قاعدة عبء الإثبات

مرحلة الإثبات هي أهم وأصعب مرحلة من مراحل الخصومة القضائية، بل هي محورها حيث يقدم كل خصم فيها الأدلة المؤيدة لطلباته، وعلى أساس نتائج هذه المرحلة يتم الفصل في طلبات الخصوم التي تمثل الهدف النهائي لرفع الدعوى.

والإثبات من الموضوعات التي تناولها فقهاء القانون بالبحث والتحري سواء في المجال المدني أو الجنائي أو الإداري نظراً لأهميته ومكانته في القانون، ولذلك كثرت التعاريف التي ذكرها الفقهاء للإثبات.

قبل التطرق إلى القاعدة العادية في عبء الإثبات في الفرع الثاني، وقبل التطرق إلى مدى تطبيقها في دعوى الإلغاء في الفرع الثالث، يجدر بنا التطرق إلى تعريف الإثبات وبيان أهميته في الفرع الأول.

الفرع الأول: تعريف الإثبات وأهميته.

عرف الدكتور عبد الرزاق السنهوري الإثبات بأنه: “إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون على وجود واقعة قانونية ترتب آثارها”.

كما عرفه الدكتور جلال العدوي بأنه: “إقامة دليل يرجح وجود أو انتفاء واقعة قانونية يتوقف على وجودها أو انتفائها تقرير وجود أو انتفاء أثر قانوني متنازع عليه وذلك بالقيود التي يفرضها القانون”.

وتشترك مجمل التعريفات التي أوردها الفقه للإثبات في ثلاثة عناصر هي:

1) الإثبات يعني إقامة الدليل.

2) الإثبات لابد وأن يتم من خلال الطرق التي حددها القانون.

3) لابد أن ينصب الإثبات على واقعة قانونية تترتب عليها أثار.

وفي الشريعة الإسلامية يعرف الإثبات بأنه: “إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددتها الشريعة على حق أو على واقعة معينة تترتب عليها أثار”، كما عرف بأنه:” إقامة الحجة أمام القضاء بالطرق التي حددتها الشريعة على حق أو واقعة تترتب عليها آثار شرعية”.

ويستنتج من هذا التعريف العناصر التالية للإثبات في الشريعة الإسلامية وهي:

1 إقامة الدليل: يعني تقديمه إلى من يراد إقناعه بالأمر، ولا يعني إنشاؤه.

2 أمام القضاء: وهذا قيد ضروري في الاثبات القضائي، ويفهم منه أن الإثبات ينصب على أمر متنازع فيه مرفوع أمام القضاء ليبت في شأنه.

3 بالطرق التي حددتها الشريعة: وهذا يعني أن أحكام الإثبات أحكام شرعية لا يجوز إقامة الدليل أمام القضاء على حق إلا بالوسائل التي حددتها الشريعة.

4 على حق أو واقعة: وهذا الحق أو الواقعة هو محل الإثبات.

5 تترتب عليها آثار شرعية: وهذا هو الهدف والغاية من الإثبات، فلا يصح إثبات أمر أو واقعة لا يترتب عليه أثر من الآثار.

وللإثبات أهمية بالغة، فهو الذي يثبت به الحق المتنازع عليه، وتثبت به المراكز القانونية، ونظريته تطبق يوميا أمام المحاكم، ويتحقق به حقن الدماء، وصيانة الأعراض، ورد الحقوق إلى أصحابها، واستتباب الأمن في المجتمع، وسيادة الطمأنينة والنظام.

والإثبات هو الذي يبعث الروح في الحق ويجعله قابلا للاستفادة منه أو المطالبة به، وهو للحقوق النشر للقوانين؛ فمتى اعتدي على الحق الثابت كان للمعتدي على حق اللجوء إلى القضاء لكي يطالب به، ويحاول بما يملك من أدلة إقناع القاضي بالحكم لصالحه، وذلك قصد حماية هذا الحق؛ لأن الحق إذا لم يدعم بوسائل إثبات يصبح هو والعدم سواء.

وفي هذا المعنى تقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للقانون المدني المصري رقم 25 لسنة 1968: “إن الحق يتجرد من كل قيمة إذا لم يقم الدليل على الحادث الذي يستند إليه، فالدليل هو مقصد حياته ومقصد النّفع فيه، ومن ثم صدق القائل بأن الحق مجرداً من دليله يصبح عند المنازعة فيه هو والعدم سواء”.

ويقول Planiol : ” إن الإثبات يبعث الحياة في الحق، ويجعله مفيدا، وهذا ما يكشف عن الأهمية العلمية للمسائل المتعلقة بالإثبات لمن يريد الحصول على الاعتراف بحق معين”.

ويقول الدكتور محمد الزحيلي: “وتتأكد أهمية الإثبات أنه عام في جميع الحقوق، سواء أكانت من الحقوق العامة، أم من الحقوق الخاصة، وسواء في ذلك الحقوق المالية والحثوث العائلية، وسواء الحقوق المادية والحقوق المعنوية والأدبية، وإن وظيفة الإثبات يومية ودائمة على مر الزمان والعصور، ويلجأ إليه الأفراد في كل نزاع، ويستخدمه القاضي في كل قضية، ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على إحدى المحاكم لنرى مئات الأشخاص وآلاف الدعاوى تتوقف كلها سلبا وإيجابا على الإثبات”.

الفرع الثاني: القاعدة العادية في عبء الإثبات.

عبء الإثبات اصطلاحا هو تكليف أحد الخصوم بإقامة الحجة والدليل على دعواه. ولذلك يجب تحديد من يكلف بعبء الإثبات.

إن الذي يقوم بالإثبات هو الخصوم في ظل مبدأ حياد القاضي وعدم قضاءه بعلمه الشخصي، ومنه فإن تكليف أحد الخصوم بإقامة الحجة والبيئة على الشيء المتنازع عليه أمر في غاية الخطورة لأنه يؤثر في سير الدعوى وفي نتيجتها ويجعل الخصم الذي يلقى عليه عبء الإثبات في مركز دون مركز خصمه، إذ يكلف بالقيام بعمل إيجابي تتوقف عليه نتيجة الدعوى؛ بينما يكتفي خصمه بأن يقف من الدعوى موقف سلبيا.

وقد لا يكون الحق ثابتا بوضوح لأي من الطرفين، بل قد يكون الحق متراوحا بينهما، ولهذا فإن القاضي إزاء هذا الموقف يفتقر إلى ما يرجح أحد الادعاءين ولا يستطيع الترجيح إلا بمرجح أصلي أو بتقديم الحجة والدليل والا كان ترجيحه بدون مرجح وهو باطل.

وقد يتوقف مصير الدعوى في أحيان كثيرة على تحديد من يقع عليه عبء الإثبات، ولذلك كانت قواعد عبء الإثبات هي أولى قواعد الإثبات وأهمها، حيث أن إلقاء عبء الإثبات على أحد الخصمين معناه أن يحكم له أو لخصمه.

وتظهر أهمية تحديد المكلف من الخصوم بعبء الإثبات في الصعوبة العملية التي تكتنف الإثبات سواء في تعذر الحصول على الدليل أو في خضوع هذا الدليل للتنفيذ والتشكيك من الطرف الأخر في الخصومة أو في السلطة التقديرية المقررة لمحكمة الموضوع في تقدير دلالة الدليل المقدم على الواقعة محل الإثبات.

يقول الدكتور محمد مصطفى الزحيلي: “إن معرفة القواعد في عبء الإثبات ذات أهمية عظيمة، لأنه يترتب على تكليف أحد الخصمين بالإثبات حكم ضمني من القاضي بتصديق الطرف الثاني، وترك محل الإثبات في يده والاكتفاء بقوله، وترجيح جانبه على جانب الأول، فإذا تعذر على المكلف بالإثبات إقامة الحجة على دعواه، أو قدم دليلا ضعيفا، خسر حقه مع احتمال صدقه”.

وهكذا فإن الخصم الذي يكلف بعبء الاثبات يكون في موقف صعب وحرج لأنه نتيجة للعجز عن تقديم الدليل يعرض حقه للضياع و خسارة الدعوى بخلاف الطرف الآخر الذي يعفي من عبء الاثبات فيكتفي باتخاذ موقف سلبي من النزاع.

وعبه الإثبات بالإضافة إلى كونه واجبا فهو حق لصاحبه، فإن من يرفع الدعوى ويطالب بالحق من غيره يحق له أن يثبت دعواه ويقيم الدليل عليها ليحكم له بها.