولدها. وهذا يدل على إيجاب القصاص على الأم تقتل بولدها وهناك روايتان بشأن الأم: (إحداهما) أن الأم تقتل بولدها لأنه لا ولاية لها عليه فتقتل به كالأخ، والصحيح الأول لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل والد بولده) ولأنها أحد الوالدين فأشبهت الأب ولأنها أولى بالبر فكانت أولى بنفي القصاص عنها والولاية غير مقيدة بدليل انتفاء القصاص عن الأب بقتل الكبير الذي لا ولاية له عليه وعن الجد ولا ولاية له وعن الأب المخالف في الدين أو الرقيق والجدة وإن علت في ذلك كالأم سواء في ذلك من قبل الأب أو من قبل الأم”(2)
وقال في فتح الوهاب في الفقه الشافعي: “ويقتل فرع بأصله كغيره لا أصل بفرعه لخبر: (لا يقاد للأب من ابنه) صححه الحاكم والبيهقي، والبنت كالابن والأم كالأب؛ وكذا الأجداد والجدات وإن علوا من قبل الأب أو الأم، والمعنى فيه أن الوالد كان سبباً في وجود الولد، فلا يكون الولد سبباً في عدمه”(3)
__________
(1) المقدسي: العدة شرح العمدة/ ص565 وما بعدها.
(2) ابن قدامة: المغني/ ج9 / ص 360 وص361 بتصرف.
(3) الأنصاري: فتح الوهاب شرح المنهاج/ ج2 / ص157.
(1/114)
وجاء في جامع المدارك في فقه الإمامية في بيان شروط القصاص: “أن لا يكون القاتل أباً، فلو قتل ولده لم يقتل به، وعليه الدية والكفارة والتعزير، ويقتل الولد بأبيه وكذا الأم تقتل بالولد، وكذا الأقارب، وفي قتل الجد بولد الولد تردد.. فأما عدم قتل الأب بولده فلا خلاف فيه ظاهراً وتدل عليه النصوص منها صحيحة حمران عن أحدهما عليه السلام قال: (لا يقاد والد بولده) ومنها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (قال: سألته عن الرجل يقتل ابنه أيقتل به؟ قال: لا) ومنها معتبرة إسحاق بن عمار عن جعفر، عن أبيه : (أن علياً عليه السلام كان يقول: لا يقتل والد بولده إذا قتله). ومنها صحيحة ظريف عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال: (قضى أنه لا قود لرجل أصابه والده في أمر يعيب عليه فيه فأصابه عيب من قطع وغيره ويكون له الدية ولا يقاد”(1)
وجاء في المبسوط في فقه الإمامية: “إذا قتل الرجل ولده لم يقتل به بحال سواء قتله حذفاً بالسيف، أو ذبحاً على أي وجه قتله عندنا وعند أكثرهم، وقال بعضهم يقتل به على تفصيل له، فإذا ثبت أنه لا يقاد به فعليه التعزير والكفارة، وإذا قتله جده فلا قود أيضاً وكذلك كل جد وإن علا فأما الأم وأمهاتها وأمهات الأب يقدن عندنا بالولد، وعندهم لا يقدن كالآباء”(2)
أقول: إذن هناك رواية أخرى في فقه الإمامية ترى أن الأم تقاد بولدها وفي ذلك تتفق الأمامية مع الرواية الأخرى في فقه الحنابلة.
القول الثاني
أن يقتل الوالد بولده إذا أضجعه ليذبحه
__________
(1) الخوانساري: جامع المدارك في شرح المختصر النافع / ج7 / ص232 وص233.
(2) الطوسي: المبسوط في فقه الإمامية / ج7 / ص9.
(1/115)
وهو قول المالكية حيث قالوا: يقاد الأب من ابنه إذا أضجعه فذبحه رغم أنهم يتفقون مع أصحاب المذاهب الأخرى في قاعدة (ألا يقاد والد بولده) ويلخص لنا ابن رشد هذا الاختلاف بين المالكية وأصحاب المذاهب الأخرى: “فقال مالك: لا يقاد الأب بالابن، إلا أن يضجعه فيذبحه فأما إن حذفه بسيف، أو عصا فقتله لم يقتل به، وكذلك الجد عنده مع حفيده. وقال أبو حنيفة، والشافعي والثوري: لا يقاد الوالد بولده ولا الجد بحفيده إذا قتله بأي وجه كان من أوجه العمد؛ وبه قال جمهور العلماء. وعمدتهم: حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقاد بالولد الوالد)(1)
__________
(1) قال الزيلعي: “- وأما حديث ابن عباس: فأخرجه الترمذي، وابن ماجه أيضاً (2) عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: “لا تقام الحدود في المساجد، ولا = يقتل الوالد بالولد”، انتهى. قال الترمذي: حديث لا نعرفه بهذا الإسناد، إلا من حديث إسماعيل بن مسلم، = وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، انتهى. وأعله ابن القطان بإسماعيل بن مسلم وقال إنه ضعيف، انتهى. قلت: تابعه قتادة، وسعيد بن بشير، وعبيد اللّه بن الحسن العنبري. فحديث قتادة: أخرجه البزار في “مسنده” عنه عن عمرو بن دينار به.وحديث سعيد بن بشير: أخرجه الحاكم في “المستدرك” عنه عن عمرو به، وسكت.وحديث العنبري: أخرجه الدارقطني، ثم البيهقي في “سننيهما” عنه عن عمرو به.- وأما حديث سراقة: فأخرجه الترمذي عن إسماعيل بن عياش عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن سراقة بن مالك بن جعشم، قال: حضرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقيد الأب من ابنه ولا يقيد الابن من أبيه، انتهى. قال الترمذي: حديث فيه اضطراب، وليس إسناده بصحيح، والمثنى بن الصباح يضعف في الحديث، انتهى. ورواه الدارقطني في “سننه”، ولفظه: قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : نقيد الأب من ابنه، ولا نقيد الابن من أبيه، انتهى. قال: والمثنى، وابن عياش ضعيفان، وقال في “التنقيح”: حديث سراقة فيه المثنى بن الصباح، وفي لفظه اختلاف، فإن البيهقي رواه بعكس لفظ الترمذي من رواية حجاج عن عمرو عن أبيه عن جده عن عمر، انتهى. وقال الترمذي في “علله الكبير”: سألت محمد بن إسماعيل عن حديث سراقة، فقال: حديث إسماعيل بن عياش إن أهل العراق، وأهل الحجاز شبه لا شيء، انتهى”. الزيلعي: نصب الراية ـ المرجع السابق ـ ج6 ـ ص336 ، ص337.
(1/116)
. وعمدة مالك: عموم القصاص بين المسلمين. وسبب اختلافهم: ما رووه عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن شعيب؛ أن رجلاً من بني مدلج يقال له: قتادة حذف ابناً له بالسيف، فأصاب ساقه اقترف جرحه فمات، فقدم سراقة بن جشعم على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له، فقال له عمر: اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك، فلما قدم عليه عمر أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة وأربعين خلفة، ثم قال: أين أخو المقتول، فقال: ها أنا ذا، قال: خذها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لقاتل شئ) فإن مالكاً حمل هذا الحديث على أنه لم يكن عمداً محضاً، وأثبت منه شبه العمد فيما بين الإبن والأب.
وأما الجمهور:
فحملوه على ظاهره من أنه عمد؛ لإجماعهم أن من حذف آخر بسيف فقتله، فهو عمد، وأما مالك: فرأى لما للأب من التسلط على تأديب ابنه، ومن المحبة له أن حمل القتل الذي يكون في أمثال هذه الأحوال على أنه ليس بعمد، ولم يتهمه؛ إذ كان ليس بقتل غيلة، فإنما يحمل فاعله على أنه قصد القتل من جهة غلبة الظن، وقوة التهمة؛ إذ كانت النيات لا يطلع عليها إلا الله تعالى، فمالك لم يتهم الأب حيث اتهم الأجنبي؛ لقوة المحبة التي بين الأب والإبن والجمهور إنما عللوا درء الحد عن الأب؛ لمكان حقه على الإبن”(1)
__________
(1) ابن رشد: بداية المجتهد/ ج2/ ص478.
(1/117)
وفي أحكام القرآن يقول ابن العربي إجابة على مسألة (هل يقتل الأب بولده مع عموم آيات القصاص؟) : “قال مالك: يقتل به إذا تبين قصده إلى قتله بأن أضجعه وذبحه، فإن رماه بالسلاح أدباً وحنقاً لم يقتل به، ويقتل الأجنبي بمثل هذا. وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا: لا يقتل به. سمعت شيخنا فخر الإسلام أبا بكر الشاشي يقول في النظر: لا يقتل الأب بابنه؛ لأن الأب كان سبب وجوده، فكيف يكون هو سبب عدمه! وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم وكان سبب وجودها، وتكون هي سبب عدمه؛ ثم أي فقه هذا؟ ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى الله في ذلك! وقد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لايقاد والد بولده) وهو حديث باطل. ومتعلقهم أن عمر رضي الله عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه، ولم ينكر أحد من الصحابة عليه، فأخذ سائر الفقهاء المسألة مسجلة، وقالوا: (لا يقتل الوالد بولده)، وأخذها مالك محكمة مفصلة، فقال: (إنه لو حذفه بسيف)، وهذه حالة محتملة لقصد القتل وغيره، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله”(1)
ويلخص لنا أبو زهرة ـ مستعرضاً ـ حالات قتل الوالد بولده:
__________
(1) ابن العربي: أحكام القرآن / مج1 / دار المعرفة بيروت/ص64 وص65.
(1/118)
“وإن من الملاحظ أن الوالد الذي يقتل ولده يكون لأحد أمور أربعة: أولها: أن الوالد أراد تأديبه فقسا وأغلظ في التأديب، وهذا بإجماع الفقهاء لا يقتل؛ لأن القصد في الأصل مباح، وتجاوز حد التأديب، وقد بين المالكية ذلك. وثانيها: يكون الولد شاذ الطباع فاسد الأخلاق قد أرهق أباه من أمره عسراً، كأن استمر على إتلاف زرعه، والاعتداء، والعيث في الأرض فساداً فقتله لهذا الاعتبار، وقد ذهبت سن التأديب، وأن الأخذ بقول عامة الفقهاء في هذا أعدل وأنصف، وقد قتل الرجل الصالح غلاماً فاسداً، ولما سأله لم قتلته أجابه بقوله كما حكاه سبحانه: (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً)(1) وثالثها: أن يكون الوالد ضعيف الإرادة ليس سليم العقل سلامة تامة، وفي هذه الحالة تكون مسئوليته ضعيفة، أو تكون ثمة شبهة في تحمله التبعة وإن ذلك قريب الوقوع، لأنه لا يمكن أن يخالف الفطرةَ سليمُ العقل إلا نادراً، وخصوصاً إذا كان القاتل هو الأم. والفرض الرابع والأخير: أن يقتل الوالد الولد انتقاماً لنفسه أو كيداً لأمه، أو ليدفع عن نفسه نفقته، كأن تطالب الأم الأب بنفقة الولد فيقتله تخلصاً من هذه النفقة وللعناد الآثم، وأنه في هذه الحال يكون تطبيق مذهب مالك أعدل وأنصف وأشفى للقلوب المؤمنة، وأروع لهذا الآثم ومن على شاكلته”(2)
حادثة وقعت في مصر اختلف فيها الفقهاء:
__________
(1) الكهف: 80.
(2) أبو زهرة: العقوبة / ص317 وما بعدها.
(1/119)
ذكر هذه الحادثة الشيخ أبو زهرة في معرض كلامه عن آراء الفقهاء في قتل الأب بولده حيث قال: “وقعت بمدينة الإسكندرية منذ سنين واقعة أغرق فيها رجل ولديه في البحر، وخلاصتها أن الرجل كان بائعاً متجولاً، وما يكسبه لا ينفقه على أولاده وامرأته، بل ينفقه في الميسر، وبينما هو في مقهى ألقت الأم بالولدين أمامه وتركتهما، وهي تعلم حاله، فحملهما وأخذ يسير بهما على شاطئ البحر متحيراً من أمره وأمرهما، ثم ألقى بنفسه وبهما في الماء. فنجا هو وغرق الولدان، فحكم عليه بالإعدام، ولما استفتى المفتي قال قول الجمهور؛ وهو ألا يقاد الوالد من ولده، وهو مذهب أبي حنيفة الذي كان لا يزال مذهب الدولة، فانتقده بعض الفقهاء، وقالوا: كان يجب أن يفتي بمذهب مالك، وبالضجة التي أثاروها أيدت محكمة النقض حكم الإعدام. ونسأل أولئك الشيوخ: أهذا مذهب مالك؟! أليس حال الرجل كمن حذف ولده بالسيف؟! لا حول ولا قوة إلا بالله”(1)
__________
(1) العقوبة / ص318.
(1/120)
أقول: ينبغي على الفقيه ألا يتأثر بعاطفة الجماهير لا سيما في ظل آلة إعلامية قوية تعتمد على إثارة الناس بغض النظر عن البحث عن حقيقة الحدث. فإذا تأثر الفقيه بعناوين الصحافة وبما تبثه وسائل الإعلام في مثل هذه القضايا فسوف ينساق وراء هذه المؤثرات ومن ثم سيخرج رأياً أو فتوى تتناسب ورغبة الرأي العام الثائر مما يضر بمركز المتهم القانوني والشرعي تماماً كما في المثال الذي ذكره الشيخ أبو زهرة إذ كان للضجة الإعلامية أثر في قيام بعض الفقهاء بانتقاد فتوى المفتي رغم أن المحاكم المصرية تأخذ بأرجح الآراء في مذهب أبي حنيفة وهو مذهب الدولة الرسمي الذي لا يرى قتل الأب بولده فكانت النتيجة أن تأثرت محكمة النقض المصرية برأي هؤلاء الفقهاء الثائرين ولم تأخذ برأي المفتي متأثرة بالضجيج الإعلامي وحالة هياج الشارع المصري وتم تنفيذ الحكم بهذا الرجل!! رغم أن القضية المنظورة أمام المحكمة لا تتفق والمثال المذكور في فقه المالكية فالرجل لم يضجع ولديه ليذبحهما!! بل إنه ألقى بنفسه وبهما في اليم ـ آيساً من حالته الاقتصادية وقلة ذات اليد ـ فنجا وغرق ولداه..
وأحب أن أشير أن هناك سبباً آخر جعل المحكمة لم تأخذ برأي مفتي الديار المصرية إذ أن القانون المصري يجعل رأي المفتي في حالة إحالة أوراق المتهم إليه غير ملزم؛ فللمحكمة أن تأخذ به أو تطرحه جانباً!!
وهذا عيب في القانون المصري إذ أن رأي المفتي مجرد رأي استشاري فقط للمحكمة وخاصة في حالة الحكم بالإعدام.. لذلك يثور بين فينة وأخرى جدل في وسائل الإعلام حول طبيعة وظيفة المفتي وخاصة في القضايا التي تثير الرأي العام.
(1/121)
وممن قال بقتل الوالد بولده من المعاصرين سليم العوا إذ يقول: “ولذلك فإننا نرى صحة قول المالكية بوجوب القصاص من الوالد بقتل ولده لعموم الأدلة الموجبة للقصاص”(1)
أقول: لقد أيد العوا رأي المالكية وجعل صلة الأبوة غير مانعة من القصاص رغم أن المالكية لا يرون تطبيق القصاص من الأب الذي يقتل ولده إلا بشرط أن يضجعه ليذبحه.. معنى ذلك أنهم يوافقون جمهور الفقهاء في عدم القصاص من الأب الذي يقتل ولده في غير صورة التي ذكرها المالكية. إذن تعميم رأي المالكية على كل صور قتل الوالد لولده يخالف صميم رأي المالكية أنفسهم.
الرأي المختار
أقول: أرى أن الرأي القائل بعدم قتل الأب بولده هو الصواب والأقرب إلى روح الشريعة للأسباب التي ذكرها جمهور الفقهاء، في كلام نفيس للكاساني في بدائعه حيث وضح الفرق بين اعتداء الوالد واعتداء الولد قائلاً: “ويقتل الولد بالوالد لعموم القصاص من غير فصل، ثم خص منها الوالد بالنص الخاص فبقي الولد داخلاً تحت العموم، ولأن القصاص شرع لتحقيق حكمة الحياة بالزجر والردع، والحاجة إلى الزجر في جانب الولد لا في جانب الوالد، لأن الوالد يحب ولده لا لنفسه بوصول النفع إليه من جهته، أو يحبه لحياة الذكر لما يحي به ذكره، وفيه أيضاً زيادة شفقة تمنع الوالد عن قتله. أما الولد فإنما يحب والده لا لوالده بل لنفسه وهو وصول النفع إليه من جهته، فلم تكن محبته وشفقته مانعة من القتل، فلزم المنع بشرع القصاص كما في الأجانب، ولأن محبة الولد لوالده لما كانت لمنافع تصل إليه من جهته لا لعينه، فربما يقتل الوالد ليتعجل الوصول إلى أملاكه، لا سيما إذا كان لا يصل النفع إليه من جهته لعوارض، ومثل هذا يندر في جانب الأب”(2)
__________
(1) العوا: محمد سليم العوا (الدكتور): في أصول النظام الجنائي الإسلامي ـ دار المعارف ـ ط2 ـ 1983م ـ ص250.
(2) الكاساني: بدائع الصنائع / ج10 / ص462.
(1/122)
أقول: إذا كانت العقوبة لشفاء غيظ المجني عليه فهل سيتحقق هذا الشفاء في قتل الوالد بولده؟! فالذي سيقتص هنا الابن الآخر للقاتل وشقيق القتيل معنى ذلك أن الإبن سيفقد أباه وأخاه دفعة واحدة فتكون الخسارة خسارتين!!
كما أرى: في حالات خاصة وبتكييف قانوني معين يمكن الأخذ برأي المالكية كأن تقتل الأم ابنها بعدما يضبطها متلبسة مع عشيقها في غياب والده ومن ثم تتآمر معه للتخلص من ابنها حتى لا يفضحها مع زوجها!! وليس هذا مثالاً افتراضياً بل إنه للأسف الشديد حدث في منتصف التسعينات في مصر أن قتلت أم ابنها بالاتفاق مع عشيقها وقطعته إرباً ودفنته في أرضية شرفة البيت وبنت عليه بالخرسانة المسلحة حتى كشفت بعد ذلك وأقرت بفعلتها الشنعاء!! فمثل هذه الأم لا تستحق حماية رأي جمهور الفقهاء بل إن رأي المالكية هنا أولى بالاعتبار. والله أعلم.
المبحث الثالث
أن يكون القاتل مختاراً
ذكر الفقهاء هذه المسألة في القتل بالتسبب وصورة ذلك كما يقول ابن قدامة: “أن يكره (رجل) رجلاً على قتل آخر فيقتله فيجب القصاص على المكرِه والمكرَه جميعاً وبهذا قال مالك. وقال أبو حنيفة ومحمد يجب القصاص على المكرِه دون المباشر لقوله عليه الصلاة والسلام” عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه” ولأن المكرَه آلة بدليل وجوب القصاص على المكرِه ونقل فعله إليه فلم يجب على المكرَه كما لو رمي به عليه فقتله، وقال زفر يجب على المباشر دون المكرِه لأن تقطع حكم السبب كالحافز مع الدافع والآمر مع القاتل وقال الشافعي يجب على المكرِه، وفي المكره قولان. وقال أبو يوسف لا يجب على واحد منهما لأن المكرِه لم يباشر القتل فهو كحافر البئر والمكرَه ملجأ فأشبه المرمي به على انسان”(1)
__________
(1) ابن قدامة: المغني/ ج9 / ص330 و331.
(1/123)
ويرجح ابن قدامة وجوب القصاص على المكرِه والمكرَه ويعلل ذلك بقوله: “ولنا على وجوبه على المكرِه أن تسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالباً فأشبه ما لو ألسعه حية أو ألقاه على أسد في زبية. ولنا على وجوبه على المكره أنه قتله عمداً ظلماً لاستبقاء نفسه فأشبه ما لو قتله في المخمصة ليأكله وقولهم إن المكرَه ملجأ غير صحيح فإنه متمكن من الامتناع ولذلك أثم بقتله وحرم عليه وإنما قتله عند الإكراه ظناً منه أن في قتله نجاة نفسه وخلاصه من شر المكرِه فأشبه القاتل في المخمصة ليأكله، وإن صار الأمر إلى الدية وجبت عليهما وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومحمد لا دية على المكرَه بناء منهما على أنه آلة وقد بينا فساده وإنما هما شريكان يجب القصاص عليهما جميعاً فوجبت الدية عليهما كالشريكين بالفعل وكما يجب الجزاء على الدال على الصيد في الإحرام والمباشر والردء كالمباشر في المحاربة فعلى هذا إن أحب الولي قتل أحدهما وأخذ نصف الدية من الآخر أو العفو فله ذلك”(1)
المبحث الرابع
أن يكون المقتول مكافئاً للقاتل
يقول في بداية المجتهد: “وأما الشروط التي يجب به القصاص في المقتول فهو أن يكون مكافئاً لدم القاتل، والذي به تختلف النفوس هو: الإسلام، والكفر، والحرية، والعبودية، والذكورية والأنثوية، والواحد والكثير، واتفقوا على أن المقتول إذا كان مكافئاً للقاتل في هذه الأربعة أنه يجب القصاص، واختلفوا في هذه الأربعة إذا لم تجتمع”(2)
من منطلق هذه التقدمة التي ذكرها ابن رشد سيكون تناولنا لهذا الشرط على عدة مطالب:
المطلب الأول: قتل المسلم بالكافر
المطلب الثاني: قتل الحر بالعبد
المطلب الثالث: قتل الرجل بالمرأة.
المطلب الرابع: قتل الجماعة بالواحد.
المطلب الأول
قتل المسلم بالكافر
__________
(1) ابن قدامة: المغني/ ج9 / ص331.
(2) ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد/ج2/ ص473.
(1/124)
لقد اختلف الفقهاء في هذه القضية حسب فهمهم للنصوص الشرعية وهذا ما سنوضحه خلال تعرضنا لآراء أصحاب المذاهب حول هذه المسألة: قتل المسلم بالكافر. لكن قبل أن نشرع في توضيح ذلك نود أن نوضح ما المقصود بالكافر؟ فالكافر طبقاً لمنظومة فقهاء الإسلام هو غير المسلم؛ والكافر إما أن يكون حربياً أو غير حربي، فإن كان حربياً فالإجماع منعقد على أنه لا يقتل به مسلم، وإن لم يكن حربياً فلا يخلو إما أن يكون ذمياً أو معاهداً. إذن الخلاف بين الفقهاء في حكم الكافر الذمي والمعاهد لا في الكافر الحربي. وبناء على ذلك نستطيع أن نخلص إلى عدة آراء لأصحاب المذاهب الإسلامية حول قضية قتل المسلم بالكافر وهي كالتالي:
الرأي الأول: لا يقتل مسلم بكافر ذمياً كان أو مستأمناً.
الرأي الثاني: يقتل المسلم بالكافر الذمي.
الرأي الثالث: يقتل المسلم بالكافر إن كان القتل غيلة.
الرأي الرابع: يقتل المسلم بالذمي إذا اعتاد قتل أهل الذمة.
الرأي الأول
لا يقتل مسلم بكافر ذمياً كان أو مستأمناً
قال بهذا الرأي الشافعية والحنابلة وبعض المالكية والظاهرية والإمامية سواء كان هذا الرأي على وجه الغيلة أو على غير هذا الوجه. وحجة القائلين بعدم قتل المسلم بالكافر بعض النصوص لتالية:
(1) ساق البخاري بسنده: عن مطرف سمعت الشعبي يحدث قال: سمعت أبا جُحيفة قال: سألت علياً رضي الله عنه هل عندكم شئ مما ليس في القرآن؟ وقال ابن عيينة: مرة ما ليس عند الناس. فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهماً يعطى رجلٌ في كتابه، وما في الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة قال: العقلُ، وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر”(1)
__________
(1) ابن حجر: فتح الباري / ج14 / ص258.
(1/125)
(2) وفي سنن أبي داود: “عن علي رضي الله عنه أن النبي قال: المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يُقتل مؤمنٌ بكافر، ولا ذو عهد في عهده”(1)
__________
(1) أبو داود: سنن أبي داود / ج4 / الحديث رقم 4530. أقول: تتبع الزيلعي عدة روايات لهذا الحديث وللذي سبقه قائلاً: ” قلت: أخرجه البخاري “في كتاب العلم”، وفي موضعين في “الديات” عن أبي جحيفة، قال: سألت علياً هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ فقال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر، انتهى. وأخرج = أبو داود، والنسائي عن قيس بن عباد، قال: انطلقت أنا، والأشتر إلى علي رضي اللّه تعالى عنه، فقلت له: هل عهد إليك رسول الله صلى اللّه عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا، فأخرج كتاباً من قراب سيفه، فإذا فيه: المؤمنون تكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثاً فعلى نفسه، ومن أحدث حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، انتهى. قال في “التنقيح”: سنده صحيح، وأخرج أبو داود أيضاً، وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال: “لا يقتل مؤمن بكافر”، انتهى. قال في”التنقيح”: إسناده حسن، انتهى. وأخرج البخاري في “تاريخه الكبير” حدثنا الدارمي ثنا عبيد اللّه بن عبد المجيد ثنا عبيد اللّه بن عبد الرحمن بن موهب عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة، قالت: وجد في قائمة سيف رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : المؤمنون تكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، مختصر” الزيلعي: نصب الراية ـ ج6 ص339 ، ص340.
.
(1/126)
وجه الدلالة من هذين النصين: لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم لا يقتل بالكافر؛ والكافر يشمل الذمي والمستأمن قال في المغني: “أكثر أهل العلم لا يوجبون على مسلم قصاصاً بقتل كافر أي كافر كان. روى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن وعكرمة والزهري وابن شبرمة ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي واسحاق وأبوعبيد وأبو ثور وابن المنذر. وقال النخعي والشعبي وأصحاب الرأي يقتل المسلم بالذمي خاصة. قال أحمد: النخعي والشعبي قالا: دية المجوسي واليهودي والنصراني مثل دية المسلم وإن قتله يقتل به. هذا عجب! يصير المجوسي مثل المسلم سبحان الله ما هذا القول؟ واستبشعه أي (أي الإمام أحمد) وقال: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يقتل مسلم بكافر” وهو يقول (أي الشعبي والنخعي): يقتل بكافر فأي شئ أشد من هذا؟ واحتجوا بما روى ابن البيلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلماً بذمي وقال: “أنا أحق من وفى بذمته” ولأنه معصوم عصمة مؤبدة فيقتل به كالمسلم. ولنا (أي الحنابلة) قول النبي صلى الله عليه وسلم: “المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ولا يقتل مؤمن بكافر” رواه الإمام أحمد وأبو داود، وفي لفظ (لا يقتل مسلم بكافر) رواه البخاري وأبو داود، وعلي رضي الله عنه قال: “من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر” رواه الإمام أحمد. ولأنه منقوص بالكفر فلا يقتل به المسلم كالمستأمن والعمومات مخصوصة بحديثنا، وحديثهم ليس له اسناد قاله أحمد وقال الدارقطني: يرويه ابن البيلماني وهو ضعيف إذا أسند فكيف إذا أرسل؟ والمعنى أنه مكافئ للمسلم بخلاف الذمي، فأما المستأمن فوافق أبو حنيفة الجماعة في أن المسلم لا يقاد به وهو المشهور عن أبي يوسف، وعنه يقتل به لما سبق في الذمي ولنا أنه ليس بمحقون الدم على التأبيد فأشبه الحربي”(1)
__________
(1) المغني / ج9 / دار الكتاب العربي/بيروت/ص 341 وص342.
(1/127)
ويرد ابن المنذر على استدلال الأحناف بقوله: “لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يعارضه (أي حديث: المسلمون تتكافأ دماؤهم..) ولأنه لا يقاد المسلم بالكافر فيما دون النفس بالإجماع، كما قال ابن عبد البر، فالنفس بذلك أولى والحديث المذكور يقتضي عموم الكافر، فلا يجوز تخصيصه باضمار الحرب ولأنه لو كان المعنى كما قال الأحناف لخلا عن فائدة، لأنه يصير التقدير لا يقتل المسلم إذا قتل كافراً حربياً، ومعلوم أن قتله عبادة، فكيف يعقل أنه يقتل به؟!”(1)
أما وجه استدلال الشافعي أنه: “احتج في عدم قتل المسلم بالذمي بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه لا يقتل مؤمن بكافر وهذا نص في الباب ولأن عصمته شبهة العدم لثبوتها مع القيام المنافي وهو الكفر لأنه مبيح في الأصل لكونه جناية متناهية فيوجب عقوبة متناهية وهو القتل لكونه من أعظم العقوبات الدنيوية إلا أنه من قتله لغيره وهو مقتضى العهد الثابت بالذمة فقيامه يورث شبهة ولهذا لا يقتل المسلم بالمستأمن فكذا الذمي ولأن المساواة شرط وجوب القصاص ولا مساواة بين المسلم والكافر ألا ترى أن المسلم مشهود له بالسعادة والكافر مشهود له بالشقاء فكيف يتساويان”(2)
مناظرة شيقة في مسألة قتل المسلم بالكافر
ذكر ابن العربي هذه المناظرة في كتابه أحكام القرآن قائلاً:
“ورد علينا بالمسجد الأقصى سنة سبع وثمانية وأربعمائة فقيه من عظماء أصحاب أبي حنيفة يعرف بالزوزني زائراً للخليل صلوات الله عليه فحضرنا في حرم الصخرة المقدسة طهرها الله معه، وشهد علماء البلد، فسئل على العادة عن قتل المسلم بالكافر، فقال: يقتل به قصاصاً؛ فطولب بالدليل فقال: الدليل قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى..) وهذا عام في كل قتيل.
__________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة / ج5 / ص283.
(2) الكاساني: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع/ ج7 / ص237.
(1/128)
فانتدب معه للكلام فقيه الشافعية بها وإمامهم عطاء المقدسي وقال: ما استدل به الشيخ الإمام لا حجة فيه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الله سبحانه قال: (كتب عليكم القصاص) فشرط المساواة في المجازاة، ولا مساواة بين المسلم والكافر فإن الكفر حطّ منزلته ووضع مرتبته.
الثاني: أن الله سبحانه ربط آخر الآية بأولها، وجعل بيانها عند تمامها فقال: (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى..) فإذا نقص العبد عن الحر بالرق وهو من آثار الكفر، فأحرى وأولى أن ينتقص عنه الكافر. الثالث: أن الله سبحانه وتعالى قال: (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف) ولا مؤاخاة بين المسلم والكافر، فدلّ على عدم دخوله في هذا القول.
فقال الزوزني: بل ذلك دليل صحيح، وما اعترضت به ولا يلزمني منه شئ. أما قولك: إن الله تعالى شرط المساواة في المجازاة وكذلك أقول. وأما دعواك أن المساواة بين الكافر والمسلم في القصاص غير معروفة فغير صحيح؛ فإنهما متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص، وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فإن الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم محقون الدم على التأبيد ، وكلاهما قد صارا من أهل دار الإسلام، والذي تحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى في مال المسلم؛ فدل على مساواته لدمه؛ إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. وأما قولك: إن الله تعالى ربط آخر الآية بأولها فغير مسلم به؛ فإن أول الآية عام وآخرها خاص وخصوص آخرها لا يمنع من عموم أولها؛ بل يجري كل على حكمه من عموم أو خصوص. وأما قولك: إن الحر لا يقتل بالعبد فلا أسلم به، بل يقتل به عندي قصاصاً، فتعلقت بدعوى لا تصح.
(1/129)
وأما قولك: (فمن عفي له من أخيه شئ) يعني المسلم، فكذلك أقول، ولكن هذا خصوص في العفو؛ فلا يمنع من عموم ورود القصاص، فإنهما قضيتان متباينتان؛ فعموم إحداهما لا يمنع من خصوص الأخرى، ولا خصوص هذه يناقض عمومَ تلك. وجرت في ذلك مناظرة عظيمة حصلنا منها فوائد جمة؛ أثبتناها في نزهة الناظر، وهذا المقدار يكفي هنا منها”(1)
الرأي الثاني
يقتل المسلم بالكافر الذمي
وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والشعبي والنخعي، وابن أبي ليلى.. قال في بداية المجتهد: “أما أصحاب أبي حنيفة فاعتمدوا في ذلك آثاراً منها: حديث يرويه ربيعة بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن البيلماني قال: “قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أهل القبلة برجل من أهل الذمة، وقال: (أنا أحق من وفى بعهده)(2)
__________
(1) ابن العربي: أحكام القرآن / ج1 / ص61 وص62.
(2) قال ابن حجر في تخريج هذا الحديث: حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمي الدارقطني من طريق ربيعة عن عبد الرحمن البيلماني عن ابن = عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد وقال أنا أكرم من وفي بذمته قال الدارقطني تفرد بوصله إبراهيم بن أبي يحيى عن ربيعة وقد رواه ابن جريج عن ربيعة فلم يذكر فيه ابن عمر وقال= = البيهقي في الإسناد إلى إبراهيم عمار بن مطر وهو كثير الخطأ والمحفوظ عن إبراهيم ابن محمد بن المنكدر عن ابن البيلماني لا عن ربيعة ثم أخرجه في رواية يحيى بن آدم عن إبراهيم كذلك وكذا أخرجه الشافعي عن إبراهيم وأخرجه أبو داود في المراسيل من رواية سليمان بن بلال عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسلا … وأخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن ربيعة به وأخرج الدارقطني في الغرائب من رواية حبيب عن مالك عن ربيعة كذلك وله طريق أخرى ثم أبي داود في المراسيل من رواية ابن وهب عن عبد الله بن يعقوب عن عبدالله بن عبد العزيز بن صالح قال قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين مسلما بكافر قتله غيلة وقال أنا أحق وأولى من أوفى بذمته وحكى البيهقي عن الشافعي قال بلغني أن عبد الرحمن البيلماني روى أن عمرو بن أمية الضمري قتل كافرا كان له عهد وكان رسولا فقتله النبي صلى الله عليه وسلم به قال وهذا خطأ فإن عمرو بن أمية عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهرا والمعروف أن عمرو ابن أمية قتل رجلين كان لهما عهد فوداهما النبي صلى الله عليه وسلم وروى الواقدي من طريق عمران بن حصين قال قتل خراش بن أمية بعد ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القتل يوم الفتح فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت قاتلا مؤمنا بكافر لقتلت خراشا بالهذلي وهذا إسناد ضعيف لكنه أمثل من حديث البيلماني قاله الشافعي واحتج به على أن قتل المؤمن بالكافر منسوخ” انظر: ابن حجر العسقلاني: الدراية في تخريج أحاديث الهداية/ تحقيق: عبد الله هاشم اليماني المدني/ دار المعارف بيروت/ج2/ص262 , ص263.
(1/130)
وروى ذلك عن عمر، قالوا: وهذا مخصص لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مؤمن بكافر) أي أنه أريد به الكافر الحربي دون الكافر المعاهد. وضعف أهل الحديث حديث عبد الرحمن البيلماني، وما روي عن عمر. وأما طريق القياس: فإنهم اعتمدوا على إجماع المسلمين في أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال الذمي، قالوا: فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم فحرمة دمه كحرمة دمه، فسبب الخلاف: تعارض الآثار والقياس”(1) أما الكاساني فقد رد على أدلة الشافعي بقوله: “ولنا عمومات القصاص من نحو قوله تبارك وتعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى) وقوله سبحانه وتعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) وقوله جلت عظمته (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً) من غير فصل بين قتيل وقتيل ونفس ونفس ومظلوم ومظلوم فمن ادعى التخصيص والتقييد فعليه الدليل وقوله سبحانه وتعالى عز من قائل (ولكم في القصاص حياة) وتحقيق معنى الحياة في قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم بالمسلم لأن العداوة الدينية تحمله على القتل خصوصاً عند الغضب ويجب عليه قتله لغرمائه فكانت الحاجة إلى الزاجر أمس فكان في شرع القصاص فيه في تحقيق معنى الحياة أبلغ”(2)
أما الطحاوي فقد دافع عن رأي الأحناف في شرح معاني الآثار بقوله:
__________
(1) ابن رشد: بداية المجتهد / ج2 / ص475 .
(2) الكاساني: بدائع الصنائع / ج7 / ص237.
(1/131)
“حدثنا بن مرزوق قال ثنا أبو عامر قال ثنا سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن البيلماني ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل من المسلمين قد قتل معاهدا من أهل الذمة فأمر به فضرب عنقه وقال أنا أولى من وفي بذمته.. حدثنا سليمان بن شعيب قال ثنا يحيى بن سلام عن محمد بن أبي حميد المدني عن محمد بن المنكدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم مثله والنظر عندنا شاهد لذلك أيضا وذلك أنا رأينا الحربي دمه حلال وماله حلال فإذا صار ذميا حرم دمه وماله كحرمة دم المسلم ومال المسلم ثم رأينا من سرق من مال الذمي ما يجب فيه القطع قطع كما يقطع في مال المسلم فلما كانت العقوبات في انتهاك المال الذي قد حرم بالذمة كالعقوبات في انتهاك المال الذي حرم بالإسلام كان يجئ في النظر أيضا أن في الدم الذي قد حرم بالذمة كالعقوبة في الذي قد حرم بالإسلام فإن قال قائل فإنا قد رأينا العقوبات الواجبات في انتهاك حرمة الأموال قد فرق بينهما وبين العقوبات الواجبات في انتهاك حرمة الدم وذلك أنا رأينا العبد يسرق من مال مولاه فلا يقطع ويقتل مولاه فيقتل ففرق بين ذلك فما تنكرون أيضا أن يكون قد فرق بين ما يجب في انتهاك مال الذمي ودمه قيل له هذا الذي ذكرت قد زاد ما ذهبنا إليه توكيدا لأنك ذكرت أنهم أجمعوا أن العبد لا يقطع في مال مولاه وأنه يقتل بمولاه وبعبيد مولاه فما وصفت من ذلك كما ذكرت فقد خففوا أمر المال ووكدوا أمر الدم في الدم حيث لم يوجبوها بالمال فلما ثبت توكيد أمر الدم وتخفيف أمر المال ثم رأينا مال الذمي يجب في انتهاكه على المسلم كما يجب عليه في انتهاك مال المسلم كان دمه أحرى أن يكون عليه في انتهاك حرمته ما يكون عليه في انتهاك حرمة دم المسلم وقد أجمعوا أن ذميا لو قتل ذميا ثم أسلم القاتل أنه يقتل بالذمي الذي قتله في حال كفره ولا يبطل ذلك إسلامه فلما رأينا الإسلام الطارئ على القتل لا يبطل القتل الذي كان
(1/132)
في حال الكفر وكانت الحدود تمامها أحدها ولا يوجد على حال لا يجب في البدء مع تلك الحال ألا ترى أن رجلا لو قتل رجلا والمقتول مرتد أنه لا يجب عليه شيء وأنه لو جرحه وهو مسلم ثم أرتد عياذا بالله فمات لم يقتل فصارت ردته التي تقدمت الجناية ملكا طرأت عليها في درء القتل سواء فكان كذلك في النظر أن يكون القاتل قبل جنايته وبعد جنايته سواء ولما كان إسلامه بعد جنايته قبل أن يقتل بها لا يدفع عنه القود كان كذلك إسلامه المتقدم لجنايته لا يدفع عنه القود وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين “(1)
حكم القاضي أبي يوسف في قتل المسلم بالكافر
أقول: ورغم أن الأحناف يقولون بقتل المسلم بالكافر الذمي إلا أنهم لم يستطيعوا تطبيق ذلك من الناحية الواقعية والعملية. فقد ذكر الماوردي أن نفوس الناس لا تتحمل قتل المسلم بالكافر وهذا قد منع القائلين به من العمل عليه.. ويستشهد على ذلك بالقضية التي رفعت إلى أبي يوسف أيام الرشيد قائلاً:
“وقال أبو حنيفة لا اعتبار لهذا التكافؤ فيقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر كما يقتل العبد بالحر والكافر بالمسلم، وما تتحاماه النفوس من هذا وتأباه قد منع القائلين به من العمل عليه. وحكي أنه رفع إلى أبي يوسف القاضي: مسلم قتل كافراً فحكم عليه بالقود فأتاه رجل برقعة فألقاها إليه فإذا فيها مكتوب (من السريع):
يا قاتل المسلم بالكافر *** جرتَ وما العادلُ كالجائرِ
يا منْ ببغدادَ وأطرافه *** من علماء الناس أو شاعرِ
استرجعوا وابكوا على دينكم *** واصطبروا فالأجرُ للصابرِ
جار على الدين أبو يُوسُف *** بقتله المؤمنَ بالكافر
__________
(1) الطحاوي: شرح معاني الآثار/ تحقيق محمد زهدي النجار/ دار الكتب العلمية / بيروت/ ج3 / ص195.
(1/133)
فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر وأقرأه الرقعة؛ فقال له الرشيد تدارك هذا الأمر بحيلة لئلا تكون فتنة فخرج أبو يوسف وطالب أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها فلم يأتوا بها فأسقط القود؛ والتوصل إلى مثل هذا سائغ عند ظهور المصلحة فيه”(1)
رجوع زفر عن رأي أبي حنيفة
وذكر ابن حجر في الفتح أن زفر صاحب أبي حنيفة قد رجع عن رأي أبي حنيفة حيث ساق الحافظ ابن حجر بسنده : “وذكر أبو عبيد بسند صحيح عن زفر أنه رجع عن قول أصحابه فأسند عبد الواحد بن زياد قال: قلت لزفر: إنكم تقولون تدرأ الحدود بالشبهات فجئتم إلى أعظم الشبهات فأقدمتم عليها. المسلم يقتل بالكافر! قال: فأشهد على أني رجعت عن هذا”(2)
أقول: هذا لا يؤثر في الرأي الغالب والمشهور لدى الأحناف الذي يشبه الإجماع في فقه الحنفية القائل بقتل المسلم بالكافر.
الرأي الثالث
يقتل المسلم بالكافر إن كان القتل غيلة
__________
(1) الماوردي: الأحكام السلطانية / المكتبة التوفيقية/القاهرة/ص395. وذكر هذه الحكاية مع اختلاف طفيف في بعض الكلمات أبو جعفر الطوسي حيث قال: “حكى الساجي حكاية في قتل المؤمن بالكافر. فقال حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري قال حدثنا علي عن عمروس الأنصاري قال تقدم إلى أبي يوسف في مسلم قتل كافراً فأراد أن يقيده به، وكان على رأس أبي يوسف رجل في يده رقاع فناوله الرقاع وحبس منها رقعة، فقال: ما تلك الرقعة؟ فقال فيها شعر، فقال هاتها فأعطاه فإذا فيها شعر لشاعر بغدادي كان يكنى أبا المصرخيّّّ يقول”.. ثم ذكر الأبيات المذكور لكنه = ذكر (من فقهاء الناس) بدلاً (من علماء الناس) وذكر (المسلم) بدلاً من (المؤمن) وقدم البيت الأخير على الذي قبله.. راجع الطوسي: المبسوط في فقه الإمامية ج7 ص6.
(2) ابن حجر: فتح الباري / ج14 / ص260.
(1/134)
يرى مالك والليث أن المسلم يقتل بالكافر إن كان القتل غيلة قال مالك “لا يقاد المسلم بالذمي إلا أن يقتله غيلة أو حرابة، فيقاد به”(1)
هذا يقودنا إلى تفسير معنى الغيلة:
“الغيل بالكسر الأجمة، وموضع الأسد وجمعه غيول. قال الأصمعي: الغيل: الشجر الملتف. والغيلة بالكسر: الإغتيال. يقال: قتله غيلة: وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فيقتله فيه”(2) وقال ابن رشد: “فقتل الغيلة أن يضجعه، فيذبحه، وبخاصة على ماله”(3)
وحجة المالكية حديث عبد الله بن عامر إلى عثمان رضي الله عنه وسياقه كالتالي: “عن عبد الملك بن حبيب الأندلسي عن مطرف عن ابن أبي ذئب عن مسلم بن جندب الهذلي قال: كتب عبد الله بن عامر إلى عثمان: أن رجلاً من المسلمين عدا على دهقان فقتله على ماله؟ فكتب إليه عثمان: أن اقتله به ـ فإن هذا قتل غيلة على الحرابة”(4)
قال ابن حزم: “ورويناه أيضاً عن أبان بن عثمان، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ورجاله كثير من أبناء الصحابة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن كل ذلك من رواية عبد الملك بن حبيب الأندلسي ـ وفي بعضها ابن أبي الزناد ـ وهو ضعيف ـ وبعضها مرسل، ولا يصح منها شئ”(5) وفي مراسيل أبي داود حديث آخر مرسل: “أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلماً بكافر قتله غيلة، وقال: أنا أولى وأحق من وفى بذمته” وهذا مذهب مالك وأهل المدينة أن القتل غيلة لا تشترط له المكافأة فيقتل فيه المسلم بالكافر”(6)
ويرد ابن حزم على رأي المالكية بقوله:
__________
(1) ابن حزم: المحلى / ج10 / ص221.
(2) الرازي: مختار الصحاح/ ص487.
(3) ابن رشد: بداية المجتهد / ج2 / ص474.
(4) ابن حزم: المحلى/ ج10 / ص222.
(5) ابن حزم: السابق/ج10 / 223.
(6) ابن رجب: جامع العلوم والحكم / ص108.
(1/135)
“وأما قول مالك ـ في الفرق بين الغيلة وغيرها ـ وكذلك أيضاً سواء سواء، إلا أنهم قالوا: إنما قتلناه للحرابة! فقلنا:: أنتم لا تقولون بالترتيب في حد الحرابة، ولو قلتموه لكنتم متناقضين أيضاً، لأنه لا خلاف بين أحد ممن قال بالترتيب في أنه لا يقتل المحارب إن قتل في حرابة، ومن لا يقتل به إن قتله في غير الحرابة، وأنتم لا تقتلون المسلم بالذمي في غير الحرابة ـ فظهر فساد هذا التقسيم بيقين. وأما المشهور من قول المالكيين أنهم يقولون بتخيير الإمام في قتل المحارب، أو صلبه، أو قطعه، أو نفيه ـ فمن أين أوجبوا قتل المسلم بالذمي ـ ولا بد في الحرابة وتركوا قولهم في تخيير الإمام فيه ـ فوضح فساد قولهم بيقين لا إشكال فيه، وأنه لا حجة لهم أصلاً وبالله تعالى التوفيق”(1)
الرأي الرابع
يقتل المسلم بالذمي إن اعتاد قتل أهل الذمة
هذا ما قالت به الإمامية؛ قال في شرائع الإسلام في باب شروط القصاص: “التساوي في الدين فلا يقتل مسلم بكافر، ذمياً كان أو مستأمناً أو حربياً ولكن يعزّر ويغرّم دية القاتل، وقيل: إن اعتاد قتل أهل الذمة، جاز الاقتصاص بعد رد فاضل ديته”(2)
__________
(1) ابن حزم: المحلى /ج10 / ص224.
(2) الحلي: شرائع الإسلام /ج8 / ص181.
(1/136)
وفي تفصيل وسائل الشيعة: “باب أنه لا يقتل المسلم إذا قتل الكافر إلا أن يعتاد قتلهم فيقتل بالذمي بعد رد فاضل الدية”(1) وساق بسنده عن محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم وغيره، عن أبان بن عثمان عن إسماعيل بن الفضل، قال سألت أبا عبدالله عليه السلام، عن دماء المجوس واليهود والنصارى، هل عليهم وعلى من قتل، إذا غشوا المسلمين وأظهروا العداوة لهم؟ قال: لا، إلا أن يكون معقوداً لقتلهم، قال: وسألته عن المسلم هل يقتل بأهل الذمة وأهل الكتاب إذا قتلهم؟ قال: لا إلا أن يكون معتاداً لذلك لا يدع قتلهم، فيقتل وهو صاغر”(2)
“وبالإسناد عن يونس عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا قتل المسلم يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً فأرادوا أن يقيدوا ردّوا فضل دية المسلم وأقادوه. وعن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن أبي المفرا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا قتل المسلم النصراني فأراد أهل النصراني أن يقتلوه قتلوه، وأدّوا فضل ما بين الديتين. وعن أحمد بن الحسن اليثمي عن أبان عن إسماعيل بن الفضل، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المسلم هل يقتل بأهل الذمة؟ قال: لا إلا أن يكون متعوداً لقتلهم وهو صاغر. ومحمد بن الحسن بإسناده عن جعفر بن بشير عن إسماعيل بن الفضل، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: رجل قتل رجلاً من أهل الذمة، قال: لا يقتل به إلا أن يكون متعوداً للقتل”(3)
__________
(1) العاملي: وسائل الشيعة/ ج29 / ص107.
(2) العاملي: السابق/ ج29 / ص107.
(3) العاملي: السابق / ج29 / ص108.
(1/137)
وفي جامع المدارك: “لا يقتل مسلم بكافر مع عدم الاعتياد ذمياً كان أو مستأمناً أو حربياً، ويدل عليه النصوص منها: قول أبي جعفر عليه السلام على المحكي في صحيحة محمد بن قيس: “لا يقتل مسلم بذمي في القتل ولا في الجراحات، ولكن يؤخذ من المسلم جنايته للذمي على قدر دية الذمي ثمانمائة درهم. ومنها معتبرة إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المسلم هل يقتل بأهل الذمة؟ قال: لا إلا أن يكون متعوداً لقتلهم فيقتل وهو صاغر. ومنها صحيحة إسماعيل بن الفضل الثانية عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: قلت له: رجل قتل رجلاً من أهل الذمة، قال: لا يقتل إلا أن يكون متعوداً للقتل”(1)
لكنهم اختلفوا هل يقتل المسلم بالذمي قصاصاً أم حداً قال في جامع المدارك: “واختلف في أن القتل مع التعود قصاص أم حد، وقد يستظهر كونه قصاصاً لما دلّ من الروايات على أن المسلم يقتل بقتل الكافر حيث إنه مطلق يحمل على صورة كون المسلم معتاداً في قتله كما دلت عليه الروايات المتقدمة”(2)
__________
(1) الخوانساري: جامع المدارك / ج7 / ص228.
(2) الخوانساري: السابق / ج7 / ص228.
(1/138)
أقول: هذا ما أفتى به المتأخرون من فقهاء الشيعة منهم أبوالقاسم الخوئي.. ويتفق أيضاً رأي الإمامية مع قانون العقوبات المصري في مسألة العود حيث يجوز للقاضي أن يحكم على المتهم بأكثر من الحد الأقصى المقرر قانوناً للجريمة وقد بينت المادة 49 من هو المتهم العائد وذكرت ثلاث حالات نختار منها: “يعتبر عائداً: من حكم عليه بعقوبة جناية وثبت ارتكابه بعد ذلك جناية أو جنحة”(1) وقد أعطى القانون سلطة للقاضي لتشديد العقوبة على المتهم العائد جاء في نص مادة 50: “يجوز للقاضي في حال العود المنصوص عنه في المادة السابقة أن يحكم بأكثر من الحد الأقصى المقرر قانوناً للجريمة بشرط عدم تجاوز ضعف هذا الحد. ومع هذا لا يجوز في حال من الأحوال أن تزيد مدة الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن على عشرين سنة”(2)
إذن هناك سبق للشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية في نظرية العود أو المجرم الذي اعتاد الإجرام لأن هذا المتهم ألف الإجرام وليس له رادع ولا زاجر إلا أن تشدد عليه العقوبة.
قول ابن حزم الظاهري ومناقشته للأقوال السابقة:
__________
(1) المكتبة القانونية: قانون العقوبات المصري/ القاهرة / ص18.
(2) المكتبة القانونوية: قانون العقوبات المصري / م50 / ص19.
(1/139)
يرد ابن حزم على استشهاد الأحناف بقتل المسلم بالكافر الذمي: “أما قول الله عز وجل (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)(1) فإن هذا مما كتب الله عز وجل في التوراة، ولا تلزمنا شرائع من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام. وأيضاً ففي آخر هذه الآية بيان أنها في المؤمنين بالمؤمنين خاصة، لأنه قال عز وجل في آخرها: (فمن تصدق به فهو كفارة له)(2) ولا خلاف بيننا وبينهم في أن صدقة الكافر على ولي الكافر الذمي المقتول عمداً ولا تكون كفارة له، فبطل تعلقهم بهذه الآية. وأما قوله عز وجل: (والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)(3) فإن الخطاب في هذه الآيات للمؤمنين لا للكافرين، فالمؤمنون هم المخاطبون في أول الآية، وآخرها بأن يعتدوا على من اعتدى عليهم، بمثل ما اعتدى به عليهم، وليس فيها: بأن يعتدي غير المؤمنين على المؤمنين باعتداء يكون من المؤمنين عليهم أصلاً. وإنما وجب القصاص من الذمي للذمي بقوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله)(4) لا بالآية المذكورة.وأما قوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها)(5) فهو أيضاً في المؤمن يساء إليه خاصة لأن نصها: (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفى وأصلح فأجره على الله)(6) ولا خلاف في أن هذا ليس للكفرة ولا أجر لهم البتة. وأما قوله عز وجل (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثلما عوقبتم به)(7) فكذلك أيضاً إنما هو خطاب للمؤمنين خاصة، يبين ذلك ضرورة قوله تعالى فيها (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)(8) ولا خير لكافر أصلاً صبر أو لم يصبر. قال الله عز وجل: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً)(9) وأما قوله تعالى (ولمن انتصر بعد ظلم فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون
__________
(1) المائدة / 45.
(2) المائدة / 45.
(3) البقرة / 194.
(4) المائدة / 149.
(5) الشورى : 40.
(6) الشورى : 40.
(7) النحل : 126.
(8) النحل : 126.
(9) الفرقان : 23.
(1/140)
الناس ويبغون في الأرض بغير الحق)(1) وقوله تعالى: (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً)(2) وقوله تعالى: (ثم بغي عليه لينصرنه الله)(3) وقوله عز وجل: (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى)(4) والأخبار الثابتة التي فيها (النفس بالنفس) و (من قتل له قتيل فإما أن يودى وإما أن يقاد)، فإن كل ذلك يخص بقول الله عز وجل (أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون)(5) وقوله تعالى: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون)(6) وبقوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)(7) فوجب يقيناً أن المسلم ليس كالكافر في شئ أصلاً ولا يساويه في شئ فإذا هو كذلك فباطل أن يكافأ دمه بدمه أو عضوه بعضوه أو بشرته ببشرته فبطل أن يستفيد الكافر من المؤمن أو يقتص له منه فيما دون النفس إذ لا مساواة بينهم أصلاً، ولما منع الله عز وجل أن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً وجب ضرورة أن لا يكون له عليه سبيلاً في قوده ولا في قصاص أصلاً ووجب ضرورة استعمال النصوص كلها إذ لا يحل ترك شئ منها”(8)
__________
(1) الشورى : 41 ، 42.
(2) الإسراء : 33.
(3) الحج : 60.
(4) البقرة : 178.
(5) القلم : 35 ، 36.
(6) السجدة : 18.
(7) النساء : 141.
(8) ابن حزم: المحلى/ ج10/ / ص227.
(1/141)
ورد ابن حزم على استشهاد الأحناف بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتل مؤمن بكافر فمن قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدية).. قال أبو محمد بن حزم: “حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيفة لا يجوز الاحتجاج بها وهي مملوءة مناكير. ثم لو صحت لما كانت لهم فيها حجة، بل كانت تكون حجة لنا عليهم، لأن فيها أن لا يقتل مؤمن بكافر، فهذه قضية صحيحة قائمة بنفسها وهي قولنا. ثم فيها حكم من قتل عمداً فلو دخل في هذه القضية المؤمن يقتل الذمي عمداً لكانت مخالفة للحكم الذي قبلها ـ وهذا باطل ـ فلو صحت لكانت بلا شك في المؤمن يقتل المؤمن عمداً، لا فيما قد أبطله قبل أن يقتل مؤمن بكافر. وقالوا (أي الأحناف): معناه لا يقتل مؤمن بكافر حربي، أو إذا قتله خطأ، فكان هذا من أسخف ما أتوا به، وكيف يجوز أن يظن هذا ذو مسكة عقل، ونحن مندوبون إلى قتل الحربيين، موعودون على قتلهم بأعظم الأجر، أيمكن أن يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا الحال وأمره عليه الصلاة والسلام بالجهاد يتكلف أن يخبرنا أننا لا نقتل بالحربيين إذا قتلناهم، ما شاء الله كان؟ وكذلك في تأويلهم أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن لا يقتل مؤمن بكافر إذا قتله خطأ ـ هذا والله يقين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجب للنار، وكيف يمكن أن يسع هذا في دماغ من به مسكة عقل أن يكون مذ بعث الله نبيه عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة قد أمنا أن يقتل منا أحد بألف كافر قتلهم خطأ ثم يتكلف عليه الصلاة والسلام إخبارنا بأن لا يقتل المؤمن بكافر قتله خطأ ثم لا يبين لنا ذلك إلا بكلام مجمل لا يفهم منه هذا المعنى، إنما يأتي به المتكلفون لنصر الباطل، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعطى جوامع الكلم، وأمره ربه تعالى بالبيان لنا: فلا، ولا كرامة، لقد نزهه الله عز وجل عن هذا وباعده عن أن
(1/142)
يظن به ذلك مسلم”(1)
ويقول ابن حزم أيضاً: “وقالوا في قوله عليه الصلاة والسلام (لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده) تقديم وتأخير، إنما أراد أن يقول: لا يقتل مؤمن، ولا ذو عهد في عهده بكافر ـ وقد صح ـ بلا خلاف ـ وجوب قتل المعاهد بالذمي. فصح أنه إنما أراد بالكافر: الحربي. قال أبو محمد: إذ وجد نص منسوخ لم يحل لأحد أن يقول في نص آخر لم يأت دليل بأنه منسوخ: هذا منسوخ. وقالوا (الأحناف): إن الشعبي هو أحد رواة ذلك الخبر وهو يرى قتل المؤمن بالذمي؟ فقلنا (ابن حزم): هذا لم يصح قط عن الشعبي، لأنه لم يروه إلا ابن أبي ليلى ـ وهو سئ الحفظ، وداود بن يزيد الزغافري ـ وهو ساقط. ثم لو صح ذلك لكان الواجب رفض رأيه واطراحه. والأخذ بروايته. لأنه وغيره من الأئمة موثوق بهم في أنهم لا يكذبون لفضلهم غير موثوق بهم بأنهم لا يخطئون، بل كل أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معصوم من الخطأ ولا بد، وليس يخطئ أحد في الدين إلا لمخالفة نص قرآن، أو نص سنة بتأويل منه قصد به الحق فأخطأه. فهذا ما اعترضوا به فقد أوضحنا سقوط أقوالهم. وأما احتجاجهم بخبر ابن المنكدر وربيعة عن ابن البيلماني فمرسلان ولا حجة في مرسل. فإن لجوا: قلنا لهم: دونكم مرسلاً مثلهما ـ نا حمام بن أحمد نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الديري نا عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن شعيب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم قتل رجلاً من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم، وأنه ينفى من أرضه إلى غيرها). وأما قصة عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وقتله الهرمزان، وجفينة وبنت أبي لؤلؤة ـ فليس في الخبر نص، ولا دليل على أن أحداً قال بقتل جفينة ـ فبطل بذلك دعواهم. وصح أنه إنما طولب بدم الهرمزان فقط، وكان مسلماً ـ ولا خلاف في القود للمسلم من المسلم، فلا يجوز أن يقحم في الخبر ما ليس فيه بغير نص ولا إجماع. ومن غرائب
__________
(1) ابن حزم: المحلى/ ج10/ص 231 ، 232.
(1/143)
القول: احتجاج الحنفيين في الفرق بين قاتل المستأمن فلا يقيدونه به، وبين قاتل الذمي فيقيدونه به. فإن قالوا: الذمي محقون الدم بغير وقت، والمستأمن محقون الدم بوقت ثم يعود دمه حلالاً إذا رجع إلى دار الحرب؟ ولا ندري من أين وجب إسقاط القود بهذا الفرق، وكلاهما محرم الدم إذا قتل: تحريماً مساوياً لتحريم الآخر. وإنما يراعى الحكم وقت الجناية الموجبة للحكم ـ لا بعد ذلك ـ ولعل المستأمن لا يرجع إلى دار الحرب، ولعل الذمي ينقض الذمة ويلحق بدار الحرب فيعود دمه حلالاً ولا فرق “(1)
الرأي المختار:
رجح جماعة من المعاصرين رأي الأحناف منهم أبو زهرة وفاروق النبهان ويوسف علي محمود ومحمد سليم العوا وآخرون.
__________
(1) ابن حزم: المحلى / ج10 / ص232 : 235 بتصرف.
(1/144)
ذكر أبو زهرة بعد تحقيقه لهذه المسألة: “وإننا مع إجلالنا لآراء تلك الكثرة من الفقهاء لا نجد تلك الأدلة مسوغة لإسقاط القصاص بالنسبة لقتل غير المسلم، فالدليل الأول غير سليم في المقدمة؛ لأن الخطاب للمؤمنين لا يقتضي أن يكون القصاص خاصاً بقتلى المسلمين، إذ الخطاب للمؤمنين باعتبارهم أهل التكليف، فهم المخاطبون بتنفيذ الأحكام الشرعية، سواء أكانت تطبق على المسلمين وحدهم أم تطبق على المسلمين وغيرهم، والتعبير بقوله تعالى (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان)(1) لا يقتضي الاقتصار على قتلى المؤمنين وحدهم؛ لأن هذا النص خاص بالعفو وليس خاصاً بالقصاص، وما يكون في مقام العفو قد يكون خاصاً بالمؤمنين فيما بينهم، وأما فيما بينهم وبين غيرهم لا يكون مجالاً للعفو، هذا على فرض أن الأخوة لا تكون إلا أخوة الدين، فلماذا لا تكون أخوة الآدمية والإنسانية، ولا يكون ثمة تخصيص، بل الحكم يكون عاماً، وإن قريشاً وهم على الشرك لما سألهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيراً أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، ولم يرد النبي ذلك، بل عاملهم كما عامل يوسف إخوته، وهو عليه الصلاة والسلام قرر في هذه الأخوة الإنسانية العامة في قوله عليه الصلاة والسلام: (كلكم لآدم وآدم من تراب) والآيات في ذلك كثيرة. وأما الدليل الثاني، وهو الحديث (لا يقتل مسلم بكافر) وهو الذي جر الكثرة من الفقهاء إلى ذلك الرأي ـ فنقول فيه إن الحديث كان وارداً في الحربي لا في الذمي، فإن الذمي وإن كان كافراً كان تعبير النبي صلى الله عليه وسلم عنه بالذمي. وأما الذمي غير محقون الدم بإطلاق، بل بقيد الوفاء بالذمة، فالمسلم كذلك محقون الدم بقيد البقاء في الإسلام، فإن زايله قتل”(2)
__________
(1) البقرة : 178.
(2) أبو زهرة: العقوبة / ص268.
(1/145)
أما يوسف علي محمود فيقول: “من مناقشة الأدلة السابقة يترجح لنا صحة قول الحنفية ومن معهم في قتل المسلم بالذمي للأسباب الآتية:
(1) للأدلة التي احتج بها الحنفية. (2) إن قتل المسلم بالذمي يحقق الحكمة التي من أجلها شرع القصاص كما قال تعالى: ((ولكم في القصاص حياة) ففي القصاص حياة للمسلم والذمي على حد سواء. (3) لو لم يقتل المسلم بالذمي لأدى ذلك إلى مخالفة القاعدة المقرة (لهم مالنا وعليهم ما علينا)”(1)
أما فاروق النبهان فقد اكتفى بترجيح أبي زهرة ومال إليه.(2)
أما العوا فقد قال: “وعلى أساس هذه الحجج وغيرها يؤيد معظم المعاصرين رأي الأحناف في وجوب قتل المسلم إذا اعتدى هو بالقتل على الذمي: أي أنهم لا يفرقون بسبب اختلافهم في الدين بين المواطنين في الدولة في النتائج المترتبة على أفعالهم، ولا شك أن هذا الرأي يتفق مع المبادئ المسلم بها اليوم عالمياً في المساواة بين المواطنين في تطبيق القانون الجنائي عليهم”(3)
ويرى عبد القادر عودة أن “رأي أبي حنيفة يتفق مع القوانين الوضعية الحديثة، فهي لا تفرق بين ذمي ومسلم فكلاهما يقتل بالآخر”(4)
__________
(1) يوسف علي محمود: الأركان المادية والشرعية لجريمة القتل العمد / ج2 / ص91 ، 92.
(2) عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي/ج2 ص103.
(3) العوا: محمد سليم العوا : في أصول النظام الجنائي الإسلامي ـ ص248.
(4) عبد القادر عودة: السابق/ ج2 / ص124.
(1/146)
أقول:السبب في ذلك أن القوانين الوضعية المعمول بها في العالم العربي والإسلامي مصدرها قوانين فرنسية وإنجليزية كما أن نظرة القانون الوضعي إلى شخص الجاني أو المجني عليه تختلف عن نظرة الشريعة الإسلامية فالقانون الوضعي ينطلق من مفهموم المواطنة فينظر إلى الشخص الذي توافرت فيه شروط المواطنة سواء بالميلاد أو الإكتساب وينظم ذلك قانون التجنس للذين يكتسبون الجنسية بالشروط والضوابط المنصوص عليها ومن ثم كل من يطلق عليه مواطن ويقترف جريمة القتل العمد يعاقب بحكم القانون لا فرق بين مسلم أو نصراني أو يهودي أو أي صاحب معتقد آخر.
فالبون شاسع بين النظرتين الوضعية والشرعية.. رغم أن نظرة الأحناف تتفق مع نظرة القوانين الحديثة إلا أن منطلق الأحناف واجتهادهم مصدره الشريعة الإسلامية ودليل ذلك أن الأحناف لا يرون قود المسلم بالكافر الحربي بمعنى أن هذا الكافر الحربي لو قتله مسلم فإن القانون الوضعي لا يبيح قتله لآحاد الناس بل إن من يقتله يخضع للعقاب لأن نظرية الدولة الحديثة ترى أنها هي صاحبة العقاب.
كما أن الأحناف لا يرون أيضاً قتل المسلم بالمستأمن على المشهور في مذهب الأحناف عن أبي يوسف. بمعنى لو أن كافراً حربياً جاء مستأمناً لبلد ما وقتله رجل مسلم فإنه قد يقتل به طبقاً للقانون العقوبات الوضعي أما الأحناف فلا يرون القصاص من المسلم الذي قتل هذا المستأمن.
(1/147)
فعلى سبيل المثال نجد أن قانون العقوبات المصري ينص في الكتاب الأول تحت عنوان (أحكام عامة) الباب الأول (قواعد عمومية) تنص المادة الأولى: “تسري أحكام هذا القانون على كل من يرتكب في القطر المصري جريمة من الجرائم المنصوص عليها فيه. مادة 2 تسري أحكام هذا القانون أيضاً على الأشخاص الآتي ذكرهم: أولاَ: كل من ارتكب في خارج القطر فعلاً يجعله فاعلاً أو شريكاً في جريمة وقعت كلها أو بعضها في القطر المصري. م3: “كل مصري ارتكب وهو خارج القطر المصري فعلاً يعتبر جناية أو جنحة في هذا القانون يعاقب بمقتضى أحكامه إذا عاد إلى القطر وكان الفعل معاقباً عليه بمقتضى قانون البلد الذي ارتكبه”(1)
هكذا نلاحظ أن قانون العقوبات المصري لم يفرق بين المسلم والذمي أو الحربي فيكفي أن يكون مواطناً مصرياً ومن ثم لو أن مسلماً قتل نصرانياً أو يهودياً أو أي شخص من ديانة أخرى سواء كان هذا الشخص مصرياً أو أجنبياً فقانون العقوبات تسري أحكامه على المسلم القاتل ويحكم عليه بالإعدام في حالة توافر أركان جريمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد المنصوص عليها في المنظومة القانونية.
صفوة القول
بعد هذا التطواف حول آراء فقهاء المذاهب الإسلامية أرى أن الرأي القائل بعدم قتل المسلم بالكافر الذمي أولى بالاعتبار وذلك للأسباب التي ذكرها جمهور الفقهاء وأهل الحديث بالإضافة إلى الأسباب التالية:
__________
(1) المكتبة القانونية: قانون العقوبات/ القاهرة/ ص3 وص4.
(1/148)
أولاً: فعلى الرغم من وجاهة قول الأحناف وبعض العلماء المعاصرين كأبي زهرة فإن في النفس شيئاً من قبول رأي الأحناف وذلك لصحة حديث (لا يقتل مسلم بكافر)(1) الذي رواه البخاري.
ثانياً: ضعف أدلة الأحناف مثل استشهادهم بحديث ابن البيلماني (أنا أحق من وفى بعهده). ولتناقض الأحناف؛ ففي الوقت الذي يقولون بقتل المسلم بالكافر الذمي.. لا يرون قتل المسلم بالمستأمن أو المعاهد وهو المشهور عند أبي يوسف. رغم أنهم يحتجون بآية القصاص (كتب عليكم القصاص في القتلى) وأفاضوا في شرح هذه الآية وبينوا وجه العدل والإنصاف في قتل المسلم بالكافر الذمي لكنهم خالفوا قاعدتهم المذكورة في قتل المسلم بالكافر المستأمن.. فقالوا بعدم قتل المسلم بالمعاهد أو المستأمن!! فأين عموم النص هنا ولماذا لم يشمل المعاهد أو المستأمن الذي دخل دار الإسلام بأمان؟! وكما ذكرت آنفاً أن الفقيه الحنفي الشهير زفر وهو من سادة وأحد أعمدة الأحناف قد رجع عن رأي أبي حنيفة كما ذكر ابن حجر في الفتح (فاشهد علي أني رجعت عن هذا).
ثالثاً: لقد رد ابن السمعاني على الأحناف رداً وجيهاً:
__________
(1) قال ابن حجر: “حديث (لا يقتل مؤمن بكافر) البخاري من طريقة ابن أبي جحيفة عن علي في حديث وأبو داود والنسائي من طريق قيس بن عباد انطلقت أنا والأشتر إلى علي فذكر قصة فيها هذا وإسناده صحيح ولأبي داود وابن ماجة من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه لا يقتل مؤمن بكافر وأخرج البخاري في = تاريخه من حديث عائشة قالت وجد في قائمة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده وأخرج أبو داود والنسائي من وجه آخر عن عائشة رفعته لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث = خصال زان محصن فيرجم ورجل يقتل مسلما متعمدا ورجل يخرج من الإسلام وإسناده صحيح ” انظر: ابن حجر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية / ج2/262
(1/149)
“وأما حملهم الحديث على المستأمن فلا يصح لأن العبرة بعموم اللفظ حتى يقوم دليل على التخصيص ومن حيث المعنى أن الحكم الذي يبنى في الشرع على الإسلام والكفر إنما هو لشرف الإسلام أو لنقص الكفر أو لهما جميعاً. فإن الإسلام ينبوع الكرامة، والكفر ينبوع الهوان، وأيضاً إباحة دم الذمي شبهة قائمة لوجود الكفر المبيح للدم، والذمة شبهة قائمة لوجود الكفر المبيح للدم، والذمة إنما هي عهد عارض منع القتل مع بقاء العلة فمن الوفاء بالعهد أن لا يقتل المسلم ذمياً، فإن اتفق القتل لم يتجه القول بالقود لأن الشبهة المبيحة لقتله موجودة ومع قيام الشبهة لا يتجه القود”(1)
رابعاً: مما يعضد وجهة نظرنا في عدم الارتياح للأخذ برأي الأحناف ما ذكره البخاري في صحيحه: باب إذا لطم المسلم يهودياً عند الغضب. ثم ساق بسنده: “عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لُطِم وجهه فقال: يا محمد إن رجلاً من أصحابك من الأنصار قد لطم وجهي. فقال: ادعوه. فدعوه. فقال: ألطمت وجهه. قال: يارسول الله إني مررت باليهود فسمعته يقول: والذي اصطفى موسى على البشر، ثم قال: فقلت: أعلى محمد صلى الله عليه وسلم. قال: فأخذتني غضبة فلطمته. قال: لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جزي بصعقة الطور”(2)
__________
(1) ابن حجر: فتح الباري / ج14 / ص259.
(2) ابن حجر: السابق / ج14 / ص261. الحديث رقم 6917.
(1/150)
أقول: الشاهد هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقصاص واكتفى بقوله (لا تخيروني من بيين الأنبياء) وهذا ما ذهب إليه البخاري وذكره ابن حجر في الفتح حيث قال: “قوله (باب إذا لطم المسلم يهودياً عند الغضب) أي لم يجب عليه قصاص كما لو كان من أهل الذمة، وكأنه رمز بذلك إلى المخالف يرى القصاص في اللطمة فلما لم يقتص النبي صلى الله عليه وسلم للذمي من المسلم دل على أنه لا يجري القصاص”(1)
المطلب الثاني
قتل الحر بالعبد
اختلف الفقهاء في مسألة قتل الحر بالعبد، فمنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من أوجبه مطلقاً، ومنهم من أوجبه بغير عبده لا بعبد نفسه، ومنهم من وضع شروطاً خاصة سنوضحها على النحو التالي:
القول الأول: لا يقتل الحر بالعبد، سواء كان عبده أو عبد غيره.
القول الثاني: يقتل الحر المسلم بالعبد المسلم إن كان القتل غيلة.
القول الثالث: لا يقتل الحر بالعبد مطلقاً إلا إذا اعتاد قتل العبيد يقتل حسماً للجرأة ودفعاً للفساد… سنفصل ما أجملناه آنفاً على الترتيب المذكور:
القول الأول
لا يقتل الحر بالعبد
قال في المجموع: “إن قتل حرعبداً لم يقتل به، سواء كان عبده أو عبد غيره، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وزيد بن ثابت وابن الزبير، وبه قال مالك وأحمد. وقال النخعي: يقتل به، سواء كان عبده أم عبد غيره”(2)
__________
(1) ابن حجر: السابق / ج14 / ص261.
(2) النووي: المجموع شرح المهذب للشيرازي / تحقيق المطيعي / دار إحياء التراث العربي / ج20 / ص278.
(1/151)
وقال في المغني في شرح قول الخرقي ( ولا حر بعبد) أي لا يقتل الحر المسلم بالعبد المسلم: “روي هذا عن أبي بكر وعمر وعلي وابن الزبير رضي الله عنهم وبه قال الحسن وعطاء وعمر بن عبد العزيز وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور ويروى عن سعيد بن المسيب والنخعي وقتادة والثوري وأصحاب الرأي أنه يقتل لعموم الآيات والأخبار لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم) ولأنه آدمي معصوم فأشبه الحر. ولنا (الحنابلة) ما روى الإمام أحمد بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال: (من السنة أن لا يقتل حر بعبد) وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتل حر بعبد) رواه الدراقطني ولأنه لا يقطع طرفه بطرفه مع التساوي في السلامة فلا يقتل به كالأب مع ابنه ولأن العبد منقوص بالرق فلم يقتل به الحر كالمكاتب إذا ملك ما يؤدي والعمومات مخصوصات بهذا فيقيس عليه”(1)
وقال أيضاً في الشرح الكبير: “(ويقتل العبد المسلم بالعبد المسلم إذا تساوت قيمتهما أو اختلفت): هذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وسالم والنخعي والشعبي والزهري وقتادة والثوري ومالك والشافعي وأبي حنيفة. وعن أحمد رواية أخرى إن من شرط القصاص تساوي قيمتهم وإن اختلفت لم يجر بينهم قصاص، وينبغي أن يختص هذا بما إذا كانت قيمة القاتل أكثر فإن كانت أقل فلا، وهذا قول عطاء، وقال ابن عباس ليس في العبيد قصاص في نفس ولا جرح لأنهم أموال. ولنا (الحنابلة): قول الله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد) وهذا نص الكتاب فلا يجوز خلافه ولأن تفاوت القيمة كتفاوت الدية والفضائل فلا يمنع القصاص كالعلم والشرف والذكورية والأنثوية”(2)
القول الثاني
يقتل الحر المسلم بالعبد المسلم إن كان القتل غيلة
__________
(1) ابن قدامة: المغني/ ج9 / ص348 ، 349.
(2) ابن قدامة: المغني والشرح الكبير / ج9 / ص356.
(1/152)
قال جمهور المالكية: “إن الحر يقتل بالعبد مطلقاً إن كان القتل على وجه الغيلة. سواء كان القاتل مسلماً أو كافراً حراً أو عبداً، والمقتول كذلك، فإن كل واحد منهما يقتل بالآخر. ولذا قال مالك: (ولا عفو فيه ولا صلح، وصلح الولي مردود، والحكم فيه للإمام والقتل هنا ليس قصاصاً وإنما للفساد”(1)
القول الثالث
يقتل الحر المسلم بالعبد المسلم إن اعتاد قتل العبيد
وهذا قول الإمامية قال في شرائع الإسلام: “ويقتل العبد بالعبد وبالأمة، والأمة بالأمة، ولا يقتل حر بعبد ولا أمة، وقيل إن اعتاد قتل العبيد قتل حسماً للجرأة، ولو قتل المولى عبده كفر وعزر ولم يقتل به، وقيل يغرم”(2)
الرأي المختار:
__________
(1) يوسف علي محمود (الدكتور): الأركان المادية والشرعية لجريمة القتل العمد/ ج2 / ص98.
(2) الحلي: شرائع الإسلام / ج8 / 163.
(1/153)
أرى أن الرأي القائل بالمساواة بين العبيد والأحرار في القصاص أولى بالإعتبار. ويؤيد وجهة نظرنا هذه كثير من المعاصرين. يقول فاروق النبهاني: “جاء الإسلام وكان نظام الرق قائماً لدى جميع الشعوب في ذلك الحين بشكل واسع، ولم يكن من السهل منعه أو تحريمه. ولو حرمه الإسلام لكان هذا التحريم سلاحاً فتاكاً يستخدمه أعداء المسلمين في حروبهم ضد المسلمين. لأن المسلمين سوف يحرمون هذا النظام على أنفسهم في الوقت الذي لا يحرمه أعداؤهم على أنفسهم”(1) وينتصر أبو زهرة للرأي القائل بالمساواة بين الأحرار والعبيد في المساواة قائلاً: “والذي نراه متفقاً مع المقاصد الإسلامية، ومع تشديد النبي صلى الله عليه وسلم في التوصية بالأرقاء والرحمة بهم هو أن الحر يقتص للعبد منه في النفس وفي الأطراف، وفي الجروح، وقد بينا أدلة الحنفية في قتل الحر بالعبد بالنسبة للقصاص في النفس، وبينا أن الأطراف كالنفس على سواء.وبقي أن نتكلم فيما ساقه الفقهاء من أدلة لمنع قتل المالك إذا قتل مملوكه، فقد ردوا خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلد رجلاً قتل عبده مائة، وغربه عاماً، ومحا اسمه من سجل المسلمين. وقد قال الإمام أحمد: أنه ضعيف، ولا يمكن أن يقف أمام الخبر الذي رواه الإمام أحمد: (من قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه)(2). وفوق ذلك فإن في خبر الجلد معنى شاذاً، وهو أن يكون ذلك سبباً لمحو اسمه من المسلمين، فلهذا معنى غير سليم. والخبر المروي عن الصديقين أبي بكر وعمر، وهو رأي لهما ـ رضي الله عنهما ـ ولا يقف أمام عام النصوص ووصايا النبي صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) فاروق النبهان (الدكتور): مباحث في التشريع الجنائي الإسلامي ص98.
(2) قال ابن حجر: ” من غرق غرقناه ..البيهقي من رواية عمران بن يزيد بن البراء عن أبيه عن جده بهذا = وفيه ومن حرق حرقناه ومن عرض عرضنا له وفي إسناده من لا يعرف” راجع ابن حجر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية/ج2/ص266.
(1/154)
وحديثه: (من قتل عبده قتلناه). والخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقاد المملوك من مولاه، ولا الولد من أبيه) لم يقبله الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ بالنسبة لقتل الوالد بولده، وقال المالكية أنه خبر باطل، فكيف يمكن أن يحتج بجزء منه، وقد رفض مالك الأخذ بالجزء الآخر، وقالوا عنه أنه باطل، ومالك إذا جاء الحديث هو النجم اللامع، كما قال تلميذه الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ. وإن المعنى الإسلامي العام المفهوم من مصادر الشريعة ومواردها أن الرق لا يفقد العبد آدميته، فهي محرمة على قاتله أياً كان القاتل، سواء أكان مالكه أم كان غير مالكه، ولا شك أن عدم القصاص من قاتله إهدار لمعنى الآدمية فيه، وذلك ما لم يقله أحد من المسلمين، وإن كان الأكثرون من الفقهاء قد جرتهم الأقيسة الفقهية إلى مخالفة ذلك الأصل، وإن قتل العبد إذا قتل حراً على أن يكون ذلك قصاصاً يوجب أن يقتل الحر إذا قتل عبداً ليكون العدل الكامل جارياً.
وإن الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ كانوا يطبقون الحديث: (المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم) تطبيقاً جامعاً، فقد اعتبروا ذمة العبد كذمة الحر على سواء، ويروي في ذلك أن عبداً كان يحارب مع مالكه، فأمن أهل حصن، فأجاز عمر أمانه، ولم يخالفه أحد من الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وإذا كانت ذمته تجوز، فكيف لا يقتص له، هذا هو معنى الإسلام ومعنى القصاص، ولم يصح حديث يستثني العبد من أحكام القصاص، ولا نص يفهم ذلك الاستثناء فهماً سليماً، فمن أي شئ تكون التفرقة، إنه لا فرق في باب الدماء بين العبد والحر بمقتضى سماحة الإسلام وعدالة نصوصه، والله سبحانه وتعالى أعلم”(1)
المطلب الثالث
قتل الرجل بالمرأة
__________
(1) أبو زهرة: العقوبة / ص276 ، 277.
(1/155)
ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب القصاص بين الرجال والنساء في النفس وفيما دونها، إلا ما روي عن بعضهم فيما دون النفس، وذهب كثير من الفقهاء إلى أن القصاص واجب إذا أدى أولياؤها نصف دية الرجل، وهو الفرق بين دية الرجل والمرأة، فالرجل يقتل بالمرأة إذا أدى أولياؤها نصف الدية. وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا قصاص بين الرجال والنساء.. وسنحاول أن نلقي النور على الأقوال المذكورة:
القول الأول: يقتل الرجل بالمرأة
وبه قال الأحناف والشافعية والمالكية وجمهور الحنابلة والإمامية. قال في فتح القدير: “يقتل الرجل بالمرأة، والكبير بالصغير، والصحيح بالأعمى والزمن وبناقص الأطراف وبالمجنون”(1)
__________
(1) ابن الهمام: شرح فتح القدير / مج10 / ص220.
(1/156)
وقال في المغني: “(ويقتل الذكر بالأنثى) هذا قول عامة أهل العلم، منهم: النخعي، والشعبي والزهري، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، وأهل المدينة والشافعي، وإسحاق, أصحاب الرأي وغيرهم. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: يقتل الرجل بالمرأة، ويعطى أولياؤه نصف الدية. أخرجه سعيد. وروي مثل هذا عن أحمد وحكي ذلك عن الحسن وعطاء، وحكي عنهما مثل قول الجماعة، ولعل من ذهب إلى القول الثاني ويحتج بقول علي رضي الله عنه ولأن عقلها نصف عقله، فإذا قتل بها بقي له بقية فاستوفيت ممن قتله. ولنا (الحنابلة): قوله تعالى (النفس بالنفس) وقوله (الحر بالحر) مع عموم سائر النصوص وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يهودياً رضّ رأس جارية من الأنصار، وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والأسنان وأن الرجل يقتل بالمرأة، وهو كتاب مشهور عند أهل العلم متلقى بالقبول عندهم ولأنهما شخصان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه، فقتل كل واحد منهما بالآخر كالرجلين ولا يجب مع القصاص شئ لأنه قصاص واجب فلم يجب معه شئ على المقتص كسائر القصاص واختلاف الأبدال لا عبرة به في القصاص بدليل أن الجماعة يقتلون بالواحد والنصراني يؤخذ بالمجوس مع اختلاف دينيهما ويؤخذ العبد بالعبد مع اختلاف قيمتهما”(1)
القول الثاني: لا يقتل الرجل بالأنثى
وهو قول الحسن البصري والليث بن سعد:
__________
(1) ابن قدامة: المغني/ ج9 / ص377 ، 378.
(1/157)
قال في سبل السلام: “قتل الرجل بالمرأة وفيه خلاف، ذهب إلى قتله أكثر أهل العلم وحكى ابن المنذر الإجماع على ذلك لهذا الحديث وعن الحسن البصري أنه لا يقتل الرجل بالأنثى وكأنه يستدل بقوله تعالى: (الأنثى بالأنثى)، ورد بأنه ثبت في كتاب عمرو بن حزم الذي تلقاه الناس بالقبول أن الذكر يقتل بالأنثى فهو أقوى من مفهوم الآية وذهبت الهادوية إلى أن الرجل يقاد بالمرأة ويوفى ورثته نصف ديته قالوا: لتفاوتها في الدية ولأنه تعالى قال: (والجروح قصاص)، ورد بأن التفاوت في الدية لا يوجب التفاوت، ولذا يقتل عبد قيمته ألف بعبد قيمته عشرون، وقد وقعت المساواة في القصاص لأن المراد بالمساواة، في الجروح أن لا يزيد المقتص على ما وقع فيه من الجرح”(1)
قال الشافعي في الأم: “إذا قتل الرجل المرأة قتل بها، وإذا قطع يدها قطعت يده، فإذا كانت النفس ـ التي هي الأكثر ـ بالنفس، فالذي هو أقل أولى أن يكون مما هو أقل”(2)
وقال في نيل الأوطار: “والراجح ما قاله الأولون وهو قتل الرجل قصاصاً بالأنثى لو قتلها عمداً وعدواناً. وفي هذا الصدد أخرج البيهقي عن أبي الزناد قال: كان من أدركته من فقهائنا الذين ينتهى إلى قولهم، منهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وخارجة بن زيد بن ثابت وسليمان بن يسار في مشيخته جلة من سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل: أن المرأة تقاد من الرجل عيناً بعين وأذناً بأذن، وكل شئ من الجراح على ذلك، وإن قتلها قتل بها”(3)
__________
(1) الصنعاني: سبل السلام / ج3 / ص1582.
(2) الشافعي: الأم / ج8 / ص332.
(3) الشوكاني: نيل الأوطار / ج7 / ص18.
(1/158)
ويقول أيضاً في نيل الأوطار: “ومما يقوي ما ذهبوا إليه أيضاً؛ أنا قد علمنا ذلك قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) وترك الإقتصاص للأنثى من الذكر يفضي إلى إتلاف نفوس الإناث: لأمور كثيرة منها؛ كراهية توريثهن، ومنها مخافة العار لا سيما عند ظهور أدنى شئ منهن لما بقي في القلوب من حمية الجاهلية التي نشأ عنها الوأد. ومنها كونهن مستضعفات لا يخشى من رام القتل منهن أن يناله من المدافعة ما يناله من الرجل. فلا شك ولا ريب أن الترخيص في ذلك من أعظم الذرائع المفضية إلى هلاك نفوسهن، ولا سيما في مواطن الأعراب المتصفين بغلظ القلوب وشبه الغيرة والأنفة اللاحقة بما كانت عليه الجاهلية”(1)
__________
(1) الشوكاني: السابق/ج7 / ص21.
(1/159)
أقول: لقد بوب البخاري في صحيحه (باب قتل الرجل بالمرأة) وساق الحديث بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه “أن النبي صلى الله عليه قتل يهودياً بجارية قتلها على أوضاح لها”(1) يقول ابن حجر: “ووجه الدلالة منه واضح، ولمح به إلى الرد على من منع..”(2) يشير ابن حجر إلى القائلين بمنع قتل الرجل بالمرأة. ثم يأتي البخاري عقب الباب: “(باب القصاص بين الرجال والنساء في الجراحات) وقال أهل العلم: يقتل الرجل بالمرأة ويذكر عن عمر تقاد المرأة من الرجل في كل عمد بلغ نفسه فما دونها من الجراح وبه قال عمر بن عبد العزيز وإبراهيم وأبو الزناد عن أصحاب وجرحت أخت الربيع إنساناً فقال النبي صلى الله عليه وسلم (القصاص)”(3) كما أن القوانين الوضعية الحديثة لا تفرق بين الرجل والأنثى في جرائم القتل العمد وجرائم الجروح والضرب العمدي، فالرجل يعاقب بنفس العقوبة التي تعاقب بها الأنثى. ويتضح ذلك من نص المادة رقم 230 من قاون العقوبات المصري: “كل من قتل نفساً عمداً مع سبق الإصرارعلى ذلك أو الترصد يعاقب بالإعدام”(4)
نلاحظ كلمة (من) التي تشمل الذكر والأنثى، فكل إنسان سواء كان رجلاً أو امرأة قتل نفساً عمداً مع سبق الإصرار أو الترصد يعاقب بالإعدام. معنى ذلك أن المنظومة الوضعية الحديثة أخذت بآراء جمهور فقهاء الإسلام في عدم التفرقة بين الرجل والمرأة في حالة القصاص، وفي ذلك سبق للشريعة الإسلامية على المنظومة الوضعية بعدة قرون.
المطلب الرابع
قتل الزوج زوجته
__________
(1) ابن حجر: فتح الباري/ج14/ص199.
(2) ابن حجر: السابق/ج14/ص199.
(3) ابن حجر: السابق/ج14/ص200.
(4) المكتبة القانونية: قانون العقوبات/ القاهرة /ص118.
(1/160)
أثار هذه القضية الليث بن سعد والزهري وقالا: لا يقتل الزوج بزوجته: “ويقيس الليث بن سعد والزهري الزوج على الأب؛ فالإبن وماله ملك لأبيه طبقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم. والزوجة ملك للزوج بعقد النكاح، فهي أشبه بالأمة. فإذا منعت شبهة الملك القصاص هناك، منعته كذلك هنا. ولكن جمهور الفقهاء لا يرون هذا الرأي وعلى الأخص فقهاء المذاهب الأربعة. فعندهم أن الزوجين شخصان متكافئان فيقتل كل منهما بقتل الآخر كالأجنبيين، وما يقال من أن الزوج يملك الزوجة غير صحيح، فهي حرة ولا يملك منها الزوج إلا متعة الاستمتاع، فهي أشبه بالمستأجرة وفضلاً عن هذا فإن النكاح ينعقد لها عليه، بدليل أن لا يتزوج أختها ولا أربعاً سواها وتطالبه في حق الوطء بما يطالبها، ولكن له عليها فضل القوامة التي جعل الله عليها بما وافق من ماله، أي بما وجب عليه من صداق ونفقة ولو أورث هذا شبهة لأورثها في الجانبين لا في جانب واحد”(1)
وقال أبو زهرة مفنداً رأي الليث بن سعد: “وذلك كلام باطل ونستبعد صحة الرواية فيه عن الليث، فقد كان فقيهاً عظيماً لا يغيب عنه هذا، فإن النكاح عقد مشترك يوجب حقوقاً مشتركة بين الزوجين ولا يجعل أحدهما مالكاً والآخر مملوكاً، وقد قال في ذلك القرطبي: النكاح ينعقد لها عليه كما ينعقد له عليها، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعاً سواها، وتطالبه بحق الوطء بما يطالبها، ولكن له عليها فضل القوامة التي جعل الله عليه، فلو أورث شبهة لأورثها في الجانبين، ,فإنا نرى أنه إذا كان قتل الرجل لامرأة أو لرجل غريبيين عنه فظيعاً أشد ما يكون فظاعة، فهو أغلظ وأشد إذا قتل سكنه وأهله، فلا تكون هذه شبة مسقطة للقصاص، بل لو كان فوق القصاص ما هو أشد منه لكان واجباً”(2)
الرأي المختار:
__________
(1) عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي /ج2 / ص119.
(2) أبو زهرة: العقوبة/دار الفكر العربي/القاهرة/ص269 ، 320.
(1/161)
أرى صحة ما رجحه جمهور فقهاء الإسلام في قتل الزوج بزوجته للأسباب التي ذكروها في ردهم على قول الليث بن سعد. أما عن استبعاد أبي زهرة صحة الرواية عن الليث بن سعد فقد ذكر يوسف علي محمود: “نحن نقول أن الزوج يقتل زوجته لأن النكاح عقد مشترك بين الزوجين لا أثر فيه للرق، ولو وجد لثبت في الجهتين، ولا قائل به، وأن القصاص بين الزوجين هو الموافق لروح الشريعة الغراء لموافقته لعموم آيات وأحاديث القصاص، ونحن مع الشيخ أبي زهرة ـ رحمه الله ـ في أنه لو كان فوق القصاص ما هو أشد منه لكان واجباً ولكن لماذا يستبعد صحة هذه الرواية عن الليث وخاصة بأنها رويت عنه من قبل أصحابه، وإن دل هذا على شئ فإنما يدل على استيلاء النقص على جملة البشر أن لكل عالم زلة ولكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة”(1)
المطلب الخامس
قتل الجماعة بالواحد
وصورة ذلك على النحو التالي: إذا اشترك اثنان فأكثر في قتل رجل واحد فهل يقتلان به؟ اختلف العلماء في ذلك على التفصيل الآتي:
الرأي الأول: يقتل الجماعة بالواحد:
يرى جمهور الفقهاء أن الجماعة تقتل بالواحد، ومن هؤلاء أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، ومالك، وأحمد، وبه قال جمهور الإمامية بشرط خاص.
__________
(1) يوسف علي محمود: الأركان المادية والشرعية لجريمة القتل العمد /ج2 /ص124.
(1/162)
قال في المغني: “ويقتل الجماعة بالواحد.. وجملته أن الجماعة إذا قتلوا واحداً فعلى كل واحد إذا كان كل واحد منهم لو انفرد بفعله وجب عليه القصاص روى ذلك عن عمر وعلي والمغيرة بن شعبة وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وأبوسلمة وعطاء وقتادة وهو مذهب مالك والثوري والأوزاعي والشافعي واسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي، وحكي عن أحمد رواية أخرى لا يقتلون به وتجب عليهم الدية وهذا وهذا قول ابن الزبير والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعبدالملك وربيعة وداود وابن المنذر وحكاه ابن أبي موسى عن ابن عباس وروي عن معاذ بن جبل وابن الزبير وابن سيرين والزهري أنه يقتل منهم واحد ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية لأن كل واحد منهم مكافئ له فلا تستوفي أبدال بمبدل واحد كما لا تجب ديات لمقتول واحد ولأن الله تعالى قال: (الحر بالحر) وقال (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) فمقتضاه أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة ولأن التفاوت في الأوصاف يمنع بدليل أن الحر لا يؤخذ بالعبد والتفاوت في العدد أولى قال ابن المنذر لا حجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد.
ولنا (أي الحنابلة) إجماع الصحابة رضي الله عنهم روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً قال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً، وعن علي رضي الله عنه أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلاً وعن ابن عباس أنه قتل جماعة بواحد ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف فكان إجماعاً ولأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف ويفارق الدية فإنها تتبعض والقصاص لا يتبعض ولأن القصاص لو سقط بالإشتراك أدى ذلك إلى التسارع إلى القتل به فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر”(1)
وقال في نتائج الأفكار:
__________
(1) ابن قدامة: المغني/ج9 / ص366 وص367.
(1/163)
“وإذا قتل جماعة واحداً عمداً اقتص من جميعهم لقول عمر رضي الله عنه فيه: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم.. ولأن القتل بطريق التغالب غالب، والقصاص مزجرة للسفهاء فيجب تحقيقاً لحكمة الإحياء.. قال صاحب النهاية: هذا جواب الإستحسان. وفي القياس: لا يلزمهم القصاص لأن المعتبر في القصاص المساواة لما في الزيادة من الظلم على المعتدي وفي النقصان من البخس بحق المعتدى عليه، ولا مساواة بين العشرة والواحد هذا شئ يعلم ببداهة العقل. فالواحد من العشرة يكون مثلاً للواحد فكيف تكون العشرة مثلاً للواحد. وأيد هذا القياس قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) وذلك ينفي مقابلة النفوس بنفس، ولكن تركنا هذا القياس لما روي أن سبعة من أهل اليمن قتلوا رجلاً فقضى عمر رضي الله عنه بالقصاص عليهم وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به انتهى كلامه”(1)
وقد استدل القائلون بقتل الجماعة بالواحد بما يلي:
أولاً: القرآن الكريم:
1- قال تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)(2)
وجه الدلالة: “هذه الآية تدل على أن القاتل سواء كان واحداً أو أكثر قد اعتدى على حق الحياة فمن اعتدى بالقتل على واحد فقد اعتدى على الجميع، وليس المراد به في المأثم لأن قاتل النفس الواحدة لا يجوز أن يكون إثمه مثل إثم قاتل الجماعة ولذا لا بد وأن يكون المراد به الحكم فكان المراد به أن قتل الواحد كقتل الجماعة حكماً فما كان كذلك، وكان جماعة لو قتلوا جماعة قتلوا بهم كذلك لو قتلت واحداً قتلوا به. ويدل على ذلك قوله (كتبنا) ومعناه (أوجبنا) وحكمنا فعلنا أن المراد به الحكم”(3)
__________
(1) ابن قودر: نتائج الأفكار/ /مج10/ ص243 ص244.
(2) المائدة: 32.
(3) المرتضى: البحر الزخار/ج6/ ص218.
(1/164)
2- وقال تعالى: (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً)(1) والسلطان هو القود ولم يفرق بين واحد أو جماعة.
3- وقال تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)(2): وجه الدلالة: “الله سبحانه وتعالى أوجب القصاص لاستيفاء الحياة، وذلك أنه متى علم الإنسان أنه إذا قتل غيره أن سهمه سنعكس إلى صدره وأنه يقتل به فإنه لم يقدم على القتل فلو قلنا إن الجماعة لا تقتل بالواحد لكان الاشتراك يسقط القصاص ولسقط المعنى”(3)
ثانياً: الآثار:
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن غلاماً قتل غيلة، فقال عمر: “لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم. وقال مغيرة بن حكيم عن أبيه: إن أربعة قتلوا صبياً فقال عمر: مثله وأقاد أبو بكر وابن الزبير وعلي وسويد بن مقرن من لطمة وأقاد عمر من ضربة بالدرة وأقاد علي من ثلاثة أسواط، واقتص شريح من سوط وخموش”(4)
2- وأخرج ابن أبي شيبة عن نافع أن عمر: “قتل سبعة من أهل صنعاء برجل” وأخرجه في الموطأ بسند آخر من حديث ابن المسيب: (أن عمر قتل خمسة أو ستة برجل قتلوه غيلة، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا).
قصة الحديث:
__________
(1) الإسراء آية 33.
(2) البقرة آية 179.
(3) النووي: المجموع / ج17 /ص210.
(4) ابن حجر: فتح الباري/ج14/ص216.
(1/165)
“وللحديث قصة أخرجها الطحاوي والبيهقي(1)
__________
(1) ذكره البيهقي في كتاب النفقات على النحو التالي: ” أَخْبَرَنَاهُ أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِى إِسْحَاقَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِى عَمْرٍو قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ : مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ حَكِيمٍ الصَّنْعَانِىَّ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ امْرَأَةً بِصَنْعَاءَ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَتَرَكَ فِى حَجْرِهَا ابْنًا لَهُ مِنْ غَيْرِهَا غُلاَمٌ يُقَالُ لَهُ أُصَيْلٌ فَاتَّخَذَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ زَوْجِهَا خَلِيلاً فَقَالَتْ لِخَلِيلِهَا إِنَّ هَذَا الْغُلاَمَ يَفْضَحُنَا فَاقْتُلْهُ فَأَبَى فَامْتَنَعَتْ مِنْهُ فَطَاوَعَهَا وَاجْتَمَعَ عَلَى قَتْلِهِ الرَّجُلُ وَرَجُلٌ آخَرُ وَالْمَرْأَةُ وَخَادِمُهَا فَقَتَلُوهُ ثُمَّ قَطَّعُوهُ أَعْضَاءً وَجَعَلُوهُ فِى عَيْبَةٍ مِنْ أَدَمٍ فَطَرَحُوهُ فِى رَكِيَّةٍ فِى نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ وَلَيْسَ فِيهَا مَاءٌ ثُمَّ صَاحَتِ الْمَرْأَةُ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَ الْغُلاَمَ قَالَ فَمَرَّ رَجُلٌ بِالرَّكِيَّةِ الَّتِى فِيهَا الْغُلاَمُ فَخَرَجَ مِنْهَا = الذُّبَابُ الأَخْضَرُ فَقُلْنَا وَاللَّهِ إِنَّ فِى هَذِهِ لَجِيفَةً وَمَعَنَا خَلِيلُهَا فَأَخَذَتْهُ رِعْدَةٌ فَذَهَبْنَا بِهِ فَحَبَسْنَاهُ وَأَرْسَلْنَا رَجُلاً فَأَخْرَجَ الْغُلاَمَ فَأَخَذْنَا الرَّجُلَ فَاعْتَرَفَ فَأَخْبَرَنَا الْخَبَرَ فَاعْتَرَفَتِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ الآخَرُ وَخَادِمُهَا فَكَتَبَ يَعْلَى وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ بِشَأْنِهِمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَتْلِهِمْ جَمِيعًا وَقَالَ : وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ أَهْلَ صَنْعَاءَ شَرَكُوا فِى قَتْلِهِ لَقَتَلْتُهُمْ أَجْمَعِينَ. ورُوِّينَا عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ السَّبِيعِىِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ : خَرَجَ قَوْمٌ فَصَحِبَهُمْ رَجُلٌ فَقَدِمُوا وَلَيْسَ مَعَهُمْ فَاتَّهَمَهُمْ أَهْلُهُ فَقَالَ شُرَيْحٌ شُهُودَكُمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوا صَاحِبَكُم وَإِلاَّ حَلَفُوا بِاللَّهِ مَا قَتَلُوهُ فَأَتَوْا بِهِمْ عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَعِيدٌ وَأَنَا عِنْدَهُ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فَاعْتَرَفُوا قَالَ فَسَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : أَنَا أَبُو حَسَنٍ الْقَرْمُ. فَأَمَرَ بِهِمْ عَلَىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُتِلُوا” البيهقي: سنن البيهقي الحديث رقم 16398.
(1/166)
عن ابن وهب قال: حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حكيم الصنعاني حدثه عن أبيه: “أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها وترك في حجرها ابناً له من غيرها يقال له: أصيل، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلاً فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبى فامتنعت منه فطاوعها فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها فقتلوه ثم قطعوه أعضاء وجعلوه في عيبة وطرحوه في ركية في ناحية القرية ليس فيها ماء ـ وذكر القصة وفيها ـ فأخذ خليلها فاعترف ثم اعترف الباقون، فكتب يعلى وهو يومئذ أمير بشأنهم إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر بقتلهم جميعاً وقال: والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين. وفي هذا دليل أن رأي عمر رضي الله عنه أن تقتل الجماعة بالواحد، وظاهره ولو لم يباشره كل واحد”(1)
3- الآثار الواردة عن علي رضي الله عنه:
من ذلك ما أخرجه الدارقطني عن علي رضي الله عنه أنه قتل الحرورية بعبد الله بن خباب، فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبد الله بن خباب كما تذبح الشاة وأخبر علي ـ رضي الله عنه ـ بذلك قال: الله أكبر يأدوهم إن أخرجوا لنا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال علي لأصحابه: دونكم القوم فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه”(2) وما أخرجه البيهقي وغيره عن سعيد بن وهب قال: خرج قوم وصحبهم رجل فقدموا وليس معهم فاتهمهم أهله فقال شريح: شهودكم أنهم قتلوا صاحبكم وإلا حلفوا بالله ما قتلوه فأتوا بهم علياً ـ رضي الله عنه ـ قال سعيد وأنا عنده ففرق بينهم فاعترفوا قال: فسمعت علياً ـ رضي الله عنه يقول: أنا أبو الحسن القرم فأمر بهم رضي الله عنه فقتلوا”(3)
ثالثاً: المصلحة:
__________
(1) الصنعاني: سبل السلام/ ج3/ ص1596.
(2) القرطبي: أحكام القرآن/ج2/ص251.
(3) البيهقي: السنن الكبرى ج8/ ص41. وابن حجر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية/ ج2/ ص270.
(1/167)
“إن الجماعة تقتل بالواحد لأن القصاص يجب للواحد على الواحد، فوجب أن يكون على الجماعة كحد القذف”(1)
قال السرخسي: “ولأن شرع القصاص لحكمة الحياة وذلك بطريق الزجر كما قررنا ومعلوم أن القتل بغير حق في العادة لا يكون إلا بالتغالب والإجتماع لأن الواحد يقاوم الواحد فلو لم نوجب القصاص على الجماعة بقتل الواحد لأدى إلى سد باب القصاص وإبطال الحكمة التي وقعت الإشارة إليها بالنص. يوضحه أنه لا مقصود في القتل سوى التشفي والانتقام، وذلك حاصل لكل قاتل بكماله كأنه ليس معه غيره”(2)
وفي بدائع الصنائع: “لأن القتل لا يوجد عادة إلا على سبيل التعاون والاجتماع فلو لم يجعل فيه القصاص لانسد باب القصاص. إذ كل من رام قتل غيره استعان بغير يضمه إلى نفسه ليبطل القصاص عن نفسه وفيه تفويت ما شرع له القصاص وهو الحياة. هذا إذا كان القتل على الاجتماع فأما إذا كان على التعاقب بأن شق رجل بطنه ثم حز آخر رقبته فالقصاص على الحاز إن كان عمداً وإن كان خطأ فالدية على عاقلته لأنه هو القاتل لا الشاق: ألا ترى أنه قد يعيش بعد شق البطن بأن يخاط بطنه ولا يحتمل أن يعيش بعد حز رقبته عادة وعلى الشاق أرش الشق وهو ثلث الدية”(3)
الرأي الثاني: لا يقتل من الجماعة إلا واحد:
__________
(1) الباجي: المنتقى شرح الموطأ/ج7/ص116.
(2) المبسوط/ السرخسي/ ج26/ ص127/ طبعة دار المعرفة/بيروت.
(3) الكاساني: بدائع الصنائع/ج7/ص238/طبعة دار المكتب العربي/ بيروت.
(1/168)
ويكون الخيار لأولياء الدم يختارونه من الجماعة. وهذا ما نقله الماسروجي عن القفال في قول قديم. ففي روضة الطالبين: “ونقل الماسروجي عن القفال قولاً قديماً: إن الولي يقتل واحداً من الجماعة أيهم شاء ويأخذ حصة الآخرين من الدية، ولا يقتل الجميع، ويكفي للزجر كون كل واحد منهم خائفاً من القتل غير أن صاحب الروضة ضعف هذا القول”(1) وفي سبل السلام: “للناصر والشافعي وجماعة، رواية عن مالك أنه يختار الورثة واحداً من الجماعة، وفي رواية عن مالك يقرع بينهم فمن خرجت عليه القرعة قتل، ويلزم الباقون الحصة من الدية وحجتهم أن الكفاءة معتبرة ولا تقتل الجماعة بالواحد كما لا يقتل الحر بالعبد، وأجيب بأنهم لم يقتلوا لصفة زائدة في المقتول بل لأن كل واحد منهم قاتل”(2)
وفي ذكر الكليني في الكافي عدة أحاديث في (باب الْجَمَاعَةِ يَجْتَمِعُونَ عَلَى قَتْلِ وَاحِدٍ) نختار منها:
1- عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ وَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ جَمِيعاً عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) فِي عَشَرَةٍ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ رَجُلٍ قَالَ يُخَيَّرُ أَهْلُ الْمَقْتُولِ فَأَيَّهُمْ شَاءُوا قَتَلُوا وَ يَرْجِعُ أَوْلِيَاؤُهُ عَلَى الْبَاقِينَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الدِّيَةِ .
__________
(1) النووي: روضة الطالبين/ج9/ص159.
(2) الصنعاني: سبل السلام/ج3/ص1587.
(1/169)
2- عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْكَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) فِي رَجُلَيْنِ قَتَلَا رَجُلًا قَالَ إِنْ أَرَادَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ قَتْلَهُمَا أَدَّوْا دِيَةً كَامِلَةً وَ قَتَلُوهُمَا وَ تَكُونُ الدِّيَةُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولَيْنِ فَإِنْ أَرَادُوا قَتْلَ أَحَدِهِمَا فَقَتَلُوهُ أَدَّى الْمَتْرُوكُ نِصْفَ الدِّيَةِ إِلَى أَهْلِ الْمَقْتُولِ وَ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ دِيَةَ أَحَدِهِمَا وَ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدَهُمَا قَبِلَ الدِّيَةَ صَاحِبُهُ مِنْ كِلَيْهِمَا .
3- عَنْهُ عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ إِذَا قَتَلَ الرَّجُلَانِ وَ الثَّلَاثَةُ رَجُلًا فَإِنْ أَرَادَ أَوْلِيَاؤُهُ قَتْلَهُمْ تَرَادُّوا فَضْلَ الدِّيَاتِ وَ إِلَّا أَخَذُوا دِيَةَ صَاحِبِهِمْ .
4- عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْمِيثَمِيِّ عَنْ أَبَانٍ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) عَشَرَةٌ قَتَلُوا رَجُلًا فَقَالَ إِنْ شَاءَ أَوْلِيَاؤُهُ قَتَلُوهُمْ جَمِيعاً وَ غَرِمُوا تِسْعَ دِيَاتٍ وَ إِنْ شَاءُوا تَخَيَّرُوا رَجُلًا فَقَتَلُوهُ وَ أَدَّى التِّسْعَةُ الْبَاقُونَ لَأَهْلِ الْمَقْتُولِ الْأَخِيرِ عُشْرَ الدِّيَةِ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَالَ ثُمَّ إِنَّ الْوَالِيَ بَعْدُ يَلِي أَدَبَهُمْ وَ حَبْسَهُمْ .
(1/170)
5- عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ وَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ جَمِيعاً عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) قَالَ قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السلام ) فِي أَرْبَعَةٍ شَرِبُوا فَسَكِرُوا فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ السِّلَاحَ فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ اثْنَانِ وَ جُرِحَ اثْنَانِ فَأَمَرَ بِالْمَجْرُوحَيْنِ فَضُرِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَ قَضَى بِدِيَةِ الْمَقْتُولَيْنِ عَلَى الْمَجْرُوحَيْنِ وَ أَمَرَ أَنْ يُقَاسَ جِرَاحَةُ الْمَجْرُوحَيْنِ فَتُرْفَعَ مِنَ الدِّيَةِ فَإِنْ مَاتَ الْمَجْرُوحَانِ فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولَيْنِ شَيْ ءٌ .
6- عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّوْفَلِيِّ عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ رُفِعَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السلام ) سِتَّةُ غِلْمَانٍ كَانُوا فِي الْفُرَاتِ فَغَرِقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَشَهِدَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ عَلَى اثْنَيْنِ أَنَّهُمَا غَرَّقَاهُ وَ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَنَّهُمْ غَرَّقُوهُ فَقَضَى ( عليه السلام ) بِالدِّيَةِ أَخْمَاساً ثَلَاثَةَ أَخْمَاسٍ عَلَى الِاثْنَيْنِ وَ خُمُسَيْنِ عَلَى الثَّلَاثَةِ .
(1/171)
7- مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) فِي رَجُلَيْنِ اجْتَمَعَا عَلَى قَطْعِ يَدِ رَجُلٍ قَالَ إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْطَعَهُمَا أَدَّى إِلَيْهِمَا دِيَةَ يَدٍ فَاقْتَسَمَا ثُمَّ يَقْطَعُهُمَا وَ إِنْ أَحَبَّ أَخَذَ مِنْهُمَا دِيَةَ يَدٍ قَالَ وَ إِنْ قَطَعَ يَدَ أَحَدِهِمَا رَدَّ الَّذِي لَمْ يُقْطَعْ يَدُهُ عَلَى الَّذِي قُطِعَتْ يَدُهُ رُبُعَ الدِّيَةِ.
8- عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السلام ) فِي حَائِطٍ اشْتَرَكَ فِي هَدْمِهِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَوَقَعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَمَاتَ فَضَمَّنَ الْبَاقِينَ دِيَتَهُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنُ صَاحِبِهِ .
9- عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ
(1/172)
وَ غَيْرِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ إِذَا اجْتَمَعَتِ الْعِدَّةُ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ حَكَمَ الْوَالِي أَنْ يُقْتَلَ أَيُّهُمْ شَاءُوا وَ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ 10- مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبَلَةَ عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) فِي عَبْدٍ وَ حُرٍّ قَتَلَا رَجُلًا حُرّاً قَالَ إِنْ شَاءَ قَتَلَ الْحُرَّ وَ إِنْ شَاءَ قَتَلَ الْعَبْدَ فَإِنِ اخْتَارَ قَتْلَ الْحُرِّ ضَرَبَ جَنْبَيِ الْعَبْدِ”(1)
وقال الطوسي:
“إذا قتل جماعة واحداً قتلوا به أجمعين بشرطين أحدهما أن يكون كل واحد منهم مكافئاً له أعني لو تفرد بقتله قتل به وهو ألا يكون فيهم مسلم يشارك الكفار في قتل كافر ولا والد يشارك غيره في قتل ولده، والثاني أن يكون جناية كل واحد منهم لو انفرد بها كان منها التلف، غير عندنا أنهم متى قتلوا الجماعة ردوا فاضل الدية ومتى أراد أولياء المقتول قتل واحد كان لهم، ورد الباقون على أولياء المقاد منه ما يصيبهم من الدية، لو كانت دية، ولم يعتبر ذلك أحد وفيها خلاف وجه آخر. إذا جرحه أحدهما مائة جراحة والآخر جراحة واحدة فهما قاتلان وعليهما القود”(2)
__________
(1) الكليني: الكافي / طبعة دار الكتب الإسلامية /مج7 / ص283..
(2) الطوسي: المبسوط في فقه الإمامية/ج7 /ص13.
(1/173)
أقول: يتضح مما سبق أن الإمامية تفردت بأن الجماعة لا تقتل بالواحد إلا بأن يدفع الولي ما زاد عن دية صاحبه فإن اختار قتلهم جميعاً فإن الولي له قتلهم بشرط أن يدفع الولي ما زاد عن دية صاحبه. أما إن عفا عن البعض وقتل البعض فإن الباقي من الذين عفي عنهم الولي فإنهم هم الذين يدفعون ما زاد عن دية القتيل الأول بحسب أقساطهم من الدية، وإلا فإن الولي هو الذي يشارك في الزيادة أيضاً.
الرأي الثالث: لا تقتل الجماعة بالواحد:
وقال داود والليث وربيعة: إن الجماعة لا تقتل بالواحد فلا يجب القصاص على أحد القتلة، وإنما تجب الدية وهو قول أحمد في روايته الأخرى، وبه قال حبيب بن أبي ثابت وعبد الملك وابن المنذر وحكاه ابن أبي موسى عن ابن عباس(1)
رأي الصنعاني:
ورجح الصنعاني هذا الرأي حيث قال: “لربيعة وداود أنه لا قصاص على الجماعة بل الدية رعاية للماثلة ولا وجه لتخصيص بعضهم. هذه أقوال العلماء في المسألة، والظاهر قول داود لأنه تعالى أوجب القصاص وهو المماثلة، وقد انتفت هنا ثم موجب القصاص هو الجناية التي تزهق الروح بها، فإن زهقت بمجموع فعلهم، فكل فرد ليس بقاتل فكيف يقتل عند الجمهور، وإنما يصح على قول النخعي. وإن كان كل واحد قاتلاً بانفراده لزم توارد المؤثرات على أثر واحد، والجمهور يمنعونه على أنه لا سبيل إلى معرفة أنه مات بفعلهم جميعاً أو بفعل بعضهم فإن فرض معرفتنا بأن كل جناية قاتلة بانفرادها لم يلزم أنه مات بكل منها فلا عبرة بالأسبق كما قيل، وأما حكم عمر رضي الله عنه، ففعل صحابي لا تقوم به الحجة ودعوى أنه إجماع غير مقبولة، وقيل: تلزم كل واحد ونسب قائله إلى خلاف الإجماع هذا ما قررناه هنا”(2)
__________
(1) ابن قدامة: المغني/ج9/ص366. والنووي: المجموع/ج17/ص210.
(2) الصنعاني: سبل السلام/ ج3/ص1598.
(1/174)
أقول: لكن الصنعاني نفسه رجع إلى رأي الجمهور فيما بعد فقد ذكر بعد ترجيحه لرأي الظاهرية وربيعة والليث :”ثم قوي لنا قتل الجماعة بالواحد، وحررنا دليله في حواشي ضوء النهار، وفي ذيلنا على الأبحاث المسدد”(1)
آراء بعض المعاصرين:
يقول أبو زهرة: “ولا شك أن قتل الجماعة بالواحد فيه سد للذريعة ومنع للشر، إذ لو ساغ ألا يقتص من الجماعة للواحد إذا قتلوه لسهل على الأشرار أن يتعاونوا على الإثم والعدوان، ويقتلوا من يشاءون مؤيدين بأن الجماعة لا تقتل بالواحد. وقد قلنا إنه لا يمكن أن يوجد دليل قطعي مانع للاحتمال لأحد الآراء في أنه الصواب، ونرى أن الأمر يفوض لرأي القاضي يختار القصاص منهم أجمعين، أو يختار الدية، أو يقتص ممن يتهمه أولياء الدم، حتى يشفي غيظهم بحيث لو أنه وجد ولياً واحداً، وثبت أنه لم ينفرد بقتله، بل شركه في هذا القتل آخرون، فإن الواجب حينئذ هو شفاء غيظه. وإن الصحابة الذين قتلوا الجماعة بالواحد بنوا على ذلك سعة النصوص وشمولها لهذه الحال مع المصلحة المؤكدة، وما دامت المصلحة كان لها دخل في تكوين ذلك الرأي، فإنه يفوض للقاضي، وهو الطبيب الذي يداوي أسقام المجتمع باختيار ما يراه أصلح للعلاج من بين هذه الآراء الثلاثة”(2)
رأي عبد القادر عودة:
__________
(1) الصنعاني: المرجع السابق/ ج3/ ص1598.
(2) العقوبة / أبو زهرة /ص279 وما بعدها.
(1/175)
وتحت عنوان (القتل المباشر على الإجتماع) يقول عبد القادر عودة: “من المتفق عليه بين الفقهاء الأربعة أنه إذا قام جماعة بقتل شخص في فور واحد بأن توافقت إراداتهم على القتل وقت الحادث فقط دون اتفاق سابق، فإن كلا منهم يعتبر قاتلاً عمداً له إذا كان فعل كل منهم يمكن تميزه وكان على انفراده له دخل في إحداث الموت كأن جرحه كل منهم جرحاً أو جراحاً قاتلة لها دخل في زهوق روحه، ولا عبرة بالتفاوت بين الجناة في عدد الجراح وفحشها، فإذا أحدث أحدهم جرحاً والآخر عشرة وإذا أحدث أحدهم جرحاً فاحشاً وأحدث الآخر جرحاً أقل فحشاً فكل منهم مسؤول عن القتل العمد ما دام قد أحدث جرحاً له دخل في إحداث الوفاة.
وإذا كان فعل أحدهم لا دخل له في الزهوق فلا يعتبر قاتلاً وإنما يسأل فقط عن الجراح أو الضرب، والعبرة بقول الخبراء في كون الفعل له دخل في الزهوق أم لا، فمن قرر الخبراء أن لفعله دخلاً في الزهوق فهو قاتل عمداً ومن قرروا أن فعله لا دخل له في الزهوق فهو جارح أو ضارب.
وإذا لم تتميز أفعالهم فلم يعرف المزهق من غير المزهق فهم جارحون أو ضاربون ولا يسألون عن القتل لأن الجرح والضرب هو المتيقن منهم وهذا هو رأي الأئمة ما عدا مالكاً، ويرى بعض فقهاء الحنفية مسؤليتهم جميعاً عن القتل إذا لم تتميز أفعالهم. وإذا كان فعل كل منهم منفرداً لا دخل له في الزهوق ولكن أفعالهم مجتمعة أدت إليه، فيرى بعض الشافعية أن كلا منهم يعتبر قاتلاً عمداً.
وقد أخذت محكمة النقض المصرية بهذا الرأي في حكم لها قضت فيه بأنه متى كان الثابت أن كلا من المتهمين قد ضرب القتيل وأن ضربته ساهمت في إحداث الوفاة كان كل منهم مسئولاً عن الوفاة ولو لم يكن بينهم اتفاق سابق، ولو كانت الضربة الحاصلة من أحدهم ليست بذاتها قاتلة فإذا كان الثابت أن كلا منهم قد قصد القتل كان مسئولاً أيضاً عن جناية القتل.
(1/176)
ولا يرى البعض ذلك وهو متفق مع مذهب أبي حنيفة وأحمد. أما مالك فيرى أنه إذا لم تتميز الضربات أو تميزت سواء تساوت أو اختلفت، ولكن لم يعلم عن من أحدثت ضربته الموت، فهم جميعاً قاتلون إذا ضربوه عمداً عدواناً، وفي المذهب يرى سقوط القصاص وإحلال الدية محله إذا لم تتميز الضربات ولم يعلم من أيها مات وهو رأي مرجوح. هذا هو حكم القتل على الإجتماع عند القائلين بأن التمالؤ هو التوافق فهم يعتبرون القتل على الإجتماع مصحوباً دائماً بتوافق الإرادات أي التمالؤ. أما من يرون أن التمالؤ هو الاتفاق السابق وليس التوافق، فيعطون الأحكام السابقة للجماعة غير المتمالئين، فإن كانوا متمالئين على القتل فإنهم يسألون جميعاً عن القتل العمد، سواء كان فعل كل منهم له دخل في الزهوق منفرداً أو مجتمعاً أو لا دخل له، وسواء تميززت الأفعال أو لم تتميز، ولو ضربوه بسياط أو عصاً خفيفة أو بأيديهم ولو كان ضرب كل منهم غير قاتل نحو أن يضربه كل منهم سوطاً أو نحو أن يضربوه على التوالي”(1)
ورجح أمير عبد العزيز الرأي القائل بقتل الجماعة بالواحد: “والقول الأول هو الراجح؛ لما بيناه من الأدلة المتضافرة، والتي تزجي بسلامة الحكم بهذا النوع من القتل الذي تصان معه الأرواح وتنزجر به النفوس الفاسدة؛ كيلا تعيث في الأرض شراً وقتلاً ما لم يؤخذ على أيديها بالقمع والشدة والإستئصال. حتى ولو اتحدت أو اجتمعت على الشر والقتل”(2)
__________
(1) عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي/ج2/ص41 وص42.
(2) أمير عبد العزيز (الدكتور): الفقه الجنائي في الإسلام/ص84.
(1/177)
أما فاروق النبهان فيقول: “ونلاحظ أن الرأي الأول (رأي الجمهور) يرى وجوب القصاص لأن كل فرد من الجناة يعتبر قائلاً. ولا بد من توقيع العقوبة عليهم جميعاً، ولا شك أن هذا الرأي يسد باب الذريعة إلى الجريمة الجماعية، ويجعل التعدد غير مبرر للتخلص من القصاص، وهو يحقق مصلحة أساسية وهي حماية المجتمع من الجريمة ومن المجرمين، لأن التساهل في العقوبة يؤدي دائماً إلى تشجيع الجريمة”(1)
الرأي المختار:
بعد هذا التطواف أرى أن الرأي القائل بقتل الجماعة بالواحد أقرب الأقوال للأسباب التي ذكرها الجمهور ولأن هذا الرأي ينسجم مع الغرض من تشريع القصاص. وقد أخذ قانون العقوبات المصري بالرأي القائل بقتل الجماعة بالواحد وأفرد باباً خاصاً لهذا الموضوع تحت عنوان (اشتراك عدة أشخاص في جريمة واحدة) وذلك في المواد التالية:
مادة 39: يعد فاعلاً للجريمة:
“أولاً: من يرتكبها وحده أو مع غيره. ثانياً: من يدخل في ارتكابها إذا كانت تتكون من جملة أعمال فيأتي عمداً عملاً من الأعمال المكونة لها.مادة 40: يعد شريكاً في الجريمة: أولاً: كل من حرض على ارتكاب العقل المكون للجريمة إذا كان هذا الفعل قد وقع بناء على هذا التحريض. ثانياً: من اتفق مع غيره على ارتكاب الجريمة فوقعت بناء على هذا الإتفاق. ثالثاً: من أعطى الفاعل أو الفاعلين سلاحاً أو آلات أو أي شئ آخر مما استعمل في ارتكاب الجريمة مع علمه بها أو ساعدهم بأي طريقة أخرى في الأعمال المجهزة أو المسهلة أو المتممة لا رتكابها. مادة 41: من اشترك في جريمة فعلية عقوبتها إلا ما ستثني قانوناً بنص خاص.
__________
(1) فاروق النبهان: مباحث في التشريع الجنائي الإسلامي/ ص108 وص109.
(1/178)
مادة 43: من اشترك في جريمة فعليه عقوبتها ولو كانت غير التي تعمد ارتكابها متى كانت الجريمة التي وقعت بالفعل نتيجة محتملة للتحريض أو الإتفاق أو المساعدة التي حصلت”(1)
وجاء في شرح قانون العقوبات: “عقوبة الشركاء في القتل العمدي المعاقب عليه بالإعدام: وضع الشارع نصاً خاصاً في شأن عقوبة الشركاء في القتل العمدي المعاقب عليه بالإعدام خرج فيه على القواعد العامة في تحديد عقوبة الشريك، فقد جاء في نص المادة 235 من قانون العقوبات على الوجه التالي: (المشاركون في القتل العمد المعاقب عليه بالإعدام يعاقبون بالإعدام أو بالأشغال الشاقة المؤبدة) ويتضح هذا الخروج إذا ما لاحظنا أن القواعد العامة تقرر للشريك عقوبة الجريمة التي اشترك فيها (المادة 41 من قانون العقوبات)، وقد كان مقتضى ذلك أن تكون عقوبة الإعدام هي عقوبة الشريك في القتل المعاقب عليه بالإعدام، لكن الشارع أجاز للقاضي أن يحكم عليه ـ دون الالتجاء إلى الظروف المخففة ـ بالأشغال الشاقة المؤبدة، وعلة هذا التخفيف أن بعض الشركاء قد يكون دوره في الجريمة محدداً ومساهمته ثانوية، فأراد الشارع ألا تكون تلك العقوبة الفادحة محتماً على الشريك، خاصة وأنها عقوبة ذات حد واحد”(2)
__________
(1) المكتبة القانونية: قانون العقوبات/القاهرة/ص14 وما بعدها بتصرف يسير.
(2) محمود نجيب حسني: شرح قانون العقوبات ـ القسم الخاص / دار النهضة العربية / القاهرة /ص361.
(1/179)
أقول: مسألة التخفيف على الشريك والتفريق بينه وبين الفاعل الأصلي التي ذكرها نجيب حسني تتفق مع رأي المالكية الذين يفرقون بين الاتفاق السابق على ارتكاب الجريمة وتوافق الإرادات على الاعتداء، فيرون عقوبة الجماعة التي تتفق سابقاً على الاعتداء ولا فرق بين من كان ربيئة أو مراقباً أو باشر بنفسه ومن ثم يعاقب الجميع بنفس العقوبة. أما مجرد توافق الإرادات على الاعتداء على شخص ما فإن المالكية يفرقون بين حالتين إذا تميزت الضربات: وحالة إذا لم تتميز فيرى مالك أنه إذا لم تتميز الضربات أو تميزت سواء تساوت أو اختلفت، ولكن لم يعلم عن من أحدثت ضربته الموت، فهم جميعاً قاتلون إذا ضربوه عمداً عدواناً، أما إذا تميزت فيفرق بين من ضربه بسياط أو بعصا خفيفة وبين من ضربه بآلة حادة وهكذا.
المطلب السادس
قتل الواحد بالجماعة
وصورة ذلك على النحو التالي: إذا قتل واحد اثنين فأكثر، قهل يقتل بهم جميعاً، ولا يجب عليه شئ آخر أم يقتل بواحد منهم، ويجب للآخرين المال؟
اختلف العلماء في ذلك إلى عدة آراء:
الرأي الأول: قال الأحناف: يقتل الواحد بالجماعة، ولا يجب مع القود شئ من المال.. قال في الهداية: “وإذا قتل واحد جماعة فحضر أولياء المقتولين قتل لجماعتهم ولا شئ لهم غير ذلك، فإن حضر واحد منهم قتل له وسقط حق الباقين”(1)
الرأي الثاني: قال الشافعية: إن الواحد يقتل بواحد من الجماعة، وللباقين الرجوع إلى الديات(2)
وشرح ذلك وتوضيحه على النحو التالي:
“إما أن يثبت أن قتلهم كان واحدا بعد واحد.
وإما أن يثبت أن قتلهم كان دفعة واحدة.
__________
(1) ابن قودر: نتائج الأفكار الهداية مع تكملة فتح القدير/مج10 /ص244. وانظر: جماعة من علماء الهند: الفتاوى الهندية/ج6 / ص504 والسمرقندي: تحفة الفقهاء /ج4 /ص126. ومنلا خسرو: درر الأحكام في شرح غرر الحكام/ ج2 /ص95.
(2) الغزالي: الوجيز في فقه الإمام الشافعي/ج2 / 127.
(1/180)
وإما أن يجهل من قتل أولاً. فإن قتلهم جمعاً مرتباً أي واحداً بعد واحد فيقتل بأولهم. وللباقين الديات، وإن قتلهم دفعة واحدة أو جهل الأول فبالقرعة فمن خرجت عليه القرعة قتل به قطعاً للنزاع وللباقين الديات. ووجوب الديات للباقين لأنه لا مماثلة بين الواحد والجماعة، فلا يكتفي بقتل واحد دون الرجوع للديات لأن ما حصل منه جنايات متعددة فلو كانت خطأ لم تتداخل. ففي التعمد أولى.
ولو قتله غير الأول في الصورة الأولى وغير من خرجت له القرعة في الصورة الثانية يتعبر عاصياً ويعزر لتفويته حق غيره ويقع قصاصاً لأن حقه متعلق به وللباقين الدية. ولو قتله أولياء القتلى جميعاً وقع القتل عنهم موزعاً عليهم فيرجع كل منهم إلى ما يقتضيه التوزيع من الدية فإن كانوا ثلاثة حصل لكل منهم ثلث حقه وله ثلثا الدية”(1)
__________
(1) الرملي: نهاية المحتاج/ ج7 / ص277. وراجع أيضاً: البكري: إعانة الطالبين/ ج4 /ص120.
(1/181)
وقال الشافعي في الأم:”إذا قتل رجل نفراً فأتى أولياؤهم جميعاً يطلبون القود وتصادقوا على أنه قتل بعضهم قبل بعض أو قامت بذلك بينة اقتص للذي قتله أولاً وكانت الدية في ماله لمن بقي ممن قتل آخراً. ولو جاءوا متفرقين أحببت للإمام إذا علم أنه قتل غير الذي جاءه أن يبعث إلى وليه فإن طلب القود قتله بمن قتل أولاً وإن لم يفعل واقتص منه في قتل آخر أو أوسط أو أول كرهته له ولا شئ عليه فيه لأن لكلهم عليه القود وأيهم جاء فأثبت عليه البينة بقتل ولي له قتله دفعة إلى ولي المقتول أولاً. ولو أثبتوا عليه معاً البينة أيهم قتل أولاً فالقول قول القاتل، فإن لم يقر بشئ أحببت للإمام أن يقرع بينهم أيهم قتل وليه أولاً فأيهم خرج سهمه قتله له وأعطى الباقين الديات من ماله. وكذلك لو قتلهم معاً أحببت له أن يقرع بينهم. وإذا قتل رجل عمداً وورثته كبار وفيهم صغير أو غائب وقتل آخر عمداً وورثته بالغون فسألوا القود لم يعطوه، وحبس على صغيرهم حتى يبلغ وغائبهم حتى يحضر فلعل الصغير والغائب يدعان القود فيبطل القود ويعطون ديته في ماله. ولو دفعه الإمام إلى ولي الذي قتل آخراً وترك الذي قتل آخراً وترك الذي قتله أولاً فقتله كان عندي مسيئاً ولا شئ عليهم لأن كلهم استوجب دمه على الكمال”(1)
وقال الحنابلة:
__________
(1) الشافعي: الأم / ج6 /ص22.
(1/182)
“إذا قتل واحد جماعة واحداً بعد واحد أو دفعة واحدة فاتفق أولياء الجميع على قتله قتل لهم لأن الحق لهم كما لو قتل عبد عبيداً خطأ فرضوا بأخذه، ولأنهم رضوا ببعض حقهم كما لو رضي صاحب اليد الصحيحة بالشلاء ولا شئ لهم سوى القتل لأنهم رضوا بقتله فلم يكن لهم سواء. وإن أراد أحدهم القصاص والآخرون الدية كان لهم ذلك فيقتل لمن أراد القصاص ويعطى الباقون الدية من ماله وإن تشاحوا فيمن يقتله منهم على الكمال أقيد للأول إن كان قتلهم واحداً بعد واحد، لأن حقه أسبق، ولأن المحل صار مستحقاً له بالقتل، وللباقين بعد الأول دية قتلاهم. لأن القتل إذا فات تعينت الدية كما لو بادر غير ولي الأول واقتص بجنايته فللباقين الدية فإن كان الأول غائباً أو صغيراً أو مجنوناً انتظر قدومه أو بلوغه أو عقله لأن الحق له وإن عفا أولياء الجميع إلى الديات كان لهم ذلك. وإن كان قتلهم دفعة واحدة وتشاحوا في المستوفى أقرع بينهم. فيقتص من خرجت له القرعة لتساوي حقوقهم وللباقين الدية، وإن بادر غير من وقعت له القرعة فقتله فقد استوفى حقه وسقط حق الباقين إلى الدية، لفوات القتل بالنسبة إليهم، وإن قتلهم متفرقاً واحداً بعد واحد وأشكل الأول، أو ادعى كل ولي الأولية، ولا بينة لهم، فأقر القاتل، أقرع بين الأولياء لاستواء حقوقهم فمن خرجت له القرعة كان له قتل القاتل وللباقين الدية وإن عفا من خرجت له القرعة عن القود قدم ولي المقتول بعده فإن لم تكن أولية بعد العافي أو جهلت فبقرعة أخرى بين الباقين وهكذا. وإن عفوا إلى الديات كان لهم ذلك”(1)
__________
(1) ابن قدامة: المغني /ج9 / ص405 وص406 بتصرف. والبهوتي: كشاف القناع عن متن الإقناع/ج5/ص541. والمقدسي: العدة شرح العمدة/ص500 وص501..
(1/183)
وقد اعترض الحنابلة على أبي حنيفة ومالك والشافعي فقال ابن قدامة: “ولنا على أبي حنيفة قول النبي صلى الله عليه وسلم (فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين فإن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل) فظاهر هذا أن أهل كل قتيل يستحقون ما اختاروه من القتل أو الدية فإذا اتفقوا على القتل وجب لهم وإن اختار بعضهم الدية وجب له بظاهر الخبر، ولأنهما جنايتان لا يتداخلان إذا كانتا خطأ أو أحدهما فلم يتداخلا في العمد كالجنايات على الأطراف وقد سلموها”(1)
وأكد ابن قدامة: “ولنا على الشافعي أنه محل تعلق به حقان لا يتسع لهما معاً رضي المستحقان به عنهما فيكتفي به كما لو قتل عبد عبدين خطأ فرضي بأخذه عنهما، ولأنهما رضيا بدون حقهما فجاز كما لو رضي صاحب الصحيحة بالشلاء أو ولي الحر بالعبد وولي المسلم بالكافر، وفارق ما إذا كان القتل خطأ فإن الجناية تجب في الذمة والذمة تتسع لحقوق كثيرة، وما ذكره مالك تغليظاً للقصاص ومبالغة في الزجر وفي مسألتنا ينعكس هذا فإنه إذا علم أن القصاص واجب عليه بقتل واحد وإن قتل الثاني والثالث لا يزداد به عليه حق بادر إلى قتل من يريد قتله وفعل ما يشتهي فعله فيصير هذا كا سقاط القصاص عن ابتداء مع الدية”(2)
وقال الكليني في فقه الإمامية: “باب الرَّجُلِ يَقْتُلُ رَجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ:
1- عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ عَمَّنْ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قُتِلَ بِهِمْ .
__________
(1) ابن قدامة: المغني/ ج9 /ص406.
(2) ابن قدامة: المغني/ ج9 /ص406.
(1/184)
2- عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَمُّونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَصَمِّ عَنْ مِسْمَعِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) أَنَّ قَوْماً احْتَفَرُوا زُبْيَةً لِلْأَسَدِ بِالْيَمَنِ فَوَقَعَ فِيهَا الْأَسَدُ فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأَسَدِ فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ فَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ وَ الْآخَرُ بِآخَرَ فَجَرَحَهُمُ الْأَسَدُ فَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ مِنْ جِرَاحَةِ الْأَسَدِ وَ مِنْهُمْ مَنْ أُخْرِجَ فَمَاتَ فَتَشَاجَرُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى أَخَذُوا السُّيُوفَ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السلام ) هَلُمُّوا أَقْضِي بَيْنَكُمْ فَقَضَى أَنَّ لِلْأَوَّلِ رُبُعَ الدِّيَةِ وَ لِلثَّانِي ثُلُثَ الدِّيَةِ وَ لِلثَّالِثِ نِصْفَ الدِّيَةِ وَ لِلرَّابِعِ دِيَةً كَامِلَةً وَ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى قَبَائِلِ الَّذِينَ ازْدَحَمُوا فَرَضِيَ بَعْضُ الْقَوْمِ وَ سَخِطَ بَعْضٌ فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وآله ) وَ أُخْبِرَ بِقَضَاءِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السلام ) فَأَجَازَهُ .
(1/185)
3- وَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) قَالَ قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السلام ) فِي أَرْبَعَةِ نَفَرٍ أَطْلَعُوا فِي زُبْيَةِ الْأَسَدِ فَخَرَّ أَحَدُهُمْ فَاسْتَمْسَكَ بِالثَّانِي وَ اسْتَمْسَكَ الثَّانِي بِالثَّالِثِ وَ اسْتَمْسَكَ الثَّالِثُ بِالرَّابِعِ حَتَّى أَسْقَطَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَلَى الْأَسَدِ فَقَتَلَهُمُ الْأَسَدُ فَقَضَى بِالْأَوَّلِ فَرِيسَةَ الْأَسَدِ وَ غَرَّمَ أَهْلَهُ ثُلُثَ الدِّيَةِ لِأَهْلِ الثَّانِي وَ غَرَّمَ أَهْلَ الثَّانِي لِأَهْلِ الثَّالِثِ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ وَ غَرَّمَ الثَّالِثَ لِأَهْلِ الرَّابِعِ دِيَةً كَامِلَةً”(1)
و”يتفق الأحناف والمالكية مع الأكثرية الغالبة من فقهاء الشيعة في هذه المسألة حيث ذهبوا إلى أنه لا يجب مع القتل شئ سواء كانت جناية الواحد على الجماعة بنحو التعاقب، أو دفعة واحدة؛ وسواء اتفق أولياء المجني عليهم على قتله أم لا، وأضافوا إلى ذلك أنه إذا سبق أحد الأولياء وقتل الجاني بدون رأي الآخرين يسقط حقهم من القصاص والدية لأن القصاص أصبح متعذراً بفوات محله والدية إنما تجب في قتل العمد بدلاً عنه بناء لا تفاق الطرفين”(2)
المطلب السابع
القصاص بين الراعي والرعية
__________
(1) الكليني: الكافي /ج7 / ص286.
(2) هاشم معروف الحسني: المسئولية الجزائية في الفقه الجعفري/ص222.
(1/186)
وصورة ذلك على النحو التالي: إذا ارتكب رئيس الدولة جريمة قتل فهل يحق لأهل القتيل أن يطالبوا بالقصاص من هذا الحاكم أو المسؤول؟ أقول طيقاً للشريعة الإسلامية فإنه: “لا خلاف في وجوب القصاص بين الراعي والرعية. فإذا جنى حاكم أو راع ـ مهما سمت منزلته في الدولة أو بين الناس ـ على أحد من عامة الناس، فإنه لا مندوحة عن تطبيق القصاص على الجاني، إلا أن يعفو الولي أو المجني عليه، إن كانت الجناية في طرف من الأطراف. وتلك حقيقة من حقائق الشريعة الإسلامية، لا يخفيها أو يتنازل عنها أو يفرط فيها إلا جاهل أو مغرض أو مضطرب هان عليه دينه، أو أن يكون والياً من الولاة، قد اصطنع لنفسه من الشرف والمكانة ما يطفو به فوق كل اعتبار، حتى ولو كان شرعاً كتبه الله لعباده، وأمر يسري في الأرض منهجاً أو نظام حياة للناس على السواء من غير تمييز بين عظيم وضعيف. أما إيجاب القصاص بين الحاكم والرعية، فإنه مستفاد من عموم الآيات والأخبار المتعلقة بهذه المسألة. وذلك كقوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى) فهو يدل بعمومه على وجوب القصاص بين الجاني والمجني عليه، بغض النظر عن جنس كل منهما أو عن مكانته بين الناس. وكذلك قوله تباركت أسماؤه (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس). وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في المساواة بين المسلمين من حيث دماؤهم وأجناسهم من غير محاباة أو جنوح: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم). وأخرج النسائي عن بإسناده عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه، ومن أخصاه أخصيناه).. وثبت عن أبي بكر (رضي الله عنه) أنه قال لرجل شكى إليه عاملاً أنه قطع يده ظلماً: (لئن كنت صادقاً لأقيد بك منه). وثبت أن عمر (رضي الله عنه) كان يقيد من نفسه. وكان يقول فيما أخرجه النسائي عنه (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتص من نفسه). وأخرج البيهقي بإسناده
(1/187)
عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَسّم شيئاً. أقبل رجل فأكب عليه، فطعنه بعرجون معه فجرح الرجل، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (تعال فاستقد، فقال: بل عفوت يا رسول الله). فإن في ذلك أبلغ دلالة على وجوب القصاص من الراعي الذي يعتدي على الرعية بأية صورة من صور العدوان والظلم. فما دام النبي صلى الله عليه وسلم وهو خير من أظلت السماء وخير من أقلّت الأرض وأقرب الخلائق طُرّا إلى الله ـ قد سأل الرجل المطعون بالعرجون أن يستقيد لنفسه من النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الاقتصاص من الراعي للرعية لهو أولى وآكد”(1)
أقول: لقد كانت الشريعة الإسلامية سباقة في إرساء قواعد العدل والمساواة في تاريخ البشرية فلا حصانة لخليفة أو سلطان أياً كانت منزلته فالكل سواء أمام تطبيق الأحكام الشرعية فلا حصانة لرئيس الدولة أو الملك ولا حماية خاصة لأعضاء السلك الدبلوماسي لا حصانة لأعضاء الهيئة التشريعية أو مجالس الشورى، لا حصانة لرؤساء الدول الذين يرتكبون جرائم في دولة الإسلام، الكل سواء وتسري عليه أحكام الشريعة الإسلامية.. وقد اعتنى فقهاء الإسلام بجناية الحاكم فعلى سبيل المثال كتب الشافعي في الأم باباً خاصاً عن جناية السلطان وعن الحالات التي يكون فيها السلطان ضامناً من عدمه.. “(2)
أقول: ها نحن أولاء نقدم نماذج من القوانين الوضعية التي تحمي مراكز قانونية لبعض الشخصيات العامة ولبعض الأشخاص الذين يتنمون لطائفة سياسية معينة حيث تكون مساءلتهم عما ارتكبوه من جرائم في منتهى التعقيد والصعوبة نظراً للإجراءات المعقدة التي تتخذ من أجل رفع الحصانة عن العضو المتهم في جريمة ما.. هذا في حالة أعضاء الهيئات التشريعة أما مساءلة رئيس الدولة فأشبه بالمستحيل!!
__________
(1) أمير عبد العزيز: الفقه الجنائي في الإسلام/دار السلام القاهرة/ص81، 82.
(2) الشافعي: الأم /طبعة دار المعارف بيروت/ ج6 /ص87 وما بعدها
(1/188)
أمثلة على عدم المساواة في القوانين الوضعية:
أ ـ تمييز رئيس الدولة:
” تميز القوانين الوضعية دائماً بين رئيس الدولة الأعلى ملكاً كان أو رئيس جمهورية وبين الأفراد، فبينما يخضع الأفراد للقانون لا يخضع له رئيس الدولة بحجة أنه مصدر القانون، وأنه السلطة العليا، فلا يصح أن يخضع لسلطة هي أدنى منه وهو مصدرها. وتعتبر بعض الدساتير ذات الملك مقدسة كالدستور الدنماركي والدستور الأسباني قبل الجمهورية، أما الدستور الإنجليزي فيجعل ذات الملك مصونة لا تمس، ويفترض أن الملك لا يخطئ، وفي بلجيكا ومصر(قبل الجمهورية) ذات الملك مصونة لا تمس، وكذلك الحال في إيطاليا ورومانيا قبل إلغاء النظام الملكي”(1)
أقول: إذا كانت الدساتير الملكية تفترض أن الملك لا يخطئ ومن ثم فلا محاسبة ولا مساءله له أمام القانون. فإن بعض الدساتير الجمهورية خرجت على هذه القاعدة قليلاً؛ فالدستور الفرنسي يحاسب رئيس الجمهورية في حالة واحدة وهي الخيانة العظمى ومعظم الدول الحديثة ترى مساءلة رئيس الجمهورية جنائياً في حالة الخيانة العظمى فقط ومنهم من اشترط موافقة أعضاء البرلمان بأغلبية معينة وهي عملية معقدة مما يصعب محاكمة رئيس الدولة وهو في منصبه من الناحية الواقعية والعملية.
__________
(1) عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي/ج1/ص311.
(1/189)
أقول: وتصداقاً لذلك نص المادة 85 من الدستور المصري: “يكون اتهام رئيس الجمهورية بالخيانة العظمى أو ارتكاب جريمة جنائية بناء على اقتراح مقدم من ثلث أعضاء مجلس الشعب على الأقل ولا يصدر قرار نهائي إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس. ويقف رئيس الجمهورية عن عمله بمجرد صدور قرار الاتهام ويتولى نائب رئيس الجمهورية الرئاسة مؤقتاً لحين الفصل في الاتهام. وتكون محاكمة رئيس الجمهورية أمام محكمة خاصة ينظم القانون تشكيلها وإجراءات المحاكمة أمامها ويحدد العقاب، وإذا حكم بإدانته أعفي من منصبه مع عدم الإخلال بالعقوبات الأخرى” !!! ألا يتعارض نص المادة 85 السابق مع مبدأ المساواة الذي جاء في نص المادة 40 من الدستور المصري ؟!!: (المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة؛ لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة)..
ب ـ تمييز رؤساء الدول الأجنبية:
(1/190)
“وتعفي القوانين الوضعية رؤساء الدول الأجنبية ملوكاً كانوا أو رؤساء جمهوريات من أن يحاكموا على ما يرتكبونه من الجرائم في أي بلد آخر غير بلادهم، سواء دخلوه بصفة رسمية أو متنكرين، وهذا الإعفاء يشمل كل أفراد حاشية الملك أو رئيس الجمهورية، وحجة شراح القوانين في هذا الإعفاء أن إجازة محاكمة رؤساء الدول وأفراد حاشيتهم لا تتفق مع ما يجب لهم من كرم الضيافة والتوقير والاحترام، وهي حجة لا تستقيم مع المنطق لأن رئيس الدولة الذي ينزل بنفسه إلى حد ارتكاب الجرائم يخرج على قواعد الضيافة، ولا يستحق شيئاً من التوقير والاحترام، ومثل هذا يقال في أفراد الحاشية والواقع أن الإعفاء تقليد قديم كان معمولاً به قبل أن تأخذ القوانين الوضعية بمبدأ المساواة، وظل معمولاً به حتى اليوم، وقد ساعد على بقائه اعتراف الدول به، وصيرورته جزءاً من القانون الدولي، والمعروف أن القانون الدولي لا يتطور بمثل السرعة التي تتطور بها القوانين الخاصة”(1)
أقول: إن اعتراف الدول بحصانة رؤساء الدول وحاشيتهم لم تستفت فيه الشعوب بل هذا الاعتراف من قبل الرؤساء أنفسهم ومن يمثلونهم لأن هذه الحصانة توافق أهواءهم وتمنحهم مزايا فوق رعاياهم وتجعلهم فوق القانون وفوق المساءلة أما افتراض أن الشعوب وافقت ضمناً على هذا المبدأ فهذا كلام من خيال بعض المفكرين والفلاسفة لأن الشعوب تريد العدل والمساواة فأين مبدأ المساواة هنا ورئيس الدولة لا يسأل عما يفعل!!
ج ـ تمييز رجال السلك السياسي:
__________
(1) عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي/ج1/ص312.
(1/191)
“تعفي القوانين الوضعية المفوضين السياسيين الذين يمثلون الدول الأجنبية من أن يسري عليهم قانون الدولة التي يعملون فيها، ويشمل الإعفاء حاشيتهم وأعضاء أسرهم، وحجة شراح القوانين في هذا الإعفاء أن الممثلين السياسيين يمثلون دولهم أمام الدولة التي يعملون في أرضها، وليس لدولة على أخرى حق العقاب، وأن الإعفاء ضروري لتمكينهم من أداء وظائفهم، وحتى لا تتعطل بتعريضهم للقبض والتفتيش والمحاكمة. ويمكن الرد على هاتين الحجتين بأن الممثل السياسي ليس إلا فرداً من رعايا الدول الأجنبية إذا ارتكبوا جريمة في أرضها، ولا يمكن أن يعطل سريان القانون على الممثل السياسي أعمال هذا الممثل ما دام يحترم القانون ويطيعه ولا يعرض نفسه للوقوع تحت طائلته”(1)
د ـ تمييز أعضاء الهيئة التشريعية:
لقد أخذت القوانين الوضعية بعدم مساءلة أعضاء الهيئة التشريعية جنائياً بما يصدر عنهم من أفكار وآراء أثناء انعقاد مجلس النواب فعلى سبيل المثال تنص المادة 98 من الدستور المصري بما يلي: “لا يؤاخذ أعضاء مجلس الشعب عما يبدونه من الأفكار والآراء في أداء أعمالهم في المجلس أو لجانه.
وتنص المادة 99: (لا يجوز في غير حالة التلبس بالجريمة اتخاذ أية اجراءات جنائية ضد عضو مجلس الشعب إلا بإذن سابق من المجلس وفي غير دور انعقاد المجلس يتعين أخذ إذن رئيس المجلس ويخطر المجلس عند أول انعقاد له بما اتخذ من اجراء). وحجة الذين شرعوا هذا الإعفاء من المساءلة الجنائية لأعضاء مجلس الشعب أن في ذلك إعطاءً لقدر من الحرية للأعضاء لكي يساعدهم على أداء وظائفهم!! رغم أن هذا المبرر نفسه موجود لدى أعضاء المجالس المحلية والبلدية إلا أنهم لم يعطوا هذه الحصانة التي يتمتع بها أعضاء البرلمان!! حقيقة إن هذه الحصانة التي تمنح لأعضاء المجالس التشريعية خرق لمبدأ المساواة التي تنادي به الدساتير الوضعية ذاتها!!
__________
(1) عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي/ج1/ص314.
(1/192)
د ـ تمييز الأغنياء وأصحاب الوجاهة في المجتمع:
وقد تنبه إلى ذلك عبد القادر عودة إذ قال:
“وتميز القوانين الوضعية الأغنياء على الفقراء في كثير من الحالات، ومن الأمثلة على ذلك في القانون المصري أن قانون تحقيق الجنايات (الإجراءات الجنائية) يوجب على القاضي أن يحكم بالحبس في كثير من الجرائم، على أن يقدر للمحكوم عليه كفالة مالية إذا دفعها أجل تنفيذ عليه حتى يفصل في الاستئناف وإن لم يدفعها حبس دون انتظار لنتيجة الاستئناف.
وفي هذا خروج ظاهر على مبدأ المساواة، إذ يستطيع الغني دائماً أن يدفع الكفالة فلا ينفذ عليه الحكم بينما يعجز الفقير عن دفعها في أغلب الأحوال، فينفذ عليه الحكم في الحال. ويجيز قانون تحقيق الجنايات المصري للمتهم المحبوس أن يعترض على حبسه فينظر اعتراضه أمام القاضي، وللأخير أن يفرج عن المتهم بضمان مالي.
وفي تقرير مبدأ الضمان المالي خروج ظاهر على مبدأ المساواة لأن الغني يستطيع دائماً أن يدفع الضمان المالي فيخرج من محبسه، أما الفقير فهو في أغلب الأحوال عاجز عن دفع الضمان، فيظل رهين محبسه، وقد تقض المحكمة ببراءته مما نسب إليه، فتكون النتيجة أنه حبس لا لأنه أجرم، بل لأنه عجز عن دفع الكفالة أو بتعبير آخر لأنه فقير”(1)
__________
(1) عبد القادر عودة: السابق/ج1/ص314.
(1/193)
أقول: وتميز القوانين الوضعية أصحاب الوجاهة والمناصب في المجتمع على غيرهم من أفراد الشعب: “ومن الأمثلة على ذلك في القانون المصري أن لوكيل النيابة أن يرفع الدعوى العمومية على المتهم في جنحة دون استئذان جهة ما، ولكن إذا كان المتهم موظفاً أو محامياً أو طبيباً أو عضواً في البرلمان أو شخصية ظاهرة فإن وكيل النيابة لا يستطيع رفع الدعوى العمومية إلا بعد استئذان جهات معينة، ويجوز لوكيل النيابة أن يحفظ القضية اكتفاء بجزاء إداري يوقع على الموظف أو الطبيب أو المحامي، وبذلك ينجو المتهم من العقوبة الجنائية، ومثل هذا الحفظ غير ممكن بالنسبة لأفراد الشعب العاديين”(1)
ولم تكتف القوانين الوضعية بهذا التمييز بل تعدى ذلك لقضايا التعويض التي يحكم فيها لمن أصابه ضرر ما وقد أجاز القانون المصري لمن وقع عليه ضرر من جراء جريمة أن يلجأ للقضاء ويطالب بتعويض لجبر هذا الضرر..
__________
(1) عبد القادر عودة: السابق/ج1/ص314.
(1/194)
لكن هل طبق القانون مبدأ المساواة في جبر هذا الضرر بين كافة أفراد الشعب؟! بالطبع لا.! فالمحاكم :”حين تقدر هذا التعويض تراعي مركز الشخص وماله، وما أصابه من ضرر وما فاته من نفع، فلو أن مدير شركة وعاملاً في نفس الشركة أصيبا في حادث واحد بإصابات متماثلة فطالبا بتعويض، لكان التعويض الذي يحكم به لمدير الشركة ضخماً كبيراً، ولكان التعويض الذي يحكم به للعامل تافهاً ضئيلاً. وقد جرى الشارع المصري على هذه الطريقة فيما حدده من تعويضات عن إصابات العمال أثناء عملهم بإصابات تؤدي إلى تعطيلهم أو عجزهم أو وفاتهم، حيث أوجب أن يكون تعويض العامل أو ورثته على أساس مرتب العامل في مدة معينة ولمدة معينة. فإن كان مرتبه صغيراً كان تعويضه كذلك، وإن كان مرتبه كبيراً كبر التعويض. ويترتب على ذلك أنه لو أصيب عاملان معاً في مصنع واحد، وفي حادث واحد، وفي حادث واحد، وتحت ظروف واحدة، ففقد كل منهما ذراعه الأيمن، أو يده اليمنى، أو إبهامه الأيمن مثلاً، فإن صاحب المرتب الأقل منهما يكون تعويضه أقل من التعويض الذي يصرف لزميله”(1)
صفوة القول
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي/ج1/ص315.
(1/195)
هكذا يستبين لنا سبق الشريعة الإسلامية وتفوقها على القوانين الوضعية في إرساء مبدأ المساواة “ففي الشريعة الإسلامية لا يوصد باب التقاضي أمام البعض ويفتح أمام البعض الآخر، ولا يجوز إنشاء محاكم خاصة بفئات أو طبقات معينة من الناس على أساس إنشاء امتياز لهذه الفئات أو الطبقات على غيرهم من الأفراد، لما يمثله ذلك من إخلال بمبدأي العدل والمساواة. وتيسير التقاضي من مميزات النظام القضائي الإسلامي، فلا توجد أية عوائق أمام الفرد في لجوئه للقضاء، لدرجة أن بعضاً من الفقهاء لم يجز للقاضي أن يتخذ حاجباً، حتى لا يكون هذا الحاجب عائقاً أمام المتقاضي، ومنهم من اشترط في مجلس القضاء أن يكون في مكان بارز غير مستتر بحيث يصل إليه كل قاصد للتقاضي، وكذلك لا مجال للرسوم القضائية في النظام القضائي الإسلامي لما قد تمثله هذه الرسوم من مشقة مادية على بعض المتقاضين. ولم نجد ما يدلنا على أن هذا النظام يلزم المتقاضي بدفع رسوم مالية عند التداعي أمام القضاء الإسلامي.
ولا يستثني القضاء الإسلامي أحداً مهما كان شأنه من المثول أمامه حتى لو كان خليفة المسلمين، إذ جرى العمل في ظل النظام القضائي الإسلامي على مقاضاة الخلفاء والولاة تماماً كما يحاكم سائر الأفراد، ففي شريعة الإسلام لا حصانة لأشخاص أو أعمال معينة من الخضوع للقضاء الإسلامي، لما يترتب على هذه الحصانة من ظلم تأباه روح العدالة التي تسود أحكام هذه الشريعة”(1)
الفصل الخامس
الفصل الخامس
سقوط القصاص
ذكر الفقهاء أربعة أسباب لسقوط القصاص بعد وجوبه سنبينها في المباحث التالية:
المبحث الأول: فوات محل القصاص.
المبحث الثاني: العفو.
المبحث الثالث: الصلح.
المبحث الرابع: ارث حق القصاص.
المبحث الأول
فوات محل القصاص
__________
(1) أحمد محمد المليجي: النظام القضائي الإسلامي /مكتبة وهبة / القاهرة /ص117 وص118.
(1/196)
محل القصاص في القتل هو نفس القاتل. ويقصد بفوات محل القصاص، ذهابه بعد وجوده. ويكون ذلك بموت من عليه القصاص. فإذا انعدم محله سقط القصاص اتفاقاً بين العلماء، لأنه لا يتصور بقاء الشئ في غير محله. ولا يتصور تنفيذ العقوبة بعد انعدام محلها.
واختلف الفقهاء في وجوب الدية في مال الجاني المتوفى أم لا؟
القول الأول:
لا تجب الدية في مال القاتل لسقوط القصاص لا إلى بدل، لأن الواجب بالقتل العمد هو القصاص عيناً. ولا تجب الدية إلا بالتراضي، وبعد موت القاتل لا مكان للتراضي. ومن ثم لا تثبت الدية وبه قال الحنفية ومالك.قال في بدائع الصنائع: “وأما بيان ما يسقط بعد وجوبه: فالمسقط له أنواع منها فوات محل القصاص بأن مات من عليه القصاص بآفة سماوية لأنه لا يتصور بقاء الشئ في غير محله، وإذا سقط بالموت لا تجب الدية عندنا لأن القصاص هو الواجب عيناً عندنا”(1) وقال مالك في الموطأ: “في الرجل يقتل الرجل عمداً. أو يفقأ عينه عمداً. فيقتل القاتل أو تفقأ عين الفاقئ قبل أن يقتص منه: أنه ليس عليه دية ولا قصاص. وإنما كان حق الذي قتل أو فقئت عينه في الشئ، بالذي ذهب وإنما ذلك بمنزلة الرجل يقتل الرجل عمداً. ثم يموت القاتل. فلا يكون لصاحب الدم، إذا مات القاتل، شئ، دية ولا غيرها. وذلك لقول الله تبارك وتعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد) قال مالك: فإنما يكون له القصاص على صاحبه الذي قتله. وإذا هلك قاتله الذي قتله، فليس له قصاص ولا دية”(2)
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع / ج2 / ص246.
(2) مالك بن أنس: الموطأ / ص762.
(1/197)
وهناك مسألة عرضها صاحب المدونة ونصها كالتالي: “قلت: أرأيت لو أن رجلاً قتل ولياً لي عمداً فوثب على هذا القاتل رجل آخر فقتله عمداً أيضاً؟ قال: قال مالك: يقال لأولياء المقتول الآخر: أرضوا أولياء المقتول الأول وخذوا قاتل وليكم فاصنعوا به ما شئتم. وإن أرضوا أولياء المقتول الأول وإلا دفع القاتل الثاني إلى أولياء المقتول الأول فيصنعون به ما أرادوا. قلت أرأيت إن قال أولياء القاتل الأول لأولياء المقتول الأول: خذوا منا الدية أو خذوا منا أكثر من الدية وكفوا عن هذا القاتل الآخر الذي قتل ولينا فنقتله أو نستحييه. وقال أولياء المقتول الأول: لا نأخذ منكم مالاً ولكنا نأخذه فنقتله نحن. أيكون ذلك لهم في قول مالك؟ قال: قال مالك: إن أرضوهم وإلا أسلم إليهم فأرى إذا أبوا فلهم ذلك ولهم أن يقتلوا إن لم يرضوا”(1)
يتضح مما سبق أن مالكاً يفرق بين حالتين: الأولى في حالة فوات محل القصاص في حالة موت القاتل بحق أو موتاً طبيعياً. وبين موته ظلماً بقتله. فأما الحالة الأولى فلا شئ لأولياء المقتول. وفي الحالة الثانية وهو موت القاتل ظلماً بقتله فيثبت القصاص على الثاني لأولياء المقتول الأول.
القول الثاني:
تجب الدية في مال القاتل لأنه لو سقط القصاص لذهب دم القتيل هدراً:
__________
(1) مالك بن أنس: المدونة / ج5 / ص669.
(1/198)
وبهذا القول قالت الشافعية سواء مات القاتل ظلماً أو دون ظلم. قال الشافعي في الأم: “وإذا قتل الرجلُ الرجلَ عمداً ثم مات القاتل فالدية في مال القاتل، لأنه يكون لأولياء المقتول أن يأخذوا أيهما شاءوا إلا أن حقهم في واحد دون واحد، فإذا فات واحد فحقهم ثابت في الذي كان حقهم فيه إن شاءوا وهو حي. قال الشافعي: وكذلك للرجل إذا جرحه الرجل الخيار في القصاص في الجرح، فإن مات الجارح فله عقل الجرح إن شاء حالاً كما وصفت في مال الجارح. قال الشافعي: وسواء أي ميتة مات القاتل والجارح بقتل أو غيره فدية المقتول الأول وجرحه في ماله”(1)
وقال في شرائع الإسلام في فقه الإمامية: “إذا هلك قاتل العمد، سقط القصاص. وهل تسقط الدية؟ قال في المبسوط: نعم. وتردد في الخلاف. وفي رواية أبي بصير: إذا هرب ولم يقدر عليه حتى مات، أخذت من ماله، وإلا فمن الأقرب فالأقرب”(2)
أقول: هناك صورتان لدى الإمامية بخصوص هذه المسألة المتعلقة بفوات محل القصاص:
الصورة الأولى: لو فر القاتل وهرب إلى الخارج سواء بنفسه أو بالإتفاق مع الغير وفي هذه الحالة يسقط عنه القصاص لعدم القدرة عليه ويكون من حق ولي الدم أن يأخذ الدية من مال القاتل أو ممن ساعد في هروبه.
أما الصورة الثانية: وهي في حالة وفاة القاتل قبل القصاص فقد تردد الفقهاء في حق ولي الدم في أخذ الدية وسبب ترددهم أن القاتل لم يتفق معهم ولم يفوت حقهم في القصاص.
__________
(1) الشافعي: الأم /دار المعرفة/بيروت/ ج6 / ص10 .
(2) الحلي: شرائع الإسلام/ ج4 / ص217.
(1/199)
ولتوضيح الصورة الأولى:”لو مات الجاني أو فر لخارج البلاد: لقد نص الفقهاء على أن الجاني المتعمد في جنايته إذا هلك أو فر لخارج البلاد ولم يعد بالإمكان التسلط عليه يسقط حق المجني عليه من القصاص، لفوات الموضوع؛ ولم يخالف أحد في ذلك ولكنهم اختلفوا في أن حقه هل ينتقل قهراً إلى الدية فيتسلط على ماله فيستوفيها منه، كما ذهب إلى ذلك جماعة بشهادة صاحب الجواهر، أو لا ينتقل إليها لأنها إنما تجب بالإتفاق عليها من الطرفين والمفوض أن الجاني لم يتم معه الإتفاق على شئ؛ كما ذهب إلى ذلك فريق آخر من الفقهاء، ولكن المرويات عن الأئمة (ع) تؤيد الرأي الأول، فقد جاء في رواية أبي بصير أن الإمام الصادق (ع) سئل عن رجل قتل رجلاً عمداً ثم هرب ولم يقدر عليه أحد، فقال (ع) أن كان له مال أخذت الدية من ماله، وإلا فمن الأقرب فالأقرب، فإن لم يكن له قرابة أداه الإمام من بيت المال، فإنه لا يطل دم امرئ مسلم. وأضاف أنصار هذا الرأي إلى هذه الروايات وغيرها، أن الجاني كان عليه أن يسلم نفسه لأولياء المجني عليه ليستوفوا حقهم منه، أما بقتله أو بالإتفاق معه على الدية فإذا فر لخارج البلاد فقد فوت هذا الحق عليهم، وعليه أن يغرم لهم الدية على حد تعبير الفقهاء ولا شئ غير الدية تصلح بدلاً عن القصاص. وجاء في رواية حريز عن الإمام الصادق ما يشعر بمثل هذه المعاوضة القهرية في المقام؛ فقد روي أنه سئل الإمام عن رجل قتل شخصاً متعمداً فدفعه الوالي لأولياء المقتول ليقتصوا منه فوثب قوم وخلصوه من أيديهم فقال (ع) أرى أن يحبس الذين خلصوا القاتل من أيدي الأولياء حتى يأتوا به، وإن مات القاتل وهم في السجن فعليهم الدية. ومما لا شك فيه أن الزامهم بالدية في هذه الحالة لم يكن إلا لأنهم قد حالوا بين الولي وبين استيفاء حقه، وانطلقوا من هذه الرواية إلى القول: بأن الجاني نفسه لو حال بين الولي وبين استيفاء حقه من القصاص ينتقل حق الولي إلى الدية”(1)
__________
(1) هاشم معروف الحسني: المسئولية الجزائية في الفقه الجعفري/ ص256 و ص 257.
(1/200)
أما الصورة الثانية: “ولو مات الجاني قبل القصاص، فقد تردد الفقهاء في انتقال حق أولياء المجني عليه إلى الدية لأنه لم يفوت عليهم شيئاً، والنصوص التي جعلت لأوليائه الحق في الدية لا تشمل هذا المورد على حد تعبيرهم، هذا بالإضافة إلى أن الأدلة لا تلزم الجاني بالدية إلا إذا اتفق عليها مع المجني عليه”(1)
أقول: أما عن تقنين فوات محل القصاص في صورة مواد قانونية طبقاً لمشروع بقانون لتطبيق أحكام القصاص الذي اقترحه المستشار علي منصور: جاء في نص المادة 30 تحت عنوان سقوط القصاص بفوات محله: “يسقط القصاص إذا فات محله لأي سبب من الأسباب إذا مات الجاني أو قتل بحق أو بغير حق، وذلك دون الإخلال بالحق في الدية”(2)
المبحث الثاني
العفو
__________
(1) هاشم معروف الحسني: السابق/ص257.
(2) علي علي منصور: نظام التجريم والعقاب/ ص415.
(1/201)
من مسقطات القصاص العفو وهو مما أجمع الفقهاء على جوازه وأنه مستحب قال في الروضة: “هو مستحب فإن عفا بعض المستحقين، سقط القصاص وإن كره الباقون، ولو عفا عن عضو من الجاني، سقط القصاص كله “(1) والأصل فيه قوله تعالى: (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان)(2).. و”بالرغم من أن القصاص حق لصاحب الدم، وهو بذلك مخول أن يستوفي هذا الحق بإنزال عقوبة القصاص على الجاني، لكنه مع ذلك يجب التنبيه على أن العفو خير وأفضل من القصاص، وذلك لما في العفو من إحياء لنفس عسى أن تئوب إلى ربها بصالح الأعمال، وتجتهد ما استطاعت في صنع الخيرات والحسنات.. وفي أفضلية العفو يقول الله سبحانه: (وجزاء سيئة سيئة مثلها. فمن عفا وأصلح فأجره على الله) الشورى/40. وقوله عز من قائل: (والجروح قصاص. فمن تصدق به فهو كفارة له) المائدة/45. وقوله: (ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور) الشورى43. وقوله تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)المائدة/32. والمقصود أحياها بالعفو. ومن أدلة السنة ما أخرجه أحمد ومسلم والترمذي بإسنادهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزاً) وروى ابن ماجة والترمذي عن أبي الدرداء قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل يصاب بشئ في جسده، فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه خطيئة) يستدل بهذه النصوص على أفضلية العفو وأنه خير من القصاص”(3)
__________
(1) النووي: روضة الطالبين/ ج7 / ص104.
(2) البقرة آية 178.
(3) أمير عبد العزيز: الفقه الجنائي في الإسلام/ ص29 وص 30.
(1/202)
قال الشوكاني: “والترغيب ثابت بالأحاديث الصحيحة ونصوص القرآن الكريم ولا خلاف في مشروعية العفو في الجملة وإنما وقع الخلاف فيما هو الأولى للمظلوم هل العفو عن ظالمه أو الترك فمن رجح الأول قال إن الله سبحانه لا يندب عباده إلى العفو إلا ولهم فيه مصلحة راجحة على مصلحة الانتصاف من الظالم فالعافي له من الأجر بعفوه عن ظالمه فوق ما يستحقه من العوض من العوض عن تلك المظلمة من من أخذ أجر أو وضع وزر لم يعف عن ظالمه.
ومن رجح الثاني: قال أنا لا نعلم هل عوض المظلمة أنفع للمظلوم أم أجر العفو ومع التردد في ذلك ليس إلى القطع بأولوية العفو طريق. ويجاب بأن غاية هذا عدم الجزم بأولوية العفو لا الجزم بأولوية الترك الذي هو الدعوى ثم الدليل يستلزم راجحيته ولا سيما إذا نص الشارع على أنه من موجبات رفع الدرجات وحط الخطيئات وزيادة العز كما وقع في أحاديث الباب ونحن لا ننكر أن للمظلوم الذي لم يعف عن طلاقته عوضاً عنها فيأخذ من حسنات ظالمه أو يضع عليه من سيئاته ولكنه لا يساوي الأجر الذي يستحقه العافي لأن الندب إلى العفو والإرشاد إليه والترغيب فيه يستلزم ذلك وإلا لزم أن يكون ما هو بتلك الصفة مساوياً أو مفضولاً فلا يكون للدعاء إليه فائدة على فرض المساواة أو يكون مضراً على فرض أن يكون العفو مفضولاً لأنه كان سبباً في نقصان ما يستحق من عوض المظلمة واللازم باطل فالملزوم مثله”(1)
أقول:
__________
(1) الشوكاني: نيل الأوطار/دار الجيل/ بيروت/ ج7 / 178 ، 179.
(1/203)
يرى مالك أن العفو في القتل غيلة لا يصح.. قال الزرقاني: “وقد جاء في الحديث من عفا عن قاتله دخل الجنة، قال الباجي: وهذا ما قاله إن المقتول عمداً يجوز له أن يعفو عمن قتله، وذلك مثل أن يجرحه جرحاً أنفذ به بعد مقاتله وتبقى حياته فيعفو، فإن عفوه جائز، قال ابن نافع عن مالك: إلا في قتل الغيلة”(1) وعلق الكاندهلوي على هذا التقييد بقوله: “والتقييد بغير قتل الغيلة مبني على مسلك الإمام مالك خاصة من العفو في قتل الغيلة للسلطان فقط لا لغيره”(2) قال في الفروع: “واختار شيخنا أنه لا يصح العفو في قتل الغيلة لتعذر الاحتراز كالقتل في مكابرة وذكر القاضي وجهاً في قاتل الأئمة: يقتل حداً، لأن فساده عام أعظم من محارب”(3).. ويحتج المالكية بما جاء في قصة مجذر بن زياد وقد ذكرهذه القصة البيهقي بسنده : “حدثنا الواقدي في ذكر من قتل بأحد من المسلمين قال: ومجذر بن زياد قتله الحارث بن سويد غيلة وكان من قصة مجذر بن زياد أنه قتل سويد بن الصامت في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم الحارث بن سويد بن الصامت ومجذر بن زياد فشهدا بدراً فعل الحارث يطلب مجذراً ليقتله بأبيه فلم يقدر عليه يومئذ فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم خرج إلى حمراء الأسد فلما رجع أتاه جبريل ـ عليه السلام ـ فأخبره أن الحارث بن سويد قتل مجذر بن زياد غيلة وأمره بقتله، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء فلما رآه دعا عويم بن ساعدة فقال: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بالمجذر بن زياد فإنه قتله يوم أحد غيلة. فأخذه عويم فقال الحارث: دعني أكلم رسول الله
__________
(1) الكاندهلوي: أوجز المسالك إلى موطأ مالك ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ط 1419هـ/ 1989م ـ ج13 ص136.
(2) الكاندهلوي ـ المرجع السابق ـ ج13 ص136.
(3) ابن مفلح: الفروع/ ج5 / ص669.
(1/204)
صلى الله عليه وسلم فأبى عليه عويم، فجابذه يريد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يركب، فجعل الحارث يقول: قد والله قتلته يا رسول، الله والله ما كان قتلي إياه رجوعاً عن الإسلام ولا ارتياباً فيه ولكنه حمية الشيطان، وأمر وكلت فيه إلى نفسي، فإني أتوب إلى الله وجعل يمسك بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو مجذر حضور لا يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى إذا استوعب كلامه قال: قدمه يا عويم فاضرب عنقه فضرب عنقه”(1)
__________
(1) قال البيهقي في السنن الكبرى ـ كتاب النفقات عن هذا الحديث: “قال الشيخ إنما بلغنا قصة مجذر بن زياد من حديث الواقدي منقطعاً وهو ضعيف” انظر البيهقي: السنن الكبرى8 / ص57. وفي الموسوعة الحديثية الحديث رقم 16485.
(1/205)
“ومن المؤكد أن العفو يكون خيراً ومصلحة إذا كان القاتل لم يكن قتله بإصرار وتصميم، بل كان تحت تأثير نوبة غضب جامحة جعلته يقع في هذا الشر، وليس له فيه تصميم كامل، والندم قريب إلى نفسه، والتوبة حيث يكون الندم، ويكون العقاب في هذه الحال مادياً ومعنوياً، أما المادي، فالتعويض، أما المعنوي فهو أن رقبته صارت بين يمين ولي الدم. قد يقول قائل: إن شرعية القصاص كانت للزجر، ولا شك أن الزجر يتحقق بتعرض الرقبة للقصاص، والعفو احتمال بعيد من ولي الدم، فإن له أن يعفو وألا يعفو، والقصاص أقرب، وأي امرئ يعرض رقبته للقصاص باحتمال الغالب، وهو الأصل، ويكون عنده تقدر للأمور. وفوق ذلك فإن جرائم القصاص فيها اعتداء على حقين: حق الله تعالى، وحق العبد، فإذا كان العفو فإنه ينقذ رقبته، ولكنه لا ينقذه من كل عقاب، فإن ولي الأمر له بالمرصاد يقدر له العقوبات التعزيرية التي يراها رادعة له ولأشباهه، وقد تكون بالجلد، كما تكون على مقتضى عقوبات أهل زماننا بالسجن. وأنه بلا ريب شرعية القصاص مع حق العفو، ومع التعزير حسب ما يرى ولي الأمر أجدى من أحكام هذا الزمان التي تشترط سبق الإصرار للإعدام، وفي غير ذلك يكون التعزير”(1)
من له حق العفو:
حق العفو لأولياء القتيل؛ وهو لمن يملك استيفاء القصاص. وهو الورثة من ذوي الأنساب والأسباب عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
__________
(1) أبو زهرة: العقوبة / ص401 و 402 بتصرف يسير.
(1/206)
ويرى مالك أن حق العفو لمن يملك استيفاء القصاص. قال في أسهل المدارك: “وأولياء الدم؛ العصبات، فيسقط بعفو بعضهم. قال الحطاب: يعني أنه إذا أسقط بعض من له العفو حقه وعفا عن القاتل فإن القود يسقط ويتعين للباقين نصيبهم من دية عمد ويدخل في ذلك بقية الورثة، فإذا عفا جميع الأولياء فلا شئ للبنات. قال في المدونة في آخر كتاب الديات: وإذا قامت بينة بالقتل عمداً فللمقتول بنون وبنات فعفو البنين جائز على البنات ولا أثر لهن مع البنين في عفو ولا قيام، وإن عفوا على الدية دخل فيها النساء وكانت على فرائض الله تعالى وقضى منها ديته، وإن عفا واحد من البنين سقطت حصته من الدية وكانت بقيتها من حق من بقي على الفرائض، وتدخل في ذلك الزوجة وغيرها وكذلك إذا وجب الدم بقسامة ولو أنه عفا على الدية كانت له ولسائر الورثة على المواريث وإذا عفا جميع البنين فلا شئ للنساء من الدية وإنما لهن إذا عفا بعض البنين. والأخوة والأخوات إذا استووا فهم كالبنين والبنات فيما ذكرناه. وفي الرسالة: وإن عفا أحد البنين فلا قتل للومن بقي نصيبهم من الدية، ولا عفو للبنات مع البنين. قال شارحها: والمعنى أن القتل إذا كان عمداً وعفا عن القصاص بعض المستحقين المستويين في الدرجة بعد ترتب الدم وثبوته ببينة أو إقرار أو قسامة فإن القود يسقط. ولمن لم يعف نصيبه من دية عمد، ومقتضى قوله: فلمن بقي..إلخ. أن العافي لا شئ له إلا أن يكون قد عفا عليها صريحاً أو يظهر منه اردتها. قال خليل: ولا دية لعاف مطلق إلا أن تظهر منه ارادتها فيحلف ويبقى على حقه”(1)
أقول: نستطيع أن نقول إن مالك يرى أن حق العفو لمن يملك استيفاء القصاص على المراحل التالية:
__________
(1) الكشناوي: أسهل المدارك شرح ارشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك/ ج3/ ص125.
(1/207)
الأولى: إذا كان القائم بالدم رجالاً فقط مستوين في الدرجة والاستحقاق: فإن اجتمعوا كلهم على القصاص اقتصوا، وإن طلب بعضهم القصاص وبعضهم العفو فالقول من طلب العفو ويسقط القصاص ولمن لم يعف نصيبه من الدية.
الثانية: إذا كان القائم بالدم نساء فقط وذلك لعدم مساواة عاصب لهن في الدرجة بأن لم يوجد عاصب أصلاً، أو وجد وكان أنزل منهن درجة: فإذا عفا كل البنات لم يكن للإمام نظر، وكذا إن أردن القصاص. أما إن عفت إحداهن ولم تعف الأخرى أو الأخريات نظر الحاكم في العفو وضده إن كان عدلاً فينظر أيهما أصلح فعله وذلك لأنه كالعصبة عند فقدها لأنه لبيت المال ما بقي من مال المقتول.
المرتبة الثالثة: إذا ما اجتمع رجال ونساء فإذا وجد بنون وبنات فالعفو للبنين لا للبنات.
عفو بعض الأولياء عن القصاص دون البعض:
اختلف الفقهاء في سقوط القصاص بعفو بعض الأولياء دون بعض قال في المجموع: “وإن كان القصاص لجماعة فعفا بعضهم سقط حق الباقين من القصاص. لما روى زيد بن وهب أن عمر رضي الله أتي برجل قتل رجلاً، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه، فقالت أخت المقتول وهي امرأة القاتل قد عفوت عن حقي، فقال عمر رضي الله عنه عتق من القتل”(1)
قال في العدة: “فإذا عفا بعضهم فللباقين حقوقهم من الدية سواء أسقط مطلقاً أو إلى الدية، لأن حقه من القصاص سقط بغير رضاه فثبت له البدل، كما لو مات القاتل، وكما لو سقط حق أحد الشريكين في العبد باعتاق شريكه”(2)
وجاء في الأحكام السلطانية: “فإن عفا أحدهم سقط القود ووجبت الدية”(3)
قال الشافعي في الأم:
__________
(1) النووي: المجموع/تكملة المطيعي /ج20/ص399.
(2) المقدسي: العدة شرح العمدة/ ص569.
(3) الماوردي: الأحكام السلطانية /ص395.
(1/208)
“وأي الورثة كان بالغاً فعفا على مال أو بلا مال سقط القصاص وكان لمن بقي من الورثة حصته من الدية، وإذا سقط القصاص صارت لهم الدية وإذا كان للدم وليان فحكم لهما بالقصاص أو لم يحكم حتى قال أحدهما قد عفوت القتل لله أو قد عفوت عنه أو قد تركت الاقتصاص منه أو قال القاتل، اعف عني. فقال: قد عفوت عنك فقد بطل القصاص عنه وهو على حقه من الدية. وإن أحب أن يأخذه به أخذ، لأن عفوه عن القصاص غير عفوه عن المال إنما هو عفو أحد الأمرين دون الآخر. ثم قال: ولو كان للمقتول وليان فعفى أحدهما لم يكن للباقي إلا الدية. “(1)
وقد ادعى صاحب البدائع إجماع الصحابة على ذلك: “فأما إذا كان (الولي) اثنين أو أكثر فعفا أحدهما سقط القصاص عن القاتل لأنه سقط نصيب العافي بالعفو فيسقط نصيب الآخر ضرورة أنه لا يتجزأ إذ القصاص قصاص واحد فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض وينقلب نصيب الآخر مالاً بإجماع الصحابة الكرام رضي الله عنهم فإنه روي عن عمر وعبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء الذين لم يعفوا نصيبهم من الدية وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل أنه أنكر أحد عليهم فيكون إجماعاً”(2)
وقال جماعة من الفقهاء: يسقط القصاص بعفو جميع الأولياء ولا يسقط بعفو بعضهم دون بعض.
أقول: معنى ذلك أن الآخر الذي لم يعف إذا عجز عن رد نصف الدية إلى أولياء القاتل فالقصاص يسقط حينئذ بعفو أحدهما.
ومن القائلين باشتراط عفو الجميع لسقوط القصاص ابن حزم حيث قال:
__________
(1) الشافعي: الأم /ج6/ ص13 بتصرف يسير.
(2) الكاساني: بدائع الصنائع /ج7/ص300.
(1/209)
“ثم نظرنا إذا عفا أحد (الأهل) ولم يعف غيره منهم بعد صحة الاتفاق من إجماع الأمة على أنهم كلهم إن اتفقوا على القود نفذ، وإن اتفقوا على العفو نفذ، وقيام البرهان على أنهم إن اتفقوا على الدية أو المفاداة نفذ ذلك فوجدنا القود والدية قد ورد التخيير فيهما وروداً واحداً ليس أحدهما مقدماً على الآخر، فلم يجز أن يغلب عفو العافي على إرادة من أراد القصاص على عفو العافي إلا بنص أو إجماع ولا نص، ولا إجماع في تغليب العافي، فنظرنا في ذلك فوجدنا الله تعالى يقول: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى)(1) فوجب بهذه الآية أن لا يجوز عفو العافي عمن لم يعف. ووجدنا القاتل قد حل دمه بنفس القتل. وساق بسنده عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي أمامة سهل بن حنيف قال: كنا مع عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور فخرج إلينا وهو متغير لونه فقال: يتواعدوني بالقتل آنفاً، وبم يقتلوني؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس، فيقتل. فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا أحببت أن لي بديني بدلاً مذ هداني الله تعالى، ولا قتلت نفساً). قال ابن حزم: فصح بقول النبي صلى الله عليه وسلم أن من قتل نفساً خرج دمه من التحريم إلى التحليل بنفس قتله من قتل، فإذا صح هذا فالقاتل متيقن وتحليل دمه قد صح تحليله بيقين فليس له ذلك، إلا بنص، أو إجماع، ومريد أخذ الدية دون من معه مريد إباحة أخذ مال، والأموال محرمة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) والنص قد جاء بإباحة دم القاتل، كما قلنا بيقين قتله، ولم يأت نص بإباحة الدية إلا بأخذ الأهل لها، وهذا لفظ يقتضي إجماعهم على أخذها فالدية ما لم يجمع الأهل على أخذها، إذ لم يبحها نص، ولا إجماع فبطل بيقين. وصح أن من دعا إلى القود فهو له وهو
__________
(1) الأنعام/ 164.
(1/210)
قول مالك في البنات مع العصبة، إلا أنه ناقض في ذلك مع البنين والبنات، وفي بعض البنين مع بعض. قال ابن حزم: والذي نقول به أن كل ذلك سواء وأن الحكم للأهل وهم الذين يعرف المقتول بالانتماء إليهم، كما كان يعرف عبد الله بن سهل بالانتماء إلى بني حارثة وهم الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقسم منهم خمسون ويستحقون القود أو الدية، وأن من أراد منهم القود سواء كان ولداً أو ابن عم أو ابنة أو أختاً، أو غير ذلك من أم، أو زوج، أو زوجة، أو بنت عم، أو عمة فالقود واجب، ولا يلتفت إلى عفو من عفا ممن هو أقرب، أو أبعد، أو أكثر في العدد لما ذكرنا. فإن اتفق الورثة كلهم على العفو فلهم الدية حينئذ ويحرم الدم، فإن أراد أحد الورثة العفو عن الدية فله ذلك، في حصته خاصة، إذ هو مال من ماله”(1)
عفو المجني عليه:
__________
(1) ابن حزم: المحلى/ ج11/ ص127 ، 128.
(1/211)
إذا عفا المجني عليه عن القتل ثم مات صح عفوه عند جمهور العلماء، لأن المقتول أولى بدمه من الورثة. وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، ومالك، وأحمد، وهو قول طاووس والحسن وقتادة والأوزاعي والشعبي. قال الكاساني: “وإن سرى إلى النفس ومات فإن كان العفو بلفظ الجناية أو بلفظ الجراحة وما يحدث عنها صح بالإجماع ولا شئ على القاتل لأن لفظ الجناية يتناول القتل وكذا لفظ الجراحة وما يحدث منها فكان ذلك عفواً عن القتل فيصح وإن كان بلفظ الجراحة ولم يذكر ما يحدث منها لم يصح العفو في قول أبي حنيفة والقياس أن يجب القصاص وفي الاستحسان تجب الدية في مال القاتل وعندهما يصح العفو ولا شئ على القاتل. وجه قولهما أن السراية أثر الجراحة والعفو عن الشئ يكون عفواً عن أثره كما إذا قال عفوت عن الجراحة وما يحدث منها. ولأبي حنيفة وجهان أحدهما أنه عفا عن غير حقه فإن حقه في موجب الجناية لا في عينها لأن عينها جناية وجدت من الخارج والجناية لا تكون حق المجني عليه فكان هذا عفواً عن موجب الجراحة وبالسراية يتبين أنه لا موجب بهذه الجراحة لأن عند السراية يجب موجب القتل بالإجماع وهو القصاص إن كان عمداً والدية إن كان خطأ ولا يجب الأرش وقطع اليد مع موجب القتل لأن الجمع بينهما غير مشروع”(1)
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع/ج7 / ص166.
(1/212)
وقال في شرائع الإسلام: “إذا قطع أصبعه فعفا المجني عليه قبل الاندمال، فإن اندملت فلا قصاص ولا دية، لأنه إسقاط لحق ثابت عند الإبراء. ولو قال: عفوت عن الجناية، سقط القصاص والدية، لأنها لا تثبت إلا صلحاً. ولو قال: عفوت عن الجناية ثم سرت إلى الكف سقط القصاص في الأصبع، وله دية الكف، ولو سرت إلى نفسه، كان للولي القصاص في النفس بعد رد ما عفا عنه. ولو صرح لا عفو، صح مما كان ثابتاً وقت الإبراء، وهو دية الجرح. أما القصاص في النفس أو الدية، ففيه تردد، لأنه إبراء مما لم يجب. وفي الخلاف: يصح العفو عنها وعما يحدث عنها، فلو سرت كان عفوه ماضياً من الثلث، لأنه بمنزلة الوصية”(1)
وقال في المجموع: “فإن جنى على رجل جناية فعفا المجني عليه من القصاص فيها ثم سرت الجناية إلى النفس، فإن كانت الجناية مما يجب فيها القصاص كقطع الكف والقدم لم يجب القصاص في النفس، لأن القصاص لا يتبعض، فإذا سقط في البعض سقط في الجميع، وإن كانت الجناية مما لا قصاص فيها كالجائفة ونحوها وجب القصاص في النفس لأنه عن القصاص فيما لا قصاص فيه فلم يعمل فيه العفو”(2)
__________
(1) الحلي: شرائع الإسلام / ج4 / ص226 ، 227.
(2) النووي: المجموع/ج20/ص400.
(1/213)
قال في المغني: “وإذا جنى على الإنسان فيما دون النفس جناية توجب القصاص فعفا عن القصاص ثم سرت الجناية إلى نفسه فمات لم يجب القصاص، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وحكي عن مالك أن القصاص واجب لأن الجناية صارت نفساً ولم يعف عنها. ولنا (الحنابلة) أنه يتعذر استيفاء القصاص في النفس دون ما عفا عنه فسقط في النفس كما لو عفا بعض الأولياء، ولأن الجناية إذا لم يكن فيها قصاص مع إمكانه لم يجب في سرايتها كما لو قطع يد مرتد ثم أسلم ثم مات منها نظرنا، فإن كان عفا على مال فله الدية كاملة، وإن عفا على غير مال وجبت الدية إلا أرش الجراح الذي عفا عنه وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة تجب الدية كاملة لأن الجناية صارت نفساً وحقه في النفس لا فيما عفا عنه وإنما سقط القصاص للشبهة، وإن قال عفوت عن الجناية لم يجب شئ لأن الجناية لا تختص بالقطع”(1)
__________
(1) ابن قدامة: المغني/ ج9/ ص469 ، 470.
(1/214)
وخالف ابن حزم جمهور الفقهاء وقال بعدم صحة عفو المجني عليه في النفس لأن ذلك من حق أولياء الدم لقوله تعالى: “(ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً).. ولا قتل إلا عمدٌ أو خطأ. فصح أن الدية فرض أن تسلم إلى أهله، فإذ ذلك كذلك فحرام على المقتول أن يبطل تسليمها إليهم، وحرام على كل أحد أن ينفذ حكم المقتول في إبطال تسليم الدية إلى أهله، فهذا بيان لا إشكال فيه. وصح بنص كلام الله تعالى وحكمه الذي لا يرد أن الله تعالى جعل لولي المقتول سلطاناً، وجعل إليه القود، وحرم عليه أن يسرف، فمن الباطل المتيقن أن يجوز للمقتول حكم في إبطال السلطان الذي جعله الله تعالى لوليه، ومن الباطل البحت إنفاذ حكم المقتول في خلاف أمر الله تعالى؛ وهذا هو الحيف والإثم من الوصية. وكذلك جعل الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لأهل المقتول الخيار، أو القود، أو الدية، أو المفاداة، فنشهد بشهادة الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل للمقتول أن يبطل خياراً جعله الله ورسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأهله بعد موته، وأنه لا يحل لأحد إنفاذ حكم المقتول في ذلك، وأن هذا خطأ متيقن عند الله تعالى. ولم يأت نص قط من الله تعالى، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على أن للمقتول سلطاناً في القود في نفسه، ولا أن له خياراً في دية، أو قود، ولا أن له دية واجبة. فبطل أن يكون له في شئ من ذلك حق، أو رأي، أو نظر، أو أمر.
(1/215)
ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن المقتول ما دام حياً فليس له حق في القود، فإذ لا حق له في ذلك، فلا عفو له، ولا أمر فيما لا حق له فيه. وكذلك من لم تذهب نفسه بعد، لأن الدية في الخطأ عوض منها، فلم يجب بعد شئ، فلا حق له فيما لم يجب بعد، وبيقين يدري كل ذي عقل أن القود لا يجب، ولا الدية، إلا بعد الموت، وهو إذا لم يمت فلم يجب له بعد على القاتل لا قود، ولا دية، ولا على العاقلة. وبيقين يدري كل ذي حس سليم أنه لا حق لأحد في شئ لم يجب بعد، فإذا وجب كل ذلك بموته فالحكم حينئذ للأهل لا له”(1)
هل يعتبر عفو المجني عليه وصية للقاتل؟
__________
(1) ابن حزم: المحلى/ ج11/ من ص138 : 140 بتصرف.
(1/216)
للفصل في هذه المسألة أهمية كبرى، لأن اعتبار العفو وصية يوجب أن يكون المعفو عنه في ثلث التركة حيث لا تصح الوصية في أكثر من ثلث التركة، “فإن كان المعفو عنه في ثلث التركة فالعفو نافذ إذا كان صحيحاً وتوفرت شروطه، وإن كان المعفو عنه يزيد على ثلث فالعفو فيما يساوي ثلث التركة فقط. وإذا اعتبرنا العفو وصية فهناك رأيان: رأي يقول بأن الوصية لا يجوز أن تكون لقاتل، ورأي يرى الجواز، فإذا أخذنا بالرأي الأول كان العفو لغواً إلا في الجرح الحاصل قبله ومن رأي مالك وأبي حنيفة أن عفو المجني عليه لا يعتبر وصية للقاتل، لأن موجب العمد هو القصاص عيناً، والعفو ينصب على إسقاط القصاص، والقصاص ليس مالاً يملك والوصية تمليك لما بعد الموت، فالعفو عن القصاص لا يمكن أن يكون وصية. ويرى أحمد أن العفو وصية ولو عبر عنه العافي بلفظ العفو أو الوصية أو الإبراء أو غير ذلك، لأنه إذا كان الواجب في العمد هو أحد شيئين، القصاص أو الدية، فإن العفو قبل تعيين أحدهما لا يعتبر عفواً عن مال، أو بمعنى آخر تمليك لمال، ومن ثم فلا يعتبر وصية، أما إذا تعين الموجب بأن أبرأه المجني عليه من الدية، أو أوصى له بها. فالعفو وصية لأنه تمليك المال لما بعد الموت، وقد اختلفوا في المذهب في صحة الوصية للقاتل، فرأى البعض أن الوصية لا تصح لقاتل ويترتب على هذا الرأي أن الجاني يلزم بدية النفس بعد خصم دية الجرح، لأن العفو عن الجرح صادف محله فكان إسقاطاً لا وصية، ورأى البعض أن الوصية تصح للقاتل، ويترتب على هذا الرأي أن الدية تسقط إذا كانت تخرج من ثلث التركة، فإن كانت الدية أكثر من الثلث سقط منها بقدر ثلث التركة، ووجب الباقي على الجاني”(1)
__________
(1) عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي/ ج2/ ص166 ، 167.
(1/217)
“ومذهب الشافعي على أن العفو إذا جاء في صيغة الوصية فهو وصية لقاتل، كأن يقول أوصيت له بأرش هذه الجناية، فإذا جاء العفو بلفظ العفو أو الإبراء أو الإسقاط فيرى البعض أنه وصية أيضاً لأنه تبرع، ويرى البعض أنه ليس وصية لأنه إسقاط ناجز، والوصية معلقة بحالة الموت، والرأي الأخير هو الراجح”(1)
أقول: هكذا اختلف الفقهاء في التكييف الشرعي لعفو المجني عليه لأن أقرب تكييف شرعي لهذه الحالة هو الوصية وصية المورث قبل موته.. فبناء على هذه الحالة هل يعتبر عفو المجني عليه وصية لقاتل؟ فابن حزم يرى عدم صحة الوصية لقاتل ويرى أن ذلك ليس من حق المجني عليه إذا يقول: “فبطل أن يكون للمقتول خطأ، أو عمداً: عفو، أو حكم، أو وصية في القود، أو في الدية”(2) أما الشافعي فيشترط أن يتلفظ المجني عليه بصيغة الوصية لكي تكون وصية لقاتل صحيحة. وفي مذهب أحمد رأيان أن الوصية لقاتل صحيحة والرأي الثاني أن الوصية لقاتل لا تصح.. والرأي الذي نميل إليه أن عفو المجني عليه لا يعتبر وصية ولو عبر عنه بلفظ العفو أو الوصية أو الإبراء أو غير ذلك للأدلة التي ذكرها ابن حزم وأحمد وغيرهما.
حكم من قتل بعد العفو:
إذا عفا ولي الدم عن القاتل ثم قتله فاختلف العلماء فيه على عدة أقوال وهي:
القول الأول: يقتص من الولي ويعتبر كمن قتل ابتداء. وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي ومالك. وأحمد وابن حزم. وهو قول عكرمة والثوري والامامية واحتج هؤلاء بالعموميات القاضية بالقود من القاتل من غير فصل بين شخص وآخر وبقوله تعالى: (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم)(3) قال ابن عطية: واختلف في العذاب الأليم الذي يلحقه، فقال فريق من العلماء منهم مالك هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة”(4)
__________
(1) عبد القادر عودة: السابق/ ج2/ ص 167
(2) ابن حزم: المحلى/ ج11/ص140.
(3) البقرة / آية 178.
(4) المحرر الوجيز / ابن عطية/ ج1/ ص499.
(1/218)
وقال ابن حزم: “فلما اختلفوا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه فنظرنا في ذلك: فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: (من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يأخذوا العقل وإما أن يقتلوا) فصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل للأهل إلا أحد الأمرين: إما الدية، وإما القود ولم يجعل الأمرين معاً، فإذا قتل فلا دية له، وإذا أخذ الدية فلا قتل له ـ هذا نص حكمه عليه الصلاة والسلام. فوجدنا أهل المقتول لما عفوا وأخذوا الدية حلت لهم، وصارت حقهم، وبطل ما كان لهم من القود، ليس لهم جميع الأمرين بالنص، فإذا بطل حقهم في القود بذلك حرم القود وحلت الدية.
ولولا أن القود حُرم لما حلت الدية، فإذا حرم القود فقد قتلوا نفساً محرمة حرمها الله تعالى، وإذ قتلوا نفساً محرمة فالقود واجب في ذلك، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إيمانه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس).. فإن قيل هذا قتل نفساً بنفس؟ قيل له: لا تحل النفس بالنفس إلا حيث أحلها الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وإنما أحلها الله تعالى إذا اختاروا ذلك دون الدية، وأما إذا اختاروا الدية فقد حرم الله تعالى عليهم تلك النفس، إذ لم يجعل الله لهم إلا أحد الأمرين. ومن ادعى في ذلك شيئاً صح تحليله أنه حرم فهو مبطل، إلا أن يأتي في دعواه ذلك بنص، أو إجماع، وقد صح بيقين كون الدية لهم حلالاً، ومالاً من مالهم إذا أخذوها، وصح تحريم القود عليهم بذلك بلا خلاف، إذ لا يقول أحد في الأرض أنهم يجمعون الأمرين معاً الدية والقود. فإذ لا شك فيما ذكرنا فمن ادعى أن الدم الذي قد صح تحريمه عليهم عاد حلالاً لهم، وأن الدية التي أخذوا فحلت لهم قد حرمت عليهم، لم يصدق إلا بقرآن أو سنة، ولا سبيل لهم إلى وجود ذلك”(1)
__________
(1) المحلى / ج11 / من ص141 : 143.
(1/219)
القول الثاني: أن يقتل البتة ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وهو قول قتادة وعكرمة والسدي لقوله تعالى (فله عذاب أليم) والعذاب الأليم هو قتله لا محالة. وروى أبو داود في سننه عن “جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا أعفي من قتل بعد أخذه الدية)”(1)
“وأخرج البيهقي عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذه الدية)”(2)
القول الثالث: على القاتل رد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة قاله الحسن وحكى القرطبي عنه أنه قال: “كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلاً فر إلى قومه فيجئ قومه فيصالحون بالدية، فيقول ولي المقتول: إني أقبل الدية، حتى يأمن القاتل ويخرج فيقتله ثم يرمي إليهم بالدية”(3)
القول الرابع: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما يرى. قاله عمر بن عبد العزيز”(4)
أقول: الذي نميل إليه أن العافي إذا قتل من عفا عنه بعد أخذه الدية عليه القصاص إن شاء أولياء الدم ويعتبر كمن قتل ابتداء للأدلة القاضية بالقود من القاتل.
أما عن تقنين العفو في صورة مواد قانونية طبقاً لمشروع بقانون لتطبيق أحكام القصاص: جاء في نص المادة 26 تحت عنوان العفو عن القصاص:
“1 ـ العفو عن القصاص هو النزول عنه مقابل الدية أو بدونها، ويكون العفو بدون دية إذا كان صريحاً في الإبراء منها.
__________
(1) أبو داود: سنن أبي داود / ج4 م ص242.. جاء في حاشية سنن أبي داود أن الحديث منقطع، لأن الحسن لم يسمع من جابر بن عبد الله.
(2) البيهقي: سنن البيهقي / ج8 / ص54. وقال عن الحديث بأنه منقطع. وذكره الشيخ ناصر في ضعيف سنن أبي داود تحت رقم 3908.
(3) القرطبي: أحكام القرآن / ج2ص259
(4) ابن عطية: المحرر الوجيز/ ج1 /ص499.
(1/220)
2 ـ ويكون العفو في جرائم القتل الموجبة للقصاص من حق أولياء الدم الذين لهم الحق فيه وفقاً لحكم المادة 35،(1) أو من أحدهم. كما يصح العفو عن المجني عليه كامل الأهلية إذا وقع بعد الاعتداء عليه بشرط أن يكون قاطعاً في العفو عن دمه.
3 ـ وللمجني عليه في جرائم الاعتداء على ما دون النفس الموجبة للقصاص الحق في العفو متى كان كامل الأهلية، فإذا لم يكن كذلك كان لمن ينوب عنه قانوناً الحق في العفو على الدية.
4 ـ وفي جميع الأحوال، لا يجوز العدول عن العفو متى تم طبقاً لأحكام هذا القانون”(2)
أما عن كيف يثبت القصاص قانونياً:
جاء في نص المادة 27 من مشروع علي منصور تحت عنوان ثبوت العفو:
“1ـ يثبت العفو أمام النيابة العامة أو قاضي التحقيق أو المحكمة بحسب الأحوال.
2 ـ ويظل لولي الدم أو المجني عليه الحق في العفو إلى ما قبل تنفيذ الحكم.
3 ـ ولا يحول دون العفو أن يكون ولي الدم أو المجني عليه قد سبق له أن طلب القصاص”(3)
أما عن أثر العفو الصادر قبل التنفيذ:
جاء في نص المادة 28 تحت العنوان المذكور:
“إذا تم العفو عن القصاص أثناء نظر القضية أمام محكمة النقض أو بعد صدور حكمها بالقصاص وقبل التنفيذ تعاد القضية إلى محكمة الجنايات بالدية إن كان لها محل وبالعقوبة التعزيرية المقررة”(4)
المبحث الثالث
الصلح
__________
(1) نص المادة 35 التي يشير إليها المشار إليها هي التي تعنى بتحديد أولياء الدم= وهي تعرف أولياء الدم والشروط الواجب توافرها وهي مكونة من عدة بنود.
(2) علي منصور: نظام التجريم والعقاب في الإسلام/ص414.
(3) علي منصور: السابق/ ص414 ، 415.
(4) علي منصور: السابق/ ص415.
(1/221)
اتفق الفقهاء على جواز الصلح عن دم العمد وهو جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً “وعلى ذلك إذا كان صلح بين الجاني وأولياء الدم، على العفو في نظير بدل معلوم، فإن ذلك جائز الصلح جائز، لكن لا بد أن يتوافر في البدل الواجب في نظيره ثلاثة أمور: أولها: أن يكون البدل شيئاً حلالاً، فإذا كان البدل مالاً غير متقوم يكون فاسداً، ولكن هل إذا وقع الصلح مع البدل أيسقط القصاص؟ فبمقتضى منطق المذهب الشافعي، والحنبلي يسقط القصاص وتجب الدية، وبمقتضى مذهب أبي حنيفة يسقط القصاص ولا يجب شئ، وبمقتضى المذهب المالكي لا يسقط، لأن السقوط معلق على شرط غير ممكن التحقق، فلا يثبت. وثانيها: أن يكون البدل معلوماً علماً نافياً للجهالة. وثالثها: ألا يكون فيه إسقاط مالاً يحل إسقاطه”(1)
الفرق بين العفو والصلح:
“العفو هو إسقاط دون مقابل أما الصلح فهو إسقاط بمقابل ويذكر أن مالكاً وأبا حنيفة يعتبران العفو عن القصاص على الدية صلحاً لا عفواً لأن الواجب بالعمد عندهما هو القصاص عيناً والدية لا تجب إلا برضاء الجاني فإسقاط القصاص على الدية يقتضي رضاء الطرفين فهو صلح لا عفو أما الشافعي وأحمد فيعتبران العفو على الدية عفواً لا صلحاً لأن الواجب عندهما أحد شقي القصاص أو الدية والخيار للولي دون حاجة لرضاء الجاني وم ثم كان التصرف إسقاطاً من طرف واحد فهو عفو”(2)
من يملك الصلح:
__________
(1) أبو زهرة: العقوبة/ص408.
(2) عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي/ج2/ص168 بتصرف.
(1/222)
“يملك الصلح من يملك حق القصاص وحق العفو؛ فالشافعي وأحمد يجعلان العفو للسلطان لولي الصغير والمجنون على الدية أما مالك وأبو حنيفة فيجعلان لهم حق الصلح لا العفو لأن العفو عندهما إسقاط دون مقابل، ويشترطان أن لا يكون الصلح على أقل من الدية فإن صالح أحدهما على أقل من الدية صلح الصلح ووجب باقي الدية في ذمة الجاني فإن كان الجاني معسراً وقت الصلح فيرى مالك عدم الرجوع عليه”(1)
أقول: ذكر الفقهاء مسألة: هل يصح أن يصالح الجاني وولي الدم على شئ بشرط أن يرحل من البلد ولا يعود إليها أصلاً ولو بعد مدة؟
يقول أبو زهرة: “وإذا كان بدل الصلح غير مقوم بمال كخروجه من البلد، فهنا يقول الحنفية إن ذلك الصلح باطل، وما دام العفو قد تم، فإن القصاص يسقط، ولم ويجد التزام من الجاني بشئ يلزم به، وهذا رأي عند المالكية، وهو الذي قاله عبد الرحمن بن القاسم من تلاميذ الإمام مالك. وهناك رأي آخر وهو الإلتزام بالشرط، لأن فيه منفعة بلا ريب لأولياء المقتول، فإذا شرطوا ألا يساكنهم في البلد الذي يقيمون فيه، فإن في تنفيذ الشرط راحة لنفوسهم، وإبعاداً لغيظ صدورهم، وهو شرط ملائم للمقصود من العفو الذي هو موضوع الصلح، ولا شك أن الشروط الملائمة لموضوع العقد يكون لها موضع من الإلزام، وإنهم في هذا يعلقون الصلح على ذلك الشرط الملائم، فإذا لم ينفذ كان الصلح باطلاً، وقد استحسنه سحنون صاحب المدونة، وهو قول معقول في ذاته. وبتطبيق ذلك الرأي يكون على الجاني أن يرتحل، فإن لم يفعل بطل الصلح”(2)
__________
(1) عبد القادر عودة: السابق/ ج2 /ص168 بتصرف.
(2) أبو زهرة: العقوبة/ ص409 ، 410 بتصرف يسير.
(1/223)
أقول: الذي نميل إليه أنه إذا اتفق الجاني وولي الدم على الصلح بشرط أن يرحل الجاني من البلد ولا يعود إليها فإن هذا الصلح جائز لقوله صلى الله عليه وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) و مما لا شك فيه أن هذا الصلح لم يحل حراماً وكذا شرط الخروج من البلد وخاصة أن خروج الجاني من البلد بعد موافقته على عقد الصلح بشروطه فيه ذهاب لغيظ صدور أهل القتيل.. وقد كان الناس في مصر إلى عهد قريب وخاصة في صعيد مصر حيث ينتشر القتل والثأر.. فقد كان الناس يتحاكمون إلى مجالس عرفية من أعيان البلد ومن أسرة القاتل وأهل القتيل ويتفقون على العفو عن الجاني بشرط أن يرحل من البلد.. لكنهم كانوا يتعسفون فيشترطون خروج عائلة القتيل وذراريهم من البلد.. كل ذلك يتم لأنهم يتحاكمون على أصول عرفية وأحكام قبلية لا علاقة لها بأحكام الفقهاء في الشريعة الإسلامية.. قد توافق هذه الأحكام العرفية والقبلية روح الشرع وكثيراً ما لا توافقه.. فمن الحالات التي تعتبر موافقة لروح الشرع هو الصلح بشرط خروج الجاني من البلد لما في ذلك من منفعة للجاني نفسه وكان في إمكانهم أن يزهقوا روحه بحكم القصاص، ووفي الوقت نفسه لما في ذلك من مصلحة أهل القتيل النفسية أن يذهب غيظ قلوبهم.
أما عن تقنين الصلح في صورة مواد قانونية طبقاً لمشروع بقانون لتطبيق أحكام القصاص: جاء في نص المادة 29 تحت عنوان سقوط القصاص بالصلح:
“1 ـ يسقط القصاص في جرائم القتل العمد بالصلح بين أولياء الدم الذين لهم الحق في العفو أو بين أحدهم وبين الجاني.
2 ـ ويسقط القصاص في جرائم الاعتداء على ما دون النفس بالصلح بين المجني عليه أو من ينوب عنه قانوناً إذا كان صغيراً أو مجنوناً.
(1/224)
3 ـ ويجوز أن يتم الصلح على الدية أو على ما هو أكثر أو أقل منها، وإذا وقع الصلح ممن ينوب عن المجني عليه وكان على ما هو أقل من الدية المستحقة أنتج الصلح أثره في سقوط القصاص مع بقاء الحق في استكمال الدية.
ولا يعتد بالصلح إلا إذا تم إثباته في محضر النيابة العامة أو قاضي التحقيق أو المحكمة في أية حالة كانت عليها الدعوى”(1)
المبحث الرابع
ارث القصاص أو بعضه
يسقط القصاص إذا ورثه أو بعضه القاتل من مستحقه أو ورثة أو بعضه فرع القاتل ويضرب الفقهاء أمثلة لذلك، يقول ابن قدامة:
“لو قتل أحد الأبوين صاحبه ولهما ولد لم يجب القصاص لأنه لو وجب لوجب لولده ولا يجب للولد قصاص على والده لأنه إذا لم يجب بالجناية عليه فلان لا يجب له بالجناية على غيره أولى وسواء كان الولد ذكراً أو أنثى أو كان للمقتول ولد سواه أو من يشاركه في الميراث أو لم يكن لأنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء منه ولا يمكن وجوبه وإذا لم يثبت بعضه سقط كله لأنه لا يتبعض وصار كما لو عفى بعض مستحقي القصاص عن نصيبه منه”(2)
ولو قتل رجل أخاه فورثه ابنه أو أحد يرث ابنه منه شيئاً من ميراثه لم يجب القصاص لما ذكرنا. ولو قتل خال ابنه فورثت أم انبه القصاص أو جزءاً منه شيئاً منه ثم ماتت بقتل الزوج أو غيره فورثها ابنه سقط القصاص لأن ما منع مقارناً أسقط طارئاً وتجب الدية ولو قتلت المرأة أخا زوجها فصار القصاص أو جزء منه لا بنها سقط القصاص سواء صار إليه ابتداء أو انتقل إليه من أبيه أو من غيره”(3)
__________
(1) علي منصور: نظام التجريم والعقاب في الإسلام / ص415.
(2) ابن قدامة: المغني /ج9 / ص362.
(3) ابن قدامة: المغني /ج9 /ص363.
(1/225)
ويضرب لنا ابن قدامة مثلاً لصورة متداخلة لابنين قتل أحدهما أباه والآخر أمه: “فإن كانت الزوجية بينهما موجودة حال قتل الأول فالقصاص على قاتل الثاني دون الأول لأن القتيل الثاني ورث جزءاً من دم الأول فلما قتل ورثه قاتل الأول فصار له جزء من دم نفسه فسقط القصاص عنه ووجب له القصاص على أخيه، فإن قتله ورثه إن لم يكن له وارث سواه لأنه قتله بحق، وإن عفا عنه وجبت وتقاصا بما بينهما وما فضل لأحدهما فهو له على أخيه، وإن لم تكن الزوجية بين الأبوين قائمة فعلى كل واحد منهما القصاص لأخيه لأنه ورث الذي قتله أخوه وحده دون قاتله فإن بادر أحدهما فقتل صاحبه فقد استوفى حقه وسقط القصاص عنه لأنه يرث أخاه لكونه قتلا بحق فلا يمنع الميراث إلا أن يكون للمقتول ابن أو ابن ابن يحجب القاتل فيكون له قتل عمه ويرثه إن لم يكن له وارث سواه، وإن تشاحا في المبتدئ منهما بالقتل احتمل أن يبدأ بقتل الأول لأنه أسبق واحتمل أن يقرع بينهما وهذا قول القاضي ومذهب الشافعي لأنهما تساويا في الاستحقاق فيصيرا إلى القرعة وأيهما قتل صاحبه أولاً إما بمبادرة أو قرعة ورثه في قياس المذهب إن لم يكن له وارث سواه وسقط عنه القصاص وإن كان محجوباً عن ميراثه كله فلوارث القتيل قتل الآخر، وإن عفا أحدهما عن الآخر ثم قتل المعفو عنه العافي ورثه أيضاً وسقط عنه ما وجب عليه من الدية وإن تعافيا جميعاً على الدية تقاصا بما استويا فيه ووجب لقاتل الأم الفضل على قاتل الأب لأن عقل الأم نصف عقل الأب ويتخرج أن يسقط القصاص عنهما لتساويهما في استحقاقه لسقوط الديتين إذا تساوتا ولأنه لا سبيل إلى استيفائهما واستيفاء أحدهما دون الآخر حيف فلا يجوز فتعين السقوط، وإن كان لكل واحد منهما ابن يحجب عنه ميراث أبيه فإذا قتل أحدهما صاحبه ورثه ابنه ثم لابنه أن يقتل عمه ويرثه ابنه ويرث كل واحد من الابنين مال أبيه ومال جده الذي قتله عمه دون الذي قتله أبوه، وإن كان لك واحد منهما
(1/226)
ابنة فقتل أحدهما صاحبه سقط القصاص عنه لأنه ورث نصف مال أخيه ونصف قصاص نفسه فسقط عنه القصاص وورث مال أبيه الذي قتله أخوه ونصف مال أخيه ونصف مال أبيه الذي قتله هو وورثت البنت التي قتل أبوها نصف مال أبيها ونصف مال جدها الذي قتله عمها ولها على عمها نصف دية قتيله”(1)
وهناك صورة أخرى يعرضها الفقهاء: “أربعة أخوة قتل الأول الثاني والثالث الرابع فالقصاص على الثالث لأنه لما قتل الرابع لم يرثه وورثه الأول وقد كان للرابع نصف قصاص الأول فرجع نصف قصاصه إليه فسقط ووجب للثالث نصف الدية وكان للأول قتل الثالث لأنه لم يرث من دم نفسه شيئاً فإن قتله ورثه في ظاهر المذهب ويرث ما يرثه عن أخيه الثاني وإن عفا عنه إلى الدية وجبت عليه بكمالها يقاصه بنصفها وإن كان لهما ورثة كان فيها من التفصيل مثل الذي في التي قبلها”(2)
__________
(1) ابن قدامة: المغني /ج9 / ص364 ، 365.
(2) ابن قدامة: المغني / ج9 /ص365.
(1/227)
كما “يلاحظ أن مالكاً يفرق بين استحقاق القصاص ووارث حق القصاص فمستحق القصاص هو العاصب الذكر والمرأة التي توفرت فيها شروط خاصة سبق بيانها، فإذا مات من يستحق القصاص ورثه ورثته الذين يرثون المال من غير خصوصية للقضية فيرثه البنات والأمهات ويكون لهن العفو والقصاص كما لو كانوا كلهم عصبة لأنهم ورثوه عمن كان ذلك له ولا يستثنى من الورثة إلا الزوجين فإنهما وإن ورثا المال لا يرثان حق القصاص. ويرى أشهب أحد فقهاء مذهب مالك أن القصاص لا يسقط عن الجاني إذا ورث جزءاً من دم نفسه إلا إذا كان من بقي من المستحقين يستقل الواحد منهم بالعفو أما إذا كان الباقون لا يستقل أحد منهم بالعفو ولا بد في العفو من إجماعهم عليه فلا يسقط القصاص عن الجاني الوارث لجزء من دمه كمن قتل أخاه شقيقه وترك المقتول بنتين وثلاثة أخوة أشقاء غير القاتل فمات أبوهم ولا وارث له إلا إخوته الثلاثة القاتل والأخوان الآخران فقد ورث القاتل قسطاً من نفسه ولا يسقط القصاص عنه حتى تعفو البنات والأخوان الباقيان أو البعض من كل.. أي هؤلاء وهؤلاء”(1)
خاتمة الكتاب
خاتمة الكتاب
بعد نهاية هذا التطواف وبعد البحث والتنقيب والتدوين لقد تم بعون الله تعالى وتوفيقه الانتهاء من هذا الموضوع، وقد توصلت إلى النتائج الآتية:
إن الشريعة الإسلامية كرمت الإنسان حياً وميتاً.. فالشريعة الإسلامية ذات صبغة إلهية تحافظ على النفس البشرية، وتجعل الاعتداء عليها بالقتل اعتداء على حق الحياة الإنسانية، (من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً) لأن القتل العدوان أعظم وجوه الفساد بين الناس، إذ هو تغيير خلق الله، وهدم بنيانه، ومناقضة ما أراد في عباده من انتشار النوع الإنساني..(ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)..
__________
(1) عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي /ج2 /ص171.
(1/228)
وسطية الشريعة الإسلامية فكما كانت الأمة وسطى في العدل والقسطاس والرحمة (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) فكذلك وسطية الشريعة الإسلامية بين الشرائع السماوية كاليهودية والنصرانية، فكان القصاص واجباً على القاتل دون الدية في اليهودية. والدية واجبة دون القصاص في النصرانية على الرأي القائل بذلك رغم أننا نميل إلى أن القصاص كان في الشريعة النصرانية مثل اليهودية تماماً ولم يكن على القاتل دية مثلما كان في الشريعة اليهودية.. لكن خيرت الشريعة الإسلامية الأمة الإسلامية بين القصاص والدية تخفيفاً من الله سبحانه وتعالى.
إن من المبادئ المقررة قانوناً <لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص> وأصل هذا المبدأ قوله تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)(1) وقوله تعالى (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا)(2).. وقوله تعالى (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)(3).. وقوله (لأنذركم به ومن بلغ)(4).. وقوله جل شأنه (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)(5)..
فهذه النصوص القرآنية الكريمة تدل دلالة واضحة أنه لا عقوبة إلا بعد إنذار وأن الله لا يكلف الإنسان إلا بما يطيقه.. وقد طبق هذا المبدأ تطبيقاً دقيقاً في جرائم الحدود والقصاص، أما في غيرهما من الجرائم فقد تركت الشريعة الإسلامية لولي الأمر تقدير الجرائم والعقوبات على حسب الظروف والمناسبات مما يحقق المصلحة العامة للمجتمع الإسلامي، وهذا ما توصلت إليه مؤخراً القوانين الوضعية الحديثة حيث كانت الثورة الفرنسية أول مؤسسة أعنت هذا المبدأ بإعلان حقوق الإنسان سنة 1789م ثم أخذته التشريعات الوضعية الأخرى من التشريع الفرنسي.
__________
(1) الإسراء: 15.
(2) القصص: 59.
(3) النساء: 16.
(4) الأنعام: 19.
(5) البقرة: 286.
(1/229)
تكلمنا عن تعريف القصاص في الاصطلاحين اللغوي والشرعي، كما تكلمنا عن مشروعية القصاص من الكتاب والسنة، وذكرنا الحكمة من مشروعية القصاص وقلنا إن تشريع القصاص يهدف إلى تحقيق المساواة بين الجريمة والعقوبة بحيث تكون العقوبة مساوية للجريمة المرتكبة، بالإضافة إلى أن أهم غايات القصاص تحقيق المساواة، وعدم المماثلة بين الجريمة والعقوبة يخل بهذا المبدأ ويلحق الظلم بأحد طرفي الجريمة.
وتكلمنا عن شروط وجوب القصاص وتكلمنا عن كل شرط بالتفصيل مع مناقشة أدلة فقهاء المذاهب الإسلامية ومقارنة ذلك بالقانون الوضعي وخاصة قانون العقوبات المصري وبينا تفوق الشريعة وأسبقيتها في إرساء مبادئ قانونية قبل أن تأخذ بها القوانين الوضعية الحديثة.
ثبوت العصمة لمن وجد في دار الإسلام من مسلمين وذميين ومعاهدين؛ المسلم بإسلامه، والذمي بعقد الذمة، والمعاهد بالأمان، والقاعدة المقررة لأهل الذمة لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
من المبادئ الأساسية في الشريعة الإسلامية مبدأ المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، والتقوى وحدها هي أساس التفاضل بينهم، (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) .. (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) ولذلك سوت الشريعة الإسلامية بين الراعي والرعية في سريان النصوص الجنائية، فلا حصانة لرئيس دولة أو رئيس برلمان أو أعضاء السلك الدبلوماسي أو أعضاء السفارات والبعثات في داخل الدولة الإسلامية وخارجها؛ فالحاكم يخضع لأحكام الشريعة الجنائية، لعموم النصوص، إذ لم تفرق بين حاكم ومحكوم، فإذا قتل الحاكم قتل قصاصاً، وإن زنى أقيم عليه الحد ومن باب أولى من دون الحاكم كأعضاء الهيئات التشريعة ومجالس النواب والشورى ورجال الهيئة القضائية.. فلا حصانة لهم في ظل التشريع الجنائي الإسلامي وهذا هو عين العدل وتحقيق مبدأ المساواة في صورته المثلى.
(1/230)
المسئولية الجنائية في التشريع الجنائي الإسلامي تقوم على أساس التكليف، ويكون ذلك بالبلوغ والعقل، وعليه فلا مسئولية جنائية على الصغير والمجنون، لأن من شرط المكلف أن يكون فاهماً للتكليف، وهذا لا يتحقق بالنسبة للصغير والمجنون، أما من أذهب عقله بمحرم كالسكران فإنه يؤاخذ بجريمته، فإذا قتل قتل، ولا يعذر بغيبوبة عقله، لأنه أدخله على نفسه فيجب عليه القصاص تغليظاً عليه لمعصيته، ولئلا يتخذ الناس من السكر تكأة للتخلص من أعدائهم ومن ثم يفلتوا من العقاب أي القصاص…
المسئولية الجنائية في التشريع الجنائي الإسلامي تمتنع إذا كان محل الجريمة مهدراً، غير معصوم، والمهدر هو مباح الدم، مثل: الحربي، والمرتد، والزنديق، والباغي، والمحارب، والجاسوس، والزاني المحصن، ومن يزني بامرأة مكرهاً لها، ومن يزني بذات رحم محرم، ومن يعمل عمل قوم لوط، والديوث، والساحر، والمفسد الذي لم ينقطع شره إلا بالقتل وقتل المهدر إلى الإمام أو من ينوب عنه، وإن قتله أحد الرعية دون إذن الإمام فإنه يعزر لا فتياته على حق الإمام على رأي بعض الفقهاء.
إن التشريع الجنائي الإسلامي أباح للإنسان بل أوجب عليه أن يدافع عن نفسه وماله وعرضه، (من مات دون عرضه فهو شهيد) .. وهو ما يسمى بدفع الصائل وهوالواثب على حق الغير. فيجب على الموصول عليه أن يدفع الصائل، فإن أتى الدفع على الصائل فلا شئ فيه، لا قصاص، ولا دية، ولا كفارة، سواء أكان مسلماً أم كافراً، حراً أم عبداً، عاقلاً أم مجنوناً، بالغاً أم صغيراً أم بهيمة. وكذا يجب الدفع عن نفس الغير وعرضه وماله، وإن قتل المصول عليه فهو شهيد.
(1/231)
لقتل العمد عقوبة أخروية، وعقوبة دنيوية. أما العقوبة الأخروية فقد توعد الله عز وجل قاتل العمد بالعذاب الأليم والخلود في النار (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً أليماً)(1) وهذه العقوبة الأخروية لا توجد في أي قانون وضعي فلا يكاد يوجد أي جزاء أخلاقي في أغلب هذه القوانين؛ ولذا تكاد تنحصر مواد تقنينه في الإجراءات المادية على الخارج على تلك القوانين ، كما أن هذه القوانين الوضعية في أغلبها لا تثبت ولا تعاقب على الخروج على أي خط أخلاقي، أو سلوك اجتماعي، فيترك المجتمع بلا دوافع لتنمية الفضيلة الحض عليها، وبلا موانع للخروج عليها؛ وارتباطها بمواد التشريع بمقدار ما يحفظ لها البقاء في إطار مصالحها الخاصة بها. أما العقوبة الدنيوية، فهي القصاص أو الدية والتعزير، والكفارة، والحرمان من الميراث والوصية.
إن الواجب بقتل العمد: القصاص أو الدية إن أرادها ولي الدم.
إذا أكره شخص آخر على قتل ثالث، فقتله، فالقصاص على المكرِه والمكرَه جميعاً: أما الأول لتسببه، والثاني لمباشرته.
إن الوالد لا يقتل بولده إن قتله عمداً، للأدلة التي استند لها الجمهور مع ملاحظة أن هذا الحكم يشمل الأب والأم والأجداد والجدات ولا حجة لمن فرق بين الأب والأم في هذا الحكم. أما الولد فإنه يقتل بوالده لعموم النصوص الدالة على ذلك.
أما عن قتل المسلم بالذمي: فالذي نميل إليه أن المسلم لا يقتل بالذمي خلافاً لما ذهب إلي الأحناف وذلك للأسباب التي ذكرتها في مسألة قتل المسلم بالكافر في المطلب الأول من المبحث الرابع من الفصل الرابع من هذا البحث.. أما اشتراط المالكية أن يكون القتل غيلة فنرى أن المسلم الذي يعتاد قتل الذميين ويتربص بهم فإنه يقتل دفعاً لشره وليس قصاصاً.. وقد ذكرت آراء الفقهاء بالتفصيل في مبحث قتل المسلم بالكافر.
__________
(1) النساء: 95.
(1/232)
يقتل الحر بالعبد، سواء أكان عبده أم عبد غيره، إذ لم تفرق الأدلة بين الحر المسلم والعبد المسلم أما ما روي من الأحاديث في عدم قتل الحر بالعبد فهي أحاديث ضعيفة لا يحتج بها ولا تقوى أمام عموم أدلة القصاص. ويقتل من باب أولى العبد بالعبد.
يقتل الرجل بالمرأة وتقتل المرأة بالرجل فلا تعتبر الذكورة فضيلة يمتاز بها الرجل في هذا الحكم على المرأة كما نرى أنه لا يؤدي أولياؤها شيئاً من الدية إن قتلوا الرجل بها.
تقتل الجماعة بالواحد: ولا عبرة بتفاوت العدد لأن القتل لا يكون إلا بالاجتماع، فلو لم يقتص من الجماعة لأدى ذلك إلى سد باب القصاص وتعطيله بل وانتشار الجريمة؛ إذ يستطيع من أراد قتل غيره الاستعانة بآخر ليبطل القصاص عن نفسه.
إذا اشترك من يجب عليه القصاص بالقتل مع من لا يجب عليه، فإنه يجازى كل حسب فعله، فيقتص من العامد إذا شارك مخطئاً، والبالغ إذا شارك صغيراً، والعاقل إذا شارك مجنوناً.
حق استيفاء القصاص للورثة، وليس من حق ولي الأمر كما هو معمول به في القوانين الوضعية الحالية.. وقد ذكرنا أن هذا افتئات على حق ولي الدم وتعد على قول الله تعالى (فقد جعلنا له سلطاناً).. أي أهل القتيل وورثته..
وينتظر غائبهم لاحتمال عفوه، ولا ينتظر بلوغ الصبي والمجنون، فيجوز للكبير أن يستوفي القصاص قبل بلوغ الصغير، ويجوز للعاقل أن يستوفي القصاص قبل إفاقة المجنون، لأن المجنون لا يكاد يفيق فلا فائدة من انتظار إفاقته، أما الصبي فاحتمال العفو عنه عند بلوغه بعيد، ولو انتظرنا بلوغه فربما يبلغ مجنوناً فلا يقتص من القاتل، وهذا غير معهود شرعاً.
السلطان ولي من لا ولي له، فله أن يقتص أو يعفو ، ولكن لا يجوز له أن يعفو بلا بدل.
القصاص لا يستوفى إلا بإذن الإمام، وإن قتله ولي الدم دون إذن الإمام فإنه يعزر لافتئاته على حق الإمام.
القصاص يستوفى بكل ما من شأنه أن يحقق الإحسان في القتل فيجوز بالسيف وغيره حسب ما يريد ولي الدم.
(1/233)
لا يؤخر القصاص على القاتل إلا إذا كان في تأخيره مصلحة للغير، كالحامل يؤخر عليها القصاص لمصلحة الجنين، لأن من شرط القصاص: الأمن من التعدي على الغير، فلو قتلنا الحامل لأدى ذلك إلى قتل الجنين، وفيه زيادة على الحق فلم يجز. فيؤخر القصاص على الحامل حتى تضع ما في بطنها وتسقيه اللبأ وترضعه، ويقتص منها إذا استغنى عنها الطفل.
يسقط القصاص بموت القاتل، وتجب الدية في ماله لأولياء المقتول.
يسقط القصاص بعفو ولي الدم كلهم أو بعضهم، كما يسقط بعفو المجني عليه قبل وفاته.
يسقط القصاص إذا صالح ولي الدم القاتل، ويجوز الصلح على الدية أو أقل من الدية أو أكثر منها كما يجوز الصلح على شئ بشرط إخراج القاتل من البلد الذي اقترف فيه جنايته.
لقد استبان لنا محاسن الشريعة الإسلامية وتفوقها على القوانين الوضعية وتصديها لكافة أشكال الجريمة.. وأن البشرية تعيش الآن في شقاء وتعاسة وعدم أمان وأنها ستظل في هذا الشقاء إذا لم تأخذ بأنموذج التشريع الجنائي الإسلامي.. فعقوبة القصاص إذا طبقت بضوابطها الشرعية كفيلة بالحد من تفشي جريمة القتل والجرائم الأخرى، وفي نفس الوقت استقرار المجتمعات، ونشر الأمان بين الناس مع تهذيب وإصلاح الجاني في حالة العفو أو الصلح.. كما أن تطبيق عقوبة القصاص حياة لملايين البشر..
وها نحن أولاء نجد البشرية ترجع القهقرى فالمنظمات التي تعنى بحقوق الإنسان كمنظمة العفو الدولية تجعل جل همها مكافحة عقوبة الإعدام في العالم رغم ازدياد معدل الجريمة والفوضى التي تعم العالم الغربي بصفة خاصة والعالم العربي والإسلامي أصيب بنفس العدوى حيث معدل الجريمة في ازدياد بسبب تخلي معظم دول العالم الإسلامي عن تطبيق الشريعة الإسلامية وعدم تطبيق عقوبة القصاص بشقيها: القصاص في النفس والقصاص في الجراح..
(1/234)
وإذا كانت منظمة العفو الدولية محقة في بعض الأسباب التي تبديها حول تجاوزات تطبيق عقوبة الإعدام في دول العالم لأناس أبرياء لا يستحقون عقوبة الإعدام.. فالخطأ من جراء تعسف هذه الأنظمة وهذه القوانين الجائرة التي من صنع البشر والمتخبطة دائماً وليس الخطأ في عقوبة الإعدام في حد ذاتها أو في عقوبة القصاص: في النفس ودون النفس.. فحتى هذه العقوبات ــ أي عقوبات القصاص في الأطراف وفيما دون النفس ـ تعارضها منظمة العفو الدولية..
أقول: كل هذه التقارير التي تنشرها المنظمات التي تعنى بمكافحة الجريمة تؤكد صدق دعوانا أن القوانين الوضعية غير صالحة لإرساء قواعد العدالة وحفظ الحقوق وصيانة الدماء وضبط المجتمعات أخلاقياً وقانونياً .. وما أحوج البشرية لفهم طبيعة شريعتنا الإسلامية الغراء ومن ثم الإقبال على تطبيق قانون الجنايات الإسلامي لحل المشاكل الناجمة عن الجريمة بكافة صورها وأثرها السيئ على استقرار المجتمعات والنوع الإنساني.. كانت هذه أهم النتائج التي توصلنا إليها في هذا البحث.. ومن ثم فقد تم موضوعنا بفضل الله.. ولله الحمد والمنة..