مبررات مبدأ لا تسبيب إلا بنص

لقد صنف الدكتور محمد عبد اللطيف مبررات هذا المبدأ إلى مبررات إدارية ومبررات قانونية وهي:

أ- المبررات الإدارية: ويمكننا تلخيصها في أن مبدأ عدم التسبيب الوجوبي للقرارات الإدارية، يكفل فاعلية النشاط الإداري، أما إلزام الإدارة بتسبيب جميع قرارتها يتعارض مع تسهيل العمل الإداري من جهة ومع سريته من جهة أخرى.

فمن جهة يشكل التسبيب زيادة في عبء العمل على عاتق السلطة الإدارية، لأنه يقتضي مجهودا ووقتا يؤدي إلى عرقلة النشاط الإدارية، ولهذا يجب إعفاء الإدارة منه ولو تركب على ذلك بعض الصعوبات أمام الأفراد والقضاء بشأن الإحاطة بأسباب القرار، ضمانا لسرعة اتخاذ القرار، وقصر إلزامية التسبيب على القرارات الهامة.

ومن جهة أخرى يؤدي التسبيب إلى كشف معلومات يجب الاحتفاظ بسريتها، إما لأنها تتعلق بأمن الدولة، أو مصالح الغير، أو صاحب الشأن نفسه، كما أن من شأنه المساهمة في بطء الإجراءات، وتوفير مناخ ملائم للمنازعات، وكبح حرية الموظفين واستقلالهم إذا خطر لأذهانهم أن آراءهم سوف يطلع عليها الآخرون.

بينما يؤدي إعفاء الإدارة من تسبيب قراراتها؛ وتمكينها من الالتجاء إلى السرية ملاذا إلى تجنيبها الكثير من الضغوط المصاحبة لاتخاذ بعض القرارات المهمة خاصة بالنسبة للرأي العام.

ب- المبررات القانونية: من جهة فإن القرار الإداري -والذي نطالب الإدارة بتسبيبه – ما هو إلا نتاج الإرادة المنفردة للإدارة، وهو أهم مظهر من مظاهر السلطة العامة التي تعني الإجبار خلاف الإقناع الذي يهدف إليه التسبيب.

فالقرار الإداري يصدر من جانب واحد، ويفرض التزامات يمكن تنفيذها دون رضا الأفراد، بل وباستعمال القوة عند الاقتضاء، ولا مبرر للتسبيب ما دام القرار سينفذ ولو بالقوة، وهكذا فإن إرادة الأفراد المستهدفة بالإقناع واللازمة لتكوين العقد؛ ليست لازمة لتكوين القرار الإداري ولا لتنفيذه.

ومن جهة أخرى إذا لم يقتنع الأفراد بالقرار الإداري فإن لهم اللجوء إلى القاضي المختص الذي يكفل لهم رقابة الأسباب؛ وهي رقابة كافية وتغني عن التسبيب، والرقابة الموضوعية للسبب تسمو على الرقابة الشكلية للتسبيب، فعدم وجود التزام بالتسبيب لا يعني عدم وجود التزام أن يكون القرار قائما على أسباب.

فالقاضي الإداري يستطيع أن يطلب من الإدارة الإفصاح عن أسباب قرارها، الأمر الذي يجعل مطالبة الإدارة بتسبيب قرارها قبل المنازعة فيه أمام القاضي مجرد عرقلة للعمل الإداري، لا طائل منها، وهذا ما يرمي إليه مفوض الدولة GENTOT بقوله: “إن الذي يهم لوجود رقابة المشروعية ليس أن تكون القرارات مسببة، وإنما أن يتمكن القاضي أثناء سير الإجراءات من الإحاطة بأسباب النشاط الإداري، وأن يستخلص منه النتائج”.

إن الرقابة على السبب تبدو حسب SUR’S أفضل من التسبيب المعاصر للقرار، لأن القاضي في ضوء الأوراق، يلجأ إلى إعادة تكوين حقيقي للإجراء المتنازع فيه، إنه لا يتحسس فقط ظاهر الأمر وإنما يتعمق في باطن الموضوع، وصولا للسبب الحقيقي والمبرر الفعلي للقرار، أما في حالة السبب الشكلي، فإن القاضي يكون أمام “الشاشة” للأسباب الظاهرة التي ربما تكون في الحقيقة خادعة.

2- الرد على مبررات مبدأ “لا تسبيب إلا بنص”:

رغم تضافر جميع هذه المبررات ووجاهتها الظاهرة إلا أنها لا تصمد أمام الانتقادات الموجهة إليها فالتسبيب لا يتعارض مع تسهيل العمل الإداري، ولا مع مفهوم القرار الإداري، كما أن الرقابة على السبب لا تغني عن التسبيب.

فالتسبيب يقدم ضمانة ثمينة جدا للمرتفقين إذ يسمح لهم بمعرفة الاعتبارات التي اتخذت على أساسها الإدارة القرار، كما أنه يضمن قبل كل شيء أن تقوم الإدارة بدراسة ملفاتهم، فهو يستبعد قيام الموظفين بمعالجة القضايا بطريقة عاجلة وسطحية، اللذين من أجل إنهاء واجباتهم وسرعة التخلص منها فإنهم لا يجدون أمامهم -حسب تعبير Céline WINER سوى كلمة “لا” “Non” أو طلب مرفوض” “demande rejetée”.

ومادام كل قرار يجب أن يقوم على سبب خاص به، قائم وموجود وقت صدور القرار، ومعنى التسبيب هو إلزام الإدارة بالتعبير عن هذه الأسباب، وبالتالي فإن هذا التعبير لا يعرقل العمل الإداري بأي حال من الأحوال، اللهم إلا إذا حاولت اختراع أسباب شكلية لا علاقة لها بالأسباب الحقيقة، وفي هذه الحالة فإنه من العدل أن تتحمل هي ذلك وليس الفرد.

كما أن التسبيب يقوم على الإقناع، ومتى كان كافيا وواضحا فمن شأنه صرف المعنيين عن اللجوء إلى القضاء، وتسهيل تنفيذ القرار الإداري أكثر، وعدم التسبيب هو الذي يؤدي إلى الغموض والشك في مدى قيام أسباب صحيحة للقرار وبالتالي لجوء المعنيين للقضاء وعرقلة العمل الإداري واستنزاف زائد للوقت والجهد والمال.

والتسبيب المتضمن معنى الإقناع لا يتعارض أيضا مع مفهوم القرار الإداري الصادر عن الإرادة المنفردة للإدارة والمتضمن لمعنى الإكراه والإجبار، وما هو إلا عنصر موازن لامتياز التنفيذ المباشر الذي تتمتع به الإدارة في مواجهة الأفراد.

وكما يقول Serge SUR بحق فإن: “التسبيب يعطي الإدارة إحساسا دائما بالخضوع للقانون، فهي تستمد سلطاتها من نصوص قانونية، وليس من مبدأ السلطة التي تعتبر السرية التي تحيطه مظهرا مؤسفا، وهو يدفع بالإدارة إلى الكف عن اعتبار النصوص القانونية عوائق شكلية تعرقل نشاطها، بل تعتبرها أساسا لحقها في التصرف أو التزامها بالتصرف”.

ولقد اتجهت فرنسا حديثا إلى اتباع نهج التشاور مع الأفراد خصوصا في المجال الاقتصادي، وذلك من خلال تبادل وجهات النظر بين الإدارة وذوي الشأن.

ورقابة القاضي على الأسباب لا تغني عن التسبيب؛ لأن المدعي الذي لا يعلم أسباب القرار الإداري لا يستطيع أن ينازع فيها، فضلا عن أن التسبيب يسهّل مهمة القاضي في الرقابة على الأسباب، كما أنه يبين للطاعن مركزه القانوني الذي على أساسه صدر القرار برفض طلبه إذا كان موضوع القرار رفض طلب المدعي الذي يفتقد إلى شرط من الشروط القانونية لإجابة طلبه؛ وبالتالي تنبيهه إلى السعي من أجل تحصيل ذلك الشرط في الفرص المقبلة.

ومن ناحية أخرى فإن الرقابة على السبب وإن أدت إلى تسبيب لاحق للقرار؛ فإن هذه الأسباب قد لا تكون هي الأسباب التي بني عليها القرار في الحقيقة.

وفوق كل ذلك فإن التسبيب لا يهدف فقط إلى حماية حقوق الأفراد، لكنه يتوخى حماية سابقة للمشروعية، إنه يذكر الإدارة باستمرار بضرورة التصرف وفقا للقانون، وهذا ما لا يمكن تحقيقه عن طريق رقابة القاضي على السبب.

ويعبر Céline WIENER عن هذا المعنى بقوله: “لكن التسبيب كذلك ضمانة من أجل الفحص الدقيق لظروف السبب…إن ضرورة الشرح القانوني والواقعي لدوافع القرار في كل الأحوال تضمن تصحيحه؛ وطبعا تفادي عدم الشرعية… وتحث بالنتيجة الإدارة على التصرف لأسباب وغايات شريفة …وفي الأخير فإن التسبيب ضمانة سابقة ضد القرارات غير المشروعة، وضمانة لاحقة لفعالية الطعون، وهو بذلك مفيد للأفراد؛ ولكنه يشكل من جهة أخرى أمرا مفيدا للإدارة الحسنة؛ في الخلاصة هو مفيد للمصلحة العامّة”.

وفي الدّول التي تأخذ بطريقة تقنين الإجراءات الإدارية غير القضائية فإن التسبيب يعتبر كتقنية ل “قوننة” أو “شرعنة “juridicisation” النشاط الإداري.

يتبين مما تقدم أن حيازة الإدارة المستندات والوثائق الإدارية، وتميز العمل الإداري بالسرية وما يعنيه من عدم إحاطة المدعي علما بظروف صدور القرار الإداري وملابساته، مضافا إليه عدم إلزام الإدارة بتسبيب قراراتها يساهم كله في افتقار المدعي لأدلة الإثبات، حتى وإن كانت التشريعات من خلال بعض المواد المتفرقة في مختلف النصوص، وفي بعض الأحيان في قوانين إدارية تضع بعض الإجراءات الإدارية التي تخفف من هذه الوضعية، إلا أنها تبقى غير كافية.