تقدير أقوال الخصوم

المطلب الثالث: سلطة قاضي الإلغاء في تقدير أقوال الخصوم.

على الرغم من الصفة الكتابية لإجراءات التقاضي الإداري، إلا أن القانون أجاز كما رأينا سماع أعوان الإدارة وأي شخص يرى رئيس تشكيلة الحكم فائدة في سماعه، وهكذا يمكن أن تكون أقوال الخصوم في شكل إقرار أو في شكل يمين.

الفرع الأول: سلطة قاضي الإلغاء في تقدير الإقرار.

يعرف الإقرار بأنه: “اعتراف الخصم أمام القضاء بواقعة قانونية مدعى بها عليه، وذلك أثناء السير في الدعوى المتعلقة بهذه الواقعة”، ويعرفه العلامة السنهوري بأنه: “اعتراف شخص بحق عليه لآخر، سواء قصد ترتيب هذا الحق في ذمته أو لم يقصد”.

وفي الشريعة الإسلامية يعرفه فقهاء المالكية بأنه: ” خبر يوجب حكم صدقه على قائله فقط، بلفظه أو بلفظ نائبه” وقال الحنفية هو: “إخبار عن ثبوت حق للغير على نفسه”، وعند الشافعية هو: ” إخبار عن حق ثابت على المخبر”، وقال الحنابلة ” الاعتراف، وهو إظهار الحق لفظا أو كتابة أو إشارة”.

ولقد عرفت المادة 341 من القانون المدني الجزائري الإقرار بقولها: “الإقرار هو اعتراف الخصم أمام القضاء بواقعة قانونية مدعى بها عليه، وذلك أثناء السير في الدعوى المتعلقة بها الواقعة”.

ولا يعتبر البعض من الفقه الإقرار طريقا من طرق الإثبات، بل يجعله سببا من أسباب الإعفاء من الإثبات. ويعتبر الإقرار في المسائل المدنية حجة قاطعة على المقر، غير أنه في المسائل الجنائية يخضع لمطلق اقتناع القاضي وتقديره. وأمام القاضي الإداري قد يقدم الإقرار من ذوي الشأن شفاهة في الجلسة ويثبت في المحضر وتعمل المحكمة أثره القانوني، وقد يقدم كتابة في المذكرات أو المستندات المودعة بالملف، وهذا هو الغالب كأثر للصفة الكتابية للإجراءات الإدارية.

ويعد إقرارا حسب المادة 61 من القانون الضريبي المصري ما جاء في كشوف التقدير الضريبية السنوية التي تملأ من طرف المكلف بالضريبة، ولقد اعتبر القانون الضريبي أي ورقة تقدم من قبل أي مكلف بالضريبة تعبر عن واقع نشاطه المالي بمنزلة إقرار قضائي ملزم مقدم من المكلف بالضريبة.

وكذلك محاضر التقدير التي تحرر على أساس مناقشة شفوية بين المكلف والإدارة الضريبية تهدف إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن نشاطه ومصادر دخله، وعليه فإن لهذه المحاضر حجية قاطعة بصفتها إقرار من المكلف بما جاء فيها، وبصفتها ورقة رسمية أيضا، لا يمكن الطعن فيها إلا بالتزوير.

كما قد يستخلص الإقرار نتيجة لاستجواب ذوي الشأن ومناقشتهم حيث يصدر منهم إقرار بوقائع معينة تفيد في الإثبات، ويظهر الإقرار أمام قاضي الإلغاء بالخصوص في قضايا الانحراف بالسلطة، وفي حالات العلم اليقيني بالقرار الإداري.

وخلافا لما هو معروف في القانون المدني من أن الاعتراف هو سيد الأدلة فإن قوة الإقرار كوسيلة إثبات أمام القاضي الإداري ليست مطلقة، حيث يترك القاضي تقدير نطاقه وأثره طبقا لظروف الواقع والأوضاع القانونية التي تسود روابط القانون العام، وقد يطرحه القاضي جانبا في بعض الأحيان إذا اقتضى ذلك إنزال حكم القانون على الوجه الصحيح في المنازعة المطروحة، وهكذا يتمتع قاضي الإلغاء بسلطة تقديرية اتجاه تقدير القوة الإثباتية للإقرار.

ويوجد نوعان من الإقرار وهما:

الإقرار غير القضائي وهو الذي لم يصدر أمام القضاء، وهو غير مقيد للقاضي العادي أيضا. ولم يتعرض المشرع الجزائري إلى الإقرار غير القضائي، كما أن المشرع الفرنسي أيضا لم يتعرض له إلا في المادة 1355 من القانون المدني وذلك بوضع قيد على حجية الإقرار غير القضائي الذي يتم شفاهة، بحيث لا يحوز إلا في الأحوال التي يجوز فيها الإثبات بالشهادة.

ونظرا لسكوت المشرع عن الإقرار غير القضائي فإنه يخضع للقواعد العامة للإثبات، ومن ثمة فإن الأمر يرجع برمته إلى قاضي الإلغاء الذي يملك إزاءه سلطات متعددة من حيث التحقق من صحة واقعة الإقرار، فله سلطة واسعة في استخلاص واقعة الإقرار من أي دليل أو ورقة مقدمة إلى جهة أخرى، ومن حيث تقدير قوته في الإثبات يرجع إليه تقدير مدى صحة الإقرار ومدى دلالته على ثبوت الواقعة المراد إثباتها. ومن حيث تكييف الأقوال وتحديد دلالتها والمقصود منها.

أما النوع الثاني من الإقرار فهو الإقرار القضائي وهو الذي يحصل أمام القضاء وأثناء سير الخصومة، ويلزم صاحبه حتى ولو كان أمام الخبير.

ولقد عرفته المادة 341 من القانون المدني الجزائري بأنه اعتراف الخصم أمام القضاء بواقعة قانونية مدعى بها عليه، وذلك أثناء السير في الدعوى المتعلقة بهذه الواقعة.

فيشترط إذا توافر عدة أمور لاعتبار الإقرار قضائيا وهي أن يكون:

  • باعتراف من الخصم.

  • محل الاعتراف واقعة قانونية.

  • أمام القضاء أثناء السير في الدعوى موضوع الإقرار.

والسؤال الذي يثور في هذا الشأن هو: هل يشترط في الإقرار أن يكون صريحا أم أنه يمكن الاعتداد بالإقرار الضمني؟

لم ينص المشرع الجزائري على إلزامية أن يكون الإقرار صريحا -وكذلك الأمر بالنسبة للمشرعين المصري والفرنسي – غير أن مجرد اتخاذ موقف سلبي كسكوت الخصم لا يمثل في حد ذاته إقرارا ضمنيا، إذ لا ينسب لساكت قول، لكن للقاضي السلطة الكاملة في تفسير أقوال الخصوم وتقدير ما إذا كان يمكن اعتبارها اعترافا ببعض وقائع الدعوى أم لا، شرط عدم خروجه في تفسير عبارات الإقرار عن المعنى الظاهر لعباراته، لأن حق القاضي في تفسير الدليل وتحديد معناه لا شبهة فيه.