نظام الاثبات

تصاغ نظرية الإثبات في كل فرع من فروع القانون بحيث تتفق مع قواعد هذا الفرع وأهدافه، وهكذا فإن قواعد الإثبات في القانون المدني – وإن كانت الشريعة العامة للإثبات- تختلف عن قواعد الإثبات في القانون التجاري، وقواعدهما تختلف اختلافا بينا عن قواعد الإثبات في القانون الجنائي التي تختلف بدورها عن قواعد الإثبات في القانون الإداري؛ وما ذاك إلا لما أسلفنا من اختلاف في طبيعة قواعد هذا عن ذاك، واختلاف أهداف ذلك عن أهداف هذا.

الفرع الأول: تصنيف أنظمة الإثبات.

يختلف نظام الإثبات باختلاق المجال القانوني الذي يعالج في إطاره بما يتلاءم مع طبيعته وخصوصياته. ويذهب الفقه إلى تأسيس الاختلاف في أنظمة الإثبات المعتمدة في مختلف فروع القانون على أساس هدف كل نظام، فهناك من الأنظمة ما يهدف إلى تحقيق العدالة والوصول إلى الحقيقة المطلقة (الموضوعية) وبكافة الطرق، وهناك من يهدف إلى الحفاظ على استقرار المعاملات والوصول إلى الحقيقة الشكلية (الإجرائية)، ويسمى النظام الأول بنظام الإثبات الحر، بينما يسمى الثاني بنظام الإثبات المقيد.

إني لا أرى صحة هذا التأسيس، ذلك أن كل أنظمة الإثبات تهدف قدر المستطاع إلى الوصول إلى الحقيقة وهي عنوان العدالة، إلا أن بعض فروع القانون -مثل القانون المدني- لا يمكن تحقيق نسب نجاح كبيرة في الوصول عند تطبيقها إلى الحقيقة، إلاّ برسم طرق وكيفيات محددة وتحديدا لقيمة كل دليل من الأدلة من طرف المشرع تساعد في غالب الأحيان بتحقيق أكبر نسبة ممكنة من الوصول إلى الحقيقة، نظرا لطبيعة قواعد ذلك الفرع من القانون، بينما تقتضي طبيعة قواعد بعض الفروع من القانون -مثل القانون الجنائي- من أجل أن يحقق فيها القاضي أكبر نسبة نجاح في الوصول إلى الحقيقة، أن تترك له حرية في اختيار طرق الإثبات وتقدير قيمة كل دليل. ويسمى النظام الذي يكون صالحا للتطبيق على منازعات الفروع الأولى من القانون بنظام الإثبات المقيد، بينما يسمى النظام الذي يصلح للتطبيق في منازعات الفروع الثانية من القانون بنظام الإثبات الحر، ويمكن عند تحليل طبيعة هذه الفروع أن نتكلم عن استقرار المعاملات كعامل مؤثر -ليس وحده- في الأخذ بنظام معين.

لكننا في الواقع لا نجد فرع من فروع القانون يعتمد على نظام صرف للإثبات، وإنما نجد أحكام الإثبات في جميع فروع القانون تأخذ من سمات النظام المقيد والنظام الحر، ولكن تغلب في كل فرع سمات نظام من أنظمة الإثبات، فنسمي نظام الإثبات فيه باسم النظام الغالب مجازا، وإلا فإن الحقيقة أن جميع فروع القانون تأخذ بنظام مختلط للإثبات.