القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
المعاينة وسيلة موضوعية للتحقيق يهدف القاضي من خلالها إلى الحصول على معلومات تتعلق بوقائع متنازع عليها في مكانها من خلال انتقاله بنفسه إلى مكان الوقائع أو الأشياء لإثبات الملاحظات والبيانات واجراء التحقيقات المناسبة، أو الاطلاع على أصول بعض المستندات والوثائق والملفات الإدارية التي تعذر نقلها.
وتعرف المعاينة أيضا بأنها:” وسيلة اختيارية في الإثبات يلجأ إليها القاضي من تلقاء نفسه أو بناء على طلب الخصوم، وفيها تنتقل المحكمة بكامل هيئتها أو ينتقل من تنتدبه لذلك من أعضائها لمشاهدة محل النزاع على الطبيعة.
وتعد المعاينة من أهم الأدلة في المسائل المادية، وقد تكون في بعض الأحوال الدليل القاطع الذي لا يغني عنه دليل سواه، فالمشاهدة على الطبيعة هي التي قد توفر أحيانا الدليل الحاسم على صحة ادعاءات الخصوم أو كذبهم.
وتختلف المعاينة عن الخبرة من حيث أن هدفها هو إثبات الوجود المادي للوقائع أو حالة الأشياء أو البيانات أو المستندات، بينما هدف الخبرة الحصول على رأي فني وعلمي لمساعدة القاضي على تكوين قناعته، كما أن المعاينة تتم من طرف القاضي بنفسه بينما تتم الخبرة من طرف الخبير. وقد تكون المعاينة إجراءًا تكميليا لخبرة ناقصة وغير معبرة عن الواقع، فيأمر قاضي الإلغاء بالانتقال للمعاينة.
الفرع الأول: أهمية المعاينة ومكانتها.
تكمن أهمية المعاينة في اطلاع المحكمة بأقصر الطرق على حقيقة النزاع، إذ أن مشاهدة القاضي بأم عينه محل النزاع يساهم كثيرا في تكوين عقيدته التي يبني عليها حكمه، فتعطيه فكرة مادية محسوسة عن الواقع لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعطيها إياه الوسائل الأخرى للإثبات، كأقوال الشهود وتقارير الخبراء التي يكون فيها الخبير وسيطا بين القاضي والحقيقة ذات الطابع التقني، بالإضافة إلى أن المعاينة تعطي القاضي الثقة والطمأنينة في تكوين عقيدته وبعيدا عن التأثر بكلام الخصوم، إن الهدف من المعاينة هو الاطلاع على الحقيقة عن قرب، فهي توفر للقاضي اتصالا مباشرا مع النزاع.
ومن مزايا المعاينة أن مصاريفها محدودة وغير مرهقة كما أنها لا تستهلك وقتا طويلا يؤخر الفصل في الدعوى، ويسمح الانتقال للمعاينة للقاضي بأن يتعرف بدقة على الوضع والحال والشكل الموضوع الدعوى، لقد عبر Jérémie BOULAY عن هذا المعنى بقوله: “إنها أكثر مرونة من الخبرة، وهذا ما جعلها الوسيلة الأكثر استعمالا في العديد من الدعاوى”، وقد أصبح هذا الإجراء أكثر شيوعا عما كان عليه من قبل، بسبب تطور منازعات التعمير والبيئة ونزع الملكية للمنفعة العامة .
لقد عبر الأستاذ P. delvolvé عن أهمية المعاينة ودورها الحاسم في الكشف عن الحقيقة بعبارة دقيقة في قوله: “Le juge observé, Le juge constate, la vérité éclate.”.
ولأهميتها البالغة فإنه يمكن الاستعانة بوسيلة المعاينة في جميع ميادين القضاء الإداري، كما يمكن اللجوء إليها لإثبات جميع أوجه عدم المشروعية التي قد تشوب القرارات الإدارية، غير أن المجال الخصب للمعاينة كوسيلة إثبات هو دعاوى القضاء الكامل، وفي الغالب يأمر القاضي بإجراء المعاينة في المسائل العقارية أو الأشغال العامة والبيئة والتعمير ومنازعات نزع الملكية، غير أن القضاء الإداري يلجأ إليها أيضا في دعاوى الإلغاء، كانتقاله للتحقق من البيانات الواردة في أصل القرار الإداري المطعون فيه في حالة تعذر إيداع الأصل ضمن ملف الدعوى.
الفرع الثاني: مظاهر حية قاضي الإلغاء في إجراء المعاينة ومداها.
إعمالا لخاصية حرية القاضي في الأمر بوسائل الإثبات، وعدم تقييده بنتائجها فإن قاضي الإلغاء غير ملزم بالاستجابة لطلبات الخصوم بالانتقال إلى المعاينة، ولو طلبها جميع الأطراف، وقد يأمر بها ولو لم يطلبها أي طرف، شرط أن تكون مجدية، ولا تكون مجدية إذا لم تكن هناك مسألة محل نزاع، أو كان قد أصاب مكان المعاينة تغير أو تعديل، فيكون الحكم الصادر بها حينئذ محلا للإلغاء. كما أنه غير ملزم بالاستناد إلى نتيجة المعاينة في حكمه.
وللقاضي استنادا إلى هذه الحرية العدول عما أمر به من انتقال للمعاينة إذا رأى أن هذا الإجراء أصبح غير مجد، أو أن ما استجد في القضية كاف لتنوير عقيدته.
وإعمالا لمبدأ الوجاهية في الإجراءات يجب أن تتم المعاينة في مواجهة الأطراف وبعلم منهم، ومن ثم فإنه يتعين إخطار الأطراف بيوم وساعة إجراء المعاينة، لتمكينهم من حضور إجراءاتها، وهو إجراء جوهري يترتب على إغفاله بطلان المعاينة وبطلان الحكم الصادر على أساسها. كما لا يمكن للمحكمة القيام بزيارة غير رسمية للأمكنة، وإذا حدث ذلك يجب الامتناع عن ذكرها في الحكم.
ويمكن للقاضي أثناء المعاينة أن يستمع على سبيل الاستدلال لمن يرى فائدة في سماعه. ويتم تحرير محضر تبين فيه الإجراءات وما تم من تحقيقات أو ملاحظات، دون بيان رأي الهيئة أو العضو الذي قام بها، وتدون في المحضر الأقوال التي سمعت خلال المعاينة على سبيل الاستدلال.
ولقد خول المشرع الجزائري لما تولى تنظيم هذا الإجراء في قانون الإجراءات المدنية والإدارية قاضي الإلغاء العديد من السلطات في هذا الشأن منها:
1 إذا تطلب موضوع الانتقال معارف فنية، جاز للقاضي أن يأمر في نفس الحكم بتعيين من يختاره من التقنيين لمساعدته (المادة 147).
2 يمكن للقاضي أثناء تنقله، سماع أي شخص من تلقاء نفسه أو بناء على طلب الخصوم إذا رأى ضرورة لذلك (المادة 148/1).
3 كما يحوز له في نفس الظروف سماع الخصوم (المادة 148/1).
لكن التساؤل الذي يثور في شأن الأشخاص الذي نصت المادة 148/1 على جواز سماعهم، هل يشترط فيهم ما يشترط في الشهود، وهل تسري عليهم القواعد المتعلقة بالشهادة أم لا؟
لقد ذهب جانب من الفقه إلى أن القاضي يمكن له أثناء سماعه لهؤلاء الأشخاص، أن يرى في تلك الأحوال دليلا كاملا يقضي بموجبه، ولذلك وجبت مراعاة القواعد والإجراءات القانونية التي تتبع في سماع الشهود أمام المحكمة، وخاصة تحليفهم اليمين قبل سماع أقوالهم، في حين يرى جانب آخر من الفقه أن سماع الأشخاص في هذه الحالة إنما يكون للمساعدة على إتمام المعاينة وليس لتقديم أدلة إثبات في القضية، ومن ثم لا تخضع أقوالهم للقيود أو الشكل الذي تخضع له الشهادة كدليل إثبات.
إن الرأي الأخير يتفق أكثر من سابقه مع النظام الحر للإثبات الإداري، خاصة مع صعوبة احترام قواعد الشهادة في مثل هذه الحالات؛ لكون السماع خارج المحكمة وغير مهيأ له، وقد يكون حضور الشخص المسموع إلى المكان صدفة.
وأخيرا فإن إتمام إجراءات المعاينة على الوجه الفعال يعتمد على معاونة الجهة التي تقع في حوزتها أو تحت يدها أو في نطاق اختصاصها المستندات أو الوقائع أو الأموال أو الأماكن المراد معاينتها، فإذا كانت الإدارة وجب عليها تقديم المعاونة الكاملة للقاضي الإداري وتسهيل مهمته، ومتي امتنعت عن ذلك أو قامت بعرقلته، يذكر ذلك في المحضر، ويمكن إخطار السلطات الرئاسية إن اقتضى الأمر.
إن قاضي الإلغاء من خلال إجراء المعاينة، يبدو وكأنه يتكفل وحده بالبحث عن الدليل؛ ليس بين ثنايا مذكرات الأطراف والأسانيد التي قدموها أو الوثائق التي أرفقوها، ولكن بالتماس مع مكان النزاع، إنه يبدو متكفلا بعبء الإثبات بشكل أساسي؛ مع الاعتماد بشكل ثانوي على أقوال الخصوم ومن يرى سماعه من الحاضرين، إنه يعتمد بالأساس على ما يتكلم به مكان المعاينة الصامت، وما يراه بأم عينه.