القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
المبحث الأول: إشراف قاضي الإلغاء على إجراءات الخصومة.
يمارس قاضي الإلغاء هذا الدور من خلال سلطاته الواسعة التي يتمتع بها أثناء تحضير الدعوى للفصل فيها، ويقصد بتحضير الدعرى مجموعة الوسائل التي تتخذ اعتبارا من تاريخ إيداع عريضة الدعوى بقصد تهيئتها للفصل فيها إلى غاية الإعلان عن اختتام التحقيق، والذي يخضع لإرادة القاضي وتقديره لمدى صلاحية الدعوى للبث فيها. وتعتبر عملية تحضير الدعوى الوعاء الذي تتجمع فيه عناصر الإثبات، ويكشف خلالها دور القاضي عن اتجاهاته بخصوص تنظيم عبء الإثبات ومدى تحمل كل طرف له.
وفي هذا الإطار يقوم قاضي الإلغاء بالإشراف على العديد من الإجراءات التي تضمن حقوق الدفاع، كما له سلطات واسعة أيضا في مباشرة وسائل الإثبات المختلفة أثناء تحضير الدعوى للفصل فيها، ونظرا لتعاظم هذا الدور ذهب البعض إلى القول بأن القاضي في هذا الإطار ينوب عن المشرع في مباشرة وظيفته أكثر من مجرد اقتصاره على تطبيق القانون.
غير أنه ومهما قيل عن هذا الدور فإنه يتعين ألا يصطدم بمبدأ الحياد؛ فالقاضي الإداري شأنه شأن القاضي العادي لا يتحمل عبء الإثبات إعمالا لمبدأ أن المنازعة ملك لأطرافها أصحاب المصلحة فيها. ولهذا وجب أن يقتصر هذا الدور على توجيه الإجراءات وتيسير مهمة الطرفين والمساعدة في التوصل إلى الحقيقة؛ الأمر الذي يجعل من حياد القاضي ذو معنى إيجابي.
كما ينبغي مراعاة المبادئ العامة في التقاضي والتي يجب احترامها ضمانا للوصول إلى الحقيقة بغض النظر عن أطرف الخصومة، ويتعلق الأمر خصوصا بضمان حقوق الدفاع وعلى رأسها مبدأ الوجاهية في الإجراءات.
وفي سبيل الإحاطة بطبيعة هذا الدور، ومظاهره والقيود الواردة عليه يجب التعرض أولا إلى تحضير قاضي الإلغاء للدعوى الإدارية (المطلب الأول) وثانيا إلى سلطة قاضي الإلغاء الواسعة بشأن وسائل الإثبات (المطلب الثاني)، وأخيرا تقيد إشراف قاضي الإلغاء على إجراءات الخصومة باحترام مبدأ الوجاهية (المطلب الثالث).
المطلب الأول: تحضير قاضي الإلغاء للدعوى.
تمثل مرحلة تحضير الدعوى مجالا مهما لممارسة قاضي الإلغاء دورا إيجابيا يضمن موازنة بين أطراف دعوى الإلغاء من حيث أعباء الإثبات، وتشمل مرحلة التحضير كل الإجراءات التي تستهدف توفير المستندات والأدلة اللازمة والمقبولة للحكم في النزاع، ويلتزم القاضي كقاعدة عامة بالتحضير الكامل للدعوى للفصل، ولا يمكنه إصدار حكم في قضية دون التحقيق فيها؛ واستثناء قد يجيز المشرع عدم التحضير لوضوح الحل، مثلما نصت عليه المادة 847 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية بقولها: “يجوز لرئيس المحكمة الإدارية أن يقرر بألا وجه للتحقيق في القضية عندما يتبين له من العريضة أن حلها مؤكد…”، كما هو الشأن لو كان من الواضح أن الحكم هو عدم الاختصاص أو أن العريضة من الواضح أنها غير مقبولة.
إن أهم ميزة يتميز بها دور القاضي في تحضير الدعوى كونه إلزاميا (الفرع الأول) ويساهم قاضي الإلغاء في الإثبات في مرحلة التحضير من خلال إشرافه على تبادل المذكرات وتحديد الآجال (الفرع الثاني)، ويستند إلزام قاضي الإلغاء بتحضير الدعوى الإدارية ولعب دور إيجابي فيها إلى عدة اعتبارات تتعلق في مجموعها بطبيعة وخصائص الدعوى الإدارية عموما، ودعوى الإلغاء خصوصا (الفرع الثالث).
الفرع الأول: إلزامية التحضير في الدعوى الإدارية.
ليس للقاضي الحرية المطلقة في إجراء التحضير في حالات دون أخرى، ولكن يلتزم بإجرائه كأصل عام كنتيجة مترتبة عن التزامه بالفصل في الدعوى عن دراية كاملة ، وتستشف هذه الإلزامية في الحالات العادية من خلال صياغة المواد المنظمة للتحقيق، ومن خلال صيغة الإعفاء من التحقيق في الحالات التي نصت عليها المادة 847، والتي تعني من جهة أنه بمفهوم المخالفة في غير هذه الحالات لا يجوز الاستغناء عن التحقيق. ومن جهة ثانية تستشف من العنوان الفرعي الذي جاءت تحته المادة 847 وهو الإعفاء من التحقيق والإعفاء لا يكون إلا من واجب.
لقد اعتبر مجلس الدولة الفرنسي مبدأ إلزامية التحقيق في الدعوى إجراء جوهريا، وألزم المحاكم الإدارية باحترامه. والهدف من إلزامية التحضير في الدعوى الإدارية ليس الإسراع في الفصل في الدعوى فحسب، ولكن إلى جانب ذلك تهدف إلى العمل على تحقيق التوازن العادل بين طرفي الدعوى. من خلال الدور الذي يمارسه القاضي في إعادة التوازن بين أطراف الدعوى أثناء تحضيرها.
وفي فرنسا بالنسبة للمحاكم الإدارية والمحاكم الاستئنافية الإدارية نصت المادتان (.R . 611 – 9 C . I . A ) و (.R . 611 – 16 C . J . A) تودع العريضة الافتتاحية لدى كتابة ضبط الجهة القضائية وتسجل، ومباشرة بعد تسجيل العريضة الافتتاحية أمام كتابة الضبط فإن رئيس المحكمة يعين مقررا يحدد -تحت سلطة رئيس تشكيلة الحكم وحسب ظروف القضية- أجلا للأطراف لإيداع مذكراتهم، ويمكنه أن يطلب منهم تحت طائلة مبدأ الوجاهية تقديم كل الوثائق التي يراها مفيد للوصول إلى حل للنزاع، ويحاول كل طرف إثبات ادعاءاته عن طريق مختلف الأدلة التي يقدمها، ويخضع تقديم المذكرات إلى آجال، كما يمكن للقاضي المقرر أن يأمر بما يراه مفيدا في حل النزاع من إجراءات التحقيق، ويمكن له النطق باختتام التحقيق بعد أن يرى أن القضية أضحت جاهزة للتداول فيها .
وفي مجلس الدولة تحول العريضة من قبل رئيس قسم المنازعات إلى إحدى الغرف المختصة بالتحقيق، ليقوم رئيس الغرفة بتعيين مستشار مقرر يقترح مختلف التدابير اللازمة للتحقيق حسب نص المادة (. R. 611-20 C. J. A) ، غير أن لرئيس قسم المنازعات أن يوكل مهمة التحقيق إلى قسم المنازعات في بعض الدعاوى الهامة التي تثير مسائل قانونية جديدة – وليس لمفوض الحكومة سواء في مجلس الدولة أو أمام المحاكم الإدارية القيام بدور أصيل في تحضير الدعوى، حيث يبدأ في إعداد تقريره بعد تسلم الملف كاملا مستوفيا.
وفي الجزائر يودع المدعي عرضيته قلم كتاب الجهة القضائية مقابل إيصال يثبت دفع رسم القضية، ويحدد رقمها (المادة 823)، وتودع العريضة مع نسخ منها بعدد الخصوم ويرفق معها القرار موضوع الطعن (المادة 819).
ويعين رئيس المحكمة الإدارية التشكيلة التي يؤول إليها الفصل في الدعوى بمجرد قيد عريضة افتتاح الدعوى بأمانة الضبط (المادة 844)، ويعين رئيس تشكيلة الحكم القاضي المقرر الذي يحدد -بناء على ظروف القضية- الأجل الممنوح للخصوم من أجل تقديم المذكرات الإضافية والملاحظات وأوجه الدفاع والردود، ويجوز له أن يطلب من الخصوم أي مستند أو أية وثيقة تفيد في فض النزاع (844).
ويشار في تبليغ العرائض والمذكرات إلى أنه في حالة عدم مراعاة الأجل المحدد من طرف القاضي لتقديم مذكرات الرد يمكن اختتام التحقيق دون إشعار مسبق (المادة (840).
وإذا رأى رئيس تشكيلة الحكم أن الحكم يمكن أن يكون مؤسسا على وجه مثار تلقائيا ، يعلم الخصوم قبل جلسة الحكم بهذا الوجه، ويحدد الأجل الذي يمكن فيه تقديم ملاحظاتهم على الوجه المثار دون خرق آجال اختتام التحقيق (المادة843)، كما يجوز له أن يقزز بألا وجه للتحقيق في القضية عندما يتبين له من العريضة أن حلها مؤكد، ويرسل الملف إلى محافظ الدولة لتقديم التماساته (المادة 847)، وعندما تكون القضية مهيأة للجلسة، أو عندما تقتضي القيام بتحقيق يرسل الملف إلى محافظ الدولة لتقديم التماساته بعد دراسته من قبل القاضي المقرر ( المادة.(846
وعندما تكون القضية مهيأة للفصل فيها يحدد رئيس تشكيلة الحكم تاريخ اختتام التحقيق بموجب أمر غير قابل لأي طعن (المادة852)، ويبلغ الأمر إلى جميع الخصوم برسالة مضمنة مع إشعار بالاستلام أو بأي وسيلة أخرى في أجل لا يقل عن خمسة عشر يوما قبل تاريخ الاختتام المحدد في الأمر (المادة852).
ويحيل القاضي المقرر وجوبا ملف القضية مرفقا بالتقرير والوثائق الملحقة به إلى محافظ الدولة، لتقديم تقريره المكتوب في أجل شهر واحد من تاريخ استلامه الملف، ويجب على محافظ الدولة إعادة الملف والوثائق المرفقة به إلى القاضي المقرر بمجرد انقضاء الأجل المذكور (المادة 897).
أما في مصر فوفقا للمادة 27 من قانون مجلس الدولة وخلافا لما هو عليه الحال في الجزائر وفرنسا يتم تحضير الدعوى أساسا بمعرفة هيئة مفوضي الدولة التي تشكل فرعا مستقلا للقسم القضائي بمجلس الدولة، حيث تتولى تهيئة الدعوى للفصل فيها، ولمفوض الدولة في سبيل ذلك الاتصال بالجهات الحكومية ذات الشأن للحصول على ما يكون لازما من بيانات وأوراق، وأن يأمر باستدعاء ذوي الشأن لسؤالهم عن الوقائع التي يرى لزوم تحقيقها، أو بإدخال طرف ثالث في الدعوى، أو تكليف ذوي الشأن بتقديم مذكرات أو مستندات تكميلية، أو غير ذلك من الإجراءات، وهو ملزم بإيداع تقرير مكتوب بالرأي القانوني على الوجه القانوني الذي نظمته نصوص قانون مجلس الدولة.