سلطة قاضي الإلغاء الواسعة بشأن وسائل الإثبات

المطلب الثاني: سلطة قاضي الإلغاء الواسعة بشأن وسائل الإثبات.

إن مرونة نظام الإثبات في دعوى الإلغاء تتمحور في حرية الاقتناع لدى القاضي، لكن تجب الملاحظة أنه مهما توسع الدور الإيجابي للقاضي الإداري فإن ذلك لا يعني مصادرة لإرادة الطرفين في توجيه الدعوى، فهناك حد أدني متروك لإرادة الطرفين بحكم طبيعة الأمور، إذ يترك لهما حرية إقامة الدعوى وتحديد الطلبات فيها وأساسها من حيث القانون والواقع، ويمارس القاضي دوره في حدود الإطار الذي حدده الطرفان.

لكن القاضي يحتفظ بسلطات مستقلة في البحث عن الأدلة، فهو ليس خاضعا بصفة كاملة لنزوات الطرفين، فيمكنه الذهاب إلى أبعد مما طلب الطرفان، والأمر من تلقاء نفسه بوسائل الإثبات، كما أن له أن يرفض إثبات الوقائع التي يرى أنها لا تفيد في حل النزاع، فهو الذي يحدد مدى لزوم الأمر بوسيلة من وسائل الإثبات في ضوء تقديره ما إذا كانت البيانات المتوفرة بالملف كافية للفصل في الدعوى، أم أن الفصل متوقف على الحصول على المعلومات الكافية حول واقعة أو أكثر، وهذه كلها مظاهر لحريته الواسعة بشأن وسائل الإثبات (الفرع الأول).

وعلى هذا يمكن القول أن القاضي الإداري عموما وقاضي الإلغاء خصوصا، يتمتع بسلطات واسعة في الأمر بوسائل الإثبات وفي تقدير نتائجها، وهو يستند في ذلك إلى مجموعة من الاعتبارات المنطقية (الفرع الثاني).

الفرع الأول: مظاهر حرية قاضي الإلغاء بشأن وسائل الإثبات.

للقاضي الإداري حرية واسعة في الأمر بوسائل الإثبات سواء بناء على طلب الأفراد أو من تلقاء نفسه، كما أن له الحرية في رفض الأمر بها حتى وإن طلبها الأطراف، و ذلك في ضوء ما يراه من مدى مساهمتها في تكوين اقتناعه ومدى ضرورتها من عدمه، كما أن له أن يقدر ما هي الوسيلة الأنسب للحصول على المعلومات اللازمة للفصل في الدعوى غير متقيد بطلبات الأطراف وغير ملزم بشرح أسباب ذلك، بل إن له السكوت وعدم الرد ويعتبر سكوته رفضا، كما لا يعتد باعتراض الأطراف، ولا يمكن أن يكون ذلك سببا من أسباب إلغاء الحكم؛ ما دام الأمر بوسيلة التحقيق يهدف إلى تزويده هو وليس الأطراف بمعلومات تساهم في تكوين اقتناعه، ولم تكن المذكرات والوثائق المرفقة كافية لتكوينه، في ظل وجود ادعاءات غامضة وغير دقيقة وانعدام وثائق تؤيدها.

وهذا يعني أن القاضي حرّ في تقديره Appréciation لمدى جدية ولزوم الأمر بوسيلة الإثبات، لكنه لا يملك سلطة تقديرية، فهو خاضع في ذلك لرقابة قاضي الاستئناف الذي يبحث مدى احترامه للقانون في تقديره.

ومن جهة أخرى فإن إجراءات الإثبات يجب أن لا تكون وسيلة للمماطلة في يد الأطراف الذين يبحثون عن إطالة أمد الخصومة، لقد ذهب مجلس الدولة الفرنسي بعيدا في هذا الشأن، حيث مارس سلطة واسعة في مدى الأمر بإجراء الخبرة حتى في الحالات التي نص فيها القانون على إجبارية الأمر بها، فرغم أن قانون 22 جويلية في فرنسا في مادته 13 كان ينص على إجبارية الخبرة في مادة الأشغال العمومية، لكن مجلس الدولة الفرنسي قرر بأن باستطاعة المحكمة أن ترفض الأمر بها بواسطة حكم خاص إذا تبين لها بأن الخبرة تحمل طابعا مغالطا Frustratoire، ولقد تمسك في قضائه اللاحق بهذا المسلك الذي تابعه مجلس الدولة الجزائري فيه.

وللقاضي الإداري أيضا الحرية في تقدير مدى كفاية وسيلة الإثبات التي أمر بها من حيث مدى دفعها بالدعوى نحو الفصل؛ فقد يرى القاضي بعد الأمر بوسيلة الإثبات، عدم كفاية البيانات والمعلومات التي قدمتها، أو ظهور مسائل تتطلب توضيحا أكثر وبالتالي فإن له أن يأمر بوسيلة إثبات أخرى حتى ولو كانت من جنس الوسيلة الأولى، كما أن له العدول عن وسيلة إثبات أمر بها ثم رأى أنها غير مجدية أو غير كافية إلى وسيلة أخرى يرى أنها أجدى وأنسب. وذلك لأنه من العبث إلزام القاضي بتنفيذ إجراء لم تعد له ضرورة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه السلطة التقديرية للقاضي في اختيار وسيلة الإثبات تدفع به عادة إلى اختيار الوسيلة الأقل كلفة والأكثر بساطة.

وأخيرا فإن قاضي الإلغاء غير ملزم بنتيجة الوسيلة التي أمر بها، ما دام في إمكانه الاستناد في حكمه إلى معلومات أو بيانات أخرى استقاها من مستندات وأوراق الملف التي يطمئن إليها ويرى مطابقتها أكثر للحقيقة، فرأي الخبير لا يقيد المحكمة.

غير أن الاعتراف للقاضي بالسلطة التقديرية في الأمر بوسائل الإثبات من عدمه وما هي الوسيلة المناسبة، يخضع لرقابة قاضي الاستئناف ومن الطبيعي أن قاضي الاستئناف له أن يقرر أن وسيلة التحقيق التي أمر بها قاضي الموضوع غير مجدية، وأن القاضي الذي يمتنع عن الأمر بوسيلة من وسائل الإثبات على الرغم من كونها ضرورية لتوضيح ما غمض من وقائع الدعوى وتزوده بمعلومات تجعل الدعوى صالحة للفصل فيها يكون قد أخل بالالتزام الوارد على عاتقه والمتمثل في الفصل في الدعوى على أساس دراية كاملة بعناصرها، وكذلك الأمر بالنسبة للقاضي الذي يأمر بوسائل غير مجدية في الدعوى، والتي تؤدي تأخير الفصل في الدعوى وتكبيد أحد الأطراف مصاريف إضافية.

ولقد عبرت الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى سابقا عن هذا المبدأ بعبارة “وجوب استنفاد المحكمة لسلطاتها القضائية “؛ فقد قضت بتاريخ: 06/06/1987 بما يلي: “من المقرر قانونا أن المدعي الذي يبرر استحالة حصوله على نسخة من القرار المطعون فيه يعفى من تقديمه، وكذا في حالة عدم تبليغه، ومن المقرر أيضا أن على القاضي المحقق وفي إطار السلطات المخولة له السعي لجعل الإدارة تقدم الوثيقة محل النزاع، ومن ثم فإن القضاء بخلاف هذين المبدأين يعيب القرار بعدم الصحة القانونية.

حيث أن المجلس القضائي رفض عريضة المتقاضي على الحالة المقدمة بها اعتمادا على ما مؤداه أن هذا الأخير وبالرغم من إعذاره المرات العديدة بتقديم فقرار التقدير التلقائي الصادر بعد التدقيق الضريبي، فإنه لم يستجب:

حيث أن المعنية تتمسك بكونها لم تبلغ البتّة بالوثيقة آنفة الذكر، حيث أنه وحسب مبدأ قانوني معمول به، فإن المدعي الذي يبرر استحالة حصوله على نسخة من القرار المطعون فيه يعفى من تقديمها وكذا في حالة عدم تبليغه به.

حيث أنه كان يتعين على القاضي المحقق وفي إطار السلطات التي يتوفر عليها السعي لجعل الإدارة تقدم الوثيقة محل النزاع.

حيث أنه يعد من النظام العام الوجه المأخوذ من أن المحكمة التي ترفض الطلبات على الحالة المقدمة بها لم تستنفد سلطاتها القضائية.

حيث يستخلص مما سبق أن القرار المطعون فيه مشوب بعيب عدم الصحة القانونية ويستوجب من أجل هذا الإلغاء”.

لقد عبر الأستاذ Rene CHAPUS عن هذا المعنى، حين قرر أن حرية القاضي لا تعني تحكمه، وأن رفضه لأي طلب يخضع لثلاثة التزامات هي:

  • أن لا يكون رفضه نتيجة اعتقاده الخاطئ أو المضلل.

  • يجب أن يأمر بالإجراءات اللازمة من أجل تحقيق كامل للقضية؛ فللأطراف الحق في تحقيق قضيتهم.

  • يجب على المحكمة عدم الاستجابة إلى طلبات التحقيق ذات الطابع الكيدي والهادفة إلى المماطلة، متى كان في ملف القضية من العناصر ما يكفي لتكوين اقتناع القاضي؛ ويعود إلى قاضي الاستئناف تقدير مدى توافر طابع الكيدية أو المماطلة في الطلب.

وأخيرا تجدر الإشارة إلى أن المادة 334 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية نصت على أن الأحكام التي تأمر بوسائل الإثبات لا تقبل الاستئناف إلا مع الحكم الفاصل في أصل الدعوى برمتها.

الفرع الثاني: مبررات حرية قاضي الإلغاء بشأن وسائل الإثبات.

إن هذه الحرية الواسعة للقاضي الإداري بشأن وسائل الإثبات سواء في الأمر بها أو تقدير نتائجها تجد مبررها من ناحية في مذهب حرية الإثبات الذي يعتنقه قاضي الإلغاء؛ باعتباره مسؤولا عن عدالة الحكم في الدعوى، وبالتالي يكون من غير المناسب تقييد حريته في اختيار الوسيلة التي يعتقد بحسه القانوني أنها الأوفق في التوصل إلى حقيقة الادعاء في الدعوى.

ولقد عبرت المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة المصري عن هذا المعنى بقولها أن: “المنازعة الإدارية أمانة في يد القاضي يشرف عليها وعلى حسن سيرها وتحضيرها حيث يقوم بدور إيجابي ولا يترك أمرها للخصوم”.

كما أن تقييد القاضي بوسيلة الإثبات التي وقع عليها اختياره واحترامه الإجباري لنتيجتها يتعارض مع مبدأ حرية الإثبات الذي يميز الإجراءات القضائية الإدارية، فالواجب عدم تقييده بوسيلة إثبات لم يعد يرى جدواها أو تساوره شكوك جدية في عدم دقة نتيجتها، وإلا أدى ذلك إلى غل يده ومنعه من التوصل إلى الحقيقة.

ومن ناحية أخرى فإن لهذه الحرية الواسعة مبررا منطقيا، يستند إلى وجوب الفصل في الخصومة في أجل معقول، المبدأ المنصوص عليه في المادة ( 03/04 ق.إ.م.إ.) وهذا يفترض تخويل قاضي الإلغاء سلطة واسعة في الأمر بوسائل التحقيق التي تناسب كل قضية، تجنبا التسبب في تعطيل الفصل في الدعوى دون فائدة.

وخلاصة القول أن القاضي هو سيد المنازعة يأمر بما يراه مناسبا للفصل في الدعوى، وله أن يعدل عنه إلى ما يراء أنسب وأجدى، وبعد كل هذا فهو غير مقيد بما انتهت إليه وسيلة الإثبات من نتائج، بل يعتمد على تقديره في ضوء باقي عناصر الملف وما يطمئن إليه ضميره، وهذا ما يدعو إلى القول بأن تخفيف عبء الإثبات على المدعي في دعوى الإلغاء معقود بمدى استنفاد قاضي الإلغاء لسلطته هذه في هذا السبيل.