إهدار مبدأ الوجاهية

قد يهدر مبدأ الوجاهية تمكينا للقاضي من ممارسة دوره الإيجابي في الدعوى من خلال السماح له باستبعاد عملية التحضير بالكامل، وإصدار حكم دون تمكين الطرفين من الاطلاع أو تبادل المذكرات، وذلك عندما يكون الحل واضحا؛ كما لو رفعت الدعوى أمام جهة غير مختصة وهذا ما نصت عليه المادة 847 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري يقولها: “يجوز لرئيس المحكمة الإدارية أن يقرر بألا وجه للتحقيق في القضية عندما يتبين له من العريضة أن حلها مؤكد، ويرسل الملف إلى محافظ الدولة لتقديم التماساته”.

وهذا ما نص عليه أيضا قانون القضاء الإداري في فرنسا أيضا حيث نصت المادة R.611/8 C.J.A. منه على ما يلي:

« Lorsque’ il apparait au de la requête que la solution de l’affaire est d’ores et déjà certaine, le président du tribunal administratif ou le président de la formation de jugement ou, à la cour administrative d’appel, le président de la chambre ou, au conseil d’état, le président de la sous-section peut décider qu’il n’y a pas lieu à instruction ».

ولا تفرض النصوص في الجزائر وفرنسا شكلية معينة للقرار بأنه لا وجه للتحقيق، غير أنه لا يمكن أن يستنتج من مجرد عدم تبليغ الطرف الأخر.

ومن بين الحالات التي اعتبرها مجلس الدولة الفرنسي قابلة للفصل فيها دون تحقيق؛ عدم الاختصاص البين وعدم القبول البين والعريضة منعدمة التأسيس القانون بشكل واضح والقضايا التي يظهر أن حلها أكيد بعد دراسة الدعوى بشكل بسيط.

والقرار بأنه لا وجه للتحقيق غير قابل للطعن فيه لوحده غير أن مجلس الدولة الفرنسي يراقب الحكم الصادر استنادا إلى هذا القرار ويمكن إلغاءه إذا لم يكن ثمة مبرر قانوني للإعفاء من التحقيق

وقد تهدر مقتضيات الوجاهية كما هو الحال بالنسبة للتحقيقات التي يطلبها قاضي الإلغاء من الجهة الإدارية المختصة بإجراءات تحقيقات إدارية وليست قضائية بخصوص بعض المسائل الفنية، وتقديم تقرير بشأنها يودع الملف ويمكن للأطراف الاطلاع عليه ومناقشته.

وعلى العموم وكما هو الشأن بالنسبة للإجراءات المدنية فإنه إذا كان من المستحيل تحقيق الطابع الوجاهي، ولم يتسن اتخاذ أحد التدابير في حضور أحد الطرفين، يكفي أن تذكر في تقرير مكتوب كيفية سير الإجراءات ويمكن الطرف الغائب من الاطلاع عليه.

ويسقط التزام الجهة المختصة بضرورة إعلان المذكرات المقدمة من أحد طرفي الدعوى إلى الطرف الآخر إذا كانت لا تحتوي على أي عنصر جديد يساهم في حل النزاع، كأن يكون محتواها مجرد إضافة لما جاء في مذكرة سابقة. كما يسقط هذا الالتزام أيضا إذا كانت المذكرات أو المستندات التي سبق تقديمها وإعلانها كافية للفصل في الدعوى، حتى ولو كانت المذكرة أو المستند المراد إعلانه يحتوي على عناصر جديدة طالما لم تعد هناك حاجة إليها.

أما الاعتبارات التي تستهدف صيانة بعض الأسرار حماية المصلحة عامة أو خاصة، فتحظر على القاضي مباشرة بعض الإجراءات ووسائل الإثبات، كما هو الحال التي يمتنع فيها على القاضي تكليف الإدارة بإيداع بعض المستندات التي تحظر النصوص القانونية إفشاء أسرارها، كأسرار الدولة وأسرار الدفاع الوطني أو السر الطبي، أو السر الوظيفي، أو الأسرار الضريبية، أو الأسرار الدبلوماسية.

ففي فرنسا كان الاجتهاد القضائي يعتبر من حق للإدارة رفض تنفيذ الأمر القضائي الصادر بتسليم وثائق ومستندات تعتبرها سرية متمتعة في ذلك بسلطة تقديرية واسعة، لكن مجلس الدولة بعد ذلك بفترة قصيرة أصبح يطلب من الإدارة كافة الإيضاحات بشأن المستندات المشمولة بالسرية بالقدر الذي يمكنه من الفصل في الدعوى، ودون المساس بسرية هذه المستندات، وإلا فإن له أن يأخذ رفضها وعدم تعاونها بعين الاعتبار في حكمه إضافة إلى باقي العناصر الثابتة في ملف الدعوى.

ومن جهة أخرى له أن يتبع جميع الوسائل القانونية التي تمكنه من الحصول على الإيضاحات الضرورية، إذا قرر أن الاطلاع على هذه الوثائق والمستندات ضروري ولازم لتكوين اقتناعه حول نقطة في النزاع، فيستطيع أن يطلب من الإدارة أن تطلعه على الوثائق والمستندات فقط، كأن ترسل ممثلا عنها يحمل هذه الوثائق والمستندات، يطلع عليها القاضي ثم يستعيدها مباشرة دون أن تضم إلى ملف القضية، كما حدث في قضية Coulon السابق الإشارة إليها.

وفي ما يتعلق بالأسرار الطبية فإن القاضي إذ قدر أنه لا يمكن إطلاع المريض عليها، يستطيع أن يطلع عليها الخصم بمعرفة المحكمة.

لقد ذهب بعض الفقه المصري إلى أنه لا يجوز للإدارة أن تمتنع عن تقديم ما يطلبه القضاء من بيانات وأوراق رسمية لازمة للفصل في الدعوى بحجة السرية، إذ لا سرية على القاضي.

إن تمسك الإدارة -حسب هذا الاتجاه من الفقه – بحقها في المحافظة على سرية أعمالها كمبرر للامتناع عن الرد على ما يطلبه القاضي من تفسيرات وتساؤلات قد تكون حاسمة في الفصل في الدعوى هو مبرر واه يجب ألا يعترف القضاء به، وأن لا يمنعه من استخلاص قرينة على انحراف الإدارة بسلطتها، حيث أن أسرار الإدارة لا تقارن بإعلاء مبدأ المشروعية.

إن التبرير المنطقي لهذا الاتجاه في رأينا يعزى إلى كون السلطة القضائية شريكة في ممارسة السلطة في الدولة وهي بفضل الشروط اللازم توافرها في أعضائها مؤهلة مثلها مثل السلطة التنفيذية أن تكون أمينة على أسرار الدولة، ولهذا فإنه وإن كان مفهوما عدم توسع المشرع في وضع استثناءات على مبدأ السرية، فإنه من الجدير بالقاضي أن يعمل قدر الإمكان في اجتهاده على تقرير حقه في الاطلاع على جميع الملفات بما يضمن عدم اطلاع غيره عليها ويضمن حصول القدر الكافي من العلم الذي يؤهله للفصل في الدعوى على أساس دراية كافية، وأن يستنتج النتائج اللازمة عن امتناع الإدارة عن ذلك.

وللتوفيق بين هذه الاعتبارات ووجوب فصل القاضي في الدعوى استنادا إلى درايته الكاملة بكافة البيانات المنتجة في الدعوى؛ فإنه يسوغ للقاضي اتخاذ ما يلزم من وسائل وإجراءات تمكنه من الحصول على هذه البيانات اللازمة للفصل في الدعوى دون إيداع هذه المستندات ملف الدعوى.

لقد نصت المادة 884 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري على أنه: “يمكن لرئيس تشكيلة الحكم الاستماع إلى أعوان الإدارة المعنية أو دعوتهم لتقديم توضيحات”، كما نصت المادة 860 من نفس القانون أيضا على أنه:” …كما يحوز أيضا سماع أعوان الإدارة أو طلب حضورهم لتقديم الإيضاحات، إن هذه المكنة التي منحها المشرع الجزائري للقاضي تتيح له الفرصة لأن يطلب كافة الإيضاحات بشأن المستندات المصنفة على أنها سرية بالقدر الذي يمكنه من الفصل في الدعوى، وعلى الإدارة في هذه الحالة تقديم الإيضاحات اللازمة دون المساس بسرية المستندات، وإلا فإن للقاضي الاستناد إلى رفضها وعدم تعاونها إضافة إلى باقي العناصر الثابتة من ملف الدعوى في حكمه، قياسا على الحكم الذي رتبته المادة 819/2 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري على امتناع الإدارة عن تمكين المدعي في دعوى الإلغاء من نسخة من القرار المطعون فيه بقولها: “…وإذا ثبت أن هذا المانع يعود إلى امتناع الإدارة من تمكين المدعي من القرار المطعون فيه، أمرها القاضي المقرر بتقديمه في أول جلسة، ويستخلص النتائج القانونية المترتبة عن هذا الامتناع”.

وبذلك يبقى قاضي الإلغاء سيد الدعوى في جميع الأحوال ولا تقف هذه الأسرار عائقا في وجه الفصل في الدعوى على أساس دراية تامة وإن كانت تمس بمبدأ المواجهة في الإجراءات القضائية الإدارية.

ثانيا- مراعاة بعض الظروف في تطبيق مبدأ الوجاهية:

إذا كانت بعض الظروف كحالة الاستعجال لا تكفي مبررا لهدر مقتضيات الوجاهية، وهذا ما لم يهمل المشرع الجزائري التأكيد عليه؛ من خلال نصه في المادة 923 ق.إ.م.إ. على أنه: ” يفصل قاضي الاستعجال وفقا لإجراءات وجاهية كتابية وشفوية”، إلا أنه يجب أن يستوفي هذا المبدأ بطريقة مرنة تراعي هذه الظروف، ولقد تصدى المشرع الجزائري لهذا الأمر من خلال حرصه على استيفاء هذا المبدأ من جهة مع مراعاة هذه الظروف من جهة أخرى.

وهكذا حرص المشرع على أن يكون الفصل في الدعوى الاستعجالية في أقرب الآجال المادة 918 ق.إ.م.إ.)، وفي سبيل ذلك نصل في المادة 928 ق.إ.م.إ. على أنه: “تبلغ رسميا العريضة إلى المدعى عليهم، وتمنح للخصوم آجال قصيرة من طرف المحكمة، لتقديم مذكرات الرد أو ملاحظاتهم، ويجب احترام هذه الآجال بصرامة وإلا استغني عنها دون إعذار”.

كما نصت المادة 932 ق.إ.م.إ. على إعفاء رئيس تشكيلة الحكم من الواجب المنصوص عليه في المادة 843 والمتضمن إبلاغ الخصوم قبل الجلسة في حالة ما إذا كان الحكم مؤسس على وجه مثار يتعلق بالنظام العام، وتحديد أجل لتقديم ملاحظتهم حول الوجه المثار، والاكتفاء بإخبارهم أثناء الجلسة بهذه الأوجه.

وحتى في الحالات العادية وإن كانت المذكرات المتبادلة بين الأطراف غالبا قليلة العدد فإن المستندات المؤيدة لهذه المذكرات تكون كثيرة ومتنوعة، مما يصعب معه إعلانها للأطراف بنفس طريقة إعلان المذكرات، إن المبدأ الذي أرساه المشرع الفرنسي في قانون الإجراءات أمام المحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف وأكده مجلس الدولة في أحكامه هو تمكين كل طرف في الدعوى من الاطلاع على المستندات المقدمة من الطرف الآخر، في مقر قلم كتاب المحكمة المختصة بنظر الدعوى.

كما نصت المادة 841 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية أنه: تبلغ نسخ الوثائق والمستندات المرفقة للعرائض والمذكرات إلى الخصوم بنفس الأشكال المقررة لتبليغ المذكرات، وعندما يحول عدد الوثائق أو حجمها أو خصائصها دون استخراج نسخ عنها، يبلغ جرد مفصل عنها للخصوم أو ممثليهم للاطلاع عليها بأمانة الضبط، أو أخذ نسخ عنها على نفقتهم”، كما يجوز لرئيس المحكمة الإدارية أن يرخص في حالة الضرورة الملحة بتسليم هذه الوثائق مؤقتا إلى الخصوم أو ممثليهم خلال أجل يحدده وذلك حسب ما نصت عليه المادة 842 من نفس القانون.