القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
يسميها بعض الفقه “قوة الشيء المقررة”، فالقرارات الإدارية مزودة بقرينة السلامة، بحيث تعد حجة على ما تضمنته حتى إثبات العكس، ولا تستثنى من هذه القرينة إلاّ القرارات المعدومة التي يبلغ فيها العيب حدًا من الجسامة يكون واضحة بصورة كافية.
ومؤدى ذلك أن جميع القرارات الإدارية المسببة منها وغير المسببة الصريحة منها والضمنية ايجابية كانت أو سلبية تعتبر قائمة على أسباب صحيحة، وهذا هو الأصل وعلى من يدعي خلاف ذلك تقديم الإثباتات على ادّعاءاتها.
وهكذا فإن القرارات الإدارية تتمتع بقرينة الشرعية المؤقتة، إلى غاية الطعن فيها بدعوى الإلغاء التي إما أن تنتهي بإثبات عدم مشروعيتها وبالتالي زوال قرينة الشرعية عنها، وإما أن تنتهي بعدم إثبات ذلك، أو لا يطعن فيها أصلا ويفوت أجل الطعن القضائي فتصبح قرينة الشرعية نهائية بعد أن كانت مؤقّتة.
وتنصب هذه القرينة على الوقائع والإجراءات والبيانات التي دونها الموظف المختص، ومنها تاريخ القرار ومكان صدوره، واسم مصدره وصفته، والإجراءات والأوضاع الشكلية التي استند إليها، ومضمون القرار وما يتضمنه من نصوص خاصة بالموضوع الذي صدر بشأنه القرار.
وتبرر قرينة السلامة في القرارات الإدارية على أساس ما يحيط بصدور القرار الإداري من ضمانات تعين على ذلك؛ كحسن اختيار الموظفين الذين يساهمون في إعداده واصداره، وخضوعهم في ذلك إلى الرقابة الرئاسية، واجتياز الكثير من القرارات الإدارية لمراحل تمهيدية قبل أن تصبح نهائية.
وهذه القرينة وإن كانت ذات طابع عملي وتستند إلى الثقة المفترضة فيمن يصدرون القرار الإداري من حيث التأهيل، ورقابة الإدارة عليهم التي تلزمهم باحترام قواعد الاختصاص والشكل، وتوخيهم غاية المصلحة العامة حال إصدارهم للقرار الإداري، إلا أن ذلك لا يجعل منها قرينة قاطعة في الإثبات بل هي قرينة بسيطة قابلة لإثبات العكس، حيث تنهار هذه القرينة في حال نجاح المدعي في زعزعة الثقة في القرار بدرجة يطمئن معها القاضي بأنه مخالف للقانون.
ولا شك أن القرينة سلامة القرارات الإدارية الدور البالغ في مجال الإثبات لأنها السبب الرئيس في وقوف الفرد موقف المدعي، بينما تقف الإدارة في موقف المدعى عليه، مع ما يعنيه ذلك من حصول عدم التوازن بين مراكز الطرفين.
الفرع الثاني: امتياز الأسبقية والتنفيذ المباشر:
فالإدارة وفي إطار تحقيق المصلحة العامة تملك الحق في إصدار قرارات إدارية تحدد فيها حقوقا والتزامات على الأفراد ومراكزهم القانونية دون مشاركتهم في إعدادها، بل ودون طلب منهم، مثل قرارات نزع الملكية وقرارات التأديب أو قرارات الضبط الإداري، وهذا ما يسمى بامتياز الأسبقية.
وإذا كان الأصل في معاملة الأفراد فيما بينهم أن صاحب الحق لا يستطيع أن يقتضي حقه بنفسه إذا ما نازعه غيره في هذا الحق، بل عليه أن يلجأ إلى القضاء ليقرر له حقه المنازع فيه، ومن ثمة يلجأ إلى السلطات المختصة لتنفّذ له حكم القضاء، فإن الإدارة تخرج عن هذا الأصل؛ حيث تصدر بنفسها قرارات تنفيذية ثم تنفذ هذه القرارات في حق المعنيين بها بمشيئتهم الخالصة ومن تلقاء أنفسهم أو تلجأ إلى تنفيذها مباشرة بسرعة وحسم ولو باستعمال القوة العمومية ودون حاجة للجوء إلى القضاء، إذا امتع الأفراد عن تنفيذها أو تماطلوا في ذلك، وهذا ما يسمى بامتياز التنفيذ المباشر.
وهكذا فإن امتياز الأسبقية هو حق الإدارة في اتخاذ موقف معين تحدد به مركزها القانوني وحقوقها ومراكز الأفراد وحقوقهم بمقتضى قرارات إدارية ودون اللجوء إلى القضاء، أما امتياز التنفيذ المباشر فهو حق الإدارة في تنفيذ هذه القرارات مباشرة ودون الحاجة إلى اللجوء إلى القضاء، ولا يمكن وقف تنفيذها إلا بحكم قضائية.
ويرجع أساس امتياز الأسبقية إلى أن وظيفة الإدارة هي إشباع الحاجات العامة للأفراد، وكفالة أمن المجتمع وسلامته، ومن أهم وسائل مباشرة هذه الوظيفة والتي تؤدي إلى رجحان كفة الإدارة على كفة الأفراد القرارات الإدارية التنفيذية.
أما امتياز التنفيذ المباشر فقد أعتبره الفقه أثرا ونتيجة من نتائج الاعتراف بقرينة السلامة للقرارات الإدارية، منح للإدارة لكفالة مقتضيات السير الحسن للنشاط الإداري، ويعتبر من أهم وأخطر الامتيازات الممنوحة للإدارة، ويعتبر أداة لتحقيق التناسق والتطابق بين النظام القانوني والآثار القانونية للقرارات الإدارية من ناحية وبين الحقيقة المادية الواقعية من ناحية أخرى، والإدارة هي المختصة بتطبيق القواعد القانونية على الحالات الفردية، ونظرا لتمتع قراراتها بقرينة السلامة، فإن عدم امتثال المعني بالقرار، وعدم وجود وسيلة لإجباره على ذلك يستدعي تزويد الإدارة بهذا الامتياز الذي يعينها على قيامها بنشاطها الإداري مع ما فيه من تقديم للمصلحة العامة على المصالح الفردية.
والسائد فقها وقضاءً أن تنفيذ الإدارة المباشر لقراراتها هو استثناء من أصل عام يتمثل في إتباع الطريق القضائي والحصول على حكم قابل للتنفيذ لحسم النزاع الحاصل بين الإدارة والأفراد، وعلى العكس من ذلك فقد ذهب البعض من الفقه إلى اعتبار لجوء الإدارة إلى تنفيذ قراراتها تنفيذا مباشرة هو أصل عام، حيث أن القاعدة في تصرفات الإدارة أن تنفذ مباشرة، وكمبدأ عام ما لم يكن هناك نص صريح يحتم عليها الالتجاء للقضاء أولا، ويرجع الاختلاف في هذا الشأن إلى محاولة التوفيق بين فكرتين متعارضتين هما السلطة والحرية.
إذ يستند الاتجاه الأول حسب الدكتور عبد العزيز عبد المنعم خليفة إلى أنّ اعتبار التنفيذ المباشر للقرارات الإدارية أصلا: “من شأنه أن يطلق يد الإدارة بلا قيود في التنفيذ المباشر لقراراتها جبرا على الأفراد مما يعصف بحقوهم وحرياتهم العامة التي يحافظ عليها القضاء الإداري، والذي لا يجوز تنحينه عن النزاعات التي تنشأ بين الإدارة والأفراد فيما يتعلق بالقرارات الإدارية الصادرة بشأنهم، وحتى لا تتحول الإدارة إلى خصم وحكم في الوقت نفسه، وإن كان ذلك مسلما به في حالتي وجود نص و توافر حالة ضرورة، فإن ذلك وضع استثنائي فرضته المصلحة العامة التي قد يتطلب تحقيقها منح الإدارة الحق في التنفيذ المباشر لقرارتها، فإنه لا يجوز أن يتحول هذا الاستثناء إلى أصل عام”.
وفي المقابل يرى القائلون بأن التنفيذ المباشر للقرارات الإدارية أنه أصل مبرّر من خلال سمو الغاية التي تهدف إليها الإدارة وهي المحافظة على مصالح المجتمع، والقاعدة أن الإدارة تنفذ تصرفاتها مباشرة ما لم يكن هناك نص صريح يحتم عليها اللجوء إلى القضاء أولا وحصولها لحكم قابل للتنفيذ.
وحين تلجأ الإدارة الاستخدام التنفيذ المباشر يكون لها منح تصرفاتها صبغة تنفيذية دون تدخل من السلطة القضائية، والإدارة لها تلك السلطة باعتبارها مهيمنة على تحقيق الصالح العام وواجب عليها أداء هذه المهمة دون إبطاء، وإلزامها بعرض منازعاتها مع الأفراد على القضاء وانتظار الفصل فيها يترتب عليه عرقلة تحقيق الصالح العام مما يؤدي إلى اضطراب المرافق العامة.
فاعتبار التنفيذ المباشر استثناء يعني في رأي الدكتور فريجة حسين عرقلة الإدارة عن القيام بنشاطاتها إلى درجة تؤدي إلى الركود؛ نتيجة بطء القضاء في عمله؛ مما يمس بمصلحة المجتمع مساسا بليغا. ويرد على الرأي المخالف الذي يحتج بأن تدخل القضاء فيه حماية للأفراد باعتبار أن القضاء يتسم بطابع العدل، وأنه إذا كان للإدارة حق فيما تدعيه فسوف يؤيدها القضاء، وبعد ذلك تنفذ تصرفاتها، بقوله أن: “الدفاع عن الحرية الفردية الذي يتمسك به البعض ينطوي على حجة خلابة في ظاهرها خطيرة في حقيقتها، إذ تؤدي إلى إهدار حرية المجموع وعرقلة مصالحه وضياع منافعه وأن العدالة البطيئة في تحققها لا تفترق كثيرا عن انعدامها وقد تكون هي الظلم”.
ونحن وإن كنا نوافق الدكتور عبد العزيز عبد المنعم خليفة في أن لجوء الإدارة إلى امتياز التنفيذ المباشر هو استثناء وليس أصلا؛ إلا أننا نرى أن تعليل ذلك لا يستند إلى كون استعمالها المطلق لهذا الامتياز يؤدي إلى تنحية القضاء الإداري عن الفصل في النزاعات التي تنشأ بين الإدارة والمواطن فيما يتعلق بالقرارات الإدارية الصادرة بشأنه، فلا وجود لرأي فقهي أو اجتهاد قضائي يرى عدم جواز نظر الدعوى من طرف القضاء في القرارات الإدارية التي كانت محل تنفيذ مباشر، ولكننا نرى أن استثنائية التنفيذ المباشر تجد مبررها في توقي عزوف المواطن من تلقاء نفسه عن مخاصمة القرارات التي نفذت تنفيذا مباشرا؛ لأنه يرى أن الوقت قد فات ما دامت القرارات قد نفذت فعلا، وأنه لا يمكن تدارك آثارها؛ ورغم ذلك فإن مثل هذه الطائفة من القرارات التي يصعب تدارك الأثار الناتجة عن تنفيذها تنفيذا مباشرة ، يجوز أن تباشر الدعوى الاستعجالية لوقف تنفيذها، وفي هذا الصدد جات أحكام المواد من 833 إلى 837 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري.
إنني أرى أن الرد الحاسم على القائلين بأن الأصل في القرار الإداري هو التنفيذ المباشر، أنهم يتكلمون أيضا عن شروط التنفيذ المباشر، ونحن نعلم أن الأصل يقرر دون شروط والاستثناء هو الذي لا يمارس إلا إذا تحققت شروطه، فمتى قرر لتصرف ما أنه لا يمارس إلا بتوافر شروط معينة فهو استثناء وليس أصلا حتى وإن كانت مساحة ممارسته الواسعة توحي بأنه أصل.
إن اللبس الحاصل بسبب المساحة الواسعة التي يمارس في شأنها امتياز التنفيذ المباشر، هو الذي جعل الموقف بشأن طبيعته يبدو متناقضا إلى درجة أن الدكتور عصام نعمة إسماعيل يقع في هذا التناقض في فقرة واحدة بقوله بعد سرد حجج الفريقين: “وفي النهاية كانت الغلبة للحقيقة الراسخة التي تقول بأن للإدارة كقاعدة عامة حق التنفيذ المباشر لقراراتها حتى تتمكن من ممارسة نشاطها، ولا يصح أن تكون ملزمة دائما باللجوء مسبقا إلى القضاء، ولكن يبقى حق التنفيذ المباشر ليس مطلقا من كل قيد؛ وإنما له شروط وقيود معينة ومحددة يجب على الإدارة مراعاتها وإتباعها قبل استخدام هذا الامتياز، فالتنفيذ المباشر هو طريق استثنائي محض، لا تستطيع الإدارة اللجوء إليه إلا في حالات محددة على سبيل الحصر”.
إننا وإن كنا نرى أن التنفيذ المباشر هو استثناء وليس أصلا، إلا أننا لسنا ضد نطاقه الواسع فهذا مقتضاه الذي يبرره الدكتور عادل سيد فهيم في بحثه القيم جدا الموسوم بالقوة التنفيذية للقرار الإداري بقوله: “…وهكذا نرى أن المبدأ المفسر والمبرر لاستخدام الجبر والإكراه، إنما يكمن في نهاية الأمر في المنطق الداخلي للقانون نفسه، فالتنفيذ الجبري هو من مقتضيات المنطق الداخلي للتنظيم القانوني، إن وظيفة الإدارة في تنفيذ القاعدة القانونية المجردة على الحالات الفردية المادية، وهناك قرينة بمشروعية القرارات التي تتخذها هذه السلطة القيام بتلك المهمة، بمطابقة القرارات الإدارية لحكم تلك القاعدة المجردة، ومن ثم لا يقبل من أحد الامتناع عن تنفيذ هذه القرارات؛ إذ المفروض أنها مطابقة للقانون، وطاعة القانون واجبة”.
إن كون التنفيذ الجبري مبررا حسب المنطق الداخلي للقانون نفسه أولا، وحسب مقتضيات المصلحة العامة ثانيا، لا يعني أنه أصل على الإطلاق، بل يبقى استثناء له مبرراته، وكل استثناء على أصل يجب أن يكون مبرّرا.
ولهذه الاعتبارات يكون من السليم اعتبار لجوء الإدارة إلى هذا الامتياز استثناء وليس أصلا، وتقييده بالحالات التي نص عليها المشرع وحالة الضرورة.
وإذا كانت الحالات التي نص عليها المشرع واضحة في النصوص، فإن حالة الضرورة والتي يحكمها مبدأي: “الضرورات تبيح المحظورات” و “الضرورة تقدر بقدرها”، وحتى لا تدعي الإدارة قيام الضرورة كلما أرادت الاستفادة من امتياز التنفيذ المباشر، فإن الاجتهاد القضائي حصر شروط قيام حالة الضرورة المخولة لامتياز التنفيذ المباشر في:
1- استناد التنفيذ المباشر إلى نص قانوني فلا يجوز سحب رخصة مخزن المشروبات الكحولية دون الاعتماد على أي حالة من الحالات المنصوص عليها قانونا.
2 حالة الضرورة، وتقوم حالة الضرورة عندما يكون من واجب الإدارة سرعة التنفيذ لدواعي الاستعجال، ومجالها في الغالب نزع الملكية للمنفعة العامة ومنها وجود مقاومة وامتناع عن تنفيذ القوانين واللوائح وانعدام الوسيلة القانونية للإجبار على احترامها.
ورغم أن امتياز التنفيذ المباشر حق للإدارة في الحالات التي نص عليها المشرع وحالة الضرورة إلا أنها قد تتنازل عنه حتى في مثل هذه الحالات، ويكون ذلك على وجه الخصوص إذا ساورها شك في سلامة تصرفها أو خشيت المسؤولية 6 بينما ليس للإدارة الحق في التنازل عن امتياز الأسبقية، فلا يمكن لها الالتجاء للقضاء لاستصدار حكم بدلا من تصرفها المباشر الذي يفرض نفسه على الإدارة والمواطن على السواء.
وهكذا فإن الإدارة تحدد حقوقها والتزامات الأفراد في مواجهتها، وتنفذها تنفيذا مباشرا طوعا أو جبرا، دون حاجة للالتجاء إلى القضاء، وعلى من ينازع في صحتها عرض الأمر على القضاء مع تحمل المركز الصعب للمدعي في دعوى الإلغاء؛ في حين تقف الإدارة موقف المدعى عليه المركز الأيسر من حيث الإثبات.
ونتيجة لذلك فإن الفرد المتضرر من القرار الإداري غير المشروع ويرفع ضده دعوى الإلغاء، بمقتضى هذه الامتيازات يقف في جميع الأحوال موقف المدعي، وهو ما يخلق ظاهرة عدم التوازن بين طرفي دعوى الإلغاء، خاصة في ظل حرمانه من أدلة الإثبات، وصعوبة إثباته لأوجه عدم المشروعية الداخلية في حالة إصدار الإدارة لقرارها على أساس السلطة التقديرية، ويتطلب ذلك قيام القاضي بدور مهم في الإثبات مستلهما ذلك من قواعد العدالة.