القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
الفصل الثاني: مساهمة قاضي الإلغاء في التخفيف من عبء الإثبات على مستوى موضوع دعوى الإلغاء
موضوع الإثبات في دعوى الإلغاء هو عدم مشروعية القرار، إذ يسعى المدعي في دعوى الإلغاء -في سبيل الاستجابة لطلبه – إلى إثبات خرق الإدارة للقانون على مستوى ركن من الأركان المعروفة للقرار الإداري، وهي الاختصاص والشكل والإجراءات والسبب والمحل والغاية، ويسمى خرق القانون على مستوى الركنين الأوليين بعدم المشروعية الخارجية وعلى مستوى الأركان الأخيرة بعدم المشروعية الداخلية.
ولقد رأينا في الفصل الأول من الباب الأول أن الصعوبات التي تعترض المدعي في دعوى الإلغاء في إثبات عدم المشروعية الداخلية للقرار المخاصم أشد ما تكون إذا كان هذا القرار اتخذ على أساس سلطة تقديرية.
وإن كان من المسلم به أن الإدارة عندما تصدر قراراتها بمقتضى ما لها من سلطة تقديرية لا تتمتع بسلطة تحكمية؛ فهي ملزمة في ممارستها لهذه السلطة بأن توازن بين مقتضى السير الحسن للنشاط الإداري من جهة و حقوق الأفراد وحرياتهم من جهة أخرى؛ إلا أن هذا الالتزام الملقى على عاتق الإدارة لا يمثل حدا واضح المعالم، ولا يمكن أن يكون محل اتفاق وإجماع يمكن إثبات الخروج عليه ببساطة، فما يراه المدعي حدا على السلطة التقديرية للإدارة لا تراه الإدارة كذلك، وهذه أهم الصعوبات التي تواجه المدعي في دعوى الإلغاء في إثبات عيبي السبب والمحل في القرار الإداري المطعون فيه.
كما أن ارتباط عيب الانحراف بالسلطة بأمور متعلقة بنفسية رجل الإدارة، واعتبار الكثير من الفقه الفرنسي أن الرقابة عليه هي رقابة شخصية بحتة وأن هدف القاضي هو التعرف على أفكار رجل الإدارة وما دار بخلده، يمثل هو الآخر صعوبة في إثبات عيب الغاية.
أضف إلى ذلك أن القانون لم يلزم الإدارة بتسبيب جميع قراراتها، وهو ما يجعل إثبات المدعي لخروج الإدارة عن المشروعية في قرارها من حيث الأسباب الداعية لاتخاذه صعبا، لأنه لا يعلم الأسباب التي أصدرت الإدارة قرارها استنادا إليها.
وهكذا فإنه إذا لم يخصص المشرع للإدارة أهدافا محددة للقرار الإداري، ولم يقيدها في اختيار أسباب القرار الإداري ومحله ولم يلزمها بذكر الأسباب التي استندت إليها في اتخاذ القرار الإداري؛ فإن هذا الأخير يبدو كأنه غير قابل للمنازعة في مشروعيته الداخلية، ولم يبق للمدعي إلاّ مناقشة المشروعية الخارجية.
إن القاضي الإداري لم يقف موقفا سلبيا إزاء هذا الوضع، بل مارس دورا إيجابيا وفعالا لمساعدة المدعي في إثبات أوجه عدم المشروعية الداخلية في مثل هذه الحالات، سواء من خلال استعمال القرائن كأهم وسيلة لإثبات عیب الانحراف بالسلطة وإلزام الإدارة بالإفصاح عن أسباب قرارها المطعون فيه حتى في الحالات التي لم يلزمها المشرع بشكلية التسبيب، وهو ما يمكن أن ندرجه ضمن الدور التقليدي للقاضي الإداري في إثبات عدم المشروعية الداخلية (المبحث الأول).
أو من خلال ابتداع ما يسميه بعض الفقه نظريات الرقابة على الملاءمة-وهذه التسمية نراها لا تعبر بدقة عن طبيعة هذه الرقابة- ممثلة في نظرية الخطأ الظاهر في التقدير ونظرية الموازنة بين المنافع والتكاليف (نظرية الحصيلة)، اللتان مارس من خلالهما دورا كبيرا في التخفيف من صعوبة إثبات أوجه عدم المشروعية الداخلية على المدعي في دعوى الإلغاء؛ في حالة اتخاذ القرار على أساس من السلطة التقديرية، ويمكن أن نسم هذا الدور بالدور الحديث للقاضي الإداري في إثبات عدم المشروعية الداخلية (المبحث الثاني).