تسبيب القرارات والسرية الإدارية 

يعرف الدكتور ماجد راغب الحلو السرية في أعمال السلطة التنفيذية بأنها: ” إخفاء حقيقة الأعمال المتصلة بهذه السلطة، سواء كانت هذه الأعمال مادية أو قانونية، وسواء تم هذا الإخفاء باتخاذ موقف سلبي عن طريق السكوت عن ذكر الحقائق رغم وجودها، أو باتخاذ موقف إيجابي بواسطة الكذب وذكر معلومات مزيفة لتغطية الموضوع المتعلق بهذه الحقائق، وبصرف النظر عن الدافع إلى إخفاء هذه الحقيقة هل هو شريف يهدف إلى تحقيق المصلحة العامة، أم وضيع يرمي إلى تضليل المحكومين لصالح الحكام، وسواء كانت الحكومة تخفي هذه المعلومات عن جمهور المواطنين فقط، أم تخفيها حتى عن أغلب العاملين فيها”.

وتعرف السرية الإدارية: “حالة عدم العلم الكافي، أو غياب المعلومات الكاملة لدى بعض الأشخاص الذين لا يصرح لهم بالاطلاع على هذه المعلومات”.

وتتجلى السرية في القانون الإداري في نطاق العلاقة بين الإدارة والمواطن في امتناع الإدارة عن تقديم المعلومات التي يحتاجها الأفراد من تلقاء نفسها، أو عندما تمتنع عن تمكين الأفراد من الاطلاع على الملفات والوثائق الإدارية، وأيضا عندما تلتزم الصمت إزاء الافصاح عن حقائق مطلوبة منها.

وتستند السرية بالدرجة الأولى إلى ما درج عليه العمل، فهي ليست إلا مجرد إرث تاريخي للإدارة، غير أن النصوص التشريعية ضمنت القوانين الأساسية للوظيفة العمومية، وبعض القوانين الأساسية لمختلف الموظفين واجب السرّية كواجب ملقى على عاتق الموظف يلتزم باحترامه.

إن السرية الإدارية تعني الفاعلية والاستقلال، فكما يقال: “لا يجوز أن تكون الإدارة مجرد منزل من الزجاج” مكشوف للأفراد على مختلف توجهاتهم، فهي لازمة من أجل أن تتخذ الإدارة قراراتها بحرية تامة وعلى أسس موضوعية بعيدة عن تأثيرات الأفراد وظروفهم الشخصية، وبعيدا عن تأثير الرأي العام، فاتخاذ القرارات الإدارية يفترض إعداد تقارير ودراسة وصياغة مذكرات، ولا شك أن سرية الملفات تجنب الإدارة كثيرا من الضغوط التي يمكن أن تؤدي إلى التخلي عن بعض المشاريع.

كما أن هناك طوائف من أعمال الإدارة، خاصة تلك المتعلقة بالحياة الخاصة لمرتفقيها، وكذلك المتعلقة بالأسرار الدبلوماسية، والدفاع الوطني، والأسرار الطبية، والأسرار المهنية، قررت التشريعات والاجتهاد القضائي تمتعها بالصفة السرية، بل جعلت من إفشاءها جرما يستحق العقاب التأديبي أو الجنائي.

بينما تؤدي العلنية إلى بطء الإجراءات وتوفير مناخ ملائم للمنازعات، ورجال الإدارة سيعملون بقدر أقل من الحرية والاستقلال إذا ما شعروا أن أعمالهم سيطلع عليها الآخرون.

لكن السرية وإن كانت لها مبرراتها؛ فإنها تفسر في الواقع الإداري بصورة تعسفية، وتسمح غالبا بالتهاون والجمود والمحاباة، في الوقت الذي يتطلب تقبل المواطن لقرارات الإدارة وتنفيذها بإخلاص أن يكون العمل الإداري صادقا، وقائما على اطلاع أفضل للمواطنين، وهذا واحد من أدوية البيروقراطية والظلم.

وللسرية أثر كبير على ضمانات الأفراد وحرياتهم، فالفرد الذي يخاصم القرار القرار المتخذ على أساس وقائع ووثائق سرية يجد نفسه كالضال في بيداء لم يعرف بها ساكن رسما؛ أين تضيع معالم وملابسات صدور القرار الإداري التي يمكن أن يستفيد منها في بناء إثباتاته بشأن عدم مشروعية القرار المتخذ.

إنّ وطأة السرية الإدارية ليست على منطق ضمانات الأفراد وحرياتهم فحسب؛ فهي فوق ذلك تساهم في تكريس الغموض الإداري الذي يتنافى ومبادئ الإدارة الفعالة، ولهذا فإن البعض يطلق عليها مفهوم الطقوس الإدارية “Mystere administratif” الموروث عن الدولة البوليسية.

لقد أدركت الدول المتقدمة هذه الحقيقة فحرصت على اتباع سياسة الوضوح الإداري، والتي من معالمها تمكين الأفراد من التعبير عن وجهة نظرهم قبل أن تشرع في بعض العمليات، كنزع الملكية، وتمكينهم من إبداء ملاحظاتهم قبل إصدار القرارات التي تؤثر على مراكزهم القانونية، وتقرير حقهم في الاطلاع على الوثائق الإدارية والتسبيب الوجوبي لبعض أنواع القرارات.

إن هذا التسبيب لا يشمل جميع القرارات الإدارية، وبالتالي لا يمكن القول بأن هناك مبدأ وجوبية تسبيب القرارات الإدارية، وهو سبب آخر من أسباب افتقار المدعي لأدلة الإثبات.