سلطة قاضي الإلغاء في إجراءات الاستجواب

الاستجواب هو استدعاء أحد الخصوم أمام القضاء لسؤاله عن وقائع معينة بغية الحصول على اعترافه وإقراره إزاءها، أو إذا لم يؤد إلى إقراره، على الأقل أسفر ذلك عن توضيح المسائل التي تبدو غامضة أمام القاضي، أو ربما تمكين هذا الأخير من استخلاص قرائن الإثبات، ولهذا فهو أحد أهم طرق التحقيق لفعاليته.

والاستجواب وثيق الصلة بالإقرار، إذ غالبا ما يؤدي الاستجواب بعد مناقشة الخصم في مجلس القضاء، ومجابهته بالحقائق الواضحة إلى التخلي عن أفكاره، ثم إقراره بالواقعة محل النزاع كلا أو جزءا.

لقد رأى بعض الفقه في الاستجواب ما يتنافى مع طبيعة الدعوى الإدارية، ويحمل نوعا من المساس بهيبة الإدارة، لكن أهمية الاستجواب كما سبقت الإشارة إليه وفعاليته شكلت هي الأخرى مبررا لعدم التفريط فيه كوسيلة من أهم وسائل الإثبات أمام قاضي الإلغاء، ولهذا فإن الموقف في كل من الجزائر ومصر وفرنسا تأرجح بين كلا الاعتبارين.

الفرع الأول: الموقف في فرنسا.

لقد نظمت المادة 36 قانون 22 جويلية 1889، الاستجواب أمام مجالس الأقاليم في فرنسا، كما نصت المادة 45/2 من قانون 1889 على إمكانية سماع القاضي أعوان الإدارة واستدعاؤهم للمثول أمامه من أجل تقديم شروحات”، كما نصت عليه المادة 149 من تقنين المحاكم الإدارية والمحاكم الإدارية للاستئناف وتركت السلطة التقديرية للقاضي في إجرائه بطلب من الخصوم أو عدم إجرائه، ورغم ذلك فإن هذا التنظيم لم يلق تطبيقا من المحاكم الإدارية، كما أن مجلس الدولة الفرنسي وهو غير مقيد بنص في هذا الشأن لم يلجأ إلى الاستجواب احتراما لمبدأ الفصل بين القضاء والإدارة العاملة وتجنبا للصدام بينهما، والدخول في خلاف مفتوح مع الإدارة العامة بمناسبة هذا الإجراء.

وفي الحالات القليلة التي تم فيها مثول أصحاب الشأن أمام قاضي الإلغاء ومناقشتهم بمعرفته واستيضاح الوقائع منهم بالجلسة، فإن ذلك لا يكون في الواقع في صورة استجواب ولكن في صورة استيضاح وبيان شفهي.

وبذلك يمكن القول حسب الفقيه Débbasch أن استجواب الأطراف غير معمول به أمام القضاء الإداري الفرنسي شأنه في ذلك شأن اليمين الحاسمة، حيث يعمل مجلس الدولة على تجنيب القضاء الإداري الدخول بمناسبة إجراء الاستجواب في صدام أو خلاف مفتوح مع الإدارة العاملة.

إن هذا الموقف من القضاء الإداري الفرنسي سواء على مستوى المحاكم الإدارية أو على مستوى مجلس الدولة هو الذي دفع إلى التخلي عن الاستجواب كوسيلة من وسائل الإثبات في تعديل تقنين المحاكم الإدارية والمحاكم الإدارية للاستئناف، غير أن كلا منهما أصبحت تلجأ إلى الاستجواب وتطبقه لأن التقنين يذكر في عبارة له: “مختلف تدابير التحقيق” دون أن يسميها، وهي عبارة واسعة تشمل الاستجواب وغيره من التدابير التحقيقية.

إننا نرى أن دور قاضي الإلغاء هو البحث عن الحقيقة، وهو في قيامه باستجواب الإدارة يقوم بعمله في بحث المشروعية ولهذا فإنه وإن كان عزوف قاضي الإلغاء عن ممارسة إجراء الاستجواب في مرحلة مبكرة من نشاطه مبررا فإن هذه المبررات لم تعد مقنعة الآن، وعلى القاضي أن يكون أكثر جرأة في ممارسة هذه الوسيلة، مع ترتيب الأثر اللازم لعدم انصياع الإدارة وتعاونها من أجل الوصول إلى الآثار المرجوة من مباشرتها.

الفرع الثاني: الموقف في مصر.

لقد تبنى المشرع المصري الاستجواب كوسيلة من وسائل تحقيق الدعوى الإدارية إذ نصت المادة 72 من القانون رقم 47 لسنة 1972 المتعلق بمجلس الدولة على أنه: ” للقاضي في سبيل تهيئة الدعوى الاتصال بالجهات الحكومية ذات الشأن للحصول على ما يكون لازما من بيانات وأوراق وأن يأمر باستدعاء ذوي الشأن لسؤالهم عن الوقائع التي يرى لزوم تحقيقها؛ ويعني هذا الإقرار بسلطة القاضي الإداري المصري في استجواب الخصوم، ما دام لفظ ذوي الشأن ينصرف إلى أطراف الدعوى بما فيهم الإدارة. فيجوز للقاضي الإداري اللجوء إليه في تحقيق الدعوى، وترك كيفيته وإجراءاته لقانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية، حيث يطبقها القاضي الإداري فيما لا يتعارض مع طبيعة الدعوى الإدارية.

غير أن أغلب الفقه المصري يقف إلى جانب القضاء الإداري الفرنسي؛ معتبرا أن سلطة القاضي في الاستجواب، تقتصر على استجواب الأفراد دون الإدارة، استنادا إلى مبدأ استقلال الإدارة، وإلى وجوب رعاية الصفة الكتابية لإجراءات الدعوى الإدارية – إذ أن الاستجواب ذو طابع شفوي- وبالتالي على القاضي أن يطلب ما يريده كتابة، وترد عليه الإدارة كتابة، كما يدعو هذا الرأي إلى التفرقة بين استدعاء رجل الإدارة بقصد استجوابه والحصول على إقرار منه وهو أمر غير مقبول، وبين دعوة رجل الإدارة بقصد تنوير القاضي بشأن بعض المسائل الفنية، وهو أمر مقبول وجائز.

في الحقيقة إن التفرقة بين الحالتين في رأينا غير ذات معنى على المستوى العملي، فمناط هذه التفرقة هو قصد القاضي من الاستدعاء وهو أمر نفسي لا يمكن الاطلاع عليه، وغاية ما في الأمر هو اختلاف في العبارات المستعملة في الأمر بهذا الإجراء، ففي الحالة الأولى نسميه استجوابا، وفي الحالة الثانية نسميه استيضاحا أو طلب إيضاحات، وفي كلتا الحالتين إذا أتى هذا الإجراء إلى إقرار، فإنه لا محالة سيكون دليلا معتمدا لدى القاضي، وعلى هذا الأساس فإن الغاية من استبعاد الاستجواب نفسية أكثر منها قانونية.

ورأي القائلين بعدم جواز استجواب الإدارة لا يستند إلى نص قانوني بل هو يخالف صريح القانون، كما أن العمل في القضاء الإداري المصري يكشف أن “رجال الإدارة المختصين لا يجدون غضاضة في المناقشة، ويقدمون ما لديهم من بيانات ومعلومات بكل ارتياح، حيث يعتبرونه نوعا من الخبرة الإدارية العملية التي تسهل مهمة القاضي دون المساس باستقلالهم، وأنه صورة إيجابية للتعاون بين القاضي والإدارة، ولو كانت طرفا في الدعوى تحقيقا لسيادة المشروعية، والنظر إلى الدعوى الإدارية بطريقة موضوعية مجردة عن اللدد في الخصومة”.

وفي الواقع يؤدي الاستجواب في حالات كثيرة إلى تقديم بيانات ومعلومات تفيد في الدعوى ويصعب الحصول عليها دون المناقشة وجها لوجه، وهذا لا يعتبر إخلالا باستقلال الإدارة إذ لا يتضمن الحلول محلها في التقدير، كما لا يتضمن أوامر أو تعليمات رئاسية لها، ولا يعدو أن يكون حوارا ومناقشة موضوعية بين القاضي ورجل الإدارة، حول طبيعة العمل الإداري وظروفه وملابسات وقائع الدعوى لاستيضاح ما غمض منها في جو من التعاون بين الإدارة والقاضية.

الفرع الثالث: الموقف في الجزائر.

رغم أن المشرع الجزائري في قانون الإجراءات المدنية والإدارية أحال في أغلب مواده المتعلقة بوسائل التحقيق إلى الأحكام المنصوص عليها في الجزء المتعلق بوسائل التحقيق أمام جميع الجهات القضائية، إلا أن الاستجواب كوسيلة تحقيق أغفل الإحالة أو النص عليه أمام جهات القضاء الإداري، وهذا ما يعطي الانطباع أن المشرع الجزائري ساير ما استقر عليه العمل في القضاء الإداري الفرنسي الذي لم يلجأ إلى وسيلة الاستجواب.

إلا أن التمعن في نصوص قانون الإجراءات المدنية والإدارية يبين خلاف ذلك، بل يدعو إلى القول بأن المشرع الجزائري، تبنى صراحة وسيلة الاستجواب أمام القضاء الإداري.

ويظهر ذلك من خلال النص عليه في المواضع التالية من قانون الإجراءات المدنية والإدارية:

1) في الكتاب الأول المتعلق بالأحكام المشتركة لجميع الجهات القضائية

أشارت إليه ثلاثة مواضع هي:

المادة 27 الواردة ضمن الباب الثاني من هذا الكتاب والتي جاء فيها: ” يمكن للقاضي أن يأمر في الجلسة بحضور الخصوم شخصيا لتقديم توضيحات يراها ضرورية لحل النزاع…”

وكما أشرنا فإن هذه المادة واردة ضمن الكتاب الأول من القانون والمتعلق بالأحكام المشتركة لجميع الجهات القضائية ومن بينها جهات القضاء الإداري.

وكذلك في القسم الخامس من الفصل الثاني من الباب الرابع من نفس الكتاب والمعنون: ” في حضور الخصوم واستجوابهم“.

حيث نصت المادة 98 على أنه: ” يمكن للقاضي في جميع المواد أن يأمر الخصوم أو أحدهم بالحضور شخصيا أمامه…”.

ويلاحظ أن صيغة في جميع المواد مزيلة لأي لبس بحيث تتدرج مادة المنازعات الإدارية تحتها.

وأخيرا فإن المادة 107، لم تترك مجالا للشك في هذا الشأن من خلال نص فقرتها الأخيرة والتي جاء فيها: ” يمكن أن يأمر بمثول الممثل القانوني للشخص المعنوي، سواء كان خاضعا للقانون العام أو الخاص.”

2) في الكتاب الرابع المتعلق بالإجراءات المتبعة أمام الإجراءات القضائية الإدارية، عندما أحال في أحكام الشهادة أمام جهات القضاء الإداري على أحكامها المشتركة أمام جميع الجهات القضائية، بموجب المادة 859، أضاف بموجب المادة 860/2 أنه يجوز سماع أعوان الإدارة، أو طلب حضورهم لتقديم الإيضاحات. وحتى وإن لم تفصل المادة في إجراءاته فإن يخضع للأحكام الواردة ضمن الكتاب المتعلق بالأحكام المشتركة أمام جميع الجهات القضائية، كل ما في الأمر أن على القاضي أن يقرر بحنكته كيفية التعامل مع الإدارة كخصم مراعيا اختلافها عن الخصوم العاديين.

وعلى هذا الأساس يمكننا القول أنّ للقاضي الإداري الجزائري الأمر بإجراء الاستجواب، وفق إجراءات تراعي طبيعة الدعوى الإدارية، وتحترم استقلالية الإدارة عن القضاء.

إن المبادئ التي تحكم إجراءات الإثبات والمتمثلة في اختيارية وسائل الإثبات والوجاهية في ممارستها، تحكم أيضا إجراء الاستجواب؛ وهكذا فإن اللجوء إلى هذا الإجراء اختياري بالنسبة للقاضي (المادة98) كما يتسم بخاصية المواجهية (المواد من 99 إلى 104) وخاصية الكتابية (المادة 105)، وإذا أدى سماع رجل الإدارة إلى إقرار صريح ومحدد من أحد الأطراف اعتمد عليه، أما إذا لم يؤد إلى مثل هذا الإقرار، واقتصر الأمر على إجابات مبهمة وغير محددة، فقد يستخلص منها القاضي قرائن يعتمد عليها في الإثبات، أما إذا لم يحضر أحد الأطراف أو لم يرد على الاستجواب، أو رفض التوقيع على المحضر، فإن القاضي يقدر قيمة ذلك وأثره في ضوء ظروف الدعوى، وقد ينتهي إلى اعتباره إقرارا ضمنيا من جانبه.

وفي الأخير تجب الإشارة إلى أن دور قاضي الإلغاء يبلغ منتهاه من خلال المادة 863 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية التي خولت رئيس تشكيلة الحكم تعيين أحد أعضائها للقيام بكل تدابير التحقيق غير تلك الواردة في المواد من 858 إلى 861.

إن هذا الموقف المتحرر للمشرع الجزائري يتفق أكثر والنظام الحر للإثبات المتبني في الإثبات الإداري، وذلك من خلال إرشاد قاضي الإلغاء في المادة 860/2 إلى إمكانية سماع رجال الإدارة وطلب التوضيحات منهم، دون أن يحدد له إجراءات معينة يجب إتباعها في ذلك، وأيضا من خلال نص المادة 863 التي خولت قاضي الإلغاء أيضا الأمر بأي تدبير تحقيق لم ينص عليه هذا القانون.

إن المبادئ التي تحكم إجراءات الإثبات والمتمثلة في اختيارية وسائل الإثبات والوجاهية في ممارستها، تبقى تحكم أي إجراء آخر متخذ سواء في إطار المادة 860/2 أو في إطار المادة 863 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية.