القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
القسم الأول: القواعد العامة للإثبات
– القواعد الموضوعية العامة للإثبات
أولاً: محل الإثبات
1- ماهية محل الإثبات (الواقعة القانونية)
2- شروط محل الإثبات
ثانياً: أشخاص الإثبات
1- الخصوم وحقهم في الإثبات
2- القاضي ودوره في الإثبات
ثالثاً: عبء الإثبات
1- الإثبات عبء
2- على من يقع عبء الإثبات
– القواعد الإجرائية العامة
أولاً: القاضي المختص بإجراءات الإثبات
1- القاضي المختص في الأنظمة الوضعية
2- القاضي المختص في الشريعة الإسلامية والنظام السعودي
ثانياً: الأحكام الصادرة بالإثبات
1- ماهية الحكم الصادر بالإثبات
2- خصائص الأحكام الصادرة بإجراءات الإثبات
القسم الثاني: طرق الإثبات وإجراءاتها
– طرق الإثبات العادية
أولاً: الإثبات بالكتابة
1- الكتابة وأهميتها في الإثبات
2- نطاق الإثبات بالكتابة
3- أوراق الإثبات
الأوراق الرسمية
الأوراق العرفية
4- إثبات صحة أوراق الإثبات
تحقيق الخطوط
الادعاء بالتزوير
ثانياً: شهادة الشهود
1- مفهوم الشهادة وأنواعها ونصابها
2- قوة الشهادة في الإثبات
3- إجراءات الشهادة وأداؤها وسلطة المحكمة بشأنها
ثالثاً: القرائن
1- معنى القرينة وحكم مشروعيتها وأنواعها
2- القرائن القضائية
عناصر القرينة القضائية
سلطة القاضي في الإثبات بالقرائن وحالاته
رابعاً: المعاينة والخبرة
1- المعاينة
2- الخبرة
– طرق الإثبات غير العادية
أولاً: الإقرار
1- ماهية الإقرار وطبيعته
2- أنواع الإقرار
القواعد العامة في الإقرار
الإقرار القضائي
الإقرار غير القضائي
3- الاستجواب
ثانياً: اليمين
1- أنواع اليمين
2- سلطة المحكمة في توجيه اليمين
3- الآثار المترتبة على توجيه اليمين
مدخل لدراسة الإثبات القضائي
أولاً: مفهوم الإثبات القضائي:
إن تحديد معنى الإثبات ومفهومه في مجال القانون لا يتأتى إلا برد الكلمة (إثبات) إلى أصلها في اللغة العربية. والإثبات في اللغة هو: ” تأكيد الحق بالدليل، يقال اثبت حجته أي أقامها وأوضحها ” . أما في اصطلاح فقهاء القانون فإن الإثبات أو (البينة) هو: ” إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون على وجود واقعة قانونية متنازع عليها بما ينبني عليه من آثار”.
فالإثبات وفقا لهذا التعريف هو الوسيلة الوحيدة التي يعتد بها القانون لتأكيد وجود الواقعة محل النزاع أو عدم وجودها، ومن ثم إمضاء الآثار القانونية الموضوعية المترتبة على تلك الواقعة. وبالتالي فأن تأكيد وجود الواقعة محل النزاع أو نفيها لا يقبل من غير إثبات، كأن يعتمد القاضي في حكمه على فصاحة الخصم قوة عبارته، ونحو ذلك.
وقد اهتم بعض الفقهاء في تحديدهم لمعنى الإثبات بمسألة القيود التي يفرضها المشرع على مسألة الإثبات، فعرفوا الإثبات بأنه: ” إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون وبالقيود التي رسمها على وجود واقعة قانونية متنازع عليها ” . ويبدو من هذا التعريف تركيز هؤلاء على الإطار القانوني الذي يمثل قيداً على عملية الإثبات من حيث تحديد طرق الإثبات في عمومها أولاً، ومن حيث التقيد بالشروط والضوابط التي سنها المشرع بالنسبة لكل طريق من طرق الإثبات من الناحية الثانية.
و كما هو واضح فإن كلا التعريفين لا يخرج عن المعنى العام الذي شاع بين فقهاء القانون لهذا المصطلح.
بيد أن التعريف الذي نختاره لمصطلح الإثبات – وهو التعريف الذي قال به بعض فقهاء القانون – هو: ” تقديم الدليل المقبول أمام القضاء بالطرق المقررة على واقعة قانونية محل نزاع بين الخصوم “. فهذا التعريف يتسم بالدقة و الوضوح والبساطة من جانب ، كما يتسم بالإحاطة بمعنى الإثبات وعناصره من ناحية ثانية، بحيث يغنينا عن غيره من التعريفات.
وكما هو واضح من تعريف الإثبات السابق فإن المقصود هو (الإثبات القضائي)؛ أي الإثبات الذي يتم عن طريق تقديم الدليل أمام القضاء أو المحكمين أو الموفقين – وهو في هذا يختلف عن الإثبات بالمعني العام، أي ذلك الإثبات المجرد من كل قيد، ولا يكون أمام القضاء كالإثبات العلمي، والإثبات التاريخي فكل من هذين النوعين الأخيرين من الإثبات يتم بأي وسيله كانت بحثا عن الحقيقة المجردة.
والإثبات القضائي بمعناه القانوني، يتعين أن ينصب علي وجود واقعة قانونية أو نفيها، ذلك أن محل الإثبات ليس هو الحق المتنازع عليه؛ بل محله الواقعة القانونية المنشئة لهذا الحق سواء أكانت هذه الواقعة عملا قانونيا، أي تصرفا قانونيا كالبيع أو الوكالة، أم كانت واقعة مادية كالعمل غير المشروع .
أخيرا يتعين أن يتم الإثبات بالطرق التي حددها القانون؛ ذلك أن المشرع يحدد طرق الإثبات المختلفة وطريقة تقديمها، وهو تحديد ملزم للخصوم كما هو ملزم للقاضي، بحيث لا يحق للخصوم الاستناد في دعاواهم على غير طرق الإثبات المقبولة قانونا، أو أن يخالفوا ضوابط القانون في عملية الإثبات أمام القضاء، فإن فعلوا لم يجز للقاضي أن يقبل ما قدموه من أدلة. وفي هذا جانب يبدو واضحا الخلاف الجوهري بين (الإثبات العلمي والإثبات التاريخي) والذي يتميز بالتحرر من كل قيد في إثبات الحقائق العلمية والتاريخية موضوع البحث و (الإثبات القضائي).
ثانياً: أهمية الإثبات القضائي:
يعتبر موضوع الإثبات من أهم وأدق المسائل التي تواجه القاضي وهو يؤدي وظيفة الفصل في الخصومات وتحقيق العدالة ؛ إذ أن قواعد الإثبات تهدف عموماً إلى كشف الحقيقة التي تتجسد في مظهرها النهائي في الحكم الذي يصدره القاضي في الدعوى المعروضة عليه، أو ما يعبر عنه (بالحقيقة القضائية). لذلك قيل بأن الحكم هو عنوان الحقيقة و مظهرها، إلا أن الحكم أو الحقيقة القضائية لا يأتي دائما مطابقاً لحقيقة الواقع (الحقيقة الواقعية)، فقد يحصل التعارض بينهما الأمر الذي يشكل خطراً على استقرار المعاملات وإهدارا للعدالة في المجتمع . ومن هنا لزمت العناية بمسألة الإثبات والتي تعتبر هي السبيل الأوحد لتحقيق التطابق – أو على الأقل التقارب – بين الحقيقتين الواقعية والقضائية، الأمر الذي يصب في النهاية في صالح حماية الحق ذاته من الضياع.
فالحق أيا كان، يرتبط من الناحية الواقعية بالقدرة على إثباته؛ إذ لا يمكن التمتع بحق ما دون إقامة الدليل عليه عند النزاع. فإن ثبت عجز مدعي الحق عن تقديم الدليل المرسوم تعذر التمسك بالحق أو المركز القانوني الذي يدعيه الشخص. ولكن بالرغم من هذا التلازم والارتباط الوثيق بين الحق والدليل عليه، فإن الدليل في الحقيقة هو شيء مختلف عن الحق ذاته؛ فهو لا يعدو أن يكون مجرد وسيلة لإثبات وجود الحق بشروطه وأوصافه فلو كان الدليل باطلا مثلا فأن ذلك لا يحول دون إثبات الحق بدليل آخر . ولتوضيح ذلك، فإن الإثبات إنما يرد علي مصدر الحق، لا على الحق ذاته، ومصدر الحق كما هو معلوم قد يكون تصرفا قانونيا أو واقعة قانونية، أما الحق ذاته فلا يكون محلا للإثبات بل هو الهدف الذي يرمي إليه صاحب الحق من الإثبات.
والقاعدة أن الإثبات إنما يقصد به إقامة الدليل على الواقعة القانونية المنتجة في الدعوى بالمعنى الشامل للواقعة والذي يتضمن التصرف القانوني أيضا ؛ لأن هذا التصرف القانوني في حقيقته لا يعدو أن يكون واقعه إرادياً ترتب آثاراً قانونية، و ينبني على هذه القاعدة أن الإثبات لا يرد على القاعدة القانونية ؛ لأن على القاضي واجباً أساسياً بمعرفة القانون و الإحاطة بأحكامه حتى يتسنى له تطبيقها . ويترتب علي ذلك أن العجز عن إثبات مصدر الحق من شأنه أن يؤدي إلى عدم وجود الحق أمام القضاء كحقيقة قضائية ولو كان له وجود في الحقيقة والواقع.
ثالثاً: التنظيم القانوني للإثبات القضائي:
يشتمل التنظيم القانوني للإثبات – بالنظر إلى فحوى القاعدة القانونية وطبيعة الموضوع الذي تنظمه – علي طائفتين من القواعد هما القواعد الموضوعية والقواعد الشكلية.
الطائفة الأولى من قواعد الإثبات أطلق عليها فقهاء القانون وصف القواعد الموضوعية بحكم ما تهدف إليه من تنظيم الإثبات القضائي من الناحية الموضوعية ، فنجد هذه الطائفة من قواعد الإثبات تهتم بمعالجة وتبيان طرق الإثبات المختلفة من إقرار وشهادة ومستندان ويمين…الخ. كما أنها تحدد القيمة قانونية الكل طريق من تلك الطرق في الإثبات، كما تهتم هذه الطائفة أيضا بمعالجة المسائل المتعلقة بعبء الإثبات، وتوزيعه بين الخصوم ومحل الإثبات في الدعاوى أيا كأن نوعها، كما تهتم بمعالجة مشروعية الأدلة أو وسائل الإثبات.
الطائفة الثانية من قواعد الإثبات – وعلى خلاف الطائفة الأولى – لا شأن لها بالشق الموضوعي للإثبات القضائي؛ وإنما يقتصر دورها على الجانب الشكلي، وهذه هي القواعد الشكلية.
وفي الواقع فإن دور القواعد الشكلية في مجال الإثبات لا يقل أهمية وحيوية عن القواعد الموضوعية ، حيث تلعب هذه القواعد دوراً هاما في الجانب التنظيمي لعملية الإثبات أمام المحاكم وكما هو معلوم فإن الجانب التنظيمي هو العمود الفقري لعملية تحقيق العدالة في شتى مجالاتها، وبغيره تغدو الإجراءات أمام المحاكم مسرحا للفوضى ومعتركاً للأهواء، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه للتغول على العدالة وهدمها من أساسها. وتهتم القواعد الشكلية في قانون الإثبات بمعالجة الإجراءات الواجب إتباعها في تقديم البنية التي حددتها القواعد الموضوعية أمام القضاء. مثل الإجراءات الخاصة بتقديم المستندات أمام المحكمة والاعتراض عليها والطعن فيها، والإجراءات المنظمة لكيفية أداء الشهادة ومراحلها المختلفة من استجواب رئيسي، ومناقشة، وإعادة استجواب. ومن قبيل القواعد الشكلية وصف إجراءات المعاينة القضائية وكيفية إعداد محضرها ، وإجراءات بينة الخبير وكيفية تحريرها وما ذلك.
ونظرا للطبيعة المزدوجة لقواعد الإثبات وارتباطها بالشكل والموضوع في أن واحد، فقد انقسمت التشريعات بالنسبة للمكان التي ترد فيه قواعد الإثبات إلى اتجاهات ثلاثة:
الاتجاه الأول يرى وضع القواعد الموضوعية للإثبات في القانون الموضوعي، كالقانون المدني والقانون الجنائي، بينما توضع القواعد الشكلية في القانون الإجرائي، كقانون الإجراءات المدنية (قانون المرافعات) وقانون الإجراءات الجنائية. والهدف الذي يرمي إليه هذا الاتجاه هو المحافظة على الطبيعة المميزة لكل من نوعي قواعد الإثبات. وهذا هو الاتجاه السائد في القوانين اللاتينية كالقانون الفرنسي والقانون المصري.
الاتجاه الثاني يرى جمع قواعد الإثبات الموضوعية والشكلية معاً وتضمينها في القوانين الإجرائية، أي أن هذا الاتجاه يتعامل مع قواعد الإثبات في عمومها على أنها قواعد إجرائية، دون أن يلقي بالاً للطابع الموضوعي الذي تتسم به كثير من قواعد قانون الإثبات. وهذا الاتجاه أخذ به القانون الألماني والقانون السويسري وبعض القوانين العربية كالقانون اللبناني.
أما الاتجاه الثالث فيتسم بالوسطية في موقفه من تصنيف قواعد الإثبات، فيرى إفراد قانون خاص لقواعد الإثبات الموضوعية والشكلية معاً، وبالتالي معاملة قانون الإثبات كفرع مستقل ومميز من فروع القانون، لا شأن له بالقوانين الموضوعية ولا القوانين الإجرائية.
الإشكاليات العملية في الإثبات القضائي
المطلب الأول
عبء الإثبات
أولاً:من يقع عليه عبء الإثبات:
لقد حدّد رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقع عليه عبء الإثبات من الخصوم بقوله:((لو أعطي الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء وأموالهم لكن البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر )) وفي رواية أخرى ((اليمين على المدعى عليه)).
هذا الحديث يضع قاعدة فقهية عظيمة من قواعد الفقه الإجرائي. ولقد اهتم الفقه الإسلامي والفقه القانوني بتحديد من هو المدعى. واستقر الأمر على أن ليس المقصود بالمدعى رافع الدعوى، ولكنه كل من ادعى على خلاف الثابت أصلاً أو عرضاً أو ظاهراً. حيث يقول الإمام القرافي أن المدعى كل من خالف قولة أصلاً أو عرفاً.وذهب معظم الشافعية إلى أن المدعى هو من يلتمس خلاف الظاهر.
والظاهر عندهم نوعان: ظاهر بنفسه وظاهر بغيره، أما الظاهر بنفسه هو ما يكون مستفاداً من الأصول كالظاهر المستفاد من البراءة الأصلية، والظاهر بغيره هو ما يستفاد من العرف أو القرائن أو دلائل الحال.
وفي الفقه القانوني المدعى هو كل من ادعى على خلاف:
1) الثابت أصلاً: كمن يدعى أنه دائن لآخر بدين شخصي فهو يدعى على خلاف الثابت أصلاً وهو براءة الذمة من الديون.
2) الثابت عرضاً: إذا نجح الدائن في إثبات دينه في ذمة المدين وادّعى المدين عكس ذلك فإنه يدعى على خلاف ما ثبت عرضاً فعلاً، فالذي ثبت عرضاً أو فعلاً هو انشغال ذمته بالدين ولذلك يقع عليه عبء إثبات انقضاء الدين.
3) الثابت ظاهراً: في مجال الحقوق العينية خصوصاً تثور فكرة الثابت ظاهراً؛ فالظاهر للعيان أن حائز الشيء مالكه فالحيازة قرينة على الملكية ولذلك فمن ادعى خلاف هذا الظاهر عليه عبء الإثبات فيثبت أن العين ملكه رغم أنها ليست في حيازته.
ثانياً: نقل عبء الإثبات والإعفاء منه:
قد يصعب أو يستحيل على المدعى إقامة الدليل فيتدخل النظام ويفترض ثبوت الواقعة التي يصعب أو يستحيل ثبوتها عن طريق ما يعرف بالقرائن القانونية، وهي وسائل يلجأ إليها النظام ليفترض من خلالها ثبوت واقعة مجهولة من وجود واقعة معلومة، نظراً لارتباط الواقعتين في الأغلب الأعم من الحالات، وبذلك يكفي المدعى أن يتمسك بالواقعة المعلومة فتثبت الواقعة المجهولة بقوة القانون.
والقرائن القانونية نوعان:
النوع الأول: قرائن بسيطة يمكن إثبات عكسها، ولذا هي لا تعفي من تقررت لصالحه نهائياً من عبء الإثبات وإنما تنقل عبء الإثبات من الطرف الذي يتمسك بها إلى خصمه، ومن ذلك مثلاً ما نصت عليه المادة (157) من نظام المرافعات الشرعية بقولها (حيازة المنقول قرينة بسيطة على ملكية الحائز لها عند المنازعة في الملكية؛ ويجوز للخصم إثبات العكس) وجاء في اللائحة التنفيذية لنظام المرافعات (حيازة المنقول دليل الملك ما لم يعارضها ما هو أقوى منها لأن الأصل أن ما تحت يدي الإنسان ملك له (م 175/1) وكذلك (حيازة المنقول قرينة بسيطة على ملكية الحائز يستند عليها في الحكم مع يمين الحائز عند عدم البينة) (م 157/1).
النوع الثاني: قرائن قاطعة هي التي لا يجوز إثبات عكسها؛ ولذلك فهي تعفي من تقررت لصالحه من عبء الإثبات نهائياً، مثال ذلك مسؤولية حارس الآلات الميكانيكية؛ فمجرد حدوث ضرر من الآلة للغير يفترض معه النظام أن حارسها قد قصر في أداء واجب الحراسة ولا يكلف مدعى الضرر بإثبات التقصير بل إن القانون لا يسمح للحارس بإثبات أنه قام بواجب الحراسة؛ لأن قرينة التقصير تكون قاطعة.
المطلب الثاني
الواقعة محل الإثبات
أولاً: مفهوم الواقعة محل الإثبات:
نصت المادة (97) من نظام المرافعات الشرعية على أنه (يجب أن تكون الوقائع المراد إثباتها أثناء المرافعة متعلقة بالدعوى منتجة فيها جائزاً قبولها) فمحل الإثبات ليس هو الحق المدعى به وليس القاعدة النظامية أو الشرعية المراد تطبيقها، وإنما هي الواقعة المنشئة للحق.
التفرقة بين القاعدة القانونية والواقعة القانونية:
لكي يقام الدليل على الادعاء أمام القضاء ينبغي من الناحية المنطقية أن نبدأ من القاعدة القانونية التي يستند إليها. ثم ينبغي أن يثبت بعد ذلك أن المدعى يوجد في الوضع المطلوب لتطبيق القاعدة القانونية. الإثبات بالمعنى الصحيح لا يقع بصفة عامة إلا على الوقائع والظروف التي لا يوجد فيها الشخص والتي تبيح تطبيق القاعدة القانونية؛ فالمدعى لا يطالب بإثبات العنصر القانوني ولكنه يطالب فقط بإثبات الوقائع. أما إثبات القانون فهو من عمل القاضي؛ فمحل الإثبات إذن هو الواقعة القانونية التي تعتبر مصدراً للحق المدعى به والواقعة محل الإثبات هي الواقعة القانونية بالمعنى العام. سواء كانت واقعة مادية أم تصرفاً قانونياً.
فمن يدعي أن له ديناً في ذمة آخر عليه أن يثبت مصدر الدين أي عليه أن يثبت الواقعة القانونية التي أنشأت الدين سواء كان ذلك تصرفاً قانونياً كالعقد، أم واقعة مادية ترتب عليها قيام هذا الدين في ذمته كالعمل غير المشروع؛ هذا هو ما ينبغي إثباته. إذا الجوهر في هذا الصدر هو أن الإثبات يرد على الواقعة القانونية ذاتها بوصفها مصدراً لحق أو الالتزام دون هذا الالتزام أو ذلك الحق ومتى قام المدعي بذلك كان على القاضي أن يطبق القانون على ما ثبت لديه من وقائع، فالقاعدة القانونية الواجبة التطبيق ليست محل الإثبات أي لا يكلف الخصوم بإثباتها. فهذا من عمل القاضي وحده والمفروض في القاضي أنه يعلم بالقانون وعليه وحده أن يبحث عن القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على ما ثبت لديه من الوقائع؛ وعلى ذلك ينبغي أن نفرق بين القاعدة القانونية التي لا يكلف الخصوم بإثباتها بل يفترض في القاضي العلم به والواقعة القانونية وهي التي تعتبر محل الإثبات وينبغي على الخصوم إثباتها.
إن الواقعة القانونية محل الإثبات ليست هي الحق المدعى به أو القاعدة المراد تطبيقها و إنما هي الواقعة مصدر الحق أو الواقعة المنهية للحق، فقد تنصرف الواقعة ليس فقط إلى وجود الحق أو زواله بل أيضاً إلى نقله وتعديله.
التفرقة بين الواقعة المادية والتصرف القانوني:
إن الواقعة محل الإثبات إما أن تكون واقعة مادية أو تصرف قانوني. والواقعة المادية قد تكون واقعة طبيعية، كالوفاة أو الولادة وقد تكون من عمل الإنسان بارتكاب فعل غير مشروع. أما التصرف القانوني فهو اتجاه الإرادة نحو إحداث أثر قانوني معين، قد يكون من جانبين كالعقود، أو من جانب واحد كالوصية أو الإبراء ويأخذ النظام السعودي بمبدأ حرية الإثبات سواء في الوقائع المادية أو التصرفات القانونية على خلاف الأنظمة المقارنة التي تقيد إثبات التصرف القانوني بالكتابة إذا بلغ نصاباً مالياً معيناً.
ثانياً: الشروط الواجب توافرها في الواقعة محل الإثبات:
حددت المادة (97) من نظام المرافعات الشرعية هذه الشروط وحصرتها في ثلاثة:
الشرط الأول: أن تكون الواقعة متعلقة بالدعوى:
وهذا يعني أن تتصل بالحق اتصالاً وثيقاً. وقد عرفتها المادة (97/1) من اللائحة التنفيذية بقولها: (الوقائع المتعلقة بالدعوى هي ما يؤدي إثباتها مباشرة أو غير مباشرة إلى إثبات الدعوى أو جزء منها) فالمدين الذي ترفع عليه دعوى المطالبة بالدين يمكنه أن يثبت أنه وفي هذا الدين لأن الوفاء نتصل بالدين اتصالاً مباشراً، أما الإثبات غير المباشر فهو الذي يرد على واقعة أخرى قريبة أو متصلة بالواقعة مصدر الحق ولا ينصب مباشراً على الواقعة مصدر الحق.
الشرط الثاني: أن تكون الواقعة منتجة في الإثبات:
ويقصد بها الواقعة المؤثرة في الدعوى نفياً أو إثباتاً (مادة 97 فقرة 2 من اللائحة التنفيذية) فإذا طالب المؤجر المستأجر بأجرة مدة معينة وقدم هذا الأخير مخالصات الأجرة عن جميع المدد السابقة على المدة التي يطالبه المؤجر بأجرتها ليحاول بذلك إثبات أنه يدفع الأجرة بانتظام لا جدوى من إثباته لأن إثبات الوفاء بانتظام عن المدد السابقة وإن كان يتصل بواقعة الوفاء بالأجرة المطالب بها فإن هذا الإثبات يكون رغم ذلك غير منتج في الدعوى؛ فدفع الأجرة عن مدد سابقة لا يفيد دفعها عن مدة لاحقة، أما إذا قدم المستأجر مخالصة بالأجرة عن مدة لاحقة للمدة المطالب بأجرتها فإن هذه واقعة منتجة في الدعوى حيث تعتبر قرينة على الوفاء بالأجرة المطالب بها ما لم يثبت العكس.
الشرط الثالث: أن تكون الواقعة جائزة القبول.
ومعنى ذلك أن تكون حسب تعبير اللائحة التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية:(ممكنة الوقوع فلا تخالف الشرع أو العقل أو الحس)؛ فالواقعة قد تكون مخالفة للشرع فلا يجوز قبولها كمن يدعي فائدة ربوية أو دين نشأ عن قمار، وقد تكون الواقعة مخالفة للعقل أو الحس فيستحيل قبولها وهنا تكون الاستحالة مادية كمن يدعي أنه ابن لشخص أصغر منه سناً، أو كمن يدعي أنه مالك دون أن يبين سبب ملكيته.
المطلب الثالث
سلطة القاضي في إدارة عملية الإثبات
إن للقاضي سلطة تقدير واسعة في إدارة عملية الإثبات ولها مظاهر عديدة أهمها ما يلي:
1) السلطة في قبول طلب الإثبات من عدمه:
إذا طلب الخصم إجراء أي إثبات ولم يقتنع القاضي بطلبه بعد إطلاعه عليه فيدوّن طلبه في الضبط ولو لم يحققه (المادة 99/1 من اللائحة التنفيذية) والنصوص على ذلك كثيرة منها ما نصت عليه المواد 101 – 112 – 117 – 124 من نظام المرافعات الشرعية السعودي.
كما أن للمحكمة من ناحية أخرى سلطة تقديرية في إجراء الإثبات من تلقاء نفسها حتى ولم لم يطلب أحد الخصوم ذلك. وليس في هذا إخلال بمبدأ حياد القاضي.
2) سلطة القاضي في العدول عن إجراء الإثبات:
إن الحكم بإجراء إثبات كندب خبير أو سماع شاهد أو استجواب خصم هو حكم غير قطعي لا يستنفد ولاية القاضي؛ ومن ثم يجوز له العدول عنه بشرط أن يسبب هذا العدول، وهذا ما نصت عليه المادة 99 مرافعات بقولها:(للمحكمة أن تعدل عما أمرت به من إجراءات الإثبات بشرط أن تبين أسباب العدول في دفتر الضبط ويجوز لها ألا تأخذ بنتيجة الإجراء بشرط أن تبين أسباب ذلك في حكمها).
3) سلطة القاضي في تقدير الدليل:
إن القاضي قد يقبل الإثبات بأي طريق إلا أنه يتمتع بسلطة تقدير واسعة في قبول نتيجة هذا الدليل؛ فالمسألة مسألة قناعة شخصية قائمة على أسباب منطقية فقد يقدر القاضي أن الشاهد قد شهد زوراً أو أن الخبير قد أخطأ أو أن المحرر المكتوب لا يوحي بالثقة؛ ولذلك نصت المادة 134 مرافعات شرعية على أن (رأي الخبير لا يقيد المحكمة ولكنها تستأنس به)، ونصت المادة 139 على أن (للمحكمة أن تقدر ما يترتب على الكشط والمحو والتحشية وغير ذلك من العيوب المادية في الورقة من إسقاط قيمتها في الإثبات وإذا كانت صحة الورقة محل شك في نظر المحكمة جاز لها أن تسأل الموظف التي صدرت عنه أو الشخص الذي حررها ليبدي ما يوضح حقيقة الأمر فيها)، كما نصت المادة 139/1 من اللائحة التنفيذية على أن (للقاضي عدم إعمال ما يشك فيه من معلومات الورقة).
موضوعات حلقات البحث
يختار الطالب أحد الموضوعات التالية:
دور القاضي في الإثبات.
استجواب الخصوم كأحد وسائل الإثبات.
حجية الإقرار في الإثبات.
تجزئة الإقرار.
الرجوع عن الإقرار.
سلطة المحكمة في الاستعانة بالخبرة وإجراءاتها.
القيمة القانونية لرأي الخبير.
مسؤولية الخبير.
الخبرة القضائية والخبرة الاستشارية.
أنواع اليمين في الإثبات.
سلطة القاضي في توجيه اليمين.
الآثار المترتبة على توجيه اليمين.
حجية الأوراق الرسمية في الإثبات.
حجية الأوراق العادية (العرفية) في الإثبات.
حجية الوثيقة الإلكترونية في الإثبات.
إثبات العقد الالكتروني.
دعوى التزوير الفرعية.
أنواع الشهادة وشروطها.
سلطة القاضي التقديرية في الإثبات بالشهادة.
سلطة القاضي التقديرية في الإثبات بالقرائن.