قاعدة البينة على المدعي

من القواعد المتفق عليها في القانون وفي الشريعة الإسلامية أن عبء الاثبات يقع على المدعي، ففي الفقه الاسلامي اتفق فقهاء الشريعة الاسلامية على أن البيئة على المدعي ودليلهم في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: ” البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه”، وقال كذلك: “لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم و لكن البينة على المدعي”.

ولقد كرّس المشرع الجزائري هذه القاعدة بموجب أحكام المادة 323 من التقنين المدني بقوله: “على الدائن اثبات الالتزام وعلى المدين إثبات التخلص منه”

وتنص المادة “1315 ” من القانون المدني الفرنسي على أن ” من يطلب تنفيذ التزام عليه إثباته، وعلى من يدعي التخالص إثبات الوفاء أو الواقعة التي أدت إلى التخالص من الالتزام “

وتنص المادة الأولى من قانون الإثبات المصري رقم 25 لسنة 1968 على أن: ” على الدائن إثبات الالتزام وعلى المدين إثبات التخلص منه “

إن معنى هذه القاعدة أن الذي يلقي عليه عبء الإثبات هو المدعي، فمن يدعي أمرا يلزمه إقامة الدليل عليه. والحكمة في جعل البينة في جانب المدعي هي أن جانبه ضعيف لأنه يدعي خلاف الظاهر فكانت البينة عليه لإظهار ما خفي وكشف ما استتر واثبات أن هذا الأمر الظاهر الذي يبدو معهودا للكافة ليس على حقيقته وإنما هناك أمر خفي عليهم، أما المدعى عليه فلا يكلف بإقامة بينة لأن قوله مؤيد بالظاهر، وإذا أقام المدعي البيئة وجب على القاضي أن يحكم له بها مادامت كافية لإثبات الحق.

وحتى لو تكفل المدعى عليه بإثبات حقه على الشيء المدعي وأخفق في ذلك فلا يحكم للمدعي لمجرد عدم استطاعة المدعى عليه التدليل على عدم صحة الدعوى لأن ذلك يخالف قاعدة البينة على من أدعي، أما إذا أقام المدعي البيئة وثبت للمحكمة فوق ذلك عدم استطاعة المدعي عليه التدليل على عدم صحة الدعوى فحكمت للمدعي، فإن حكمها لا يكون قائما على عدم استطاعة المدعى عليه نفي صحة الدعوى و إنما يكون الحكم مؤسسا على بينة المدعي.

ثانيا: المقصود بالمدعي في مجال الإثبات.

رغم أن الإجماع قائم على أن الذي يقوم بالإثبات ويتحمل عبئه هو المدعي؛ إلا أن الأمر من الصعوبة بمكان؛ إذ يصعب في الكثير من الأحوال تمييز المدعي من المدعى عليه؛ وبالتالي تعيين من يكلف بإقامة الحجة؛ ولهذا وجب تحديد من هو المدعي والمقصود به.

ولا شك أن من يذهب أولا إلى ساحة القضاء ليرفع دعوى قضائية ضد الطرف الآخر بعد مدعيا وهو الذي يكلف خصمه بالحضور ويبدأ إجراءات رفع الدعوى، والطرف الآخر هو المدعى عليه؛ إلا أنه من ناحية قاعدة الإثبات لا يكفي لتحديد المدعي معرفة من ذهب أولا إلى ساحة القضاء؛ لأن المدعى عليه وإن كان له الحق في الوقوف موقفا سلبيا إلا أن هذا الموقف السلبي ينتهي إذا ما اثبت المدعي دعواه، فله الحق في دفع ادعاءات المدعي وفقا لمبدأ المجابهة بالدليل، ويكون بذلك مدعيا بدوره في إثبات ما يدعيه.

و نظرا لصعوبة التمييز بين طرفي الدعوى في نطاق قانون الإجراءات المدنية اجتهد فقهاء القانون المدني في وضع المعايير التي يستطيع القاضي أن يميز بها بينهما؛ فوضعوا مبدأ عاما مقتضاه أن البينة على من ادعى خلاف الظاهر؛ وفسروا الظاهر بثلاث أنواع: ظاهر أصلا وظاهر عرضا وظاهر فرضا.

وعلى هذا الأساس نقول أن المدعي هو من يدعي واقعة على خلاف الوضع الثابت أصلا و هو ما كان موافقا في الغالب لطبيعة الأشياء، أو عرضا وهو ما أثبته خصمه أو فرضا و هو ما افترضه المشرع بقرينة قانونية قابلة لإثبات العكس.

الفرع الثالث: مدى وجود قاعدة عبء الإثبات في دعوى الإلغاء.

إن التزام القاضي المدني للحياد وتركه لعبء الإثبات ينتقل بين الخصوم إلى غاية استقراره عند أحد الأطراف يعد وضعا منطقيا؛ يجد مبرراته في تساوي مراكز الأطرف، إلا أن الاختلال الحاصل في مراكز الخصوم في دعوى الإلغاء يستوجب من قاضي الإلغاء أن يراعي هذه الخصوصية، فهل مراعاة قاضي الإلغاء لوضعية عدم التوازن بين أطراف الدعوى له أثر على مبدأ “حياد القاضي” وبالتالي على الأصل العام في التقاضي الذي يجعل “البينة على المدّعي”؟، سوف نعرض إلى ذلك من خلال تناول مبدأ حياد القاضي ومفهومه من جهة، ومدى احترام قاضي الإلغاء لقاعدة إلقاء عبء الإثبات على المدعي – وهو الفرد في دعوى الإلغاء- من جهة أخرى.

أولا: مبدأ حياد القاضي.

الحياد بصفة عامة هو اتخاذ موقف وسط بين طرفين، فلا يكون المحايد منحازا لأي طرف، ويعتبر مبدأ حياد القاضي أحد أهم المظاهر الرئيسية لمبدأ نزاهة القضاء. ويقوم الحياد على عنصرين، عنصر نفسي Impartialité Subjective، وعنصر موضوعي Impartialité Objective.

ويقصد بالعنصر النفسي للحياد أن لا يكون القاضي متحيزا لأحد الخصوم، وألا يحكم في الدعوى بناء على أهوائه الشخصية وما يحمل من مشاعر حيالها، ولضمان هذا العنصر من عناصر الحياد سمحت مختلف التشريعات الإجرائية للقاضي بالتنحي من تلقاء نفسه عن الفصل في الدعوى، كما سمح للخصوم بطلب رد القضاة.

أما العنصر الموضوعي فمعناه ألا يبني القاضي حكمه إلا على الوقائع والأدلة المطروحة في الدعوى، كما ينبغي أن يوضح المصادر التي استقى منها معلوماته بصدد الواقعة محل النزاع. ولهذا فإن تسبيب الحكم هو الوسيلة التي يمكن من خلالها التأكد من الحياد الموضوعي للقاضي وأنه لم يكون اقتناعه إلا على أساس الأدلة التي قدمها الخصوم وتجادلوا بشأنها.

إن التفسير الضيق لهذا العنصر من عناصر الحياد جعل دور القاضي سلبيا للغاية قاصرا على مراعاة أتباع قواعد المرافعة، والفصل في الدعوى على ضوء البراهين التي قدمها الخصوم، يعمل على مراقبة سير المباراة ليعلن نتيجتها النهائية بعد ترجيح أدلة أحد أطرافها.

وهكذا فإن دوره في ظل هذا الفهم الضيق لا يعدو أن يكون متلقيا للأدلة التي يقدمها الخصوم الإثبات حقوقهم، دون أدنى تدخل من جانبه، إنما يقدر هذه الأدلة طبقا للقيمة التي حددها القانون لكل دليل، فإذا رأى الدليل ناقصا أو مبهما فليس له أن يطلب إكماله أو توضيحه، بل يجب أن يأخذه بحالته كما قدمه الخصوم.

ورغم أن هذا المفهوم لا زال له أثره الواضح فقها وقضاء، إلا أن القاضي – بناء على الاجتهاد القضائي الحديث، ومختلف التشريعات الحديثة لم يعد مشاهدة صامتا للمنازعة القضائية ليس له إلا الحكم فيها. بل أصبح مخولا بسلطات مستقلة في البحث عن الدليل، وهو غير خاضع بصفة كلية لميول و رغبات الأطراف، ولهذا فإن مفهوم الحياد أضحى يختلف عن مفهوم السلبية.

لقد اتجهت التشريعات الحديثة نحو العمل على زيادة فاعلية دور القاضي في إدارة الدليل متخذة خطوات جدية بسن قوانين لتحقيق هذا الهدف سواء بالنسبة للقاضي المدني أو الإداري، وإن كان ذلك أكثر وضوحا بالنسبة للقاضي الإداري.

وهذه هي النظرة الحديثة للحياد والتي أصبحت معروفة ليس في الخصومة الإدارية فحسب بل حتى في الخصومة المدنية والتي باعتبارها تهدد استقرار المجتمع وتوازنه أوجبت أن يزود القاضي بسلطات ومكنات تعينه على تحقيق الاستقرار في المراكز القانونية، ولهذا اتجهت التشريعات على اختلاف مذاهبها إلى منح القاضي دورا فعالا ونشطا في الدعوى، يشارك فيها ويعمل فكره وتقديره في إدارة الدليل، لكي يصل إلى الحقيقة الموضوعية.

ورغم كل ذلك فإنه مهما بلغت سلطات القاضي الإيجابية فإنها تدور في نطاق الوظيفة القضائية، حيث تقف عند الموازنة والترجيح بين ما يقدم له من أدلة وعناصر وما يودع في الملف من أوراق والربط بين الوقائع واستخلاص الحقائق، مع تيسير دور الطرفين في الدعوى والأمر بما يلزم من إجراءات الإثبات.

ثانيا: مدى احترام القاعدة العادية لعبء الإثبات في دعوى الإلغاء.

إن أول مسألة تطرح على القاضي وهو بصدد نظر المنازعة الإدارية ليست طريقة الإثبات وإنما عبئه؛ فتعيين من يحمل عبء الإثبات يكاد يتوقف عليه في كثير من الأحيان مصير الدعوى من الناحية العملية، إذ قد يكون الحق متراوحة بين طرفي الخصومة لا يستطيع أي منهما أن يثبته أو ينفيه، فإلقاء عبء الإثبات على أحدهما معناه حكم عليه وحكم تخصمه.

وفي مجال التقاضي بين الأفراد فإن القانون هو الذي يحدد على من يقع عبء الإثبات ويبين وسائل الإثبات ومدى حجيتها، وما على القاضي المدني إلا أن يركز حكمه على المعلومات والدلائل التي يقدمها المتقاضون وفقا للطرق والإجراءات التي هي محددة بمقتضى القانون، ودور القاضي يقتصر على الفصل دون البحث عن الدليل. إلا أن هذا النهج لا يتفق وطبيعة النزاع الإداري عموما ودعوى الإلغاء خصوصا.

ولقد عبر الفقيه Charles DEBBASCH عن هذا الوضع بقوله: ” في الإجراءات المدنية تتحدث عن الإثبات وإدارته، وفي الإجراءات الإدارية القضائية، دوما نكون بصدد مسألة التحقيق”. “En procédure civile, on parle plutôt de de la preuve et de son administration. En procédure administrative contentieuse, il est toujours question de l’instruction”

وعلى الرغم من تأييد جانب مهم من الفقه لمبدأ إلقاء عبء الإثبات على عاتق المدعي حتى في الدعوى الإدارية فإن هناك من يرى توزيع هذا العبء بين طرفيها، بحيث يتحمل كل طرف منها بنصيب يحدده القاضي الإداري، وذلك لتعذر إلقائه على طرف بمفرده.

وهكذا فإن السؤال المطروح هو: هل تطبيق قاعدة البينة على المدعي أمام قاضي الإلغاء في ظل الدور الإيجابي الذي يقوم به القاضي في الإثبات؟

يميل جانب من الفقه الفرنسي، وكذا جانب من الفقه العربي والقضاء الإداري في مصر إلى القول بوقوع الإثبات على المدعي، طبقا للأصل العام الذي يسري في مجال القانون الخاص والعام، مع قيام القاضي الإداري بدور إيجابي ملموس يساعد على الوفاء بهذا العبء؛ فعبء الإثبات عملية ذات شقين، الأول قيام الخصم المكلف بالإثبات بتقديم الدليل، والثاني استنتاج القاضي اقتناعه من هذا الدليل. ودور القاضي في الدعوى الإدارية هو نفسه دور القاضي في الدعوى المدنية، والقاضي لا يكلف بالإثبات في الأصل، وانما يكلف الخصوم، حيث أن المدعي ملزم بأن يقنع القاضي بصحة دعواه.

لكن تطبيق الأصل العام القاضي بإلقاء عبء الإثبات على المدعي يجب أن يتكيف مع ظروف دعوى الإلغاء التي تتميز بأن طرفها المدعى عليه يحوز عادة الدليل الرئيسي الذي لا يستطيع المدعي الحصول عليه وتقديمه؛ مما يتطلب تطبيق الأصل العام لكن مع مراعاة ذلك الوضع الذي يؤثر في الإثبات تأثيرا جوهريا، فدعوى الإلغاء تتميز بأنها دعوى موضوعية واجب القاضي فيها البحث عن مدى مشروعية القرار المطعون فيه، ولا يتأتى له ذلك إلا عن طريق إعمال سلطته التحقيقية بعيدا عن مصالح أطراف النزاع، وهذا ما يظهر الإثبات في دعوى الإلغاء بمفهوم مخالف لما هو معروف في باقي الدعاوی.

وخلاصة القول لدى هذا الجانب من الفقه هو تطبيق الأصل العام الذي يعني إلقاء عباء الإثبات على المدعي مع مساندة المشرع له في تسهيل هذا العبء عن طريق القرائن القانونية والقاضي عن طريق دوريه الإجرائي والموضوعي.

غير أن جانبا من الفقه في مصر وفرنسا يرى أن عبء الإثبات في الخصومة الإدارية موزع على المدعي والمدعى عليه، ويعتبر أن قاعدة البيئة على المدعي غير مطبقة أمام القاضي الإداري عموما وقاضي الإلغاء خصوصا، وأن الأمر يتعلق بتوزيع الإثبات وليس إلقاؤه على طرف واحد. إن الكثير من تعبيرات الفقهاء تندرج في سياق تبني هذا الرأي.

فالدكتور مصطفى كمال وصفي يرى أنه: “من العسير أن يقال أنّ الجهاز القضائي -المفوض والمحكمة – يتحمل عبء الإثبات، لأن تحمل عبء الإثبات إنما يستلزم الاقتناع سلفا بموضوع الدعوى، وهو ما لا ينسب لجهاز القضاء الإداري، لذلك ففي كثير من الأحيان لا يكون ثمة عبء للإثبات يتبادله الأطراف، بل كثيرا ما تخضع الدعوى لإجراءات من التحقيق يقوم بها القاضي كدور إيجابي يباشر به ولايته في الفصل، وهو في ذلك يقوم بتوزيع أعباء الإثبات على الطرفين”.

ويذهب GUSTAVE Peiser إلى أن الصفة الإيجابية للإجراءات القضائية تنعكس على نظام الإثبات، فالقاضي الإداري لا يؤسس حكمه على الأدلة الموضوعة تحت نظره فقط، “فالبحث عن الدليل إذن هو قبل كل شيء مسألة خصوصية خاضعة لتقدير وشعور وإحساس القاضي، ومن المستحيل وضع قاعدة عامة للإثبات أمام جهات القضاء الإداري”.

وعند Lermasurier فإن القاعدة المدنية التي تلقي بعبء الإثبات على عاتق المدعي ليس لها المفهوم نفسه أمام القاضي الإداري؛ نزولا على الصفة الإيجابية للإجراءات الإدارية، وأن المسألة لا تتعلق بإلقاء عبء الإثبات على أحد الطرفين بل تتعلق بتوزيعه بينهما، وإلى نفس الرأي يذهب christian BERGERES Mourice في مقال له حول عبء الثبات في القانون الضريبي.

كما يذهب Jean-Philippe COLSON إلى نفس الرأي بقوله: ” إن الأصل هو وجود قدر أدني للإثبات من جانب المدعي، الذي يتطلب منه القاضي توافره حتى يمارس دوره الإيجابي في البحث عن الحقيقة، ومن الناحية العملية فإنه في حالة تخلف الادعاء المحدد من المدعي الذي يعتبر بداية بسيطة للإثبات فإن القاضي الإداري لا يتدخل ولا يمارس نشاطه في مساعدة المدّعي”.

وفي هذا الصدد أيضا يقول Jean Lappane Joinville: “إن خصوصية الإثبات أمام الجهات القضائية الإدارية تكمن في أن القاضي لا ينتظر الطرف الملقى عليه عبء الإثبات حتى يأتي هو بالإثبات، وانما هو بإدارته للتحقيق يأمر بالإجراءات اللازمة لتكوين الاقتناع والتي تزوده بالعناصر اللازمة لهذا التكوين”.

ويرى الأستاذ Bernard PACTEAU أن خصوصية الإجراءات الإدارية جعلت من مسألة استقلالية مفهوم عبء الإثبات الإداري يأخذ معنى متميزا بحيث يلاحظ عليه الاتجاه بشكل محسوس وبصفة اتساقية ونظامية systématique نحو توزيع عبء الإثبات بين الأطراف.

ويمكن إجمال المبررات المنطقية التي تؤيد هذا الاتجاه في أنه:

1- لا توجد أي قاعدة في القانون الإداري تنص على أن عبء الإثبات ملقى على عاتق المدعي، كما لا توجد نصوص تبين ما هي طرق الإثبات الإداري ووسائله، أو تلزم القاضي أو الأطراف بترتيب معين بين هذه الوسائل، فالأمر متروك إذا للقاضي الذي يقرر على من يقع عبء الإثبات، وما هي الطرق والوسائل التي يقبل الإثبات بها، ويقدر قيمة كل وسيلة في ضوء طبيعة النزاع وظروفه.

2- أن تطبيق القاعدة العامة في الإثبات على الدعاوى الإدارية يضع الفرد الذي يخاصم القرار الإداري في دعوى الإلغاء في مركز المدعي وهو المركز الصعب من حيث الإثبات، بينما تشغل الإدارة بصفة عامة المركز الخاص بالمدعى عليه، والمعفي من الإثبات على الرغم من أنها الحائزة على أدلته والقادرة عليه، وهذا الوضع لا يستقيم ومقتضى العدل.

3- دعوى الإلغاء التي تهاجم القرار الإداري، ويكون المدعي فيها في وضعية المدعي دوما، وهو المكلف بالإثبات حسب قاعدة البينة على المدعي، تكون في ظل مجموعة الامتيازات التي تتمتع بها الإدارة وعلى رأسها احتكارها للوثائق الإدارية، مما يجعل تطبيق هذه القاعدة يؤدي فعليا في الأخير إلى القول بأن الإدارة غير قابلة للمنازعة.

4- إلزام الفرد كمدّعي بكل عبء الإثبات، وما فيه من مخاطر يبدو مجافيا للمنطق، كما أنه يتنافى والعدالة، فالفرد الذي يبدو شكليا أنه يهاجم، هو يدافع في الحقيقة -في ظل نظرية امتياز التنفيذ المباشر- في مواجهة قرار تتخذه الإدارة في الغالب بإرادتها المنفردة (عن طريق امتياز الأسبقية)، فمن المناسب إذا ومن أجل أقل قدر من الشرعية أن تساهم الإدارة -على الأقل – في الإثبات.

5- تحمل الفرد -الذي يكون هو المدعي دوما في دعوى الإلغاء- للإثبات غير مقبول على الإطلاق خصوصا إذا تعلق الأمر بقرار يتضمن عقوبة، أو إجراءاً ضبطيا، لأنه يكون مطالبا بإثبات انتقاء وجود وقائع، وهو مع صعوبته يتنافى ومبدأ قرينة البراءة. وبالتالي يكون من الأجدر في المنازعات الإدارية قلب عبء الإثبات أو على الأقل يعاد تنظيمه وجعله مرنا بحيث تراعى فيه مواقف الأطراف.

6- لأجل كل هذه الاعتبارات بالإضافة إلى اعتبار كون دعوى الإلغاء دعوى موضوعية الهدف منها ليس إنصاف الشخص فقط وإنما إرساء المشروعية؛ فإن M. D. LEGER يرى أن المهمة الأساسية المنوطة بالقاضي الإداري في إطار تحرير نظام الإثبات هي القضاء على التفاوت بين الأطراف الذي تتسم به المنازعة الإدارية، والمسؤول عن وضع دائم تقريبا للفرد في موقف المدعي والإدارة في موقف المدعى عليه.

وهكذا وتأسيسا على خصوصية النزاع الإداري عموما ودعوى الإلغاء خصوصا يمكن القول بتضافر الآراء على وجود خصوصية أيضا في تطبيق قاعدة “البينة على من ادعى” أمام القاضي الإداري الذي يقوم بدور كبير في توزيع عبء الإثبات بين الفرد والإدارة؛ لكن ما هي المعايير التي يستند إليها في هذا التوزيع؟

لقد ذهب بعض الفقه إلى التمييز بين عبء الادعاء الذي يقع في جميع الأحوال على المدعي، وبين عبء الإثبات الذي يتولى القاضي بمقتضى دوره الإيجابي توزيعه بين الطرفين في ضوء طبيعة القرار المطعون فيه، ومدى ممارسة الإدارة بشأنه سلطة تقديرية، ومدى مبادرتها بالتصرف في موضوع المنازعة.

وعلى هذا الأساس يتم توزيع عبء الإثبات بين الطرفين بمعرفة القاضي الإداري، كما يتحمل هو الآخر واجب القيام بإدارة الإثبات عن طريق سلطاته التحقيقية. بحيث يكلف القاضي المدعي بتقديم ادعاءات أو ما يمكن أن نسميه بدايات أو منطلقات إثبات « commencement de preuve » تحت طائلة رفض دعواه لعدم التأسيس، ومعنى ذلك أن على المدعي أن يقدم ادعاءات بوجود أدلة كافية ودقيقة يستند إليها طعنه -دون أن يقدم الدليل- والقاضي يستعمل سلطاته في التحقيق للبحث عن الحقيقة، إن هذه الادعاءات أو عناصر الإثبات التي يقدمها المدعي يجب أن تكون من طبيعتها كما يعبر الفقيه Charles DEBBASCH أن تقيم الشك في ذهن القاضي، وهذا هو عبء الإثبات الملقى على عاتق المدعي، فإذا ما تشكل الشك في ذهن القاضي حرك هذا الأخير سلطاته التحقيقية في البحث عن الحقيقة، وهذه أحد أهم أشكال مساهمة القاضي في الإثبات، كما يساهم القاضي في الإثبات من خلال دورة المتحرر في الأمر بوسائل التحقيق وتقدير نتائجها، والرقابة على مدى صحة المستندات الموضوعة أمامه كأدلة للإثبات، والعمل على وضع حدود منطقية على السلطة التقديرية للإدارة في اتخاذ قراراتها.

لكن الاجتهاد القضائي لم يضع صيغة عامة لطبيعة بدايات الإثبات التي على المدعي تقديمها، إن الاجتهاد يحكمه في هذا الشأن اعتبارين: فحسب صعوبة الحصول على أدلة الإثبات أو سهولتها، يقبل القاضي بسهولة أو بصعوبة بدايات إثبات، وبحسب جسامة الوسائل المدعى بها من طرف المدعي ضد القرار المطعون فيه يبدي القاضي أقل أو أكثر قسوة.

لقد حاول الدكتور مصطفى كمال وصفي وضع بعض الضوابط في هذا الشأن، يقول: “والذي نراه في ذلك كله أنه يجب أن تفرق بين أمرين:

الوقائع الإدارية التي تقع في محيط العمل الإداري، والوقائع غير الإدارية وهي التي تقع خارج هذا المحيط وتتصل بالحياة العامة، فأما الأولى فإن دور المدعي لا يعدو أن يكون مجرد الإرشاد؛ إذ تكون أصول الوثائق ووسائل الإثبات في هذه الأمور في حوزة الإدارة ويطرفها، كدفتر الحضور والانصراف ودفاتر العهدة ونحو ذلك، ولا يكون لدى الفرد سوى رقم أو تاريخ ونحو ذلك من الدلالات الإرشادية… أما بالنسبة للوقائع غير الإدارية، وهي التي تحصل خارج مجال الإدارة- وذلك كواقعات الانتقام والهوى والأغراض الخاصة ونحوها مما يقوم عليه الطعن بالتعسف، وما يستمد من المركز الذاتي لصاحب الشأن، فإن ذلك كله يكون عبء إثباته على المدعي وليس على الإدارة”.

وتساهم الإدارة في الإثبات من خلال تعاونها الفعلي في سير التحقيق، والإجابة على ادعاءات المدعي، تحت طائلة معاقبتها على السكوت وعدم التعاون باستنتاج قرائن تؤدي إلى قلب عبء الإثبات على عاتقها.

إن الدكتور أحمد كمال الدين موسى ينتقد هذا الاتجاه من حيث أنه يزيد مسألة تنظيم عبء الإثبات صعوبة ودقة، وهذا ليس في مصلحة المدعي بل يزيد من حدة عدم التوازن بين طرفي الدعوى الإدارية، وأن تطبيق الضوابط التي وضعها الفقه المؤيد لهذا الاتجاه، مؤداه الرجوع إلى القاعدة الأصلية التي تلقي بعبء الإثبات على المدعي مع قيام القاضي الإداري بدور إيجابي.

إننا وإن كنا نوافق الدكتور أحمد كمال الدين موسى في هذا الرأي إلا أن ذلك لا يعني أن القاعدة العامة في عبء الإثبات مطبقة بنفس الشكل الذي تطبق به في الدعاوى العادية، بل إنها تتكيف مع طبيعة النزاع الإداري ويظهر ذلك من خلال الصفة الإيجابية للإجراءات القضائية الإدارية؛ والتي تعتمد على دور القاضي الإداري الذي يقدر مدى تدخله وحدوده حسب كل قضية على حدة، وفي ضوء ما يكتنفها من ظروف تتعلق بسلوك الإدارة ومدى تعاونها، ومدى ممارستها لسلطة تقديرية في إصدار القرار، ومدى توافر مستندات إدارية كأدلة إثبات… وبعبارة أجمع فإن هذا الدور الإيجابي هو نفسه يتمثل في توزيع عبء الإثبات وفقا للضوابط التي يراها الجانب الثاني من الفقه وحتى تلك التي غفل عنها وتبدت للقاضي في قضية معينة، فالضابط هو تحقيق العدالة وحماية المشروعية.

وهكذا فإننا نرى أن الاختلاف بين الفريقين اختلاف شكلي يؤدي إلى نفس النتيجة، وهي اضطلاع القاضي الإداري عموما وقاضي الإلغاء خصوصا بدور إيجابي في تحديد من يتحمل عبء الإثبات، جاعلا نصب عينيه تحقيق العدالة وحماية المشروعية.