القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
الفرع الأول: عيب الانحراف بالسلطة وصعوبة إثباته.
الانحراف بالسلطة هو أحد عيوب المشروعية ينصب على ركن الغاية في القرار الإداري، ويتوافر هذا العيب عندما يستهدف رجل الإدارة من إصدار القرار الإداري غاية لا تمت بصلة إلى الصالح العام أو متصلة به ولكنها تختلف عن الغاية التي حددها المشرع من إصدار القرار. ولهذا يعرف هذا العيب بأنه:” استعمال رجل الإدارة سلطته لتحقيق غرض غير الذي منح من أجله هذه السلطة”.
أولا: صور الانحراف بالسلطة:
حينما يبتغي رجل الإدارة تحقيق هدف إداري معين يجب أن يلتزم ب:
توجيه جهوده وحصرها في تحقيق النفع العام والخير المشترك والامتناع عن تحقيق غرض شخصي.
تحقيق الأهداف المقصودة من إعطائه ذلك الاختصاص فقط، وعدم السعي إلى تحقيق أهداف أخرى غير مقصودة من منحه الاختصاص، حتى وإن كانت في إطار المصلحة العامة.
وعلى هذا الأساس صنف الفقه الأهداف التي يتوخاها رجل الإدارة وتجعل عمله مشوبا بعيب الانحراف بالسلطة إلى صنفين:
1- الأهداف المجانية للمصلحة العامة:
وهذه الصورة هي الأكثر فظاظة ووضوحا، لكن ولحسن الحظ أنها ليست الأكثر رواجا، وتتمثل هذه الأهداف في الانتقام الشخصي أو المحاباة أو الدافع السياسي أو الديني:
أ- استعمال السلطة بهدف الانتقام الشخصي: قد يستعمل رجل الإدارة السلطات المخولة له من أجل تحقيق المصلحة العامة في الإيقاع بأعدائه، وأكثر ما تتحقق هذه الصورة في مجال الوظيفة العامة، عند استعمال الرؤساء لسلطاتهم في التأديب، أو الترقية، أو النقل لصالح المرفق من أجل أغراض شخصية انتقامية.
ب- استعمال السلطة بهدف تحقيق نفع شخصي: إذ يستعمل رجال الإدارة في بعض الأحيان السلطات المخولة لهم من أجل جلب نفع شخصي لهم أو لأحد معارفهم. أو محاباة لفئة دون غيرها.
ج- استعمال السلطة لهدف سياسي أو ديني: وتتحقق هذه الصورة حينما يسعى رجل الإدارة من خلال السلطات المخولة إلى تحقيق أغراض سياسية أو دينية أو طائفية، ومن صور ذلك استعمال السلطة للتعبير عن رأي سياسي أو التنكيل بالأعداء السياسيين أو الدينيين. ومن ذلك إصدار الإدارة قرارا بمنح إعانة أو وقفها مدفوعة باعتبارات سياسية أو دينية.
2- الأهداف المجانية لفكرة تخصيص الأهداف.
لا يستطيع رجل الإدارة تحقيق كل أهداف المصلحة العامة، فهو مكلف بتحقيق بعضها فقط، وهذا يعني أن لكل طائفة من القرارات الإدارية هدف خاص تستهدفه إلى جانب الهدف العام وهو المصلحة العامة، فهل على قاضي الإلغاء أن يبحث عن الأهداف الخاصة بكل قرار؟
إن هذه المهمة عسيرة؛ لأن القانون وان كان يفصح أحيانا في وضوح عن الأهداف الخاصة لبعض القرارات الإدارية، إلا أنه لا يفعل ذلك دائما، وأحيانا يكون الهدف محددا لكنه غير واضح، وفي بعض الأحيان يسكت القانون سكوتا تاما عن تحديد الهدف الخاص، فيضطر القاضي إلى الاستعانة بالأعمال التحضيرية للقانون، وطبيعة السلطات الممنوحة للإدارة ليخلص منها إلى معرفة الهدف الخاص المقصود تحقيقه.
فإذا سعى رجل الإدارة إلى تحقيق أهداف لا تدخل ضمن اختصاصه، أو أن القانون لم ينط به تحقيقها، أو أن يكون تحقيق هذه الأهداف من اختصاصه لكنه استعمل وسيلة لم ينط بها القانون تحقيق تلك الأهداف، وإنما خصص القانون لتحقيقها وسائل أخرى، حتى ولو كانت هذه الأهداف تتصل بالمصلحة العامة؛ فإن قراره يكون مشوبا بعيب الانحراف بالسلطة لمجانبته فكرة تخصيص الأهداف.
ثانيا- صعوبة إثبات عيب الانحراف بالسلطة:
يعد عيب الانحراف بالسلطة أصعب العيوب إثباتا، لأن القرار المشوب بالانحراف هو قرار سليم من جميع نواحيه الظاهرة، فهو عمل صادر من جهة مختصة، ووفقا للشكل الذي يتطلبه القانون، ويقوم على محل سليم، والمدعي إنما يتهم الإدارة في هذه الصورة أنها حادت عن الطريق السليم وأرادت تحقيق أغراض غير مشروعة، وذلك إنما يعود إلى بواعث نفسية، وهو أمر خفي يحتاج تحقيقه إلى وقت طويل وجهود شاقة، ولذلك فإن مجلس الدولة الفرنسي لا يقبل كل ادعاء من هذا القبيل إلا إذا قامت لديه قرائن قوية على جدية الاتهام.
وتظهر صعوبة إثبات عیب الانحراف بالسلطة أكثر من عيوب القرار الإداري الأخرى باعتباره أشد العيوب خفاء، وبالنظر إلى طبيعة هذا العيب المتعلق بالقصد الشخصي لمصدر القرار وأغراضه، وارتباطه بالمصلحة العامة باعتبارها مفهوما قانونيا غير محدد المعالم.
ولا يعتبر هذا العيب متعلقا بالنظام العام، وبالتالي يتعين على صاحب الشأن إثارته، وليس للقاضي أن يستند إليه دون طلب المدعي الذي يتعين عليه تقديم الإثبات الكافي على الانحراف؛ فعبء إثبات هذا العيب على عاتق المدعي وإذا أخفق رفضت دعواه.
ولقد ترتب على الصعوبة التي تواجه القاضي والمدعي في إثبات الانحراف بالسلطة أن تحول هذا العيب إلى عيب احتياطي لا يلجأ القاضي إليه إلا إذا لم تفلح أوجه الطعن الأخرى في إلغاء القرار الإداري.
ويرى الكثير من الفقه أن رقابة القضاء الإداري على ركن الغاية هي رقابة شخصية بحتة، وأن هدف القاضي هو التعرف على أفكار رجل الإدارة، وما دار بخلده، والدوافع والبواعث الشخصية التي دفعت به إلى إصدار القرار الإداري المطعون فيه، غير أن الأستاذ محمد سليمان الطمّاوي، يرى أن ذلك ليس صحيحا دوما، فحجر الزاوية في نظرية الانحراف بالسلطة ليس هو وجود دافع غير مشروع، وإنما الحقيقة أن إثبات ذلك الدافع غير المشروع لا يقصد به إلا إقامة الدليل على انعدام الباعث المشروع.
إنه وإن كان هذا العيب في أكثر صوره إنما يكون الباعث عليه شخصيا تحقيق منفعة أو انتقام – غير أن ذلك ليس صحيحا دائما فمن صوره أيضا مجانبة فكرة تخصيص الأهداف، وهي فكرة لا علاقة لها بالبواعث الشخصية.
ومن جهة أخرى فإننا نرى أن عمل القاضي في إثبات هذا العيب لا يعتمد على البحث في نية رجل الإدارة ودواخل نفسه، دون أي اعتبارات موضوعية، فملف القضية، والوقائع الثابتة، وجميع وسائل الإثبات ذات الطابع الموضوعي، تدل في غالب الأحيان دلالة قاطعة على الأمور الخفية. فلكل باطن ظاهر، والظاهر في غالب الأحوال دليل على الباطن، وكل إناء بما فيه ينضح، وإلا كان إيماننا بالله مجردا من أي دليل ما دمنا لا نراه، لكننا نستدل عليه بالآيات الكونية، والأمارات الظاهرة في خلقه والدّالة على وجوده ووحدانيته، وجميع صفاته من قدرة وعلم وحكمة وخبرة…، ونحن لم نشاهده وإنما شاهدنا من الأمارات ما يدل على ذلك. ولهذا قال الأعرابي صاحب الفطرة السليمة، “البعرة تدل على البعير، والقدم يدل على المسير، أفنهار ساج ووليل داج وسماء ذات أبراج لا تدل على الحكيم الخبير”.
إن قرار الرئيس الإداري بعزل الموظف من أول خطأ يرتكبه- على الرغم من اختصاصه بذلك، وإتباعه للشكليات وصحة الوقائع المنسوبة إلى الموظف ومطابقة العقوبة لما نص عليه القانون – بعد تهديده لرفض هذا الأخير الانصياع لأوامر الرئيس غير المشروعة، وعلى الرغم من أن الكثير من الموظفين ارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه الموظف ولم يعاقبوا ولم يتابعوا، مع ثبوت وجود عداوة سياسية وعائلية بين الرئيس والمرؤوس المعاقب، ليدل دلالة قاطعة على نية الرئيس وإن كانت مستترة داخل نفسه، وقطعا لا يستطيع أحد اتهامنا بادعاء علم الغيب.