سلطة القاضي في تكليف الطرفين بإيداع مستندات

إن الاختلاف الواضح بين الإجراءات المدنية والإدارية يكمن خصوصا في مرحلة استيفاء مستندات الدعوى، وذلك لأن هذه المرحلة هي الكفيلة بمراعاة وضعية عدم التوازن بين الطرفين، خاصة في الحصول على المستندات، بينما تكون مرحلة تحقيق الدعوى متشابهة إلى حد ما، وهذا ما يعكسه توجه المشرع في قانون الإجراءات المدنية والإدارية نحو التفصيل في سلطات وواجبات القاضي الإداري في مرحلة استيفاء مستندات الدعوى، والاكتفاء بشأن سلطاته في التحقيق بالإحالة على ما ورد في الأحكام الخاصة بالدعوى المدنية، إن الممارسة العملية لهذه الوسائل تكشف عن أنها عادة ما تكون في صالح المدعي في دعوى الإلغاء في مواجهة الإدارة مصدرة القرار.

والأصل أن كل شخص يحق له الاحتفاظ بما لديه من أوراق ومستندات أو دفاتر خاصة به، بحيث لا يمكن أن يجبر أحد على تقديم وثيقة لاستخدامها كدليل ضده، أو مفيد لمصلحة غيره.

لكن هذا الأصل المعروف في قواعد الإثبات المدني لا يستقيم مع ظروف الدعوى الإدارية عموما ودعوى الإلغاء خصوصا، التي تتسم بوقوف الفرد أعزلا في مواجهة امتيازات الإدارة، وعلى رأسها حيازتها للأوراق والمستندات مقابل افتقاره لها مع أنه المكلف بعبء الإثبات.

ولهذا فقد حرص المشرع في الجزائر وفرنسا على تخويل المستشار المقرر سلطة تكليف الأطراف بإيداع المستندات التي يراها لازمة ومفيدة في فض النزاع، مع ترتيب النتائج على امتناع أحد الأطراف عن المبادرة إلى ذلك؛ وأخيرا فإن للمستشار المقرر حسب نص المادة 844 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري أن يطلب من الخصوم المستندات والوثائق التي يراها مفيدة لفض النزاع، ويستند المستشار المقرر في فرنسا إلى نصت المادتين (R.611-10 ET R.611-17 C.J.A.) لممارسة هذه السلطة أمام المحاكم الإدارية والمحاكم الإدارية الاستئنافية.

الفرع الأول: أساس سلطة قاضي الإلغاء في طلب تقديم مستندات من الإدارة.

لقد كان لجوء القاضي الإداري عموما وقاضي الإلغاء خصوصا إلى طلب تقديم مستندات من الإدارة محل خلاف فقهي على أساس عدم جواز توجيه أوامر من طرف القاضي للإدارة، غير أنه وإن كان الأصل العام هو استقلال الإدارة عن القضاء إعمالا لمبدأ الفصل بين السلطات، والذي يحظر على القاضي توجيه أوامر للإدارة، إلا أن ذلك لا يحول بين القاضي وبين توجيه أوامر للإدارة في نطاق وسائل التحضير، ومرد ذلك إلى أصل نشأة القضاء الإداري في كنف الإدارة، والثقة المتبادلة بينهما في العمل، وكون تلك الأوامر لا تشكل مساسا باستقلال الإدارة عن القضاء، لأنها في حقيقتها مجرد توجيهات إجرائية وليست أوامر إدارية تمت وظيفة الإدارة أو تهدر استقلالها.

لقد اعتبر بعض الفقه أن هذه السلطة داخلة ضمن دور القاضي في تحقيق ادعاءات الأطراف، وسعيه من أجل تكوين اقتناع المحكمة اللازم للإيفاء بالتزامها بالفصل في الدعوى على أساس دراية كاملة.

كما ذهب البعض إلى اعتبار أن طلب القاضي للمستندات لا يمكن اعتباره أمرا ملزما للإدارة؛ حيث يكون للإدارة الحرية في تقديم المستندات المطلوبة أو رفض ذلك، على أن تتحمل نتيجة رفضها، ومن البديهي أن تقرير هذه النتيجة من اختصاص القاضي بلا نزاع.

أما مجلس الدولة الفرنسي فقد توجه إلى الإقرار للقاضي الإداري بهذا الحق منذ حكم COUESPEL الذي ألزم فيه الإدارة بتقديم كافة الوثائق التي تساهم في تكوين اقتناعه وتسمح بالتحقق من مدى صحة ادعاءات المدعي، ثم تأكد هذا التوجه في حكم BAREL، ومن بعده حكم VICAT BLANC؛ إذ أكد هذان الحكمان حق القاضي في أن يطلب من الإدارة إيداع كافة الملفات والعناصر والوثائق والتقارير التي اتخذ القرار المطعون فيه بالاستناد إليها، وبصفة أكثر عمومية التي تسمح بتقدير مدى مشروعية هذا القرار.

لقد قدم السيد LETOURNEUR مفوض الحكومة من خلال التقرير الذي أعده في قضية BAREL أساسا منطقيا وقانونيا لسلطة القاضي في أمر الإدارة بإيداع المستندات التي استندت إليها في إصدار قرار رفض ترشح المدعيين، أوضح فيه أن الإدارة وإن كانت تتمتع بسلطة واسعة للحكم على صلاحية طالب الالتحاق بالمدرسة ومدى استيفائه للضمانات والشروط المطلوبة للوظائف التي تخولهم هذه المدرسة شغلها، إلا أن هذه السلطة التقديرية تخضع لقدر أدنى من الرقابة يتمثل في استناد القرار إلى سبب موجود ماديا وصحيح قانونيا وغير مشوب بالانحراف بالسلطة، ويترتب على هذه الرقابة أن يكون للمجلس الحق في أن يطلب من الإدارة الإفصاح عن سبب قرارها وتقديم جميع المستندات التي يرى لزومها للوصول إلى تكوين اقتناعه، وإلا فإن الرقابة التي يمارسها ستكون رقابة نظرية مجردة من كل قيمة عملية، وأن القول بأن قاضي الإلغاء يراقب الوجود المادي والقانوني لأسباب القرارات المعروضة عليه سيصبح نوعا من التظاهر، وإذا كان بوسع الإدارة أن تتمتع باختيارها في الإفصاح عن أسباب قراراتها الإدارية، فإن هذا الحل لا يمكن قبوله لأنه ما دمنا قد سلمنا بوجود الرقابة فإنه يجب أن تمارس بصفة فعالة.

والمحكمة الإدارية العليا في مجلس الدولة المصري هي الأخرى قدمت تأسيسا وافيا لهذا الحق بقولها:” إذا كان عبء إقامة الدليل يقع على عاتق المتضرر من القرار، فإن مقتضى إلقاء هذا العبء عليه ألا يحرم عدالة من سبل التمكن من إثبات العكس بفعل الإدارة السلبي أو بتقصيرها متى كان دليل هذا الإثبات بين يديها وحدها وامتنعت بغير مبرر مشروع عن تقديمه أو عجزت عن ذلك لفقده أو هلاك سنده بغير قوة قاهرة، ولا سيما إذا كان دفاعه في تعييب القرار مشتقة من الوثائق المتضمنة لهذا الدليل ومنحصرا فيها، إذ لا يقبل أن يكون وضعه في حال عدم تقديم الجهة الإدارية -لسبب ما- لأوراق التحقيق المحتوية على الأسباب التي قام عليها القرار أسوأ منها في حال تقديم هذه الوثائق”.

كما قضت الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا في الجزائر بأن: “عدم تقديم القرار مع العريضة لا يعد سببا كافيا للتصريح بعدم القبول، والقضاة مخولون بإجبار الإدارة مصدرة القرار على تقديم نسخة منه وباستخلاص النتائج الواجب استخلاصها عند الاقتضاء “.

إننا نرى أن ممارسة القاضي لدوره الإيجابي في إدارة الإثبات لا يحتاج إلى هذه التبريرات – مع حصافتها ومنطقيتها- ؛ فهو لم يخرج عن مقتضى وظيفته بل هو يمارس دوره الإجرائي وفق قواعد القانون بمختلف مصادره، والدستور أولها، والا كنا في حاجة إلى تبرير ما يقوم به البرلمان من رقابة على الحكومة بمختلف آليتها من استجواب وسؤال وملتمس الرقابة وحتى سحب الثقة.

إن القاضي عندما يوجه هذه الأوامر للإدارة يمارس وظيفته القضائية المتمثلة في البحث عن الحقيقة وإرساء العدالة، هذا ما منحه إياه الدستور ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، كما منحه له التشريع من خلال نص قانون الإجراءات المدنية والإدارية عليه.

أضف إلى ذلك أن الوثائق الإدارية موجودة في حوزة الإدارة تحقيقا للمصالح العامة للمجتمع وأسماها العدالة، ومتى كان ذلك صحيحا فإنه لا يسوغ للإدارة القائمة على تحقيق مصالح المجتمع عرقلة هذه المصلحة الجوهرية.

ومهما يكن فإن المشرع في كل من الجزائر وفرنسا حسم النزاع بتخويله المستشار المقرر حسب نص المادة 844 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري أن يطلب من الخصوم المستندات والوثائق التي يراها مفيدة لفض النزاع، كما يستند المستشار المقرر في فرنسا إلى نصي المادتين (R.611-10 ET R.611-17 C.J.A.) لممارسة هذه السلطة أمام المحاكم الإدارية والمحاكم الإدارية الاستئنافية.