القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
يقف المدعي في دعوى الإلغاء موقفا صعبا من حيث الإثبات؛ فخصمه في جميع الأحوال هو الإدارة الممثلة المصلحة العامة، والمتمتعة بأساليب السلطة العامة وامتيازاتها المقررة لها في القانون الإداري؛ لتمكينها من القيام بواجبها في تسيير المرافق العامة والإشراف عليها.
إن هذه الامتيازات متعددة ومتنوعة بقدر تعدد وتنوع نشاطات الإدارة، وتؤدي جميعا إلى هيمنة الإدارة على النشاط الإداري والقضاء لنفسها دون اللجوء للقاضي، مما يضطر المواطن لأن يكون من جهة ثانية هو المدعي دائما، وبالتالي إلقاء عبء الاثبات عليه في حين تقف الإدارة موقف المدعى عليه معفية من الإثبات طبقا لقاعدة “البينة على المدعي”؛ على الرغم من كونها الحائزة للوثائق والمستندات اللازمة للإثبات، وهذا هو السبب الثاني في صعوبة الإثبات في دعوى الإلغاء، ويمكن أن تصنف عناصر الموقف الصعب للمدعي بالإلغاء كما يلي:
– إلقاء عبء الإثبات على الفرد لكونه مدعيا؛ وذلك بسبب قرينة سلامة القرارات الإدارية والامتياز الممنوح للإدارة بحقها في الأسبقية بإنشاء مراكز قانونية أو إلغائها أو تعديلها، وتنفيذ قراراتها مباشرة دون اللجوء إلى القضاء (المطلب الأول).
– افتقار المدعي لوسائل الإثبات بسبب حيازة الإدارة للوثائق والادارية وعدم إحاطته بملابسات صدور القرار وظروفه بسبب السرية الملازمة للعمل الإداري، وعدم إلزام الإدارة بتسبيب جميع قراراتها، وبالتالي جهله بأسباب القرار المطعون فيه (المطلب الثاني).
– السلطة التقديرية الممنوحة للإدارة في تقدير الأسباب الداعية إلى اتخاذه أو في تقدير مضمونة والتي ينجم عنها صعوبة إثباته لأوجه عدم المشروعية الداخلية في القرار الإداري (المطلب الثالث).
إلقاء عبء الاثبات على المدعي.
يقصد بعبء الاثبات الالتزام بإثبات الواقعة المتنازع عليها، ومن يقع عليه عبء الاثبات يكون في مركز أضعف من مركز خصمه، إذ عليه إثبات ما يدعيه في حين يكتفي خصمه بالوقوف موقفا سلبيا، وهذا ما يفسر تسميته بالعبء لكونه تقلا ملقى على كاهل المدعي.
وبموجب ذلك يستطيع المدعى عليه الاكتفاء باتخاذ موقف سلبي لحين صدور الحكم برفض الدعوى استنادا لعدم قيام المدعي بتقديم الإثبات المقنع على صحة دعواه، أما إذا قدم المدعي الاثبات الكافي فقد حل الدور على المدعى عليه لتقديم ما يثبت عدم صحة الادعاء وإلا قضي للمدعي في مواجهته.
وفي الحالتين فإن موقف المدعى عليه أيسر وأفضل من موقف المدّعي، إذ يتولى الرد في الحالة الثانية عندما يحل عليه الدور لتقديم الإثبات اللازم، بعد أن يكون المدعي قد قدم ما لديه من مستندات؛ وبالتالي يبدأ دفاعه على أساسها؛ في حين يتخذ المدّعي موقف المبادرة.
إنه وبفضل الامتيازات التي تتمتع بها الإدارة وخاصة قرينة سلامة القرارات الإدارية، وامتياز التنفيذ المباشر، وامتياز الأسبقية، فإن دعوى الإلغاء يكون المدعي فيها في جميع الأحوال هو الفرد.
وإذا كان الفرد في بعض الدعاوى الإدارية يمكن أن يشغل موقف المدعى عليه، إلا أنه في دعوى الإلغاء يكون في جميع الأحوال مدعيا، وتطبيقا لقاعدة “البيئة على المدعي” فإن المدعي في دعوى الإلغاء يكون هو المكلف بإثبات ما يدعيه، كما أن قرينة سلامة القرارات الإدارية تستوجب على الفرد إثبات عكسها حتى يكون القرار الإداري مستحقا للإلغاء.
ودليل قاعدة “البيئة على من ادّعى” في الشريعة الإسلامية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: “لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن البينة على من ادّعي”.
كما تجد مبرراتها المنطقية في الاعتراف بصحة الأمر الواقع، واحترام الظاهر وبراءة الذمة، من أجل رعاية الحقوق المكتسبة والنظام العام واستقرار الأوضاع القانونية، فأي منازعة قضائية تقوم على عدم اتفاق الطرفين بشأن واقعة معينة وكيفية تطبيق القانون عليها، إذ يرى أحد الطرفين اكتسابه حقا أو تمتعه بمركز قانوني معين طبقا لهذه الوقائع القانونية أو المادية، في حين ينكر الطرف الآخر عليه هذا الحق، وقد أدت الرغبة في رعاية الحقوق المكتسبة والنظام العام والأمن الاجتماعي واستقرار الأوضاع القانونية إلى قيام أصل عام يفترض مطابقة الحالة القائمة بين الطرفين وقت رفع الدعوى لحكم القانون حتى يثبت العكس.
كما أن على المدعي باعتباره البادئ بتقديم الدعوى إقامة الدليل على صحة ادعاءاته؛ فهو الذي بادر إلى رفع الدعوى والخصومة هي مجرد ثمرة لنشاطه، وهكذا يجد المدعى عليه نفسه أمام القضاء نتيجة لفعل وعمل المدعي، والشخص الذي يطلب من القضاء الاستجابة لمطالبه عليه تقديم الدليل.
ولقد نصت على هذه القاعدة المادة 323 من القانون المدني الجزائري بقولها: “على الدائن اثبات الالتزام وعلى المدين اثبات التخلص منه”. كما استقر عليها الاجتهاد القضائي سواء في الجزائر أو في فرنسا أو في مصر، بحيث أصبحت مطردة في أحكامه.
إن سبب وقوف الفرد في دعوى الإلغاء في جميع الأحوال موقف المدعي هو الامتيازات التي تحوزها الإدارة والمتمثلة أساسا في قرينة سلامة القرارات الإدارية وامتياز الأسبقية والتنفيذ المباشر.