القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
الأصل أن القاضي يقوم باستجلاء وقائع الدعوى بنفسه لاستكمال قناعته في الوصول إلى الحقيقة القضائية لتكون أقرب ما يكون إلى الحقيقة الواقعية، دون أن يعتمد في ذلك على غيره، غير أن القاضي قد يتعذر عليه الوصول إلى حقيقة بعض الوقائع التي تتعلق ببعض المسائل الفنية في مختلف المجالات التي ليس للقاضي إلمام بها، فيلجأ إلى المتخصصين فيها من أجل استجلاء الحقيقة.
وتعرف الخبرة بأنها: “الاستشارة الفنية التي يستعين بها القاضي في مجال الإثبات لمساعدته في تقدير المسائل الفنية التي يحتاج تقديرها إلى معرفة فنية أو دراية علمية لا تتوافر لدى عضو الهيئة القضائية المختص بحكم عمله وثقافته.”
كما تعرف بأنها: “وسيلة تحقيق يمارسها تقني مستقل ومؤهل من أجل توفير معلومات، أو إجراء فحص تقني وتقديم نتيجة في تقرير يقدم للقاضي. “
ولقد استقر القضاء الإداري على الأخذ بهذه الوسيلة في مجال إثبات الدعوي الإدارية لعدم تعارضها مع طبيعة تلك الدعوى، بل تعد الوسيلة الأكثر كلاسيكية والأكثر استعمالا من بين وسائل الإثبات لما لها من الأثر الحاسم في الدعوى الإدارية، ولقد نصت عليها أحكام القوانين الإجرائية في مختلف الدول، وفي الجزائر نصت عليها المادة 858 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية والتي أحالت بشأنها إلى الأحكام المطبقة أمام القضاء المدني والمنصوص عليها في المواد من 125 إلى 145 من نفس القانون.
ونصت على اللجوء إلى الخبرة كوسيلة من وسائل تحقيق الدعوى الإدارية في فرنسا المادة R.621-1 C.J.A. بموجب قرار يصدر قبل الفصل في الموضوع يتخذ من طرف هيئة المحكمة، ويكون هذا القرار قابلا للاستئناف على حدة أو مع الحكم النهائي الذي تصدره المحكمة حسب نص المادة R.811-2 C.J.A. و R.811-6 C.J.A..
وهي وسيلة مستعملة في القضاء الإسلامي واستدل فقهاء الإسلام بعدة آيات على مشروعيتها من بينها قوله تعالى في الآية 83 من سورة النساء:” وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمة الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا”.
وتحكم ممارسة القاضي لدوره الإيجابي في الأمر بالخبرة وتقدير نتائجها ومدى أخذه بها وعلاقته بالخبير مجموعة من الأحكام والضوابط مصدرها الأحكام التشريعية أو الاجتهاد القضائي، ويمكن التعرض لهذه الأحكام والضوابط من خلال تبين سلطة قاضي الإلغاء في الأمر بالخبرة وفي تقدير نتيجتها (الفرع الأول)، ومن خلال التعرف على سلطات القاضي والتزامات الخبير في سير الخبرة (الفرع الأول).
الفرع الأول: سلطة قاضي الإلغاء في الأمر بالخبرة وتقدير نتيجتها.
تخضع إجراءات الخبرة للأحكام العامة لوسائل الإثبات، والتي تعتبر من قبيل الأصول العامة للتقاضي، ومن بينها حرية القاضي في الأمر بوسائل الإثبات، وعدم تقييده بنتائجها، والتزامه بتحقيق الطابع الوجاهي فيها.
غير أنه وإن كان الأصل في الخبرة أنها اختيارية، إذ يملك القاضي تقدير مدى ملاءمة اللجوء إليها، ويملك الأمر بها سواء بناء على طلب من الخصوم أو من أحدهم، ودون التزام بإجابتهم إلى هذا الطلب، فإن هذا الأصل مقيد بــــ:
1- ألاّ تتعلق الخبرة بمسألة قانونية، فلا يمكن تعين خبير مثلا من أجل تفسير شرط تعاقدية، أو لتكييف الوقائع قانونيا.
2- أن تكون الخبرة مفيدة ومجدية للفصل في النزاع.
والقاضي في كل هذا خاضع لرقابة قاضي الاستئناف.
ومعنى القيد الأول أن محل الخبرة يكمن في المسائل ذات الطبيعة الفنية فلا محل للجوء إليها بالنسبة للمسائل القانونية، لكن يجب عدم الخلط بين الوقائع والمسائل الواقعية التي تكون محلا للخبرة والمسائل القانونية والتكييفات القانونية للوقائع والتي تستبعد من مهمة الخبير، الذي يكون قد خرج عن مهمته بإبدائه لرأي قانوني أو تكييفات قانونية، ولهذه الأسباب تردد القضاء الإداري في فرنسا في بداية الأمر في قبول الخبرة في دعاوى تجاوز السلطة، التي تعد ميدانا لبحث الشرعية، فدعوى تجاوز السلطة ذات طابع قانوني بحت، غير أن مجلس الدولة الفرنسي قبل أخيرا اللجوء إلى الخبرة في ذلك الميدان إذا كان الفصل في شرعية القرار المطعون فيه يتوقف على عناصر واقعية.
ويقتضي القيد الثاني من القاضي أن يرفض طلبات الأمر بخبرة يرى أنها لا تفيد في النزاع، خاصة إذا رأى أن الغرض منها إطالة أمد الخصومة والإضرار بالخصم.
إن المجال الخصب للأمر بالخبرة هو منازعات القضاء الكامل ولكن وعادة يلجا قاضي الإلغاء إلى إجراء الخبرة في عدد من المجالات منها:
– منازعات نزع الملكية من أجل المنفعة العامة.
– المنازعات المتعلقة بالصفقات العمومية.
– المنازعات المتعلقة بالأملاك الوطنية.
– المنازعات المتعلقة بالضرائب المباشرة والرسوم المماثلة.
– المنازعات المتعلقة بالأضرار الناجمة عن سير المرافق العمومية.
– منازعات البيئة.
– منازعات الوظيفة العمومية.
إن غلاء الخبرات من جهة ومساهمتها في إطالة أمد الدعوى من جهة أخرى حملا القاضي على عدم اللجوء إليها إلا في الحالة التي يتبين فيها أنها ضرورية لا محالة، وأن تكلفتها أقل بكثير من المصالح المادية محل النزاع.
وإذا ورد نص بإلزامية الأمر بخبرة في نوع معين من المنازعات وجب على القاضي الأمر بها، كما هو الحال في منازعات الضرائب المباشرة والرسوم المماثلة، ومنازعات المباني الآيلة للسقوط غير أنه يجوز للقاضي رفض الحكم بإجراء الخبرة حتى وإن كانت إجبارية، إذا كان الهدف منها هو المماطلة أو كانت تحمل طابعا مغالطا.
وللقاضي مطلق الحرية في اختيار الخبير الذي يكلفه بإجراء الخبرة، شرط توافر عنصر الحياد فيه بأن لا تكون له علاقة سابقة بالنزاع، وشرط أن يكون ضمن قائمة الخبراء المحلفين، وفي المنازعات التي تتطلب خبرة طبية يجب أن يكون الطبيب المعين اختصاصيا.
وللقاضي بمقتضى سلطته التقديرية في الأمر بوسائل التحقيق أن يعين أكثر من خبير، متى كان من طبيعة النزاع أن يحتاج تحقيقه لعدة تخصصات، وفي هذه الحالة فإنه يتعين على القاضي أن يسبب ذلك.
ويعتبر تقرير الخبير بعد إيداعه ضمن مستندات الملف من أدلة الإثبات التي يمكن الاعتماد عليها كعنصر فعال أثناء الفصل في النزاع.، وتعتبر البيانات التي تضمنها بشأن الوقائع التي باشرها ونفذها الخبير صحيحة لحين الطعن فيها بالتزوير، أما غير ذلك من البيانات كالرأي الفنّي تكون قابلة لإثبات العكس.
ولا يتقيد القاضي بنتائج الخبرة، إلا أن الواقع يثبت أنه غالبا ما يأخذ بما جاء في التقرير. وباستطاعته إذا رأى أن الخبرة ناقصة اتخاذ جميع التدابير المناسبة من بينها إجراء تحقيق تكميلي أو مثول الخبير أمام المحكمة لتقديم التوضيحات والمعلومات الضرورية، كما أن له الأمر بإجراء خبرة تكميلية أو خبرة مضادة، أو الأمر بإجراء آخر كالانتقال إلى المعاينة.
ورغم أن القاضي غير ملزم بإحالة الدعوى إلى الخبير، وغير ملزم بنتيجة الخبرة، إلا أنه إذا أحيلت الدعوى إلى الخبير وفصلت فيها المحكمة قبل أن يودع الخبير تقريره عد الحكم باطلا، إلا إذا جدت ظروف تؤكد عدم جدوى الخبرة.
وأخيرا تجدر الإشارة إلى أنه ورغم أن القاضي الإداري الفرنسي لا يستطيع الاعتماد صراحة على خبرة غير قانونية -كتلك التي لا تراعي مقتضيات الوجاهية، أو التي يتجاوز فيها الخبير المهمة التقنية التي كلف بها- إلا أنه يستطيع الاعتماد على المعلومات الواردة فيها من أجل تكوين اقتناعه.
الفرع الثاني: سلطات قاضي الإلغاء والتزامات الخبير في سير الخبرة.
توصف العلاقة بين القاضي الآمر بالخبرة والخبير بأنها علاقة تبعية وتعاون في الوقت نفسه، وتظهر علاقة التبعية في كون القاضي هو الذي يملك اختيار الخبير، كما يحدد مهمة الخبير تحديدا دقيقا، ويحدد أجل إيداع تقرير الخبرة بأمانة الضبط، كما أنه هو الذي يفصل في طلب رد الخبير، وإذا لم يقم الخبير بالمهمة التي قبل بها أو لم ينجز تقريره أو لم يودعه في الأجل المحدد، يمكن للقاضي الحكم عليه بكل ما تسبب فيه من مصاريف وتعويضات مدنية واستبداله.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد أنه إذا كان الخبير قد عين تلقائيا من قبل الهيئة القضائية الإدارية دون أن يطلب الخصوم ذلك، فإنه بإمكان أي من الخصوم أو كلاهما وفقا للمادة 133 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية طلب رد الخبير بسبب القرابة المباشرة أو القرابة غير المباشرة لغاية الدرجة الرابعة أو لوجود مصلحة شخصية للخبير المعين أو لأي سبب جدي، ويجب تقديم عريضة تتضمن أسباب الرد خلال 8 أيام من تاريخ تبليغه بهذا التعيين، وتفصل الجهة القضائية في هذا الطلب دون تأخير بأمر غير قابل لأي طعن.
ولأن الخبرة تتميز بطابع تقني؛ ولأن الخبير لا يعين إلا لتنوير المحكمة حول نقاط تتعلق بالوقائع، وبخصوص نتائج تقنية تتضمنها، فإنه من الضروري أن يحدد القاضي إطار الخبرة تحديدا جيدا، لتلافي خروج الخبير عن هذا الإطار، ومن أجل ذلك فإنه يحدد الوقائع المطلوب إبداء الرأي الفني بشأنها، مع احترام حدود الطلب الوارد في الدعوى المتنازع بشأنها، كما يعين له ميعاداً لإيداع التقرير.
بينما تظهر علاقة التعاون بين القاضي والخبير في وجود نوع من الحوار المتبادل بين القاضي والخبير أثناء أداء مهمته، فالقاضي لا يتخلى عن الدعوى عندما يعهد إلى الخبير بمهمة التحقيق فيها، وإنما يظل الخبير طيلة مدة الخبرة تحت رقابة القاضي، فالقاضي الآمر بالخبرة هو الذي يحدد مبلغ التسبيق، وهو الذي يعين الخصم أو الخصوم الذين يتعين عليهم إيداع التسبيق، والخبير يرجع إلى القاضي في حالة تطلب الخبرة اللجوء إلى ترجمة.
وفي إطار هذه العلاقة تلقي على كاهل الخبير مجموعة من الالتزامات يجب عليه احترامها ضمانا لتحقيق الهدف من الأمر بالخبرة، فهو في سبيل ذلك يلتزم بمباشرة الأشغال بمجرد إخطاره بالمهمة؛ ولهذا الغرض يتعين عليه دراسة الوثائق التي بحوزته، وسماع كل من له علم ومن شأنه تزويده بمعلومات، وألا يتردد في الاتصال بمختلف الإدارات التي تحوز وثائق أو معلومات قد تكون حاسمة، وعليه أن يرفع تقريرا إلى القاضي بجميع الإشكالات التي تعترضه، وهذا الأخير يأمر بأي تدبير يراه ضروريا، فعلى الخبير أن لا يتردد في اللجوء إلى الجهة القضائية التي عينته لطلب تدخلها على مستوى الإدارات التي تمتلك أو تحوز معلومات أو وثائق من شأنها أن تساعده على إنجاز مهمته، ويتولى الخبير القيام بكافة المساعي الضرورية وبكل التنقلات اللازمة ليتسنى له حصر وتفهم النزاع جيدا.
والأصل أن الخبير يقوم بالمهمة بنفسه، إلا أنه يمكن له استثناء أن ينيب غيره في إثبات بعض التفاصيل المادية، وله في سبيل القيام بمهمته القيام بكل التحقيقات التي تتطلبها، دون الخروج عن حدود هذه المهمة ودون التطرق إلى المسائل القانونية، وإذا خرج الخبير عن حدود المهمة المسندة إليه، فإن ذلك لا يؤثر في الحكم الذي اقتصر على استعمال العناصر التي تدخل في مهمته لوحدها والتي تضمنها التقرير.
ولأن الخبير ليس قاضيا، فهو لا يمكنه تلقي الشهادة بالمعنى القانوني للكلمة، وليس له إذن أن يطلب ممن يسمعهم أداء اليمين، كما أنه غير ملزم بتحرير محضر سماع أو أن يطلب من الأشخاص الذين تم سماعهم التوقيع على تصريحاتهم. غير أن له سماع الحاضرين من أجل ضمان سير حسن للخبرة. وللقاضي الاعتماد على المعلومات الشفهية التي تلقاها الخبير، وإن كان ليس لها نفس القوة مع المعلومات المستقاة من خلال محضر سماع شهود رسمي.
إن الخبرة هي إجراء من إجراءات الدعوى تخضع للأحكام التي تحكم إجراءات الدعوى القضائية ومن أهمها، مبدأ الوجاهية مما يفرض على الخبير مراعاة ذلك، ضمانا لحقوق الدفاع، فللخصوم حضور إجراءات الخبرة أو تعيين نائب لهم، وتسجل ملاحظاتهم التي تصدر عنهم أثناء الخبرة في تقرير الخبرة عند الاقتضاء، إذ أن الخبير ليس وكيلا عن أصحاب الشأن، ولذلك يتعين عليه إخطار الأطراف بتاريخ وساعة إجراء الخبرة، مع تمكينهم من الحضور أثناء مباشرة إجراءاتها سواء بأنفسهم أو عن طريق من يمثلهم وتقديم ملاحظاتهم، وإخطارهم بإيداع التقرير، وتمكينهم من الاطلاع والتعقيب عليه، وإلا كانت الإجراءات باطلة لمخالفة مبدأ وجاهية الإجراءات. غير أن تقاعس الأطراف عن الاطلاع في الموعد المحدد لا يؤثر على مبدأ الوجاهية.
كما قضت المحكمة العليا بأن عدم إخطار الخبير للخصوم بالأيام والساعات التي يقوم فيها بإجراء أعمال الخبرة لا يؤثر على صحة إجراءات الخبرة متى حضر الخصوم دون إخطارهم، وهذا ترتيبا على أن الهدف من هذا الإخطار هو تمكين الخصوم من الحضور وإبداء ملاحظاتهم واستفادتهم من مزايا مبدأ الوجاهية، فجاء في حكمها: ” من المقرر قانونا أنه يستوجب على الخبير أن يخطر الخصوم بالأيام والساعات التي يقوم فيها بإجراء أعمال الخبرة، ومن المستقر عليه قضاء أن تسبب عدم الإخطار المذكور في منع الأطراف من تقديم ملاحظاتهم وطلباتهم فإن ذلك يؤدي حتما إلى بطلان إجراءات الخبرة…ولما ثبت من قضية الحال أن إجراءات الخبرة تمت بحضور كل الأطراف بما فيها وزارة الدفاع الوطني التي تم تمثيلها بضابطين، ولم يقدما أية ملاحظة فإن ذلك يعني أن أعمال الخبرة تمت بطريقة قانونية”.
وهكذا يبدو أن القاضي يتدخل من أجل المساهمة في إنتاج الأدلة، وفي سبيل ذلك يستعين بالخبراء الفنيين والتقنيين في المسائل التي لا علم له بها، من أجل الوصول إلى الحقيقة، مع احترام الأصول العامة للتقاضي وعلى رأسها مبدأ المواجهة، وفي نفس الوقت فإن استعانته بشخص غريب عن الخصومة في الإثبات لا يعني أن هذا الشخص مكلف بجزء من عبء الإثبات؛ بل هو يعمل تحت تصرف القاضي الذي له سلطة واسعة في الاستعانة به من عدمها، كما أن له سلطة في الأخذ بما وصل إليه الخبير أو طرحه.