بحث حول جريمة التعذيب في قانون العقوبات

المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، وحرية الإنسان وكرامته مصونة، ولكل فرد الحق في أن يعامل معاملة عادلة في الإجراءات القضائية والإدارية. بكل هذه العبارات الخالدة وغيرها من المبادئ السامية جاء دستور جمهورية العراق الدائم، معلناً- من الناحية النظرية- قدسية الحرية الفردية وضماناتها واعتباراتها التي تعلو على كل اعتبار آخر. اذ ان ليس هدف الاجراءات الجزائية اثبات الجرم على المتهم بل تقصي الحقائق وليس باي حال من الاحوال بمنأى عن احترام حقوق المتهم، فلا قيمة للحقيقة التي يوصل اليها على مذبح الحرية.

لائحة اعتراضية 600 ريال

ولما كانت جريمة التعذيب هي اكثر الجرائم انتهاكاً لهذه المبادئ والحقوق الانسانية والدستورية، فضلاً عن تفشيها من الناحية العملية في بلد كان مهداً للشرائع التي جرمت منذ اقدم العصور التعذيب وحظرته وعاقبت عليه في وقت كان وسيلة مشروعة في شرائع لحقتها بعد الاف من السنين وكانت مصدراً لكثير من القوانين المعاصرة في بلدان تفتخر الان باحترامها لحقوق الانسان ونبذها للتعذيب.

واذا عرفنا ان التعذيب يكاد يكون اجراءاً روتينياً في التحقيق وخاصة في الجرائم ذات الطابع السياسي، ليس في العراق فحسب بل في اغلب دول العالم حتى تلك التي تدعي احترامها لحقوق الانسان.

وانما يجعل التعذيب من اجدر مواضيع البحث القانوني واخطرها بانه وباختصار شديد عدم احترام القانون من قبل القائمين على تنفيذه، بتعبير آخر هو صورة عدم احترام السلطة للقانون، وبالتالي فان الخطر مضاعف اذا كان الخصم و الحكم جهة واحدة. وبهذا لا يمكن بناء دولة مؤسسات وهناك آفة اسمها التعذيب تنخر في عظامها.

أضف الى اهميتها تلك ان هناك العديد من علامات التعجب والسؤال حول المواد التي عالج المشرع الجنائي العراقي فيها هذه الجريمة، فضلاً عن النص المباشر عليها وحظرها في الدستور الجديد وكذلك صدور قوانين جديدة طالتها بالتعديل ولم تبحث بعد ، والتي نأمل الوقوف طويلاً عندها. كل هذا دفعنا الى بحث هذا الموضوع بالغ الاهمية والذي أخذ حيزاً كبيراً على المستوى الدولي – والذي لا يتسع لنا المجال للبحث هنا- لذا آثرنا ان نخصص بحثنا المتواضع هذا، في جريمة التعذيب في قانون العقوبات العراقي الوطني ونوسمه بـ (( جريمة التعذيب في قانون العقوبات العراقي)).

وسوف نبحث هذه الجريمة في مبحثين الاول تحت عنوان ماهية التعذيب، وسيكون في ثلاثة مطالب نخصص الاول منها لتعريف التعذيب والثاني لبيان صوره اما المطلب الثالث فسيكون لبحث علة تجريم التعذيب. اما المبحث الثاني فسنعالج فيه جريمة التعذيب في قانون العقوبات العراقي وأثرها الاجرائي، وذلك في مطالب ثلاث ايضاً ، المطلب الاول هو جريمة التعذيب في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 ، اما المطلب الثاني فسيكون لالقاء الضوء على هذه الجريمة في امر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم (7) ، وأخيراً مطلب ثالث لبيان أثر التعذيب على اجراءات الدعوى التي يقع فيها.

 المبحث الأول

ماهية التعذيب

سوف تناول في هذا المبحث التعذيب في ثلاثة مطالب، أولها تعريف التعذيب و ثانيها صوره أما علة تجريم التعذيب فهو ما سوف نتناوله في المطلب الثالث.

المطلب الاول

تعريف التعذيب

لم يعرف المشرع العراقي التعذيب في قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969. ولعله اراد بذلك فسح المجال امام الفقه للاجتهاد ، وعدم تقييده بتعريف محدد قد لا يكون جامعاً مانعاً مع مرور الزمن وتقدم أساليب التحقيق والاستجواب.

لكنه عاد مؤخراً في قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم 10 لسنة 2005 فعرف التعذيب في المادة (12) الفقرة (الثانية هـ) عندما نص على ((التعذيب يعني التعمد في تسبب الالم الشديد والمعاناة، سواء أكان بدنياً او فكرياً على شخص قيد الاحتجاز او تحت سيطرة المتهم، على ان التعذيب لا يشمل الالم والمعاناة الناجمة عن العقوبات القانونية او ذات علاقة بها)).

اننا نرى ان المشرع الموقر لم يكن موفقاً في تعريفه للتعذيب هذا، وان كان قد تبنى بعض الاتجاهات الجيدة، كتبنيه لفكرة وقوع التعذيب بصورتيه المادية والمعنوية والتي توسع من نطاق المسؤولية الجزائية، الا انه عاد وضيق من نطاقها حين اشترط ان يكون المجني عليه محتجزاً او تحت سيطرة الجاني، وبالتالي فاذا ما كان المجني عليه غير محتجزاً وليس تحت سيطرة الجاني لا يمكن تطبيق هذا النص. وهذا                                الاتجاه لا يتفق مع ما تبناه المشرع في المادة 333 عقوبات – كما سنرى لاحقاً- حين شمل في صفة               المجني عليه في جريمة التعذيب مع المتهم الشاهد او الخبير وهما غير محتجزين عادة وليسا تحت سيطرة احد.

ومما يؤخذ على هذا التعريف ايضاً انه يشترط لتحقق الجريمة ان يتسبب الفعل الجرمي بالم شديد وهذا لا يتفق مع الراي الراجح في الفقه من تحقق جريمة التعذيب بغض النظر عن جسامة الفعل او النتيجة، كما سنرى ذلك لا حقاً عند معالجة هذا الامر في موضعه(1). اضف الى ذلك ان التعذيب من جرائم الاعتداء                     على الاشخاص والتي تقع حتى ولو لم يلحق المجني عليه أذىً وذلك لخطورة الفعل الاجرامي                   اصلاً(2).

وفي إطار القانون الدولي(1) اننا نجد في اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة او العقوبة القاسية او اللا انسانية او المهينة، تعريفاً للتعذيب وذلك في المادة الاولى من هذه الاتفاقية والتي نصت على : (( 1- لاغراض هذه الاتفاقية، يقصد بـ ((التعذيب)) أي عمل ينتج عنه ألم او عذاب شديد، جسدياً كان أم عقلياً، يلحق عمداً بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، او من شخص ثالث على معلومات او على اعتراف، او معاقبته على عمل ارتكبه او يشتبه في انه ارتكبه، هو او شخص ثالث، او تخويفه او ارغامه هو او اي شخص ثالث – او عندما يلحق مثل هذا الالم او العذاب لاي سبب من الاسباب يقوم على التمييز اياً كان نوعه، او يحرض عليه او يوافق عليه او يسكت عنه موظف رسمي او اي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية. ولا يتضمن ذلك الالم او العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية او الملازم لهذه العقوبات او الذي يكون نتيجة عرضية لها))(2).

يتميز هذا التعريف بانه يوسع من مفهوم التعذيب ليشمل الضغوط المادية والمعنوية على المجني عليه ولا يقصرها على المادية فقط وهذا واضح من المقطع الاول منه.

اما ما يلاحظ على هذا التعريف فانه اراد استيعاب امور متعددة ومختلفة في تعريف واحد وبالتالي فانه خلط بين اربعة جرائم يختلف فيها القصد الجنائي، وهي جريمة التعذيب للحصول على اعتراف او معلومات ، وجريمة التعذيب بقصد المعاقبة على ارتكاب عمل او الاشتباه في ارتكابه، وجريمة التعذيب بقصد التخويف او الارغام- على حد تعبير التعريف- ، وأخيراً التعذيب لاسباب تمييزية(1).

وهذا بالتالي يفقد التعريف الدقة والتركيز وكان من الاولى على المشرع الدولي ان يفرد لكل جريمة تعريف ويشير بعد ذلك – إن شاء- إلى: ان لأغراض هذه الاتفاقية فان مصطلح التعذيب يعني احد هذه الجرائم.

اما الفقه القانوني فقد عرف البعض منه التعذيب بانه الايذاء البدني المتضمن لمعنى الانتزاع او الاعتصار و الاستخراج بالقوة، وهو اشد انواع التاثير الذي يقع على المتهم ويفسد اعترافه، ويشل ارادته بقوة مادية لا قبل له بمقاومتها فتتعطل ارادته وقد تنمحي على نحو لا تنسب اليه فيه غير حركة عضوية مجرده من الصفة الارادية(2). وبنفس المعنى عرف التعذيب بأنه: نوع من الاكراه المادي الذي يتخذ صورة الضرب المتكرر، كما قد يكون  ناشئاً عن ضعف مقاومة المتهم لمنع الطعام او الحرمان من النوم(3).

من استقراء هذه التعاريف نجد بانها ركزت على اثر الركن المادي للتعذيب على ارادة المجني عليه وشلها بما يعدم اختياره الحر. وما يؤخذ عليها بانها ضيقت من نطاق الركن المادي للتعذيب اذ حصرته في الاكراه المادي دون المعنوي وبالتالي فهي ضيقت من نطاق المسؤولية في هذه الجريمة الخطيرة.

وقد عرف التعذيب كذلك بانه (الايذاء القاسي العنيف الذي يفعل فعله ويفت من عزيمة المعذب ويحمله على قبول بلاء الاعتراف للخلاص منه)(4) لكن هذا التعريف قد اهتم في الواقع بابراز اثار فعل التعذيب باكثر من اهتمامه بجوهر الفعل ذاته ثم انه يوحي بان التعذيب لا يتحقق الا اذا ادى الى حمل المعذب على الاعتراف فعلاً وهو امر غير صحيح فالتعذيب يقع بمجرد توافر عناصره الذاتية وسواء ادى الى حصول الاعتراف فعلاً ام لم يؤد الى ذلك طالما كان القصد منه ايقاعه كما ان هذا التعريف يصف لنا التعذيب بانه الايذاء القاسي العنيف وحقيقة الامر التي سنراها لاحقاً بانه لا يشترط في التعذيب إن يكون جسيماً لكي تقع الجريمة فهي تقع سواء اكان كذلك ام لم يكن.

في حين عرفه البعض الاخر من الفقهاء بأنه ((اعتداء على المتهم. او ايذاء له مادياً ونفسياً. وبهذا المعنى فان التعذيب صورة من صور العنف او الاكراه، ويتحقق ذلك المعنى بكل نشاط يبذله (الجاني) ايجاباً او سلباً لايذاء (المجني عليه) مادياً او معنوياً، متى اتحد مضمون ارادة الجاني مع نشاطه أي ان القصد الجنائي هنا هو ارادة الايذاء متمثلاً في محاولة اكراه المتهم على الاعتراف)(1). يتميز هذا التعريف بانه يوسع من عناصر الركن المادي لجريمة التعذيب اذ لا يقصرها ، كما في التعاريف السابقة ، على الاكراه المادي فحسب بل يشمل معه الاكراه المعنوي ايضاً. ولكن ما يأخذ عليه في الوقت نفسه انه يضيق من نطاق المسؤولية الجزائية باشتراطه وقوعهما معاً على المجني عليه حين ذكر ((ايذاء له مادياً ونفسياً)) وكان من الاولى عليه ان يستعمل حرف العطف (و) بدلاً من (او) ليوسع من ذلك – أي من نطاق المسؤولية-. وبنفس المعنى ذهب البعض الى ان تعذيب المتهم يخضع لصور متعددة منها ما يعتبر اكراهاً مادياً ومنها ما يعتبر اكراهاً ادبياً. والجامع بينهما هو الالم او المعاناة البدنية او النفسية او العقلية التي تصيب المتهم من جراء استخدام احد وسائل التعذيب(2) .

وبهذا فان التعذيب لوناً من العنف او الاكراه المادي او المعنوي، يمارسه رجل السلطة على المتهم لحمله على الاعتراف(3). وان المادي منه يشمل كل فعل مباشر يقع على الشخص فيه مساس بجسده ويؤثر على ارادته اياً كان مقدار التاثير ، اما المعنوي فهو كل وسيلة تستهدف التاثير على ارادة المتهم وهو يتعلق بامور نفسية(4) .

مما يؤخذ على كل ما تقدم من تعاريف بانها وان عالجت بعض جوانب التعذيب في تعريفها له، ولكن اياً منها لم يتطرق الى تعريف التعذيب كجريمة من خلال اركانه. ولكنها اتفقت بان التعذيب ما هو الا صورة من صور الاكراه، سواء أكان اكراهاً مادياً فقط كما عرفه البعض، او مادياً ومعنوياً ايضاً كما يرى البعض الاخر. وبما ان الاكراه هو ضغط على ارادة الغير من شانه ان يولد في نفسه رهبة، تدفعه الى سلوك ما ، ما كان يقدم عليه لولا هذا الضغط. وهو على نوعين، اكرهاً مادياً، هو ضغط مادي على الارادة ينجم عنه انعدامها كلياً لمن بوشر عليه. واكراهاً معنوياً هو ضغط غير مادي على الارادة يلجيء الشخص الى ارتكاب فعل مضر(5). ويستوي في ذلك ان يكون الاكراه او التهديد به ان ينصب على المكره في شخصيته او ماله او ايذاء غيره من اعزائه(6). وبهذا فاننا نذهب الى تعريف التعذيب بأنه الضغط المادي او المعنوي على ارادة المجني عليه (المتهم او الشاهد او الخبير) بكل نشاط عمدي يبذله الجاني ( الموظف او المكلف بخدمة عامة) ايجابياً كان ام سلبياً والذي يسبب ايلاماً او معاناة جسدية او نفسية او عقلية للمجني عليه ، لحمله على الاعتراف بجريمة ما او للادلاء باقوال او معلومات بشأنها او لكتمان امر من الامور او لاعطاء رأي معين بشأنها .

 المطلب الثاني

صور التعذيب

بما ان التعذيب كما عرفناه ضغط مادي او معنوي على ارادة المجني عليه. فلا يشترط بذلك في جريمة التعذيب صورة معينة للفعل المادي او المعنوي اللازم لقيامها شأنها في ذلك شأن جريمة القتل العمد(1)، بخلاف جريمة التزوير التي يشترط لتحققها ان تقع باحدى الطرق المادية او المعنوية التي حددها القانون(2). وعلى ما تقدم قان خطة دراسة صور التعذيب يمكن ان توضع في محورين اذ يتناول الاول صور التعذيب المادي في حين يعالج الثاني صور التعذيب المعنوي ، وكما يمكن إن توضع الخطة على اساس الوسائل المادية أو المعنوية المتبعة في التعذيب،  او اثارها على المجني عليه. ولكننا نفضل أن نتبع منهجاً بحثياً آخر يلبي اعتبارات عملية معاصرة تركت بصماتها على بعض صور الاكراه المادي فجردتها من مظاهر الايلام وان لم تجردها من علة التجريم اي شل ارادة المجني عليه و نقصد بذلك بعض وسائل التحقيق العلمية الحديثة التي تعدم ارادة المستجوب الحرة وتؤثر في اختياره.

وبهذا سوف نبحث صور التعذيب في فقرتين:

اولاً: صور التعذيب التقليدية:

ونقصد بها الافعال المادية او المعنوية التقليدية، التي اعتاد رجال السلطة اتباعها في الانظمة الدكتاتورية (البوليسية) والديمقراطية -على حدٍ سواء- ، التي تنطوي على ايلام جسدي او نفسي للخاضع لها. ولا يعتمد القائم بها على تقنية متطورة او وسيلة حديثة. وبطبيعة الحال فلسنا نهدف هنا الى حصر تلك الافعال التي تعد من صور التعذيب التقليدية، وذلك لاستحالة حصرها من الناحية العملية اولاً، وعدم جدوى ذلك ثانياً، اذ لم يحدد المشرع طرقاً معينة لقيام الجريمة دون سواها. كما انه وفقاً للقواعد العامة لا عبرة بالوسيلة المستخدمة في ارتكاب الجريمة ما لم يرسم القانون طريقة بعينها لذلك. ومع ذلك يمكن – على سبيل المثال – ان يعتبر تعذيباً سحق اصابع المجني عليه (كسرها) وقلع الاظافر، وممارسة الحرق (الكي)(3). وكذلك قص الشعر او الشارب(4) او البصق في الوجه(5)، او طلاء الوجه او الجسم بطلاء او زيت قذر(6)،            او الامساك بملابس المتهم بشدة وتمزيقها(7)، او دفعه بالقوة(8) . او ربط المجني عليه من قضيبه بسلك كهربائي و اطلاق قيده وجذبه منه(1). او انزال المجني عليه في الماء الملوث او تهديده باسقاطه فيه(2)،           او احضار زوجته وتهديده بارتكاب الفحشاء بها او التهديد بذلك. وكذلك اجبار المجني عليه على التسمي باسماء النساء او ارتداء ثيابهن، او وضع الجمة الخيل على فمه. او تهديده باخراج جثة امه من مدفنها والتمثيل بها. او اكراه بعض المجني عليهم على هتك عرض البعض الاخر او لطم المتهم على صدغه او قفاه(3). او تسليط الضوء الشديد على الوجه وابقاء الشخص واقفاً مدة طويلة(4). وفضلاً عن صور التعذيب المادي والمعنوي الايجابية سالفة الذكر، هناك صوراً للتعذيب سلبية تقع بالترك مثل حرمان المتهم من الاتصال بأهله او وضع أكل له في زنزانته يكفي اسبوعاً مع حرمانه من السجائر والغطاء(5)، او وضعه بزنزانة مظلمة بمفرده لعدة ايام قبل الاستجواب(6).

ثانياً: صور التعذيب الحديثة.

ان التطور العلمي الهائل الذي شهدته الحياة في مجالاتها المختلفة شمل وسائل التحقيق وأساليب الاستجواب وكان ذلك يشكل تحولاً كبيراً في مجال كشف الجريمة وتحقيق العدالة، الا انه كان باتجاهين متعاكسين ايجابياً وسلبياً بالنسبة للعدالة ففي الاتجاه الاول كانت الوسائل العلمية المشروعة(7)، والتي ينجم عنها ادلة علمية مادية ومعنوية كبصمات الاصابع والاذن والاسنان والصوت والبصمة الوراثية، وما الى ذلك. اما الاتجاه الاخر فيشمل طائفة الوسائل العلمية الحديثة في هذا المجال وان كان انطوائها على المساس بسلامة الجسد امراً وارداً الا ان مساسها بسلامة النفس وحرية الارادة امراً مؤكداً وذلك حينما يجري الاستجواب تحت تاثيرها، ومنها اساليب التنويم المغناطيسي واجهزة كشف الكذب والحقن بالمواد المخدرة(8)، وسوف نعرض لهذه الاساليب الثلاثة كأمثلة لتلك الاساليب والصور الحديثة للتعذيب:

1- جهاز كشف الكذب ((البوليجراف))

يمكن ان يعرف جهاز كشف الكذب بانه ذلك الجهاز الذي يقوم بتسجيل بعض التغييرات الفيزيولوجية ((ضغط الدم، التنفس، درجة مقاومة الجلد للتيار الكهربائي )) التي تظهر على الفرد من خلال التحقيق. ومن دراسة هذه التغيرات من خلال تحليل الرسوم البيانية التي سجلها الجهاز ومن تقييم كل الادلة المتوفرة خلال التحقيق يمكن عند اذ التاكد من صدق او كذب الشخص موضوع الاختبار في اجابته على الاسئلة الموجهة اليه. لذلك اطلق عليه اسم المفضاح، وهي تسمية مستمدة من وظيفته تلك لكونه يعمل على فضح اكاذيب المتهم وكشف خداعه(1). ان لجهاز كشف الكذب آثاراً مختلفة على المراد اختباره فهو يؤدي الى قلق المختبر من مجرد الاتهام وخوفه من احتمال خطأ الجهاز و الالم الذي يصاحب تثبيت بعض اجزاء الجهاز على جسمه و الاضطراب الشديد الذي ينتابه عند سؤاله أسئلة شخصية محرجة بعيدة عن موضوع الجريمة(2). وعلى ما تقدم فان استخدام جهاز كشف الكذب يمثل ضغطاً نفسياً عنيفاً على الخاضع له وبالتالي فقد تعتري البريء حتى عند خضوعه له وخشيته من وقوعه في خطأ غير مقصود انفعالات تفسر على انها محاولة تغيير الحقيقة. فضلاً على ان هذا الاسلوب يمثل اعتداءاً مادياً على حق المتهم في الصمت(3). او في عدم الشهادة ضد نفسه او الاعتراف بانه مذنب كوسيلة للدفاع وبذلك فان استخدام هذا الجهاز هو من صور تعذيب المتهم الحديثة وبذلك فاننا ندعو الى عدم استخدام هذا الجهاز في التحقيق لما ينطوي عليه من تعذيب للمختبر به.

2- الاستجواب تحت تاثير العقاقير المخدرة

اسلوب خاص من التحليل النفسي يتم عن طريق حقن الشخص بجرعة معينة في الوريد من احدى العقاقير المخدرة(4). والتي تؤدي الى حالة من الغيبوبة الواعية لفترة معينة حسب كمية الجرعة يستمر الشخص خلالها مالكاً لقواه الادراكية ولكنه يفقد في نفس الوقت القدرة على التحكم في ارادته واختياره، مما يجعله اكثر قابلية للايحاء واكثر رغبة في الافصاح والتعبير عما يختلج في كوامن نفسه(5). بتعبير اخر يؤدي التحليل التخديري الى اضعاف الحاجز بين الشعور واللاشعور. او ازالته تماماً الامر الذي يتيح امكانية سبر غور العقل الباطن والوقوف على مايخزنه من معلومات او احاسيس مكتوبة، لذلك يطلق على هذا النوع من الاستجواب اللاشعوري(6). ان اغلب الاراء تتجه الى عدم جواز الاستجواب تحت تاثير العقاقير المخدرة باعتبارها وسيلة من وسائل الاكراه المادي، كما ان استخدام كمية كبيرة من العقاقير المخدرة قد يؤدي الى الغيبوبة والموت وبذلك فهو اعتداء على حق الانسان الطبيعي المطلق في سلامة شخصه وجسمه وعقله(7).

وبما ان الاستجواب بهذه الطريقة يعد اكراهاً مادياً- وفق ما تقدم- فهي اذن من اوضح صور التعذيب، وبذلك لا نحتاج اصلاً الى تحليلٍ لاثبات ذلك وبهذا فنحن ندعو ايضاً الى عدم استخدامها في اجراءات التحقيق باعتبارها تعذيباً.

3- التنويم المغناطيسي

هو احداث حالة من النوم الاصطناعي لبعض ملكات العقل عن طريق الايحاء بفكرة النوم فيضيق نطاق الاتصال الخارجي للنائم ويخضع لشخصية المنوم، بحيث تختفي الانا الشعورية للنائم، وتبقى الانا اللاشعورية تحت سيطرة المنوم، وهكذا تشل الوظيفة الاساسية لعقل الانسان(1).

لقد لقي هذا الاسلوب معارضة شديدة، اذ تتجه اغلب الاراء الى عدم مشروعيته باعتباره وسيلة اكراه، اذ يعتبر النائم مكرهاً مادياً على ما يأتيه من افعال واقوال(2). وبذلك فان هذا الاسلوب لا يختلف عن سابقيه بتاثيره على الخاضع له وحرمانه من حقه في الدفاع ، فضلاً عن الاعتداء المادي والنفسي عليه، ممثلاً صورة من صور التعذيب. وندعو هنا كما دعونا في سابقيه الى عدم استخدامه في اجراءات التحقيق وغيرها من الاجراءات الجزائية.

المطلب الثالث

علة تجريم التعذيب

ان التعذيب عمل مجرم صراحة او ضمناً في اغلب التشريعات الحديثة، وان علة ذلك تعود لسببين اساسيين، اولهما ان التعذيب هو انتهاك سافر لحقوق الانسان، وثانيهما اعمالاً لمبدأ الشرعية الجنائية، اذ ان الركن المادي للتعذيب هو جريمة معاقب عليها بحد ذاته عادة. وفيما يلي بيان لهذين السببين في هذا المطلب:

اولاً: التعذيب انتهاك سافر لحقوق الانسان

يتمتع الانسان في ظل الشرعة الدولية لحقوقه(3)، واغلب الدساتير الوطنية بمجموعة من الحقوق الاساسية(4)، التي لم تقنن الا بعد جهود  وتضحيات عديدة في مقارعة استبداد السلطة وهدرها لحقوق كل من يخرق قوانينها ، حتى وان كانت جائرة، بل ان هذه القوانين كانت في اغلب الاحيان هي خرق لحقوق الانسان وحرياته العامة اصلاً.

ومن اهم هذه الحقوق ، حق الانسان في الحياة والامن والحرية وسلامة شخصه وصون كرامته(1). وحقه في الخصوصية الشخصية(2). والدفاع عن نفسه ازاء اي تهمة توجه اليه(3). كما ان له الحق بان يعامل ، اذا كان متهماً، باعتباره بريئاً الى ان تثبت ادانته في محاكمة قانونية عادلة(4). وبان يعامل معاملة عادلة في الاجراءات القضائية والادارية(5). وان له حرية الراي(6) والحق في عدم الزامه بالشهادة ضد نفسه او الاعتراف بانه مذنب(7). ومن مراجعة المواد التي عنيت بهذه الحقوق نجد بانها قد نصت صراحة او ضمناً، على عدم جواز الحرمان من هذه الحقوق او تقييدها الا في الاحوال التي يجيز بها القانون ذلك لتحقيق مصلحة عامة او لحماية حق اهم.

وبما ان التعذيب على اختلاف صوره يحرم المجني عليه من ممارسة حق من حقوقه – سالفة الذكر- سواء أكان ذلك بالاعتداء المادي على حقه في سلامة جسده او ذهنه والذي قد يتعدى، في بعض الاحيان الى المساس بحقه في الحياة، او بالاعتداء المعنوي الذي قد يحط من كرامته وخصوصيته الشخصية، وبكلا الحالتين فهو اهدار لحقه في الدفاع، ومعاملته معاملة عادلة، باعتباره بريء الى ان تثبت ادانته.

وخلاصة القول بناءاً على ما تقدم يتضح لنا ان جريمة التعذيب هي تعدي رجل السلطة على حق المجني عليه في سلامة جسمه وعقله وكرامته وقد يتعدى ذلك الى حقه في الحياة. وبالتالي فهي انتهاك سافر لحقوق الانسان وهذه هي علة تجريمها الاولى.

ثانياً: التعذيب يعدم الارادة الحرة

الاصل في الاعتراف او الشهادة او راي الخبير باعتباره دليلاً لاثبات حقائق معينة، يجب ان يكون اختيارياً ليعول عليه في اثباتها، وهو لا يعد كذلك – وان كان صادقاً- اذا صدر نتيجة لاكراه مادي او معنوي. اذ يجب ان يصدر كل من الاعتراف او الشهادة او الخبرة عن ارادة حرة خالية من الاكراه ، لذلك فان المنطق وجانب كبير من الفقه القانوني يذهب الى ان الاكراه – وبالتالي التعذيب – يبطل الاعتراف(8) او الشهادة او الخبرة . اذ لا يكفي ان يكون المتهم او الشاهد او الخبير قد ادلى باعترافه او اقواله او رأيه عن ارادة واعية، بل يلزم ان تكون هذه الارادة لم يسلط عليها اي ضغط من الضغوط التي تعيبها وتؤثر عليها كاكراه او تعذيب او تهديد(1).

وان الحكمة من استبعاد الاعتراف او الشهادة او الخبرة المستمد من التعذيب بشتى صوره، سواء اكانت مادية والتي هي فضلا عن كونها الركن المادي للتعذيب بهذه الصورة  -اي المادية – بحد ذاته جريمة يعقاب عليها القانون. او معنوياً يعد عملاً غير مشروع- وقد يكون جريمة في بعض الاحيان ايضاً – اجمعت كل الشرائع على استنكاره ومستوجباً على اقل تقدير المسؤولية التأديبية(2). اضف الى ذلك ان الاعتراف مثلاً المستمد من التعذيب، ما هو الا ادانة لشخص بريء – احياناً- وذلك ان هذا الشخص قد يعترف بارتكابه جريمة لم يقترفها اصلاً، للتخلص من الام التعذيب الواقع عليه، وان الاستجواب بالتالي سوف ينتهي باتهام او ادانة بريء على اساس اعترافه المخالف للواقع والحال نفسه في الشهادة والخبرة . وهو فضلاً عن ذلك من اسباب خطأ القضاة، وانهيار ثقتهم في باقي ادلة الدعوى، وثقة المتقاضين في عدالة القضاء، هذه الثقة التي هي وحدها دعامة قدسية احكامه، وبالتالي مصدر اثرها البالغ في تقوية الوعي العام ضد الجريمة ومقترفيها وهو اسمى هدف لاي تشريع عقابي(3)، من ناحية اخرى يكون الاعتراف او الشهادة او الخبرة الصادر من المتهم او الشاهد او الخبير في هذه الحالة مجرداً من ارادته ، اي من ارادة من صدر عنه، واذا كان السلوك فعلاً او قولاً يجب ان يكون ارادياً لان الاعتراف او الشهادة او الخبرة سلوكاً انسانياً ولا يعد كذلك الا اذا صدر عن ارادة(4).

 المبحث الثاني

جريمة التعذيب في قانون العقوبات العراقي(1) وأثرها الاجرائي

بعد ان عرفنا التعذيب، وتعرفنا على صوره ، وعلة تجريمه. صار لزاماً علينا بحثه في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 اولاً، ثم في امر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم (7)، ثانياً وثالثاً، واخيراً، بيان اثره على اجراءات الدعوى التي يقع فيها ، وهذا ما سوف نفعله في مبحثنا الثاني هذا من خلال مطالب ثلاث.

المطلب الاول

جريمة التعذيب في قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969

لقد عالج المشرع العراقي جريمة التعذيب في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 في المادة 333 حين نص على :

(( يعاقب بالسجن او الحبس كل موظف او مكلف بخدمة عامة عذب او امر بتعذيب متهم او شاهد او خبير لحمله على الاعتراف بجريمة او للادلاء باقوال او معلومات بشانها او لكتمان امر من الامور او لإعطاء رأي معين بشأنها .

ويكون بحكم التعذيب استعمال القوة او التهديد)).

من تحليل هذا النص نجد بان لجريمة التعذيب اربعة اركان هي :

اولاً: الركن المادي .           ثالثاً: صفة المجني عليه.

ثانياً: صفة الجاني.            رابعاً: الركن المعنوي.

وسوف نعمل على تفصيل ذلك تباعاً ، ولكن قبل الولوج في ذلك علينا اولاً تصنيف جريمة التعذيب، وتحديد اطار النشاط الاجرامي فيها، وذلك ليتسنى لنا تحديد النطاق القانوني الذي يجب ان تناقش فيه اركانها.

– تصنيف جريمة التعذيب وتحديد النشاط الاجرامي فيها :

على الرغم من ورود نص المادة (333) ضمن الفصل الثالث الخاص بجرائم تجاوز الموظفين لحدود وظائفهم من الباب السادس المتعلق بالجرائم المخلة بواجبات الوظيفة الا ان جريمة التعذيب تعد في حقيقة الامر من جرائم الاعتداء على الاشخاص شانها في ذلك شأن جرائم القتل والجرح والضرب وهتك العرض والقبض على الاشخاص وحبسهم دون وجه حق والقذف والسب والتهديد. ولنا في اثبات ذلك، اي كون جريمة التعذيب من جرائم الاعتداء على الاشخاص حجتين اساسيتين:

1- ان المصلحة المحمية التي تشترك جميع جرائم الاشخاص في الاعتداء عليها هي حق الانسان في السلامة العامة لجسمه وعقله(1). ولذلك فان جرائم الاعتداء على الاشخاص تمثل عدواناً على المصلحة والحقوق اللصيقة بالانسان سواء في الجانب العضوي او الجانب المعنوي وتتمثل تلك الحقوق في الحق في الحياة وفي سلامة الجسم من ناحية والحق في المحافظة على شرفه واعتباره من ناحية اخرى وعليه فان الجرائم التي توقع اضراراً بتلك الحقوق هي التي تشكل مجموعة جرائم الاعتداء على الاشخاص وفقاً لقانون العقوبات(2).

وبما ان جريمة التعذيب تمثل انتهاكاً سافراً لحقوق الانسان بالاخص حقه في الحياة وسلامة جسمه وعقله وكرامته- كما بينا ذلك سابقاً في علة تجريم التعذيب- اذاً فجريمة التعذيب من جرائم الاشخاص على ما تقدم ذكره.

2- ان جرائم الاشخاص من الجرائم المادية، ذلك ان الحدث المكون للجريمة حدث ضار بطبيعته، وبالتالي ليس بلازم تحقق النتيجة لوقوع الجريمة، اي ليس بالضرورة ان يصحب فعل الاعتداء الماً لتجريمه(3). والحال نفسه بالنسبة لجريمة التعذيب فان النشاط المادي للجاني يكتمل بمجرد حدوث فعل الاعتداء الذي يتمثل هنا في فعل تعذيب المتهم او تهديده او الامر بذلك، حتى وان لم يؤدِ هذا الفعل الى إذاء المجني عليه ، وبالتالي حمله على الاعتراف إي أن عدم الايذاء لا يحول دون اكتمال جريمة التعذيب، وسواء اتمَّ أو لم يتم الاعتراف فان الجريمة متحققة، وذلك متى ما ثبت قيام القصد الجنائي الى جانب الفعل المادي(4).

وعلى ما تقدم نخلص الى ان جريمة التعذيب هي من جرائم الاشخاص ، وبالتالي فان اطار النشاط الاجرامي فيها يكون في اطار النشاطات الجرمية لهذه الجرائم. والان نأتي على بيان اول اركان جريمة التعذيب:

اولاً: الركن المادي

يمثل الركن المادي الوجه الظاهر للجريمة، وبه يتحقق اعتداء الفاعل على المصلحة المحمية قانوناً. واذا انعدم الركن المادي انعدمت الجريمة(5). وللركن المادي عناصر مكونة ثلاثة هي : السلوك الاجرامي و النتيجة الضارة وعلاقة السببية بين السلوك والنتيجة.

1- السلوك الاجرامي(1) في جريمة التعذيب.

اذا ما رجعنا الى نص المادة (333) عقوبات، نجد بان السلوك الاجرامي في جريمة التعذيب له صورتين، الاولى هي ممارسة التعذيب بالفعل، والثانية هي الامر بالتعذيب. وهذا ما سوف ناتي على بحثه الان:

أ- ممارسة التعذيب فعلاً:

فيما يتعلق بالسلوك الاجرامي لجريمة التعذيب فاننا قد ذهبنا ومنذ البداية في تعريف التعذيب الى تبني فكرة التعذيب المادي و المعنوي. وبذلك فاننا نرى بان السلوك الاجرامي كعنصر من عناصر الركن المادي في جريمة التعذيب، وفق احكام المادة (333) عقوبات هو كل اعتداء مادي او معنوي يقع من موظف او مكلف بخدمة عامة على متهم او شاهد او خبير لحمله على الاعتراف او الادلاء باقوال او معلومات بشأن جريمة  ما او لكتمان امر من الامور او اعطاء راي معين بشانها.

ولنا في تبرير اعتقادنا بهذه الفكرة- على الرغم من ذهاب البعض الى حصر تحقق التعذيب بالاعتداء او الايذاء المادي فقط- حجج مختلفة ؛ فقد بينا سابقاً بان التعذيب ما هو الا صورة من صور الاكراه، وان الاكراه لا يكون مادياً فقط ، بل يكون معنوياً كذلك. وفي كلتا صورتيه سواء أكانت العادمة منها للارادة ام المنقصة فهو يشوب اجراءات التحقيق بالبطلان(2). وبعبارة اوضح فان المشرع عندما جرم التعذيب هدف الى حماية آحاد الناس من سطوة السلطة المتمثلة بالعنف الوظيفي، والذي لا يقتصر تحققه باساليب مادية دون المعنوية. كما هدف كذلك الى حماية حقوق الانسان في سلامة جسمه وعقله- كما بينا ذلك في علة التشريع- والتي يمكن هدرها في كلا الحالتين.

كما انه لا يجوز افتراض ارادة المشرع، اذ من استقراء نص المادة 333 عقوبات نجد بان النص جاء مطلقاً وبالتالي لا يجوز تخصيصه بغير مسوغ قانوني، اذ ان العام يعمل بعمومه، ولو اراد المشرع قصر التعذيب هنا على الاكراه المادي فقط لافصح عن ذلك بصريح النص.

هذا ومما يدل على تبني المشرع العراقي العقابي لفكرة التعذيب النفسي وبانه يساوي بينه وبين المادي منه هو ما نص عليه صراحة في المادة(421) عقوبات حين عالج جريمة القبض على الاشخاص او حجزهم في فقرتها (ب) عند ما نص على ظروفها المشددة والتي جاء فيها: ((… ب- اذا صحب الفعل تهديد بالقتل او تعذيب بدني او نفسي)). واذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان سياسة التشريع الجنائي واحدة لدى المشرع فاننا نستطيع ان نحتج بما اوردناه من تعريف للتعذيب(3) في موضوع تعريف التعذيب والذي ورد في قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم (10) لسنة 2005، حيث تبنى فكرة التعذيب البدني والفكري، وهذا هو نفس الاتجاه الذي تبناه كل من الدستور العراقي المؤقت لسنة 1970 وقانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لسنة 2004 وكذلك دستور جمهورية العراق الدائم لسنة 2005، اذ تم النص في جميع هذه الدساتير على تحريم جميع انواع التعذيب النفسي والجسدي(1)، واخيراً فان التعذيب المعنوي قد ينطوي على ضغط وايلام للمجني عليه اكبر بكثير مما ينطوي عليه التعذيب المادي فان الاعتداء على زوجة المجني عليه او احد محارمه امامه اشد بكثير من مجرد تقييده بقوة(2). وبهذا فان الفعل المكون للركن المادي في جريمة التعذيب اما ان يكون مادياً يأخذ صورة الجرح(3)، او الضرب(4)، او اعطاء مواد ضارة(5)، او بارتكاب أي فعل مخالف للقانون(6)، على جسم المجني عليه مباشرة او هتك العرض(7) او ان يكون معنوياً قد يتحقق بالاعتداء بصورة او اكثر من الصور المذكورة اعلاه، على شخص اخر يهم المجني عليه بقصد ايلام المجني عليه نفسياً، كما قد يتحقق الاعتداء المعنوي بتهديد(8) المجني عليه نفسه بالاعتداء او الايذاء وذلك بقصد ان يحدث هذا التهديد في نفسه ذات الاثر الذي يحدثه الاعتداء المادي. وقد يأخذ الاعتداء المعنوي ايضاً صورة الذم والقدح والتحقير(9)، او القذف(10).

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل يشترط في فعل التعذيب درجة معينة من الجسامة لتحقق الجريمة؟

هناك رأيان في هذا الموضوع، اذ يذهب الراي الاول(1)، الى عدم تحقق التعذيب الا اذا وصل الفعل الذي يتحقق به التعذيب الى درجة معينة من الجسامة والعنف، فلا يدخل – عند انصار هذا الراي- في مضمون التعذيب الا الايذاء الجسيم او التصرف العنيف او الوحشي. و يستشهد انصار هذا الراي في اثبات وجهة نظرهم بقرار قضائي يقوم به احد رجال السلطة بالاعتداء على متهمين باستخدام (فلقة) دون ان يحدث بهم هذا الاعتداء اصابات يقرر لها علاج، ويصدر الحكم بعدم تحقق وقوع جريمة التعذيب(2).

اما الراي الثاني(3) وهو الارجح فيذهب الى قيام جريمة التعذيب اياً كانت درجة جسامة التعذيب او بساطته، وذلك لان اشتراط ان يكون التعذيب (جسيماً) او (عنيفاً) او (وحشياً) ليس له سند قانوني من ناحية، ومن ناحية موضوعية اخرى، ربما تعذر وصف سلوك مثل ارغام (المتهم) على ارتداء ملابس النساء او التسمي باسمائهن(4) بانه سلوك وحشي او عنيف او جسيم، ولكن من السهولة بمكان وصفه بالانحطاط والخسة، ولا خلاف حول اثره السيء على نفس الخاضع له، فضلاص عن التسليم باعتباره تعذيباً. ومن الناحية القانونية فان التفرقة بين الايذاء الجسيم والايذاء غير الجسيم- و القول بقيام الجريمة في الحالة الاولى دون الثانية- يعيد الى الاذهان فكرة التفرقة بين الخطأ الجسيم والخطأ اليسير، والقول بعدم صلاحية الاخير لقيام الجريمة هي تفرقة مهجورة فقهاً وقضاءً، فضلاً عن افتقارها الى الاساس القانوني(5).

اما نحن فنذهب الى تاييد انصار الراي الثاني وذلك لاننا نعتقد – فضلاً عما قدموه من حجج – بوقوع التعذيب المادي والمعنوي ، وبالتالي فان باعتقادنا العبرة ليس بجسامة الفعل المرتكب بل بما يحدثه من أثر في نفس الواقع عليه وتأثير في ارادته بالتالي . وان المثال الذي اورده انصار الراي الاول حول استخدام (الفلقة) في التعذيب بدرجة لم تحدث اصابات تحتاج الى علاج ، وكون ذلك بالتالي لا يمثل تعذيباً. لم يكونوا موفقين به، اذ ان التاثير النفسي الذي يحدثه استخدام (الفلقة) في التحقيق قد يفوق بكثير التاثير المادي، وبالتالي فاننا نرى بان التعذيب النفسي متحقق في هذا المثال، على الرغم من عدم جسامة الفعل كما يرى انصار الراي الاول.

هذا وان المشرع العراقي في المادة (333) عقوبات نص على : ((… كل موظف او مكلف بخدمة عامة عذب او امر بتعذيب متهم او شاهد او خبير لحمله على الاعتراف بجريمة او للادلاء باقوال او معلومات بشانها او الكتمان امر من الامور او لاعطاء راي معين بشانها.

ويكون بحكم التعذيب استعمال القوة او التهديد))

ويتضح من هذا النص ان المشرع لم يشترط درجة عالية من الجسامة لتحقق جريمة التعذيب، بل على العكس من ذلك اذ يفهم من ايراده المقطع الاخير الخاص باستعمال القوة او التهديد انه اراد بذلك تضمن مفهوم التعذيب حتى ابسط صور الاعتداء، والواقع انه ما كان له الا ان يسلك هذا السبيل في تحديد مفهوم التعذيب وذلك لعدم تضييق نطاق المسؤولية الجزائية في الجريمة . ولكننا ننتهز الفرصة هنا ونأخذ على المشرع العراقي الموقر ايراده المقطع الاخير هذا من نص المادة اعلاه، وذلك لعده اسهاباً لا مسوغ له اذ ان مفهوم التعذيب اصلاً يتسع ليتضمن استعمال القوة والتهديد، وبالتالي فان ايرادها في النص ما هو الا تكراراً. قد يفهم منه توكيداً فقط وهو امر لا داعي له اصلاً. هذا من ناحية ومن ناحية اخرى اذا كان قصد المشرع من استعمال القوة او التهديد جرائم مستقلة وادخلها رغم ذلك في مفهوم التعذيب فانه قد وقع في سوء فهم كبير، اذ لتحقق جريمة التعذيب لا بد من تحقق الركن المعنوي لها المتمثل بالقصد الجرمي الخاص- الذي سوف نأتي على بيانه لاحقاً في موضعه – وهو حمل المجني عليه على الاعتراف أو الإدلاء باقوال او لكتمان امر من الامور في جريمة ما او لاعطاء راي بشأنها والذي لا يشترط توافره لتحقق هاتين الجريمتين. وبالتالي فاننا ندعو مشرعنا الموقر الى عطف نظره على هذه المادة ورفع هذا المقطع منها.

2- الامر بالتعذيب

يعرف الامر بانه (( كل تعبير يتضمن اداء عمل او الامتناع عن عمل او تحذير للتحوط من وقوع حدث. يصدر من رئيس يختص باصداره الى مرؤوس يختص بتنفيذه. تربطهما علاقة وظيفية عامة))(1). وبذلك فان الامر وكما يذهب البعض هو احدى وسائل ممارسة الادارة لسلطاتها وقد يأخذ صورة لائحية او فردية(2). وبالتالي فهو قرار اداري يمكن تعريفه بانه عمل قانوني صادر عن الارادة المنفردة للادارة بهدف احداث اثر قانوني معين في المراكز القانونية(3). وبالتالي وفق هذا التعريف الذي يعتبر المشروعية اولى عناصر الامر او القرار الاداري، من غير المتصور ان نجد امراً لائحياً بالتعذيب في ظل الحظر الدستوري(4) او التجريم القانوني للفعل.  فاذا كان هناك امر بالتعذيب فانه بالتاكيد سوف ياخذ صورة القرار الفردي كما ان الصورة الاكثر انتشاراً له هي الاوامر الشفوية لا المكتوبة.

وفي بحثنا هذا لا يهمنا تعريف الامر باعتباره من وسائل ممارسة الادارة لسلطاتها، بل باعتبارها صورة من صور السلوك الاجرامي في الركن المادي لجريمة التعذيب، وفق احكام المادة (333) عقوبات، والتي لم تضع له تعريفاً في متنها، وتركت ذلك الى الفقه الجنائي والذي يذهب الى ان الامر هو صورة التعبير عن ارادة الرئيس، تلك الارادة التي على المرؤوس وجوب تنفيذها دون تجاوز ولا تقصير. ولعل اصطلاح (الامر) انما قصد به التدليل على هذا (الوجوب) وهو وجوب لازم بحكم العلاقة الرئاسية بين (صاحب الارادة) او مصدر الامر و (منفذ الارادة) اوالمأمور.

وان هذا الوجوب لازم في العلاقة الرئاسية حتى وان جاء تعبير الرئيس عن ارادته في صورة اخرى غير صورة (الامر)، (كالاذن) او (الاقرار) او (الموافقة) … الى غير ذلك من المسميات ما دامت كلها تعبر عن شيء واحد هو ارادة الرئيس، التي يعلم المرؤوس انه لا يسمح له ان يتصرف خلافها(1). وبالتالي فيجب ان يكون لمصدر الامر السلطة على من صدر عليه الامر، ولا يقصد بالسلطة ان يكون لمصدر الامر الحق القانوني او صفة اصدار امر كهذا، لانه لا حق لاحد ولا صفة في الامر بتعذيب شخص اخر، وانما المقصود ان تكون له سلطة اصدار الامر قانوناً اليه او بالاقل السلطة الادبية او القوة المادية اللازمة لتنفيذ ذلك الامر(2).

وعلى ما تقدم يمكن تعريف (الامر بالتعذيب) في هذا الصدد من وجهة نظر جنائية افصاح الرئيس بشكل ايجابي او سلبي عن ارادته الملزمة للمرؤوس بممارسة العنف المادي او المعنوي على (متهم او شاهد او خبير) لحمله على ( الاعتراف بجريمة او للادلاء باقوال او معلومات بشأنها او لكتمان امر من الامور او لاعطاء راي معين بشانها)(3).

وعلى هذا فان الآمر بالتعذيب هو فاعل اصلي في الجريمة وفق احكام المادة (333) عقوبات وليس شريكاً فيها اذ ان الركن المادي كما مر بنا مثلما ياخذ صورة ممارسة التعذيب فعلاً فان الصورة الثانية له هي الامر بالتعذيب، وكلا الصورتين يمثل السلوك (الفعل) الاجرامي للركن المادي في الجريمة وهو العنصر الاول فيه – والذي بيناه في ما تقدم- اما العنصر الثاني فهو النتيجة الجرمية وهو ما سنعمل على أيضاحه في الفقرة التالية.

2- النتيجة الجرمية في جريمة التعذيب

يقصد بالنتيجة الجرمية التغيير الذي يحدث في العالم الخارجي كأثر للسلوك الاجرامي ، وهي بذلك تعد عنصر من عناصر الركن المادي في الجريمة(4)، فيحقق عدواناً ينال مصلحة او حقاً قدر الشارع جدارته بالحماية الجزائية، مما يعني ان للنتيجة الجرمية مدلولين احدهما مادي، وهو التغيير الناتج عن                  السلوك الاجرامي في العالم الخارجي ، والاخر قانوني هو العدوان الذي ينال مصلحة او حقاً يحميه القانون(5).

وقد يبدو للوهلة الاولى لمستقرئ نص المادة (333) عقوبات ان النتيجة الجرمية المعاقب عليها في جريمة التعذيب هي (حمل المتهم او الشاهد او الخبير على الاعتراف بجريمة او الادلاء باقوال او معلومات بشأنها او لكتمان امر من الامور او لاعطاء راي معين بشانها). ولكن ذلك غير صحيح، لانه يؤدي الى اعتبار اعتراف المتهم او ادلاء الشاهد باقوال او اعطاء الخبير لراي ما، عنصراً من عناصر الركن المادي للجريمة. وبالتالي لا تتحقق هذه الجريمة تامة الا اذا اعترف المجني عليه او ادلى باقوال او راي ، وهو ما لا سند له في القانون.

والحقيقة ان النتيجة الجرمية التي يعاقب عليها المشرع في هذا النص والتي تنتج عن الضغط المادي او المعنوي الذي يقوم به الجاني على المجني عليه هي (الايذاء) المادي او المعنوي – وقد المحنا الى ذلك سابقاً عندما صنفنا جريمة التعذيب ضمن جرائم الاشخاص(1)، وذلك الايذاء هو حدث غير مشروع يجرمه المشرع ويعاقب عليه، وهذه النتيجة هي ما يجب استقراؤها من نص المادة (333) عقوبات، وليس اعتراف المتهم او ادلاء الشاهد باقوال او اعطاء الخبير لراي وذلك لان هذه النتيجة الاخيرة هي في حد ذاتها امر مشروع اذ ان من المشروع ان يعترف المتهم او يدلي الشاهد بشهادته او يعطي الخبير رايه في بعض الاحيان . اما اللجوء الى العنف فهو الوسيلة غير المشروعة والتي تؤدي حتماً الى نتيجة غير مشروعة هي ايذاء المجني عليه الخاضع لذلك العنف(2).

وخلاصة القول اذن ان النتيجة المعاقب عليها في جريمة التعذيب هي، أي قدر يلحق المجني عليه من ايذاء مادي او نفسي مهما تضاءل قدره او اشتدت قيمته، وهو ما يفهم من نص المادة اعلاه، ومما يؤخذ على مشرعنا الكريم انه لم يعالج النتيجة الجرمية في جريمة التعذيب بالشكل الصحيح، اذ اشار في المادة المذكورة اعلاه الى الصورة الاقل خطراً فقط للجريمة واغفل الاكثر خطراً منها، فالملاحظ ان المشرع لم يعالج حالة ما اذا ادى التعذيب الى موت المجني عليه، كما فعل المشرع المصري ، اذ نص في المادة 126 من قانون العقوبات على (( كل موظف او مستخدم عمومي امر بتعذيب متهم او فعل ذلك بنفسه لحمله على الاعتراف يعاقب بالاشغال الشاقة او السجن من ثلاث سنوات الى عشر ، واذا مات المجني عليه يحكم بالعقوبة المقررة للقتل عمداً)). ونحن هنا لسنا في معرض استقراء هذا النص في القانون المصري الذي يحمل مواطن ضعف كما فيه مواطن قوة. الا اننا ننتهز هذه الفرصة ونهيب بمشرعنا الكريم عطف نظره على هذا الموضع من نص المادة (333) عقوبات ليشير الى حالة ما اذا مات المجني عليه نتيجة للتعذيب، الذي وقع عليه ، ويعاقب على هذا الفعل بالعقوبة التي تتناسب مع اثره الخطير، الا وهي عقوبة القتل العمد وعدم الركون الى المبادئ العامة التي تحيل مثل هذه الواقعة الى القصد المتعدي وبالتالي تكون العقوبة عليها هي عقوبة الضرب المفضي الى موت، تحت ذريعة ان قصد الجاني لم يكن ازهاق روح المجني عليه بل مجرد ايذائه ولكن قصده تعدى من النتيجة البسيطة وهي الايذاء الى ما هو اكبر منها وهي ازهاق روح المجني عليه .

3- علاقة السببية

وأخيراً فقد يقع السلوك الاجرامي وتتحقق النتيجة الضارة ورغم ذلك ليس هناك مسؤولية جزائية والسبب يعود الى عدم وجود علاقة السببية اذاًَ فلتحقق المسؤولية الجزائية لابد ان ترتبط النتيجة الضارة بعلاقة السببية مع الفعل او السلوك الاجرامي ارتباط السبب بالمسبب، أي ان تقوم بين النتيجة والفعل رابطة السببية، علماً بان السببية تقوم حيث تكون النتيجة التي حدثت محتملة الوقوع وفقاً للسير العادي للامور ، بغض النظر عما اذا كان الجاني قد توقعها ام لا ، الامر الذي يترتب عليه ان السببية عنصر في الركن المادي للجريمة عمدية كانت او غير عمدية، فهي صلة بين ظاهرتين ماديتين ومن ثم فهي ذات طبيعة مادية وليست على صلة بالركن المعنوي ولا شأن لها به(1).

وعليه فلتحقق جريمة التعذيب تامة يجب ان تقوم علاقة السببية بين فعل التعذيب او الامر به والنتيجة الجرمية له وهي الايذاء المادي او المعنوي، وفي حالة عدم قيامها تنتفي المسؤولية الجزائية لتخلف عنصر من عناصر الركن المادي لجريمة التعذيب.

ثانياً: صفة الجاني (ركن خاص)

وهو من الاركان الخاصة التي تطلبها المشرع العراقي في المادة (333) عقوبات حين قال ((… كل موظف او مكلف بخدمة عامة …)).

وبالتالي لتحقق الجريمة يجب ان يكون مقترفها موظفاً او مكلفاً بخدمة عامة وبذلك سوف نأتي على بيان المقصود بهذين المصطلحين:

1- الموظف

لقد عرف المشرع العراقي الموظف العام في قوانين الخدمة المدنية المتعاقبة حيث نص في المادة الثانية من قانون الخدمة المدنية رقم 103 لسنة 1931 على ((الموظف كل شخص عهدت اليه وظيفة في الحكومة لقاء راتب يتقاضاه من الميزانية العامة أو ميزانية خاصة وتابع لاحكام قانون التقاعد)).

كما عرفه في قانون الخدمة المدنية رقم 64 لسنة 1939 في المادة الثانية منه ايضاً بانه ((كل شخص عهدت اليه وظيفة دائمة داخلة في ملاك الدولة الخاص بالموظفين )). وقد استقر المشرع العراقي على هذا التعريف الاخير في قانون الخدمة المدنية رقم 55 لسنة 1956 والمرقم 24 لسنة 1960.

وقد عرف فقهاء القانون الاداري(2) الموظف العام بانه (( الشخص الذي يعمل بصفة دائمة في مرافق الدولة أو القطاع الاشتراكي )).

وبناءً على ما تقدم من تعاريف المشرع وفقهاء القانون الاداري فلكي يعتبر الشخص موظفاً عاماً لا بد أن تكون علاقته بالحكومة تتسم بالدوام أو الاستقرار في خدمة مرفق عام تديره الدولة بالطريق المباشر أو بالخضوع لاشرافها وليست علاقة عارضة والملاحظ بان القانون الاداري يضيق من مفهوم الموظف العام وهو ما يتفق مع طبيعة هذا القانون بينما يذهب القانون الجنائي على الرغم من عدم تضمنه تعريفاً للموظف العام إلى التوسيع من نطاق مفهوم الموظف العام والسبب في ذلك هو انه اراد أن لا يدع فرصة الافلات من العقاب لشاغلي وظيفة عامة بسبب اختلاف التسمية المخصصة له وحسناً فعل المشرع الجنائي من هذه الناحية(1). مما تجدر الاشارة اليه ليس شرط أن يكون الموظف مثبتاً بل يكفي أن يكون تحت التجربة مادام قد صدر به امر التعيين من الجهة التي تملكه(2).

2- المكلف بخدمة عامة

وعلى العكس من الموظف العام فقد تبنى المشرع العقابي العراقي في قانون العقوبات تعريفاً خاصاً للمكلف بالخدمة العامة اذ نصت المادة (19) في فقرتها (2) ((المكلف بخدمة عامة : كل موظف أو مستخدم أو عامل انيطت به مهمة عامة أو خدمة الحكومة ودوائرها الرسمية وشبه الرسمية والمصالح التابعة لها أو الموضوعة تحت رقابتها ويشمل ذلك رئيس الوزراء ونوابه والوزراء واعضاء المجالس النيابية والادارية والبلدية كما يشمل المحكمين والخبراء ووكلاء الدائنين (السنديكيين) والمصفين والحراس القضائيين واعضاء مجالس ادارة ومديري ومستخدمي المؤسسات والشركات والجمعيات والمنظمات و المنشآت التي تساهم الحكومة أو احدى دوائرها الرسمية أو شبه الرسمية في مالها بنصيب ما بأية صفة كانت. وعلى العموم كل من يقوم بخدمة عامة بأجر أو بغير اجر. ولا يحول دون تطبيق احكام هذا القانون بحق المكلف بخدمة عامة انتهاء وظيفته أو خدمته أو عمله، متى ما وقع الفعل الجرمي اثناء توافر صفة من الصفات المبينة في هذه الفقرة فيه)). وبهذا فان المكلف بخدمة العامة يختلف عن الموظف بعدم اشتراط صفة الدوام وعدم الاستقرار بعمله مع الحكومة أي يكفي ارتباطه بعقد مؤقت معها لتحقق صفة المكلف بخدمة عامة فيه.

والعبرة في توفر ركن صفة الجاني في جريمة التعذيب أن يكون الموظف أو المكلف بخدمة عامة متمتعاً بالسلطة التي تمكنه من مزاولة العمل عند ارتكابه هذه الجريمة وان ظهر أن تعيينه كان باطلاً لبعض الاسباب، أو انتهت وظيفته أو خدمته أو عمله بعد ذلك.

والسؤال الذي يطرح نفسه ألان، هل يجب أن يكون الجاني مختصاً قانوناً باستجواب المتهم، أو سماع شهادة الشاهد أو راي الخبير أو حتى سؤالهم لقيام جريمة التعذيب؟ كما وهل يجب أن تقع الجريمة في أوقات الدوام الرسمي؟

فيما يتعلق بجواب الشطر الاول من السؤال فنحن نذهب إلى تأييد الراي القائل بعدم اشتراط أن يكون الآمر بالتعذيب أو القائم به مختصاً باستجواب المتهم أو سؤاله هو أو الشاهد أو الخبير بل قد لا تكون لديه الصلاحيات القانونية لذلك. فمن المتصور من الناحية العملية أن يقع التعذيب من خلال الاتصال المادي بالمتهم المراد اكراهه على الاعتراف أو الادلاء براي أو معلومات، سواء في المكان المحتجز به أو اثناء نقله من مكان إلى اخر. ولعل المثال الواضح لذلك هو قدرة مأمور السجن المودع به المتهم رسمياً على الطلب من رجال الضبط بتعذيبه وهم ليسوا مختصين باستجوابه أو سؤاله(3).

اما فيما يتعلق بالشطر الثاني من السؤال فنعتقد بان وقوع الجريمة لا يرتبط ارتباطاً زمنياً بممارسة الوظيفة وانما يرتبط ارتباطاً سببياً بها، فالعبرة في استخدام الموظف لسلطته على المجني عليه هذه السلطة التي خولته اياه الوظيفة العامة وبالتالي فان قدرته على تعذيب المجني عليه جاءت بسبب سلطته عليه التي قد تمتد إلى ما بعد اوقات دوامه الرسمي وهي بأي حال من الاحوال جاءت بسبب وظيفته. وأخيراً فاننا نرى بانه كان على المشرع العراقي عندما اشترط صفة الجاني لوقوع جريمة التعذيب أن يوسع من نطاق المسؤولية فيما يتعلق بالاشخاص الذين قد يشاركون في ارتكاب الجريمة من غير الموظفين أو المكلفين بخدمة عامة وذلك بان يفرد لهم نصوصاً خاصة كما فعل في جريمة الراشي(1)، ولا يركن للمبادئ العامة التي قد تحمل الفاعل  ممن لم تتوفر به صفة الجاني المسؤولية عن جريمة الايذاء مثلاً، أو الاشتراك بالجريمة وبالتالي يفلت من العقاب اذا افلت الفاعل الاصلي الذي يستمد منه اجرامه.

ثالثاً: صفة المجني عليه

وهو ركن خاص ايضاً اشترطه المشرع عندما نص في المادة (333) عقوبات على ((… عذب أو امر بتعذيب متهم أو شاهد أو خبير …)).

وبهذا فلتطبيق نص المادة اعلاه وتحقق جريمة التعذيب يجب أن يكون المجني عليه متهماً أو شاهداًَ أو خبيراً والا فلا تتحقق جريمة التعذيب وان تحققت جريمة اخرى قد تكون ايذاءً بحسب الاحوال وتحقق اركان هذه الجريمة، وعليه فسوف نبين تباعاً المقصود بكل من المتهم والشاهد والخبير:

1- المتهم

يعرف البعض المتهم في ضوء ما نصت عليه المادة (187) من قانون اصول المحاكمات الجزائية بانه((الشخص الذي اسندت اليه جريمة أو جرائم معينة دلت التحقيقات الابتدائية والقضائية على ارتكابه الجريمة، أو توفرت بعض الادلة في ذلك ))(2).

ولكننا لا نعتقد أن هذا التعريف للمتهم هو ما قصده المشرع في المادة (333) عقوبات، وذلك لانه يحدد جداً من نطاق المسؤولية عن جريمة التعذيب اذ يقصر وقوعها على الاشخاص الذين توجه لهم المحكمة تهمة. وبالتالي لا يعتبر مجنياً عليه من تعرض للتعذيب في مرحلة التحري وجمع الادلة أو التحقيق الابتدائي وذلك لانه لا يعتبر متهماً وفق هذا التعريف بعد. وعليه فاننا نرى بان التعريف الذي يتماشى مع ما نصت عليه المادة (333) عقوبات هو الذي يعرف المتهم بانه كل شخص تحركت نحوه أي سلطة مدفوعة بالاشتباه في مساهمته بارتكاب جريمة معينة بالذات أو بالنوع، يمكن أن يكون اقراره على نفسه – وبما اريد حمله على الاقرار به – مؤدياً إلى محاكمته جنائياً وان لم يؤدي إليها بالفعل(3).

وبهذا فان الجريمة تتحقق اذا تعرض للتعذيب أي شخص حامت نحوه الشبهات من قبل أي سلطة(1) . وهو ما يوسع من نطاق المسؤولية بما لا يؤدي إلى افلات الجناة من سطوة العدالة ويحترم مبادئ حقوق الانسان.

2- الشاهد

يعرف فقهاء القانون المدني الشاهد بانه شخص من الغير يُدعى امام القضاء لاعلان ما يعرفه من وقائع متصلة بالقضية(2).اما تعريف الشاهد في الفقه الجنائي، فهو كل شخص يتم تكليفه بالحضور امام القضاء أو السلطة التحقيقية لكي يدلي بما لديه من معلومات في شأن واقعة ذات اهمية في الدعوى الجزائية(3).

وبهذا فان جريمة التعذيب تتحقق اذا ما وقع التعذيب من قبل موظف أو مكلف بخدمة عامة على شخص كلف بالحضور امام القضاء أو السلطة التحقيقية ليدلي بمعلومات حول واقعة معينة وذلك لحمله على الادلاء بمعلومات معينة أو كتمانها. واننا نعتقد بان مفهوم الشاهد المقصود بالمادة (333) عقوبات لا يقتصر على الشخص الذي يدعى للادلاء بمعلومات امام سلطة تحقيقية أو قضائية بل انه يتسع ليشمل حتى الاشخاص الذين يدعون للادلاء بمعلومات امام أي سلطة سواء كانت قضائية أو ادراية بما في ذلك المدعوين للادلاء بمعلومات امام اعضاء الضبط القضائي في مرحلة التحري وجمع الادلة، وذلك لتوسيع نطاق المسؤولية كي لا يفلت مجرم من العقاب وعليه فاننا نميل إلى تعريف الشاهد بانه الشخص الذي وصلت إلى حاسة من حواسه معلومات عن الواقعة محل الشهادة، ومطابقة تلك الواقعة لحقيقتها التي يشهد بها، سواء في مرحلة الاستدلال أو التحقيق أو القضاء(4).

3- الخبير

يعرف الخبير بصورة عامة بانه الشخص الذي يملك من الصفات والمؤهلات العلمية والفنية في مجال اختصاصه الفني والمهني والتي تمكنه من اعطاء الراي الصائب بخصوص المهمة المنتدب اليها شرط إن يؤديها بصدق وامانة وبكل تجرد وحياد دون تحيز ظاهر أو خفي بالنسبة لاي جهة كانت من الاطراف في الدعوى. اما الخبير الجنائي فهو الشخص المكلف بخدمة عامة والمطلوب منه اعطاء رايه الفني فيما يختص بجسم الجريمة أو الادوات المستعملة في ارتكابها وآثارها الجرمية وغيرها لبيان الحقيقة والوقوف على مدلولها ، وذلك لغرض الاستعانة به بغية ادانة المتهم أو الحكم ببراءته من قبل المحكمة المختصة(1).

لذلك لا يعد خبيراً إلا من تطلبت مهمته عنصرين اساسيين هما الادراك والاستنتاج، حتى يتمكن من مساعدة القاضي في تكوين عقيدته في الدعوى المطروحة امامه(2).

واننا نذهب هنا كما في سابقيه إلى التوسيع من المقصود بمفهوم الخبير المشار اليه في المادة اعلاه، ليشمل كل شخص يستعين به قاض لابداء راي في مسالة تحتاج إلى خبرة بغض النظر عن مدى علمه ودرايته بالموضوع أو حياده واخلاصه في العمل.

رابعاً: الركن المعنوي ((القصد الجرمي))

قد يرتكب فعل التعذيب شخص تتوفر به صفة الجاني على شخص تتوفر به صفة المجني عليه ورغم وجود علاقة السببية بين فعله والنتيجة الجرمية إلا أن الجريمة لا تتحقق، وذلك لان الجريمة ليست مجرد كيان مادي يتشكل من الفعل وما قد يترتب عليه من آثار، وانما هي كيان شخصي ايضاً(3).

لذلك لابد من توافر الركن المعنوي، وبما أن جريمة التعذيب من الجرائم العمدية فان القصد الجرمي هو صورة الركن المعنوي فيها. واذا رجعنا إلى نص المادة (333) عقوبات والتي جاء فيها ((… لحمله على الاعتراف بجريمة او الادلاء باقوال او معلومات بشأنها او لكتمان امر من الامور او لاعطاء راي معين بشأنها)). نجد بانه لا يكفي اتجاه ارادة الموظف او المكلف بخدمة عامة الى ايذاء المتهم او الشاهد او الخبير ايذاءً يصدق عليه وصف التعذيب فحسب، بل يجب ان تتجه ارادته فضلاً عن ايذاء المجني عليه الى حمله على الاعتراف او الادلاء باقوال او معلومات او لكتمانها او لاعطاء رأي بحسب الاحوال، أي يجب ان يكون لدى الجاني غرض معين او قصد خاص هو حمل المجني عليه على الاعتراف او الادلاء بمعلومات او اقوال… الخ، وبالتالي فان ايذاء المجني عليه بدافع التسلية او الانتقام من قبل الجاني لا يحقق جريمة التعذيب وفق احكام المادة (333) عقوبات وذلك لانتفاء القصد الجرمي الخاص بانتزاع اعتراف او معلومات او اقوال او راي او لكتمانها من المجني عليه(4).

هذا وان اعتراف المتهم او ادلائه باقوال او معلومات …الخ ليس شرطاً لاكتمال الجريمة، بل ان الجريمة تقع كاملة ولو لم يعترف المتهم بشيء او لم يدلي الشاهد باقوال معينة او الخبير براي معين، فالعبرة بانصراف نية الجاني الى تحقيق ذلك وبما تحقق من ايذاء للمجني عليه نتيجة استعمال العنف المادي او المعنوي(5). ولو كان اعتراف المجني عليه او ادلائه باقوال او معلومات …الخ، شرطاً لاكتمال الجريمة لاصبحت المادة (333) عقوبات غير قابلة للتطبيق و لأفلت الجاني من العقاب بمجرد امتناع المجني عليه من الاعتراف رغم تعذيبه مثلاً.

ولا يشترط في الاعتراف او الادلاء بالمعلومات او الاقوال …الخ ان يكون امام محكمة الموضوع ولا ان يكون امام سلطة تحقيقية او ان يكون قد سبقه او عاصره استجواب، فمحاولة الحصول على أي اعتراف من المجني عليه على نفسه او على الغير او ادلائه بمعلومات او اقوال حتى ولو كان بصورة اخبارالسلطات العامة يحقق الجريمة(1) . كما يحققها اجباره على كتمانها.

وأخيراً لم يبق لنا في تحليل نص المادة (333) عقوبات الا بيان عقوبة الجريمة وذلك للاحاطة بالموضوع من جميع جوانبه وهذا ما سوف نعمل عليه في الفقرة التالية:

عقوبة الجريمة

ان عقوبة جريمة التعذيب وفق احكام المادة (333) عقوبات هي الحبس او السجن، وبالتالي فان للقاضي سلطة تقديرية يستطيع من خلالها ان يخفض العقوبة من السجن الذي قد يصل الى خمس عشرة سنة الى ثلاثة اشهر، وهذا باعتقادنا لا يتناسب مع خطورة الجريمة ومساسها بحقوق الانسان وضمانات التحقيق والمحاكمة . وبالتالي فاننا نهيب بمشرعنا الكريم تشديد العقوبة وذلك بتحديد حد ادنى لها لا يقل عن ثلاث سنوات، ليكون ذلك رادعاً لكل من تسول له نفسه الاعتداء على حقوق الانسان وضماناته وتبقى للقاضي سلطة تقديرية مناسبة اذا راى بان الفعل الذي اقترفه الجاني لا يتناسب وعقوبة السجن.

المطلب الثاني

امر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم (7) قانون العقوبات

لقد نص أمر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم (7) القسم (3) العقوبات الفقرة رقم (2) على: ((يحظر التعذيب وتحظر المعاملة او العقوبة القاسية او المهينة او غير الانسانية)).

من استقراء هذا النص نجد بأنه قد أكد على حظر التعذيب وهو – كما مر بنا- جريمة معاقب عليها في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969. وقد عملنا على تفصيلها سابقاً. كما عالج هذا الامر موضوع المعاملة او العقوبة القاسية او المهينة او غير الانسانية، وان ما يهمنا في بحثنا هذ – لصلته بجريمة التعذيب- هو المعاملة وليس العقوبة القاسية او المهينة او غير الانسانية.

وهي ايضاً جريمة نص عليها المشرع العراقي في قانون العقوبات في المادة 332 عقوبات حين قال: ((يعاقب بالحبس مدة لاتزيد على سنة وبغرامة لاتزيد على مائة دينار او باحدى هاتين العقوبتين:-

كل موظف او مكلف بخدمة عامة استعمل القسوة مع احد من الناس اعتماداً على وظيفته فأخل باعتباره او شرفه او احدث الماً ببدنه وذلك دون الاخلال بأية عقوبة أشد ينص عليها القانون)).

ومما يلاحظ على هذا النص بأن جريمة استعمال القسوة تختلف عن جريمة التعذيب من حيث اركانها ، وهي:

1- صفة الجاني، اذ ان مفهوم الموظف او المكلف بخدمة عامة الذي نصت عليه المادة(333) عقوبات في جريمة التعذيب ينصرف الى اعضاء الضبط القضائي ورجال الشرطة ومنتسبي سلطة التحقيق او المحكمة، ولكن هذا النص في جريمة استعمال القسوة ينصرف الى كل موظف او مكلف بخدمة عامة في الدولة فقد يكون موظف في دائرة التسجيل العقاري(1).

2- صفة المجني عليه ان صفة المجني عليه في جريمة التعذيب هي ركن خاص فيها وبالتالي يجب ان تقع الجريمة على متهم او شاهدٍ او خبيرٍ في حين تقع جريمة استعمال القسوة على أي فرد من آحاد الناس قد لا يكون طرفاً في أي دعوى جزائية(2).

3- الركن المعنوي ، اذ ان اهم ما يميز جريمة التعذيب عن جريمة استعمال القسوة هو القصد الجرمي اذ يشترط لوقوع جريمة التعذيب ان يكون لدى الجاني قصد خاص هو حمل المجني عليه على الاعتراف او الادلاء بمعلومات او كتمانها بينما يكفي كركن معنوي لوقوع جريمة استعمال القسوة ايذاء المجني عليه بدافع الانتقام او التلذذ او التسلية دون قصد حمله على الاعتراف(3). وبالتالي فان الامر قم (7) عقوبات جاء مؤكداً على مبادئ عامة قد تبناها المشرع العراقي مسبقاً فيما يتعلق بجريمة التعذيب او استعمال القسوة وكان من الاولى عليه لو جاء مشدداً العقوبة على مرتكبيها كاسلوب من اساليب الضغط على الجناة للحد من وقوع هذه الجرائم.

المطلب الثالث

أثر جريمة التعذيب على اجراءات الدعوى التي تقع فيها

لقد اشرنا سابقاً بان هناك جانباً كبير من الفقه القانوني يذهب الى ان الاكراه – وبالتالي التعذيب- يبطل الاعتراف او الشهادة او الخبرة(4). اذ انها يجب ان تصدر بارادة حرة خالية من أي تاثير ناتج عن وعد او وعيد(5). وبالتالي لا يجوز الاستناد الى الاعتراف او الاقوال او الراي الذي يصدر من صاحبه في حالة فقدان الارادة كما لو كان تحت تأثير أي نوع من انواع الاكراه مادياً كان ام معنوياً.

وعليه فان التعذيب يشوب الاعتراف او الشهادة او الخبرة بشائبة الاكراه متى ما كانت هناك علاقة سببيه بينها وبين التعذيب بحيث يكون الاعتراف او الشهادة او الخبرة ناشئة عن التعذيب وبسببه وهذا اتجاه سليم قد تبناه المشرع العراقي في المادة (218) من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971، والتي نصت على (( يشترط في الاقرار ان لا يكون قد صدر نتيجة اكراه مادي او ادبي او وعد او وعيد. ومع ذلك اذا انتفت رابطة السببية بينها وبين الاقرار او كان الاقرار قد ايد بادلة اخرى تقتنع معها المحكمة بصحة مطابقته للواقع او ادى الى اكتشاف حقيقة ما جاز للمحكمة ان تأخذ به.)).

من تحليل هذا النص نجد بان المشرع العراقي قد تبنى اتجاهين يختلفان عن بعضهما اختلافاً جذرياً ففي الاتجاه الاول وهو الراجح يشترط لقبول الاقرار– كما نصت المادة اعلاه(1)- ان ينجم عن وسيلة مشروعة وبالتالي يرفض الاقرار الصادر عن الارادة غير الحرة المشوبة بالاكراه المادي او المعنوي(2) وبالتالي يعتبره اقراراً باطلاً لا يحق للمحكمة الاستناد عليه. وحسناً فعل بذلك اذ ان رفض الاقرار المشوب بالتعذيب فيه كفالة لضمانات المتهم واحترام لحقوق الانسان وتحقيقاً للعدالة التي تقتضي ((ان يفلت مئة مجرم من العقاب على ان يعاقب بريئاً واحداً)).

ولكننا نلاحظ ان المقطع الاخر من المادة اعلاه ينص فيه المشرع على ان انتفاء علاقة السببية بين التعذيب والاقرار ينفي بطلانه، وهذا اتجاه صائب ايضاً اذ انه يعني ان المتهم لم يكن مجبراً على اقراره هذا لانه – أي الاقرار – لم يكن وليداً للتعذيب بل انه صدر عن المتهم باختياره ولم يكن للتعذيب أي دور في صدوره مطلقاً.

ولكن المثير للاستغراب هو ما نص عليه المشرع بعد ذلك من ان تاييد الاقرار المنتزع بالتعذيب بأدلة اخرى او حقيقة ما يجيز للمحكمة ان تأخذ به وكأنما هذه الادلة او الحقيقة اضفت المشروعية على الاساليب غير المشروعة التي انتزع الاقرار من خلالها وهذا اتجاه منتقد اذ أن تأييد الاقرار الناجم عن الاكراه بادلة اخرى  او حقيقة ما لا يرفع عنه شائبة الاكراه وكونه وليد اجراء غير مشروع وهذا بالتالي تجاوز على شرط اساسي من شروط صحة الاعتراف، وهو ان يكون صادراً من المتهم باختياره كما ان هذا الاستثناء الوارد في المادة اعلاه يعطي لسلطات الضبط والتحقيق او المحكمة الحق في ان تلتمس الحقائق باعتدائها على المتهم او الضغط على ارادته وكانما غابت عن الاذهان قاعدة قانونية راسخة هي كون ما بني على باطل فهو باطل وان هذا الاستثناء خطير جداً وقد يؤدي الى ضياع حقوق المتهم وضماناته كما انه اعتداء سافر على قرينة البراءة التي تعتبر المتهم بريئاً حتى تثبت ادانته والتي نص عليها الدستور العراقي الدائم(2).

وبهذا فاننا نرى بانه كان من الاولى على مشرعنا الكريم ان يكتفي بالمقطع الاول من هذه المادة ولا يورد عليها أية استثناءات. وهذا ما فعلته مذكرة سلطة الائتلاف المؤقتة رقم (3) ،الاجراءات الجزائية، القسم (4)، الخاصة بايقاف وتعديل النصوص والتي جاء فيها ((تعلق او تعدل النصوص التالية من قانون اصول المحاكمات الجزائية:

ل- يلغى كل ما جاء في المادة 218 بعد كلمة (اكراه).)).

وبالتالي سيكون نص المادة 218 بعد التعديل كالاتي :

((يشترط في الاقرار ان لا يكون قد صدر نتيجة اكراه)) وهذا اتجاه جيد، الا اننا كنا نفضل لو تم النص صراحة في المذكرة اعلاه على بطلان الاعتراف اذا كان ناجماً عن اكراه. لان في ذلك ضمانة هامة للمتهم من التعذيب كما اننا كنا نفضل لو ان المشرع الجزائي اصلاً قد حذا حذو المشرع العقابي والذي لم يقصر الحماية من التعذيب على المتهم فقط بل شمل معه الشاهد والخبير لان كليهما معرض لهذه الجريمة . وعليه فاننا نغتنم هذه الفرصة وندعو مشرعنا الكريم الى عطف نظره على هذه المادة آخذاً بنظر الاعتبار ما تبناه الدستور العراقي الدائم في المادة 37 الفقرة ج حيث نص على ((… ولا عبرة باي اعتراف انتزع بالاكراه او التهديد او التعذيب.)). ويقرر بطلان الاعتراف او الشهادة او الخبرة اذا نتجت عن التعذيب تحقيقاً للعدالة وعقوبة اضافية على هذه الجريمة الشنيعة التي تنتهك حقوق الانسان لا حقوق من وقعت عليه فحسب.

الخاتمة

لقد بينا في مقدمة بحثنا المتواضع هذا، ان موضوعه من اكثر مواضيع القانون خطورة واهمية، وفي الوقت نفسه حاجة للبحث والتقصي في الوقت الحاضر، بوصفه – أي التعذيب- عدم احترام السلطة للقانون، وبالتالي لا يمكن بناء بلد متحضر وفي اساسه تنخر آفة التعذيب.

وبعد ان اكملنا هذا البحث المتواضع، نستطيع القول باننا حاولنا الوقوف في المواضع التي استوجبت منا ذلك، وحاولنا ابداء الراي في جميع المسائل التي استلزمت ذلك، لسلبيتها مثلاً، او لقصورها، او لكونها تحمل في طياتها جوانب ايجابية ينبغي التوسيع في بلورة ما تحمله من مداليل حسنة.

وفيما يلي نحاول استذكار اهم ما توصلنا اليه في متن هذا البحث بشكل موجز في عباراته تام في معناه، اذ ان كل ما توصلنا اليه معروض بالتفصيل في متن هذا البحث.

فقد وجدنا عند بحثنا في المبحث الاول ان المشرع العراقي لم يعرف التعذيب وترك ذلك للفقه الذي عرفه من وجهات نظر مختلفة يذهب فيها البعض الى حصره في الاكراه المادي في حين يتوسع البعض الاخر في مفهومه ليشمل الاكراه المعنوي ايضاً وهذا ما ذهبنا الى تاييده وبالتالي عرفنا التعذيب كخلاصة لذلك بانه ((الضغط المادي او المعنوي على ارادة المجني عليه (المتهم او الشاهد او الخبير) بكل نشاط عمدي يبذله الجاني (الموظف او المكلف بخدمة عامة) ايجاباً كان ام سلباً والذي يسبب ايلاماً او معاناة جسدية أو نفسية او عقلية للمجني عليه، لحمله على الاعتراف بجريمة ما، او للادلاء باقوال او معلومات بشانها او لكتمان امر من الامور او لاعطاء راي معين بشأنها)) . بعد ذلك ارتأينا ان نبحث صور التعذيب في المطلب الثاني من هذا المبحث في فقرتين الاولى لصور التعذيب التقليدية ، اما الفقرة الثانية فكانت لبحث صور التعذيب الحديثة ونقصد بها التعذيب باستخدام الوسائل العلمية الحديثة ، وقد دعونا لعدم استخدامها في التحقيق لما تنطوي عليه من تعذيب للمختبر بها.

اما ثالث مطالب هذا المبحث فقد عالجنا به علة تجريم التعذيب والتي لخصناها في سببين اساسيين الاول هو كون التعذيب انتهاك سافر لحقوق الانسان وذلك من خلال خرقه لحقوق وحريات كفلها له الاعلان والاتفاقات والعهود الدولية وكذلك الدساتير والقوانين الداخلية وقد بحثنا ذلك وحاولنا ان نقف عند كل تلك الحقوق والحريات. اما السبب الاساس الاخر فهو كون التعذيب يعدم الارادة وهذا ما اتفق عليه معظم فقهاء القانون واتفق مع المنطق. هذا وعند بحثنا جريمة التعذيب في قانون العقوبات العراقي واثرها الاجرائي في المبحث الثاني ارتأينا معالجتها في ثلاثة مطالب الاول كان لبحثها في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969. والذي نص عليها في المادة 333 منه ، والتي من تحليلها وجدنا ان لجريمة التعذيب وفقها اربعة اركان، ولكن قبل بحثهم فضلنا تصنيف جريمة التعذيب وتحديد النشاط الاجرامي فيها، وقد خلصنا الى ان جريمة التعذيب من جرائم الاشخاص، وبالتالي فان اطار النشاط الاجرامي فيها يكون في اطار النشاطات الجرمية لهذه الجرائم، وكان لنا في اثبات ذلك حجتين الاولى ان المصلحة المحمية التي تشترك جميع جرائم الاشخاص في الاعتداء عليها هي حق الانسان في السلامة العامة لجسمه وعقله وهي عينها المصلحة التي تطالها جريمة التعذيب بالانتهاك اما الثانية فهي ان جرائم الاشخاص من الجرائم المادية وهو نفس الحال بالنسبة لجريمة التعذيب المادية.

وفيما يتعلق باركان جريمة التعذيب فقد بحثناها في اربع اركان :

الركن الأول وهو الركن المادي وقد قمنا ببحثه من خلال عناصره التي كان اولها السلوك الاجرامي والذي له صورتين فيها الاولى هي ممارسة التعذيب فعلاً، وهو كما وجدناه كل اعتداء مادي او معنوي يقع من موظف او مكلف بخدمة عامة على متهم او شاهد او خبير لحمله على الاعتراف او الادلاء باقوال او معلومات بشأن جريمة ما او لكتمان امر من الامور او لابداء راي معين بشانها وكان لنا في تبرير اعتقادنا بهذه الفكرة حجج مختلفة اوردناها في متن البحث .

وعند بحثنا لهذا الموضوع اثرنا سؤال مهم جداً لموضوع بحثنا، وهو هل يشترط في فعل التعذيب درجة معينة من الجسامة لتحقق الجريمة؟ وفي الاجابة كان هناك رأيان الاول يذهب الى عدم تحقق الجريمة الا اذا وصل الاعتداء الى درجة معينة من الجسامة والعنف ، وقد احتج انصار هذا الرأي بحجج اوردناها في متن البحث . اما الرأي الثاني وهو الراجح فيذهب الى قيام جريمة التعذيب اياً كانت درجة جسامة الفعل ، وكان لانصار هذا الراي حججهم ايضاً .

وقد ذهبنا الى تاييد انصار الراي الثاني وذلك لاننا نعتقد فضلاً عما قدموه من حجج، بوقوع التعذيب المادي والمعنوي ، وبالتالي فان باعتقادنا العبرة ليس بجسامة الفعل المرتكب بل بما يحدثه من اثر في نفس الواقع عليه وتاثيره في ارادته بالتالي.

هذا وان المشرع العراقي في المادة (333) عقوبات لم يشترط درجة عالية من الجسامة لتحقق التعذيب بل على العكس من ذلك، اذ يفهم من ايراده للمقطع الاخير من المادة اعلاه اتجاهه الى تضمن مفهوم التعذيب حتى ابسط صور الاعتداء كاستعمال القوة او التهديد. وهنا انتهزنا هذه الفرصة واخذنا على المشرع الكريم، ايراده لهذا المقطع من نص المادة (333)، وذلك لانه براينا اسهاب لا مسوغ له، اذ ان مفهوم التعذيب يتسع اصلاً ليتضمن استعمال القوة والتهديد وبالتالي اهبنا بمشرعنا الكريم رفع هذا المقطع من نص المادة.

اما الصورة الثانية للسلوك الاجرامي فهي الامر بالتعذيب، وبعد ان عرفنا الامر باعتباره قرار اداري، وجدنا بانه من غير المتصور ان نجد امراً لائحياً بالتعذيب في ظل الحظر الدستوري وتعريف الامر الذي يعتبر المشروعية اولى عناصره .

وفي العنصر الثاني للركن المادي لجريمة التعذيب وهي النتيجة الجرمية فقد، اشرنا الى ان الوهلة الاولى لمستقرأ نص المادة (333) عقوبات تحوي بان النتيجة الجرمية هي حمل المتهم او الشاهد او الخبير على الاعتراف او الادلاء باقوال او اعطاء راي عن الجريمة . ولكننا وجدنا بان ذلك غير صحيح لانه يؤدي الى اعتبار كل ذلك عنصراً من عناصر الركن المادي ، وبالتالي لا تتحقق الجريمة الا بتحققها، وهو ما لا سند له بالقانون والحقيقة ان النتيجة الجريمة التي يعاقب عليها المشرع في هذا النص والتي تنتج عن الضغط المادي او المعنوي الذي يقوم به الجاني على المجني عليه هي الايذاء المادي او المعنوي للمجني عليه.

وهنا ايضاً لفتنا النظر الى ان علاج النتيجة الجرمية في هذا النص لم يكن بالشكل المطلوب ان المشرع نص على النتيجة الابسط نسبياً واغفل النص على الاجسم منها وهي حالة ما اذا مات المجني عليه نتيجة التعذيب، وهنا اهبنا بمشرعنا الكريم ايضاً عطف نظره على هذه المادة، والاشارة الى حالة ما اذا مات المجني عليه نتيجة التعذيب، وعقاب الجاني بالعقوبة التي تتناسب مع فعله وهي عقوبة القتل العمد، وعدم ايكال هذا الموضوع للمبادئ العامة التي تحيله إلى القصد المتعدي ، وبالتالي الحكم على الجاني بعقوبة الضرب المفضي إلى الموت على اساس أن قصده لم يكن ازهاق روح المجني عليه بل ايذائه. وأخيراً في الركن المادي اشرنا في اخر عناصره إلى علاقة السببية التي يجب أن تكون بين السلوك الاجرامي والنتيجة الجريمة للتحقق الجريمة.

اما الركن الثاني للجريمة وهو ركن خاص تطلبه المشرع لتحققها في المادة (333) عقوبات هو صفة الجاني في أن يكون موظفاً أو مكلفا بخدمة عامة. وقد بينا كل منهما في ضوء الفقه والقانون.

وقد اثرنا في معالجتنا لهذا الركن تساؤل، مضمونه هل يجب أن يكون الجاني مختصاً قانوناً باستجواب المتهم أو سماع شهادة الشاهد أو راي الخبير أو حتى سؤالهم لقيام جريمة التعذيب؟ كما وهل يجب أن تقع الجريمة في اوقات الدوام الرسمي؟

وكان الجواب انه لا يشترط ذلك، كما أن وقوع الجريمة لا يرتبط ارتباطاً زمنياً لممارسة الوظيفة وانما يرتبط ارتباطاً سببياً بها، فالعبرة في استخدام الموظف لسلطته على المجني عليه سواء اكان ذلك داخل أو خارج أوقات الدوام الرسمي .

وأخيراً في هذا الصدد فقد اشرنا إلى انه كان على المشرع الكريم عندما اشترط صفة الجاني لوقوع الجريمة أن يوسع من نطاق المسؤولية فيما يتعلق بالاشخاص الذين قد يشاركون في ارتكاب الجريمة من غير الموظفين أو المكلفين بالخدمة العامة وذلك بان يفرد لهم نصاً خاصاً كما فعل في جريمة الراشي، ولا يركن للمبادئ العامة التي قد تحمل الفاعل ممن لم تتوفر به صفة الجاني المسؤولية عن جريمة الايذاء مثلاً، أو الاشتراك بالجريمة، وبالتالي يفلت من العقاب اذا افلت الفاعل الاصلي الذي يستمد منه اجرامه.

هذا وقد كان الركن الثالث خاصاً ايضاً اشترطه المشرع في نص المادة العقابية اعلاه وهو صفة المجني عليه في أن يكون اما متهماً أو شاهداً أو خبيراً وقد افردنا فقرة لكل منهم وذهبنا إلى التوسع في تعريفهم وعدم تضييق مفاهيمهم لتوسيع نطاق المسؤولية عن الجريمة وكفل اكبر شريحة ممكنة بالحماية الجنائية لهذه المادة . وكان اخر اركان هذه الجريمة العامة هو الركن المعنوي والمتمثل بالقصد الجرمي، والذي وجدنا فيه بانه لا يكفي اتجاه ارادة الجاني إلى ايذاء المجني عليه ايذاءً يصدق عليه وصف التعذيب فحسب ، بل يجب أن تتجه ارادته فضلاً عن ايذاء المجني عليه إلى حمله على الاعتراف أو الادلاء باقوال أو راي بشأن الجريمة، أي يجب أن يكون لدى الجاني غرض معين أو قصد خاص هو حمل المتهم على الاعتراف أو الشاهد على الادلاء بمعلومات معينة أو كتمانها أو الخبير بابداء راي معين أو كتمانه.

ولكن هذا لا يعني أن يكون اعتراف المتهم أو ادلاء الشاهد أو الخبير باقوال أو آراء أو كتمانها شرطاً لاكتمال الجريمة، بل أن الجريمة تقع كاملة ولو لم يعترف المتهم بشيء أو الشاهد باقوال معينة أو الخبير براي معين، اذ أن العبرة بانصراف نية الجاني إلى تحقيق ذلك وبما تحقق من ايذاء للمجني عليه نتيجة استعمال العنف المادي أو المعنوي. ولو كان اعتراف المجني عليه أو ادلائه بمعلومات أو رأي، شرطاً لاكتمال الجريمة لاصبحت المادة (333) عقوبات غير قابلة للتطبيق ولأفلت الجاني من العقاب بمجرد امتناع المجني عليه من الاعتراف رغم تعذيبه مثلاً.

وفيما يتعلق بعقوبة الجريمة فبعد نقاشها ارتأينا أن نهيب بمشرعنا الكريم إلى تشديد العقوبة، وذلك بتحديد حد ادنى لها لا يقل عن ثلاث سنوات، ليكون ذلك رادعاً لكل من تسول له نفسه الاعتداء على حقوق الانسان وضماناته.

وفي المطلب الثاني من هذا المبحث ناقشنا امر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم (7) قانون العقوبات القسم(3) الفقرة (2)، ومن استقرائه وجدنا بانه اكد على حظر التعذيب وهو جريمة معاقب عليها في قانون العقوبات وقد كانت موضوع بحثنا كما عالج هذا الامر موضوع المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاانسانية أو المهينة. وبالتالي فقد وجدنا بان الامر رقم (7) جاء مؤكداً على مبادئ عامة قد تبناها المشرع العراقي مسبقاً فيما يتعلق بجريمة التعذيب او استعمال القسوة وكان من الاولى عليه لو جاء مشدداً للعقوبة على مرتكبها كاسلوب من اساليب الضغط على الجناة للحد من وقوع هذه الجريمة.

اما المطلب الثالث والاخير في بحثنا المتواضع هذا فقد عالجنا به اثر جريمة التعذيب على اجراءات الدعوى التي تقع فيها، وقد ذكرنا ابتداءً بالاتجاه الفقهي الراجح الذي اشرنا اليه مسبقاً من بطلان الاعتراف او الشهادة او الخبرة اذا ما اتم انتزاعها باكراه. واشرنا في هذا الصدد الى نص المادة 218 من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971، والتي تبنى فيها المشرع اتجاهين مختلفين عن بعضهما اختلاف شاسع ففي الاتجاه الاول وهو الصائب اشترط المشروعية لقبول الاعتراف ولكنه اورد على ذلك استثناء خطير والذي يمثل الاتجاه الخاطئ وهو جواز قبول هذا الاعتراف اذا تأيّد بادلة اخرى او ادى الى حقيقة ما، وهذا اتجاه انتقدناه، لأنه سوف يعطي لسلطات الضبط والتحقيق والمحكمة ان تلتمس الحقائق باعتدائها على المتهم او الضغط على ارادته وهو يؤدي الى ضياع حقوق المتهم وضماناته كما انه اعتداء سافر على قرينة البراءة التي كفلها الدستور للمتهم. وبالتالي فقد راينا بانه كان من الاولى على مشرعنا ان يكتفي بالمقطع الاول من هذه المادة دون ايراد اي استثناء عليها. وهذا ما فعلته مذكرة سلطة الائتلاف المؤقتة رقم (3) الاجراءات الجزائية، القسم (4) الخاصة بايقاف وتعديل النصوص ، والتي الغت كل ما جاء بعد كلمة (اكراه) من نص المادة 218. وقد باركنا هذا الاتجاه الا اننا كنا نفضل لو تم النص صراحة في المذكرة اعلاه على بطلان الاعتراف اذا كان ناجماً عن اكراه.

ثم دعونا المشرع الجزائي الى حذو حذو المشرع العقابي في عدم قصر الحماية من الاكراه وبالتالي التعذيب على المتهم بل ان يشمل معه الشاهد والخبير لان كليهما معرض لذلك.

وأخيراً فقد دعونا مشرعنا الكريم الى عطف نظره على المادة اعلاه آخذاً بنظر الاعتبار ما تبناه الدستور العراقي الدائم في المادة 37 الفقرة ج من بطلان الاعتراف المنتزع بالتعذيب ويقرر بطلان الاعتراف او الشهادة اوالخبرة  اذا نتجت عن التعذيب تحقيقاً للعدالة وعقوبة اضافية على هذه الجريمة الشنيعة التي تنتهك حقوق الانسان لا حقوق من وقعت عليه فحسب.

المصادر

  • د. احمد فتحي سرور، الوسيط في قانون الاجراءات الجنائية، الجزء الاول ، المبادئ الاساسية للاجراءات الجنائية، مطبعة القاهرة- 1979.

  • د.احمد يوسف محمد السولية ، الحماية الجنائية والامنية للشاهد، دراسة مقارنة ، دار النهضة العربية – القاهرة- 2006.

  • د.اكرم نشأت ابراهيم ، علم النفس الجنائي ، الطبعة السابعة ، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع -1998.

  • د.آمال عبد الرحيم عثمان، شرح قانون الاجراءات الجنائية، دار النهضة العربية ، 1975.

  • بدر السعد المنيع، قانون الاجراءات والمحاكمات الجزائية والتعليق على نصوصه، دون مطبعة ، او سنة طبع.

  • جندي عبد الملك ، الموسوعة الجنائية ، ج1 ، الطبعة الأولى، مطبعة دار الكتب المصرية، بالقاهرة ، 1932.

  • د.حسن صادق المرصفاوي، المرصفاوي في اصول الاجراءات الجنائية، منشأة المعارف، 1977.

  • د.حسن علام، قانون الاجراءات الجنائية، المجلد الاول، مؤسسة روز اليوسف 1982.

  • د.حكمت موسى سلمان، طاعة الاوامر وأثرها في المسؤولية الجزائية، ط1، بغداد، 1987.

  • حميد السعدي ، شرح قانون العقوبات الخاص، ج1، في جرائم الاشخاص ، مطبعة المعارف – بغداد 1963-1964.

  • د.رؤوف عبيد، مبادئ الاجراءات الجنائية في القانون المصري، ط5، 1964.

  • رمزي رياض عوض، الحقوق الدستورية في قانون الاجراءات الجنائية ، دراسة مقارنة ، دار النهضة 2003.

  • د.رمسيس بهنام، القسم الخاص في قانون العقوبات، منشأة المعارف، 1982.

  • د.سامي صادق الملا، اعتراف المتهم ، ط2، المطبعة العالمة 1975.

  • د.سلطان الشاوي، اصول التحقيق الاجرامي، شركة اياد للطباعة الفنية، 1982.

  • د.سليم ابراهيم حربة، القتل العمد واوصافه المختلفة ، ط1، مطبعة بابل ، 1988.

  • شكر محمود سليم، الشهادة امام القضاء المدني ، رسالة ماجستير ، مقدمة إلى كلية القانون جامعة بغداد، 1988.

  • الاستاذ عبد الامير العكيلي و د. سليم حربة ، اصول المحاكمات الجزائية، ج2، مطابع مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر، في جامعة الموصل ، 1980-1981.

  • د.عبد الحميد الشواربي، جرائم الايذاء في ضوء القضاء والفقه، دار المطبوعات الجديدة، 1986.

  • عبد المجيد عبد الهادي السعدون، اعتراف المتهم واثره في الاثبات الجنائي، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية القانون ، جامعة بغداد- 1988.

  • علي السماك، الموسوعة الجنائية في القضاء الجنائي العراقي، ج1،ط1، مطبعة الجاحظ،بغداد، 1990.

  • د.علي حسين خلف و د. سلطان عبد القادر الشاوي، المبادئ العامة في قانون العقوبات ، مطابع الرسالة الكويت ، 1982.

  • د.علي محمد جعفر، قانون العقوبات الخاص، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1987.

  • د.عمر الفاروق الحسيني ، تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف ، مطبعة العربية الحديثة- 1986.

  • المستشار عمرو عيسى الفقي، ضوابط الاثبات الجنائي، منشأة المعارف-1999.

  • د.فخري عبد الرزاق الحديثي ، شرح قانون العقوبات القسم العام, مطبعة الزمان-بغداد،1992 .

  • كريم خميس خصباك البديري، الخبرة في الاثبات الجزائي، رسالة ماجسيتر مقدمة إلى كلية القانون جامعة بغداد 1995.

  • د.مأمون محمد سلامة، الاجراءات الجنائية في التشريع المصري، دار الفكر العربي، 1976.

  • د.مأمون محمد سلامة، الاجراءات الجنائية في التشريع المصري، دار الفكر العربي، 1976.

  • د.ماهر صالح علاوي الجبوري، القانون الاداري، مطبعة التعليم العالي في الموصل، 1989.

  • د.ماهر عبد شويش الدرة، شرح قانون العقوبات القسم الخاص، ط2، مطبعة جامعة الموصل -1997.

  • د.محمد زكي ابو عامر، الحماية الجنائية للحريات الشخصية ، منشأة المعارف-1979.

  • محمد فالح حسن ، مشروعية استخدام الوسائل العلمية الحديثة في الاثبات الجنائي، ط1، مطبعة الشرطة – بغداد، 1987.

  • محمود شريف بسوني، الوثائق الدولية المعنية بحقوق الانسان، المجلد الاول، الوثائق العالمية، الطبعة الاولى 2003، دار الشروق.

  • د.محمود صالح العادلي، استجواب المتهم في المسائل الجنائية،دار الفكر الجامعي،2005.

  • د.محمود محمود مصطفى، شرح قانون الاجراءات الجنائية، ط2، مطبعة دار النشر والثقافة 1953.

  • مراد احمد فلاح العبادي، اعتراف المتهم واثره في الاثبات ، دراسة مقارنة ، دار الثقافة للنشر والتوزيع -2005.

  • منظمة الامم المتحدة، الشرعة الدولية لحقوق الانسان ، صحيفة الوقائع رقم 2، تنقيح (1).

  • د.موسى مسعود ارحومه، قبول الدليل العلمي امام القضاء الجنائي (دراسة مقارنة) ، ط1، منشورات جامعة قان يونس بنغازي ، 1999.

  • د.واثبة داود السعدي ، قانون العقوبات القسم العام، سنة 1988-1989.

الدساتير والقوانين

  • القانون الاساسي العراقي لسنة 1925.

  • الدستور العراقي المؤقت لسنة 1970.

  • قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لعام 2004.

  • دستور جمهورية العراق الدائم لسنة 2005.

  • قانون العقوبات العسكري رقم (13) لسنة 1940.

  • قانون تصديق الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفعل العنصري والمعاقبة عليها في 1/1/1992.

  • قانون تصديق العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في 1/1/1992.

  • قانون المحكمة الجنائية العراقية المختصة بالجرائم ضد الانسانية رقم (1) لسنة 2003.

  • قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم (10) لسنة (2005).

  • قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969.

  • قانون اصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم 23 لسنة 1971.

الاعلانات والقرارات الدولية  

  • الاعلان العالمي لحقوق الانسان، المعتمد بموجب قرار الجمعية العامة رقم 217 ألف (د-3) المؤرخ في 10 كانون الاول / 1948.

  • القواعد النموذجية الدنيا لمعالجة السجناء المعتمدة بالقرارين 663 جيم (د-24) المؤرخ في 31 تموز/1975 و 2076 (د-62) المؤرخ في 13 آيار/1977.

  • اعلان الامم المتحدة للقضاء على جميع اشكال التمييز العنصري المعتمد بالقرار 1904 (د-18) المؤرخ 20 تشرين الثاني / 1963.

  • العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المعتمد بموجب القرار 2200 الف (د-21) المؤرخ 16 كانون الاول /1966.

  • اعلان حماية جميع الاشخاص من التعرض للتعذيب وغيره من ظروف المعاملة والعقوبة القاسية أو اللاانسانية أو الحاطة من الكرامة ـ المعتمد بالقرار 3452 (د-30) المؤرخ في 9 كانون الاول /1975.

  • اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاانسانية أو المهنية المعتمدة في الجلسة العامة رقم 93 المؤرخة 10 كانون الاول /1984.

  • مدونة قواعد سلوك الموظفين المكلفين بانفاذ القوانين، المعتمدة بالقرار 34/169 المؤرخ 17 كانون الاول /1979.

  • مبادئ اداب مهنة الطب المتصلة بدور الموظفين الصحيين، ولاسيما الاطباء، في حماية المسجونيين والمحتجزين من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاانسانية الحاطة بالكرامة، المعتمدة بالقرار 37/194 المؤرخ في 18 كانون الاول /1982 .

  • مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الاشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من اشكال الاحتجاز أو السجن، المعتمدة بموجب القرار 43/173 المؤرخ 9 كانون الاول/1988 .

  • المبادئ الاساسية بشأن استخدام القوة والاسلحة النارية من جانب الموظفين أو المكلفين بانفاذ القوانين ، المعتمدة في 7 ايلول 1990.

  • المبادئ الاساسية لمعاملة السجناء ، المعتمدة بالقرار 45/111 المؤرخ 14 كانون الاول /1990.

  • قانون روما الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في 17 تموز /1998.

  • الدليل المتعلق بالتقصي والتوثيق الفعالين بشأن التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاانسانية المهينة (بروتوكول اسطنبول) المعتمدة بالقرار 55/89 في عام 1999.

فسخ النكاح 300 ريال