المماطلة مظاهرها وأضرارها وأنواعها وأسبابها

د. عبدالله بن ناصر السلمي

المماطلة مظاهرها وأضرارها وأنواعها وأسبابها في الفقه الإسلامي[1]

لفضيلة الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي[2]

المقدمة:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد:

فإن من أعظم سمات الخير في المجتمع هو أداء الحقوق والواجبات، والإنسان مدني بالطبع، ولا يمكن أن ينفك عن العلاقات الإنسانية، ومن هنا فإن من أهم واجبات تلك العلاقة بين الناس في مجتمعاتهم هو حسن التعامل، والوفاء، وعدم المماطلة في الحقوق والاستيفاء، وإذا كان من المستقر لدى المطلعين في الشريعة الإسلامية أن حقوق العباد مبناها على المشاحة، وحقوق الله مبناها على المسامحة، فلا غرو إذا أن نجد النصوص الشرعية، والآثار السنية، تؤكد على هذا الأمر وتهتم به أيما اهتمام، فتعِالج هذه القضية قبل حصولها وبعد حصولها، للعلم بأن مشكلة المطل في الوفاء بالحقوق من أعظم الأضرار على المجتمعات الإنسانية، فلا يكاد يوجد المطل في أداء الحقوق والواجبات في مجتمع إلا وتكثر الحيل، ويفشو الخداع والمكر ويتفاقم المين والكذب كما قال – صلى الله عليه وسلم – حينما سئل ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله؟ فقال – صلى الله عليه وسلم -: « إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف »[3]  [4].

ولا يمكن أن يتوصل إلى الحلول الناجعة، والتنظيمات الرادعة، قبل معرفة أسباب المطل ومظاهره، وصوره في أداء الحقوق، فهذا هو هدف الدراسة في هذا الموضوع.

أولا: أسباب اختيار الموضوع:

1 – هو انتشار ظاهرة المماطلة والتسويف في الوفاء بالحقوق لدرجة أنك لا تكاد تجد إلا القلة من الناس الذين يقومون بإقراض الناس القرض الحسن لأنهم مع إحسانهم للغير، لا يستطيعون رد حقوقهم إلا بالمشقة والعنت.

2 – الإحصاءات الرسمية في كثرة الشيكات المرتجعة، والتي لا يوجد لها رصيد لأداء الحقوق، يظهر مدى كثرة المماطلات، وضرورة الاهتمام بمعالجة هذه القضية الخطيرة، بمعرفة أسبابها ومظاهرها وصورها وأضرارها.

3 – تهاون بعض الناس بسرعة أداء الحقوق، واستثمار أموال الغير مع مطالبتهم بها، يعد من أكل أموال الناس بالباطل، لذا كان من الواجب بيان حكم الشريعة الإسلامية في مثل هؤلاء.

ثانيا: خطة البحث:

جعلت البحث مشتملا على مقدمة وتمهيد وأربعة مباحث وخاتمة.

أولا: المقدمة وتشمل على أهمية الموضوع وأسباب اختياره، ومفردات البحث.

ثانيا: التمهيد، وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: تعريف المماطلة في اللغة والاصطلاح.

المطلب الثاني: تعريف الحقوق في اللغة والاصطلاح.

المطلب الثالث: أسباب شيوع ظاهرة الاستدانة.

ثالثا: المباحث:

المبحث الأول: وجوب إبراء الذمة من الحقوق، وتحته ثلاثة مطالب:

المطب الأول: أهمية إبراء الذمم.

المطلب الثاني: أنوع الحقوق.

المطلب الثالث: أهمية توثيق الحقوق ووسائلها.

المبحث الثاني: مظاهر المماطلة والتسويف وأنواع الضرر المترتب عليها، وتحته مطلبان:

المطلب الأول. مظاهر المماطلة والتسويف.

المطلب الثاني: أنواع الضرر المترتب على المماطلة، وتحته فرعان:

الفرع الأول: الضرر المادي.

الفرع الثاني: الضرر الأدبي.

المبحث الثالث، أنواع المطل، وتحته ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: مطل المدين المعسر.

المطلب الثاني: مطل المدين الغني المعذور.

المطلب الثالث: مطل المدين الموسر بلا عذر.

المبحث الرابع، أسباب المطل، وتحته أربعة مطالب.

المطلب الأول: أسباب تعود إلى من عليه الحق.

المطلب الثاني: أسباب تعود إلى صاحب الحق.

المطلب الثالث: أسباب تعود إلى العلاقة بينهما.

المطلب الرابع: أسباب تعود إلى غير ما سبق.

رابعا: الخاتمة: وفيها أهم النتائج التي توصلت إليها في البحث.

التمهيد وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: تعريف المماطلة في اللغة والاصطلاح:

المماطلة لغة: من المطل، وهو كما يقول الأزهري: هو إطالة المدافعة وكل مضروب طولا من حديد وغيره فهو ممطول[5].

والمطل أصل يدل على مد الشيء وإطالته كما يقول ابن فارس[6].

وهو مشتق من مطلت الحديدة إذا ضربتها ومددتها لتطول.

ومنه يقال: مطله بدينه مطلا، وماطله مماطلة: إذا سوفه بوعد الوفاء مرة بعد أخرى[7].

وفي الاصطلاح الفقهي: فقد حكى النووي، وملا علي القاري أن المطل شرعا: منع قضاء ما استحق أداؤه وزاد القرطبي قيدا فقال: “عدم قضاء ما استحق أداؤه مع التمكن منه”[8].

وقال الحافظ ابن حجر: ويدخل في المطل كل من لزمه حق، كالزوج لزوجته والسيد لعبده، والحاكم لرعيته، وبالعكس[9]

وعلى هذا فلا تعتبر المدافعة والتسويف في قضاء الدين مطلا إذا كان الدين مؤجلا في الذمة؛ لأن الدائن لما رضي بتأجيل دينه، فقد أسقط حقه في التعجيل، ولم يعد له قبل المدين حق في استيفائه قبل حلول الأجل، ومن ثم فلا يعتبر الممتنع عن الوفاء في هذه الحالة مماطلا، بل متمسكا بحق شرعي[10].

وقد أوضح الباجي هذا المعنى بقوله: “المطل: هو منع قضاء ما استحق عليه قضاؤه فلا يكون منع ما لم يحل أجله من الديون مطلا، وإنما يكون مطلا بعد حلول أجله، وتأخير ما بيع على النقد عن الوقت المعتاد في ذلك على وجه ما جرت عليه عامة الناس من القضاء”[11].

ولا يعتبر مماطلا أيضا من امتنع عن الوفاء لأجل عذر طرأ عليه مثل العجز المالي أو نقص في السيولة، وقد صالح الدائن ببعض ما له عليه من الحق بأشياء عينية من عقار أو سلع ونحوه. لأنه ربما يحصل كساد لبعض السلع، فلا يمكن بيعها، وليس عنده من المال ما يوفي به الدين الذي عليه، فالدائن إما أن يصبر وإما أن يعتاض عن دينه بهذه الأشياء العينية التي يمتلكها المدين.

مسألة: وهل يتصف بالمطل، من ليس القدر الذي استحق عليه حاضرا عنده، لكنه قادر على تحصليه بالتكسب والعمل والتجارة مثلا؟

اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال.

– قول بعدم الوجوب وهو إطلاق أكثر فقهاء الشافعية.

– وقول بالوجوب مطلقا.

– وقول بالتفصيل بين أن يكون أصل الدين وجب بسبب يعصى به فيجب، وإلا فلا. وقال جمال الدين الإسنوي، وهو واضح؛ لأن التوبة فيما فعله واجبة وهي متوقفة في حقوق الآدميين على الرد، وقال العراقي: “ولو قيل: بوجوب التكسب مطلقا لم يبعد، كالتكسب لنفقة الزوجة والقريب، وكما أن القدرة على الكسب كالمال في منع أخذ الزكاة”[12].

وعلى هذا التفصيل فإذا وجب عليه نفقة زوجته أو ولده وليس عنده القدر الكافي لنفقتهم لكنه قادر على العمل والوظيفة فيجب، وإلا فلا. لأن نفقة الزوجة والأبناء الصغار واجبة. والله أعلم.

المطلب الثاني: تعريف الحقوق في اللغة والاصطلاح:

الحق في اللغة خلاف الباطل، وهو مصدر حق الشيء، يحق إذا ثبت ووجب[13] ويطلق على العدل، والإسلام، والمال، والملك، والموجود الثابت والصدق[14]، ويقال: حق الله الأمر: إذا أثبته وأوجبه[15]

وعرفه الجرجاني بقوله: “هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره”[16] والحق اسم من أسماء الله تبارك وتعالى.

أما في الاصطلاح، فقد عرفه عبد العزيز البخاري صاحب كشف الأسرار بأنه: “الموجود من كل وجه الذي لا ريب في وجوده”[17].

وعرفه الأستاذ السنهوري بأنه: مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون[18] أما الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا فقد قال: لم أر للحق بمفهومه العام تعريفا صحيحا جامعا لأنواعه كلها لدى فقهاء الشريعة أو القانون، ثم عرفه بأنه: اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفا[19]. وذلك كحق الولي في التصرف على من تحت ولايته، فإنه سلطة لشخص على شيء.

والمراد بالاختصاص: علاقة تشمل الحق الذي موضوعه مالي، كاستحقاق الدين في الذمة بأي سبب كان، والذي موضوعه ممارسة سلطة شخصية كممارسة الولي ولايته، والوكيل وكالته.

وهذه العلاقة لكي تكون حقا يجب أن تختص بشخص معين أو بفئة، إذ لا معنى للحق إلا عندما يتصور فيه ميزة ممنوحة لصاحبه، وممنوعة عن غيره. أما ما كان من قبيل الإباحات العامة، كالاصطياد، والاحتطاب فلا تعتبر حقا بالمعنى المراد هنا، إذ لا يوجد شخص مطالب بأداء هذا الحق لصاحبه.

ثم إن هذا الاختصاص لا يكون معتبرا ما لم يعتبره الشرع، ولذا اشترط إقرار الشرع له، إذ لا حق إلا ما اعتبره الشرع حقا.

والمراد بالسلطة: ما يشمل سلطة شخص على شخص كحق الولاية على النفس فهي للولي على القاصر، إذ له حق تأديبه وتطبيبه، والسلطة على شيء معين كحق الملكية، فهي سلطة على ذات الشيء.

والمراد بالتكليف: تكليف الغير بأداء ما في عهدته لصاحب الحق، كقيام الأجير بعمله، وقيام المدين بأداء دينه[20].

وما ذكره فضيلة الشيخ الزرقا في تعريفه وجيه وجامع، غير أن الفقهاء المتقدمين – رحمهم الله – لم يلتزموا في تعاريفهم ما التزمه المناطقة والأصوليون ومتأخرو الفقهاء بأن التعريف لا بد وأن يكون جامعا مانعا؛ لأن أكثر تعاريفهم إنما هو تعريف شمولي في الجملة وهو ما يعرف عند المناطقة بالتعريف بالرسم ولهذا نجد أن الفقهاء – رحمهم الله – يستعملون الحق بمعان عديدة، ومواضع مختلفة، وكلها ترجع إلى المعاني اللغوية للحق.

أ – فقد استعملوه بمعنى عام يشمل كل ما يثبت للشخص من ميزات، سواء أكان الثابت شيئا ماليا أو غير مالي.

ب – كما استعملوه في مقابل الأعيان والمنافع المملوكة، بمعنى المصالح الاعتبارية الشرعية التي لا وجود لها إلا باعتبار الشارع، كحق الشفعة وحق الطلاق، وحق الحضانة والولاية.

ج – كما أنهم يلاحظون أحيانا المعنى اللغوي فقط في الاستعمال كما في قولهم حقوق الدار، أي مرافقها كحق التعلي وحق الشرب وحق المسيل ونحو ذلك؛ لأنها ثابتة للدار ولازمة لها، ويقولون حقوق العقد، ويقصدون بذلك ما يتبع العقد من التزامات ومطالبات تتصل بتنفيذ حكمه، فعقد البيع مثلا حكمه نقل ملكية المبيع، وحقوقه: تسليم المبيع ودفع الثمن.

المطلب الثالث: أسباب شيوع ظاهرة الاستدانة:

إن من أعظم أسباب الغنى، وأهم وسائل السعادة الاعتدال في تدبير المال والاقتصاد في النفقة، وذلك لأن الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، كان الإسراف في الإنفاق والتبذير في المال داعية للفقر، وسببا لتحمل الديون والالتزامات المالية، وهو أشد أنواع الفقر، فالدين هم بالليل، وذل بالنهار، وهو يحمل المدين على انتحال الأسباب الكاذبة،

واختلاق المعاذير الواهية وخلف المواعيد المحترمة، وعدم الوفاء بالواجب، فيجعل الآمن خائفا والمطمئن مضطربا، والصادق كاذبا، وكم تورطت أنفس بالديون فأصابها الفقر بعد الغنى، والذل بعد العز، والضعف بعد القوة وأصبحت تئن تحت أعباء الديون أنين الثكلى[21] ولقد تساهل كثير من الناس في الديون حتى أصبحت ذمم كثير منهم مشغولة منهكة وإذا نظرنا وسبرنا أسباب شيوع الاستدانة نجد أنها أسباب كثيرة لا تقتصر على شيء واحد، ولعل من أهمها:

أولا: التوسع في الشهوات، والترف البالغ، والتنعم الزائد، وحب الظهور الكاذب، واستهواء المظاهر الباطلة، ومجاراة المدنية المسرفة، فكل هذا أدى بالبعض لمجاراة هذه المظاهر إلى الاستدانة وإظهار خلاف الواقع، كي يظهر بالمظهر الكاذب من التنعم والترف.

ثانيا: تحكم العادات القبيحة في الأفراح والحفلات والمناسبات والتشبه بالأغنياء في أساليب معيشتهم ومناسباتهم، فبسبب هذه العادات جعلت محدودي الدخل، ينافس هؤلاء، فيستدين للإسراف غير العقلاني في الإنفاق البذخي، والمجاراة غير المحدودة مغترا براتبه الشهري، ومكتفيا بما تحققه له اللحظة الحاضرة دون النظر إلى المستقبل، وما يحمل وراءه من أثقال الدين، وأحماله.

ثالثا: ومن أسباب الاستدانة، أن يقوم التاجر بدراسة مشروع استثماري، يستغرق مالا كثيرا، والجدوى الاقتصادية لهذا المشروع ناجحة، فيستدين لإتمام هذا المشروع، ويغطى الدين الذي عليه من أرباح هذا المشروع.

رابعا: ومن الأسباب أيضا العمل غير المشروع المقتضي لثبوت الدين على الفاعل، كالقتل العمد الذي عفا أولياء المقتول عن القصاص إلى الدين، أو كالجنايات الموجبة للأرش، وإتلاف مال الغير، وكتعدي يد الأمانة، أو تفريطها في المحافظة على ما كانت بيده – فكل هذه الأعمال غير المأذون فيها يترتب عليها أموال والتزامات للغير[22]، فربما لا يكون عنده من المال ما يقضي به لأصحاب الحقوق حقوقهم فيضطر للاستدانة.

خامسا: ومن الأسباب هلاك المال في يد الحائز إذا كانت يد ضمان مهما كان سبب الهلاك، كهلاك الشيء في يد الأجير المشترك فهلاك السيارات عند أصحاب الورش مثلا وتعرضها لحريق يجعل أصحاب المحلات مسؤولين مسؤولية تامة لأنهم أجراء مشتركون والأجير المشترك يضمن سواء تعدى أو لم يتعد[23] فيضطر أصحاب المؤسسات للاستدانة لتسديد الأموال التي يطالب بها أصحاب السيارات مثلا.

سادسا: ومن الأسباب أيضا، أن المرء قد يكون قليل ذات اليد وعنده زوجة لا يستطيع الإنفاق عليها، مع العلم بأن نفقة الزوجة واجبة سواء أكان الزوج موسرا أم معسرا، فإن كان الزوج حاضرا وله مال، أنفق من ماله جبرا عنه، وإن كان معسرا، فإن فقهاء الحنفية يرون أن القاضي يفرض لها النفقة، ثم يأمرها بالاستدانة عليه، فإن لم تجد من تستدين منه، أوجب القاضي نفقتها على من تجب عليه من أقاربها لو لم تكن متزوجة، أما إن كان غائبا، وليس له مال حاضر، فإنه لا تفرض لها نفقة عليه، خلافا لزفر من الحنفية، علما بأن قوله هو المفتى به عند الحنفية.

ومذهب الشافعية والحنابلة قريب من ذلك حيث يرون أنه يجب عليه أن يستدين لها، ولها أن تستدين، ولو بغير إذن، وترجع عليه بما استدانت.

وبهذا الوجوب تجعل كثيرا من المعدمين يستدينون لأجل إطعام من تحت أيديهم.

المبحث الأول، وجوب إبراء الذمم من الحقوق وتحته ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: أهمية إبراء الذمم من الحقوق

حقوق العباد مبناها على المشاحة، فلا يجوز إسقاط حق الغير بغير إذنه ولا يجوز أخذ ماله من غير رضاه، قال – صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس»[24]

ولقد حرص الإسلام بتعاليمه وتوجيهاته أن لا تكون ذمة المرء مشغولة بحقوق العباد ومظالمهم، فحذر ورغب، ووعد وتوعد، تارة بالتهديد والتخويف، وتارة بالترغيب والتحفيز، كي يلقى المرء ربه، وليس أحد يطلبه في مظلمة في عرض ولا مال.

ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم – كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه، فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه»[25]  [26] وفي هذا الحديث العظيم دلالة ظاهرة على وجوب التخلص من حقوق العباد في الدنيا، وطلب التحلل والسماح منهم، قبل أن يأتي يوم القيامة، ولا ينفع بعد ذلك دينار ولا درهم، {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[27] {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ}[28] {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ}[29] {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ}[30].

والمصيبة والفضيحة يوم أن لا يكون عند المرء حسنات يقتص بها منه لصاحبه، فحينئذ يؤخذ من سيئات صاحبه فتطرح عليه ثم يلقى في النار. وقد حذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من مغبة أخذ أموال الناس بأي وسيلة كانت وهو ينوي عدم إرجاعها إلى أصحابها، سواء كانت باسم البيع أو الإجارة أو القرض أو الوديعة، بأن مآله الخسران في الدنيا، والعذاب الشديد ينتظره في الآخرة، قال – صلى الله عليه وسلم -: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله»[31].

فمن كانت نيته الوفاء بالديون التي عليه وهو قادر على ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى يعينه على ذلك، ولو مات أدى الله عنه ذلك لما يعلم سبحانه من عبده الصدق في الوفاء.

وهل إذا أخذها، وهو يعلم من نفسه العجز عن الوفاء، يكون كمن أخذها يريد أداءها أم يريد إتلافها؟

ذكر ابن المنير أن الأخذ مقيد بالعلم بالقدرة على الوفاء، قال: لأنه إذا علم من نفسه العجز، فقد أخذ لا يريد الوفاء، إلا بطريق التمني، والتمني خلاف الإرادة.

وقد تعقب الحافظ ابن حجر فهم ابن المنير هذا وقال: وفيه نظر؛ لأنه إذا نوى الوفاء مما سيفتحه الله عليه، فقد نطق الحديث بأن الله يؤدي عنه، إما بأن يفتح عليه في الدنيا، وإما بأن يتكفل عنه في الآخرة فلم يتعين التقييد بالقدرة في الحديث، ولو سلم ما قال، فهناك مرتبة ثالثة، وهو أن لا يعلم هل يقدر أو يعجز[32]

أما من كانت نيته المماطلة والجحود وعدم الوفاء – كما هو عمل بعض المسلمين اليوم والله المستعان – فقد قصد إتلاف حق الدائن، ومن أراد إتلاف حق الدائن أتلفه الله سبحانه وتعالى، والويل لمن يكون الله تعالى خصمه، وظاهر الحديث أن الإتلاف يقع له في الدنيا، وذلك في معاشه أو في نفسه كما قال الحافظ ابن حجر ثم قال: وهو علم من أعلام النبوة، لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئا من الأمرين[33].

وقيل المراد بالإتلاف عذاب الآخرة، غير أن إطلاق الحديث يفيد العموم والله أعلم.

وفي هذا الحديث الشريف الحض على ترك استئكال أموال الناس والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة، وأن الجزاء قد يكون من جنس العمل، كما قال ابن بطال – رحمه الله -[34].

وقد حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على عدم التسارع إلى أخذ أموال الناس حتى لا يبقى المسلم مدينا، وحذر من مغبة الدين، فمن تشديد النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك: أنه «كان عليه الصلاة والسلام إذا مات الميت وأتي به للصلاة عليه سأل عليه الصلاة والسلام هل عليه دين، فإن قيل نعم قال: فهل ترك شيئا، فإن قالوا: ترك صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم»[35]

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: “وفي هذا الحديث إشعار بصعوبة أمر الدين، وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة” [36].

وكأن الذي فعله – صلى الله عليه وسلم – من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الديون في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم -[37].

وهل كانت صلاته على من عليه دين محرمة عليه الصلاة والسلام أو جائزة؟ فيه وجهان عند أهل العلم رجح النووي – رحمه الله – الجزم بجوازه مع وجود الضامن كما في حديث مسلم” ا. هـ[38].

ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بترك الصلاة على المدين، ليبين خطورة بقاء أموال الناس في ذممهم، ووجوب المسارعة بإبراء الذمم من حقوق العباد، بل أخبر عليه الصلاة والسلام «أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه»[39].

ومعنى قوله – صلى الله عليه وسلم – «معلقة بدينه»[40] أي محبوسة عن

مقامها الكريم وقال العراقي: أي أمرها موقوف لا حكم لها بنجاة، ولا هلاك حتى ينظر هل يقضى ما عليها من الدين أم لا[41].

وظاهر الحديث على عمومه سواء ترك الميت وفاء أم لا، وهذا ما عليه أكثر الشافعية.

وقال الشوكاني – رحمه الله -: “وفي الحديث الحث للورثة على قضاء دين الميت، والإخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه، وهذا مقيد بمن له مال يقضى منه دينه، وأما من لا مال له ومات عازما على القضاء، فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه…”[42].

ولقد كان السلف الصالح يحرصون على أداء ديون موتاهم لعلمهم الأكيد أن الميت محبوس بدينه، قال معمر بن راشد – رحمه الله – قيل لابن طاوس بن كيسان التابعي المشهور في دين أبيه: لو استنظرت الغرماء قال: أستنظرهم، وأبو عبد الرحمن – يعني أباه طاوسا – عن منزله محبوس!: قال: فباع مال ثمنه ألف بخمسمائة”[43] استعجالا لتسديد الدين فرحمهم الله رحمة واسعة.

فإذا كان الدين بهذه المثابة من التغليظ والتشديد والوعيد، فلماذا إذن يتساهل الكثير بأمره، ولم يقدروه حق قدره، حتى أصبح غالب الناس إما مدينا يطالبه غرماؤه، وإما منتظرا حلول أقساطه التي عليه، وإذا كان من أعظم القربات وأجل الطاعات هو إراقة الدماء في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وبذل النفس في الجهاد في سبيله تعالى وقد جاء في فضله وفضل المجاهد في سبيله من الفضائل والمكرمات، والشرف في القرب عند الرحمن ما جاء.

ومع ذلك كله فإن حقوق العباد تقف حاجزا منيعا دون نيل هذه المكرمات والفضائل، « فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: نعم إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: كيف قلت: قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك »[44] رواه مسلم[45]. فانظر رحمك الله فضل المجاهد في سبيل الله وأنه إن قتل وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر فإن خطاياه كلها مكفرة، وذنوبه مغفورة، وسيئاته معفوة، ومعايبه مستورة، إلا الدين، فهذا يدل على عظم حقوق الآدميين ولهذا قال النووي – رحمه الله – وأما قوله – صلى الله عليه وسلم – (إلا الدين) ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر، لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى ا. هـ[46] فإذا كان كبار الصحابة الذين شهدوا بدرا وأحدا والخندق وغيرها من الغزوات العظيمة الذين شهد بصدقهم الكتاب والسنة وإجماع سلف هذه الأمة يخاطبون بذلك، ويطبق عليهم هذا الحكم، فما ظنك بغيرهم الذين هم أقل منهم في المنزلة، والعبادة والتقوى، فالبدار البدار والنجاة النجاة فلقد نزل من السماء تشديد ووعيد في الدين وحقوق الآدميين جعلت الحبيب عليه الصلاة والسلام يتعجب منه فهذا محمد بن جحش الصحابي رضي الله عنه يقول: «كنا جلوسا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرفع رأسه إلى السماء، ثم وضع راحته على جبهته ثم قال: سبحان الله ماذا نزل من التشديد، فسكتنا وفزعنا، فلما كان من الغد سألته يا رسول الله ما هذا التشديد الذي نزل فقال: والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه»[47].

وقد جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – أن من أعظم الذنوب بعد الكبائر أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء»[48].

فالسعيد كل السعادة من لقي ربه وليس أحد من العباد يطلبه بمظلمة في عرض ولا مال، فلا يحجب عن خير له، ولا يحبس بسبب دين عليه.

المطلب الثاني: أنوع الحقوق:

الحق له أنواع وتقسيمات باعتبارات عدة ومختلفة..

ومرجع هذه التقسيمات، إما بالنظر إلى صاحب الحق، أو بالنظر إلى من عليه الحق، أو بالنظر إلى الشيء المستحق، أو بالنظر إلى ما يتعلق به الحق.[49]

والذي يهمنا في هذا البحث هو تقسيمه باعتبارين اثنين:

أولا: باعتبار المستحق أو باعتبار عموم النفع وخصوصه يقسم الحق بهذا الاعتبار إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: حق خالص لله تعالى، وهو ما يتعلق به النفع العام للعالم، فلا يختص به أحد، وإنما هو عائد على مجموع الأفراد والجماعات وشرع حكمه للمصلحة العامة، وإنما نسب إلى الله تعظيما لشأنه، أو لئلا يتجرأ أحد على دعوى اختصاصه به وقدرته على إسقاطه عن نفسه أو عن غيره، وإلا فالله الغني عن كل شيء؛ لأن الله تعالى وتقدس أن ينتفع بشيء، فلا يجوز أن يكون شيء حقا له بهذا الوجه.

وهذا القسم تحته أنواع ثمانية[50]:

1 – العبادات المحضة (الخالصة): كالصلاة والصيام، والزكاة، والحج وما بنيت عليه هذه العبادات من الإيمان والإسلام، وهذه العبادات فرض على المكلف الإتيان بها، وفي ترك بعضها ترك للإيمان والإسلام كما في ترك الإيمان أو الإسلام، أو في ترك الصلاة على الخلاف فيه عند الفقهاء. وهذه العبادات فيها مصلحة للعباد والبلاد، إذ بها قيام الدين، وهو ضروري لقيام المجتمع على أسس سليمة ونظم فاضلة.

2 – العبادات التي فيها معنى المؤونة مثل صدقة الفطر، فإنها عبادة من جهة أنها تقرب إلى الله تعالى بالصدقة على الفقراء والمساكين، وهي طهرة للصائم يشترط في صحة أدائها النية، ولكنها ليست عبادة محضة بل فيها معنى التحمل عن الغير؛ لأنها وجبت على الإنسان بسبب نفسه وبسبب غيره، وهم الأشخاص الذين يمونهم ويلي عليهم، ولكونها وجبت على المخرج بسبب الغير لم تكن عبادة خالصة، وإنما كان فيها معنى المؤونة؛ لأن العبادة المحضة (الخالصة) لا تجب بسبب الغير.

3 – مؤونة فيها معنى العبادة، وهي العشر: وهو ما يؤخذ مما تخرجه الأرض العشرية المملوكة لمسلم، كزكاة الزروع والثمار المقدرة بالعشر، أو نصف العشر حسب شروطها، وإنما كانت مؤونة؛ لأنها وظيفة مقدرة شرعا على نماء الأرض من الزروع والثمار، وتجب بسبب ما يخرج منها، اعترافا بفضل الله تعالى؛ لأنه سبحانه هو المنبت والرزاق ووجه العبادة فيها لأمور منها:

أ – أنها وجبت ابتداء على المسلم فقط، ولم تجب ابتداء على غير المسلم من الزراع، والعبادة لا يكلف بها غير المسلم.

ب – أنها تعطى لفئات معينة ممن تستحق الأخذ من الزكوات.

4 – مؤونة فيها معنى العقوبة، مثل الخراج على الأرض الزراعية ووجه المؤونة، فلتعلق بقاء الأرض لأهل الإسلام بالمقاتلين الذين هم مصارف الخراج. ووجه العقوبة أنه فرض بسبب بقاء أهل الأرض على

غير الإسلام، ففرضت الجزية على رقابهم، والخراج على أرضهم.

5 – عقوبات كاملة، وهي كحد الزنى، وحد السرقة وحد شرب الخمر ونحو ذلك، وكونها عقوبة ظاهر، وأما تسميتها كاملة، فلأنها كانت على جنايات كاملة، والمراد بالجناية الكاملة، ما لا يشوبها معنى الإباحة، فإنها لا تحل بحال، ولأن المقصود بالجزاء حماية المجتمع كله من هذه الجرائم، فكانت حقا خالصا لله لا يملك أحد إسقاطه.

6 – عقوبات قاصرة: مثل حرمان القاتل من الإرث ومن الوصية وسميت قاصرة؛ لأنها عقوبة سلبية لم يلحق القاتل بها تعذيب بدني أو غرم مالي، وهو حق لله؛ لأن المقتول لا ينتفع بهذا الحرمان.

7 – عقوبات فيها معنى العبادة: وهي الكفارات ككفارة اليمين، وكفارة الإفطار في نهار رمضان، عمدا بلا عذر، وكفارة القتل والظهار، ووجه العقوبة فيها أنها وجبت جزاء على معصية لتسترها، ووجبت في مقابل أفعال محظورة في الأصل، ووجه العبادة فيها هو أن فعل الكفارة يكون بعبادة كالصوم في كفارة الظهار والقتل واليمين أو الإعتاق أو الصدقة.

8 – حق قائم بذاته، وهو الحق الذي ثبت لله تعالى ابتداء من غير أن يتعلق بذمة إنسان يؤديه، كخمس الغنائم، وزكاة المعادن، والكنوز التي توجد في باطن الأرض.

القسم الثاني: حق خالص للعباد:

والمراد به ما تعلقت به مصالح العباد، وصح إسقاطه من قبلهم[51].

وهو ما يكون نفعه مختصا بشخص معين، مثل الحقوق المالية للأشخاص، أو المتعلقة بالمال، كحق الدية، وحق استيفاء الدين، وحق استرداد المغصوب إن كان موجودا، أو حق استرداد مثله أو قيمته إن كان المغصوب هالكا وحبس العين المرهونة وغير ذلك.

ومما ينبغي التنبيه عليه ما ذكره الإمام القرافي بقوله: “ونعني بحق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط، وإلا فما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه، فيوجد حق الله تعالى دون حق العبد، ولا يوجد حق العبد إلا وفيه حق الله تعالى وإنما يعرف ذلك بصحة الإسقاط، فكل ما للعبد إسقاطه فهو الذي نعني به حق العبد، وكل ما ليس له إسقاطه، فهو الذي نعني بأنه حق الله تعالى” ا. هـ[52].

فجعل هذا الشيء حقا للعبد إنما هو من قبل الله تعالى، وإيصال الحق إلى صاحبه طاعة لله، وطاعة الله حق لله على العباد[53]، وهذا ما يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الأنظمة الوضعية، فالأنظمة الوضعية يطبقها المكلفون خوفا من عقوبة السلطة، فإذا أمنوا من رقابتها لم يردعهم شيء، وأما الشريعة الإسلامية فإن المسلم يتقيد بأحكامها بوازع من داخله، وهو خشيته من الله تعالى ومراقبته له، سواء اطلع عليه الخلق أم لم يطلعوا[54]

القسم الثالث: ما اجتمع فيه الحقان، وكان حق الله هو الغالب، مثل حد القذف بعد تبليغ المقذوف، وثبوت الحد على القاذف وإلا فقبل رفع الأمر للحاكم وتبليغه بالقذف هو حق خالص للعبد، ولذلك يملك التبليغ عنه ويملك عدم التبليغ[55].

ووجه كونه فيه حق لله، فلأن في إقامته صيانة لأعراض الناس ومنعا للخصومات بينهم، وهذا يحقق مصلحة عامة، فكان حقا لله، وأما أن فيه حقا للعبد، فلأنه يدفع العار عن المقذوف، ويظهر براءته، وكذب المفتري عليه، وهذه مصلحة خاصة.

وكون حق الله تعالى غالبا فلأمور منها:

أ – تداخل العقوبة فيه، بمعنى أنه لو قذف جماعة بكلمة أو كلمات متفرقة، لا يقام عليه إلا حد واحد فقط.

ب – ولأن القصاص في حقوق العباد مبني على المماثلة، ولا مماثلة القذف بالزنا والجلد.

ج – ولأن استيفاءه يكون بواسطة السلطان، وليس كذلك شأن حقوق العباد[56].

القسم الرابع: ما اجتمع فيه الحقان، وحق العباد فيه غالب: مثل القصاص في القتل العمد، فإن القصاص فيه حياة للناس وتأمين لهم على

أنفسهم كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[57]. وهذه مصلحة عامة، فكانت حقا لله تعالى، ومن جهة أخرى فإن فيه حقا للعباد من جهة أن القصاص شفاء لصدور أولياء المقتول وإطفاء نار غضبهم وحقدهم على القاتل، وهذه مصلحة خاصة للعبد.

ويرى الفقهاء – رحمهم الله – أن في جواز عفو ولي الدم عن القصاص والتنازل عنه إلى الدية أم إلى غير مال، دلالة على أن حق العبد في هذا غالب[58].

ثانيا: تقسيم الحق باعتبار متعلق الحق.

ينقسم الحق بهذا الاعتبار إلى قسمين: مالي وغير مالي.

أولا: الحق المالي: وهو ما كان متعلقا بالمال، كملكية الأعيان، أو الديون أو المنافع.

وهذا القسم يتنوع إلى نوعين:

النوع الأول: الحق العيني:

وهو علاقة حقوقية بين شخص وشيء مادي معين بذاته تخوله سلطة مباشرة عليه[59] وذلك كحق الملكية، فإنه سلطة قانونية مباشرة لصاحبه المالك على الشيء المملوك. وهذا الحق لا يحتاج وجوده إلى شخص آخر غير صاحبه، فليس في الحق العيني سوى أمرين هما صاحبه ومحله.

النوع الثاني: الحق الشخصي:

وهو مطلب يقره الشرع لشخص على آخر، وهو كل علاقة شرعية بين شخصين يكون أحدهما فيها مكلفا تجاه الآخر على أن يقوم بعمل فيه مصلحة ذات قيمة للآخر، أو أن يمتنع عن عمل مناف لمصلحته، ويقابل هذا الحق التزام من الآخر بأداء هذا الحق. وهذا الحق يتنوع فتارة يقتضي القيام بفعل، وتارة يقتضي امتناعا عن فعل.

فمثال الأول: حق المشتري في تسليم المبيع، والتزام القاتل بدفعها[60].

ومثال الثاني: حق المودع على المستودع في أن يمتنع عن استعمال الوديعة.

ثانيا: الحق غير المالي:

وهذا الحق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

أ – حق غير مالي، يتعلق بالأموال، ولكن لا يجوز الاستعاضة عنه بمال، مثل الشفعة حيث إن حق الشفعة قبل بيع الشريك، حق مجرد، وبعد البيع حق ثابت، وهو حق ضعيف لا يصح الاستعاضة عنه بمال؛ لأنه شرع لدفع الضرر[61] إلا أن الشفعة حق يتعلق بالعقار وهو مال بالإجماع.

ب – حق غير مالي، لا يتعلق بالأموال، ولكن يجوز الاستعاضة عنه بمال، مثل القصاص؛ لأنه حق غر مالي، ولا يتعلق بالأموال؛ لأنه عقوبة القتل العمد، وهذا ليس مالا، ولكن يجوز الاستعاضة عن القصاص بمال، وذلك عند الصلح على مال[62].

ج – حق غير مالي، ولا يتعلق بالأموال، ولا يجوز الاستعاضة عنه بمال، ولكن قد يترتب عليه حقوق مالية مثل الأبوة والأمومة والبنوة، وحق الولي في التعرف على الصغير.

المطلب الثالث: أهمية توثيق الحقوق ووسائلها:

التوثيق له عدة معان لا تكاد تخرج عن معنيين:

الأول: الإحكام، والتقوية: يقال: وثق الشيء إذا أحكم ويقال: وثق الأمر توثيقا: أحكمه وقواه، فهو وثيق أي ثابت محكم[63].

الثاني: الشد والربط والإلزام: فالتوثيق مصدر وثق الشيء إذا شده وربطه لأنها تربط المتعاقدين، أو من ألزم نفسه ما يلزمه ومنه سمي الحبل والقيد وثاقا[64].

وأما في الاصطلاح الفقهي: فقد ذكر الإمام الكيا الهراسي في كتابه

“أحكام القرآن” أن معنى الوثيقة في الديون “ما يزداد بها الدين وكادة”[65].

أما التوثيق فهو أعم وهو علم فيه عن كيفية إثبات العقود والتصرفات وغيرها على وجه يصح الاحتجاج والتمسك به، واستيفاء الحق منه[66]. التعريف عام يشمل استعمالات الفقهاء لمصطلح توثيق الدين الذي لا يخرج عن أمرين:

الأول: تقوية وتأكيد حق الدائن فيما يكون له في ذمة المدين من مال، بشيء يعتمد عليه، كالكتابة أو الشهادة – لمنع المدين من الإنكار وتذكيره عند النسيان، أو لدفع دعاواه بأن الدين أقل من المطلوب أو دعوى الدائن بأن الدين أكثر منه، أو لدفع دعوى عدم حلول الأجل إن كان تم أجل، ونحو ذلك، بحيث إذا حصل نزاع أو خلاف بين المتعاملين فيعتبر هذا الكتاب أو الشهادة وثيقة ووسيلة يحتج بها لإثبات الدين المتنازع فيه أمام القضاء[67].

الثاني: تأمين حق الدائن، والتمكين من استيفائه عند امتناع المدين عن الوفاء – لأي سبب من الأسباب، مثل الرهن أو الكفيل ونحو ذلك من عقود التوثيقات.[68]

ومن هنا نلاحظ أن ثمة توافقا بين مفهوم “إثبات الدين” وبين مفهوم “توثيق الدين”؛ لأن الإثبات والتوثيق كلاهما يهدفان إلى غاية واحدة وهي حماية الحقوق ومنع التلاعب بها، والقضاء بها لأصحابها وقطع دابر المنازعة والخصومة بين الناس، مع أن التوثيق يعتبر مقدما للإثبات حيث إنه يوجد عند إنشاء التصرف المقتضي ثبوت الدين في الذمة، فهو يسبق الإثبات، وكذلك فإن توثيق الدين بالطرق التي تقويه، وتؤكده يمثل بعض وسائل الإثبات، كالكتابة والشهادة، لا كلها، حيث إن وسائل الإثبات وطرق الإثبات كثيرة تعتبر حججا معتبرة تحكم بموجبها في القضاء، وإن كانت ليست توثقه[69].

وللتوثيق أهمية كبيرة في تنظيم سير المعاملات، وجعلها على أساس مكين، وركن ركين من الاطمئنان والراحة حين التعامل بين الأطراف وتظهر أهميته في أمور أهمها:

أولا: إن التوثيق يعد ذا أهمية بالغة لكشف نوايا المتعاقدين لأنه لا يقوم – غالبا – من أراد التلاعب، وجحد حقوق الآخرين، لتوثيق الحق الذي عليه، فإثبات التصرفات والعقود والوثائق والحقوق، والتصديق على التصرفات النظامية الواردة فيها، والحكم بصحتها ولزومها، يكفل تحقيق الطمأنينة التامة على الحقوق، واستقرار المعاملات، وإغلاق أبواب

الحيل والتحايل، والشر والمنازعات.

ثانيا: إن في التوثيق صيانة للأموال من أن تكون عرضة للضياع بإنكارها، وعدم التمكن من إثباتها.

فوجود الوثائق الكتابية مثلا وتصديقها أوكد وأضمن في صيانة الأموال ولا يغني الشهود عن الوثيقة الكتابية؛ لأنه وإن كان الشهود يثبتون الحقوق، ويلزمون بالحكم بهم، إلا أنهم عرضة لأن يموتوا، أو يوجد لديهم ما يمنعهم من الحضور أمام القضاء لأداء الشهادة وقد يرد القاضي شهادتهم لقصور فيها أو لطروء الفسق عليهم، وقد ينسون أو يخافون من عقاب، أو يرغبون في مال، وغير ذلك من الصوارف التي تصرف الشهود على الإدلاء بشهادتهم.

ثالثا: إن في التوثيق قطع المنازعة بين المتعاملين ذلك أن الزمن كفيل بنسيان أحد الأطراف مقدار الأصل أو مقدار الثمن، أو غير ذلك من الشروط، فيكون إنكاره على بعض الحق لا جحودا، ولكن نسيانا، فيكون ذلك موجبا للنزاع ووجود التوثيق يمنع كل ذلك غالبا؛ لأنهما يرجعان إليه، فيعرفان الحق من الباطل قال ابن العربي في حكمة مشروعية كتابة الدين قال: ليستذكر به عند أجله، لما يتوقع من المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل فالنسيان موكل بالإنسان والشيطان ربما حمل على الإنكار والعوارض من موت وغيره تطرأ، فيشرع الكتاب الإشهاد.

رابعا: إن في التوثيق تحرزا من بطلان العقود وفسادها. فإذا كتبا بما

تعاقدا عليه، ووثق ذلك من قبل كاتب العدل مثلا أو عند عارف بأصول المعاملات وبالقواعد الشرعية؛ لأن الفقيه يعلم بما يلزم من الشروط في التوثيق، وأدرى بما يجب ذكره، وما يجب تركه، وقد لا يهتدي المتعاقدان إلى الأسباب المفسدة للعقود، فإذا لم يكتبا ذلك عند عارف بالشروط المفسدة للعقود والتصرفات فقد يكون ما تعاقدا عليه مشتملا على ما يفسده وهما لا يدريان فيبقى عقدهما قابلا للبطلان في المستقبل، خاصة إذا حصل بينهما اختلاف وترافعا إلى قاض للحكم بينهما.

خامسا: إن في التوثيق رفعا ودفعا للشك والارتياب بين المتعاملين.

فقد يشتبه على المتعاملين أو على ورثتهما إذا تطاول الزمان في مقدار الأجل أو الثمن أو في بعض الشروط، فقد يقعان في النزاع والمخاصمة من غير قصد لإبطال حق كل واحد منهما فإذا كان ثم توثيق للعقود، ورجعا إليه، فلا يبقى بعد ذلك شك ولا ارتياب.

سادسا: إن في التوثيق تأمينا لحق الدائن. فإذا توثق الدائن من حقه بكفيل أو ضمان أو رهن، ثم عجز المدين عن السداد أو ماطل أمكن استيفاء الدائن حقه من هذه الوثيقة.

إذا ثبت هذا فإن للتوثيق وسائل متعددة، وطرقا متفاوتة، فقد تكون بعقد – وهو ما يسمى عقود التوثيقات كالرهن والكفالة والضمان – وقد

يكون عقدا كالكتابة والإشهاد وحق الحبس والاحتباس، ومنه ما هو وثيقة بمال، كالرهن والمبيع في يد البائع، ومنه ما هو وثيقة بذمة كالكفالة[70].

وبيان ذلك فيما يلي:

أ – الكتابة: كتابة المعاملات التي تجري بين الناس، وسيلة قوية لتوثيقها وقد أمر الله سبحانه وتعالى بها في أطول آية في القرآن وهي آية المداينة بقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}[71]، وقد وثق النبي – صلى الله عليه وسلم – بالكتابة في معاملاته، فباع وكتب ومن ذلك الوثيقة التالية: هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: اشترى منه عبدا أو أمة، لا داء ولا غائلة، ولا خبثة بيع المسلم المسلم.

وقد ذهب جماهير الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى صحة توثيق الدين بالكتابة، وأنها بينة معتبرة في الإثبات إذا كانت صحيحة النسبة إلى كاتبها.

قال ابن تيمية – رحمه الله -: والعمل بالخط مذهب قوي، بل هو قول جمهور السلف”[72].

وقال ابن فرحون في تبصرة الحكام: “وإن قال لفلان عندي أو قبلي كذا وكذا بخط يده قضي عليه به؛ لأنه خرج مخرج الإقرار بالحقوق”.

وهذا القول بلا شك هو الراجح والأدلة كثيرة ومنها ما جاء في الصحيحين.

عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، وله شيء يريد أن يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوية عند رأسه»[73].

وأما دعوى أن الخطوط تتشابه، وقد يعتريها التبديل والتزوير والمحاكاة وقد يكتب من غير قصد للبيع ولا مريد له، فهذا غير مسلم؛ لأن الاعتماد على الخط والكتابة إنما هو لمجرد معرفة خط كاتبه، ثم بعد ذلك يكون الخط كالعلم بنسبة قائله إليه.

يقول ابن القيم – رحمه الله -: “فإن القصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف ذلك وتيقن، كان كالعلم بنسبة اللفظ إليه، فإن الخط دال على اللفظ، واللفظ دال على القصد والإرادة، وغاية ما يقدر اشتباه الخطوط، وذلك كما يفرض من اشتباه الصور والأصوات وقد جعل الله سبحانه في خط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره كتميز صورته وصوته”[74].

وعليه فإذا كتب إقراره على الدين الذي عليه، أو قيد ذلك، بالقيود والسندات والوصولات الرسمية وغيرها، فإن ذلك يعتبر حججا معتمدة في توثيق الدين وإثباته.

جاء في مجلة العدلية مادة (1609): “إذا كتب أحد سندا أو استكتبه من كاتب، وأعطاه لآخر موقعا بإمضائه أو مختوما، فإذا كان مرسوما – أي حرر موافقا للرسم والعادة – فيكون إقرارا بالكتابة، ويكون معتبرا ومرعيا كتقريره الشفاهي، والوصولات المعتاد إعطاؤها هي من هذا القبيل”[75].

ب – الإشهاد: إشهاد الشهود على التصرفات والعقود وسيلة لتوثيقها، واحتياط للمتعاملين عند التجاحد، إذ هي إخبار لإثبات حق، أو دفع باطل ولقد سمى النبي – صلى الله عليه وسلم – الشهود بينة لوقوع البيان بقولهم، وارتفاع الإشكال بشهادتهم فقال – صلى الله عليه وسلم -: «البينة أو حد في ظهرك»[76] وقد اتفق الفقهاء على مشروعية الشهادة، وأنها مشروعة لتوثيق الدين والمعاملات[77]، وقد أوجبها الظاهرية[78]

لظاهر الأمر في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}[79] غير أن الذي عليه عامة أهل العلم هو استحباب الشهادة لا وجوبها قال ابن العربي – رحمه الله -: “والظاهر الصحيح أن الإشهاد ليس واجبا، وإنما الأمر به أمر إرشاد للتوثق والمصلحة، وهو في النسيئة محتاج إليه لكون العلاقة بين المتعاقدين باقية، توثقا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغير القلوب”[80].

وقد جاء تقييد الشهادة بقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}[81]…” وهم أهل العدالة والفطنة، وسبب ذلك؛ لأن الشهادة ولاية عظيمة تقتضي تنفيذ القول على الغير بدون رضاه… ولهذا وجب أن يكون لصاحبها شمائل ينفرد بها وفضائل يتحلى بها، حتى يكون له على غيره مزية توجب له رتبة الاختصاص بقبول قوله على غيره، والحكم بشغل ذمة المطلوب بالدين بشهادته عليه[82]. والبينات مرتبة بحسب الحقوق المشهود فيها، ويختلف عدد الشهود من حكم لآخر حسب الشهود فيه أيضا، كما هو موضح في كتب الفقه ولا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء حتى يحصل له به العلم، إذ لا يجوز الشهادة إلا بما علم وقطع بمعرفته لا بما يشك فيه، ولا بما يغلب على الظن معرفته له مع إمكان حصول العلم فيه، وإلا فيجوز الشهادة على غلبة الظن في مسائل ذكرها العلماء وهو ما يسمى عندهم الشهادة بالاستفاضة.

ج – الرهن: يطلق الرهن ويراد به أحيانا العقد فيعرفونه بقولهم: “حبس شيء مالي بحق يمكن استيفاؤه منه”[83]

ويطلق ويراد به أحيانا المرهون، ويعرفونه بقولهم: المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه[84].

وإذا رهن الدائن حقه، فإنه يصير أحق بالرهن من سائر الغرماء فإذا كان على الراهن ديون والتزامات مالية لا تفي بها أمواله ثم بيع الرهن لسداد ما على الراهن من ديون، كان للمرتهن الحق أولا أن يستوفي دينه من ثمنه، فإذا بقي شيء فهو لسائر الغرماء[85].

والرهن ثابت مشروعيته في الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ففي الكتاب قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[86].

وأما السنة فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «اشترى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه»[87].

وأما الإجماع فقد أجمع سائر أهل العلم على جواز توثيق الدين بالرهن[88].

وقد اختلف العلماء في شروط الدين الذي يصح الارتهان به على أقوال أربعة ليس هذا موطن بحثها فلتراجع في مظانها[89].

د – الكفالة (الضمان): كفالة الدين هي ضم ذمة الكفيل إلى ذمة المكفول في الالتزام بالدين فيثبت في ذمتهما جميعا، ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما[90]. وكون الدائن يحق له مطالبة الكفيل بدينه مع التزام الكفيل بذلك خاصة عند تعذر استيفائه من الأصيل، فهذا يعتبر توثقة في الدين الذي له على الغير.

وقد جاءت مشروعية الكفالة في الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}[91].

وأما السنة فقوله – صلى الله عليه وسلم -: «الزعيم غارم»[92].

وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز الكفالة في الجملة وإن اختلفوا في بعض فروعها[93].

هـ – حق الحبس والاحتباس، ومعناه: حق المالك بإبقاء العين المنقولة عن ملكه، لحين استيفاء حقه إذا كان الدين يتعلق به.

إذ إن المقصود الأعظم من التوثيق، هو صيانة الحقوق والاحتياط لها؛ لذلك كان من حق الدائن أن يتوثق لحقه بحبس ما تحت يده لاستيفاء حقه ولذلك صور فمنها:

1 – حق احتباس المبيع إلى قبض الثمن.

يقول ابن عابدين – رحمه الله -: “للبائع حبس المبيع إلى قبض الثمن، ولو بقي منه درهم، ولو كان المبيع شيئين بصفقة واحدة وسمى لكل ثمنا فله حبسهما إلى استيفاء الكل، ولا يسقط حق الحبس بالرهن، ولا بالكفيل، ولا بإبرائه عن بعض الثمن حتى تستوفي الباقي “.

2 – حق المؤجر في حبس المنافع إلى أن يتسلم الأجرة المعجلة.

7 – حق المستصنع في حبس العين المصنوعة بعد الفراغ من العمل حتى يستوفي حقه، إذا كان لعمله أثر.

المبحث الثاني: مظاهر المماطلة والتسويف وأنواع الضرر المترتب عليه وتحته مطلبان:

يبتع في الجزء الثاني بمشيئة الله تعالى…

[1]   نشر بمجلة البحوث الإسلامية العدد (79).

[2]   الأستاذ المساعد في المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

[3]   صحيح البخاري الأذان (833)، سنن النسائي الاستعاذة (5472).

[4]   أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأذان باب الدعاء قبل السلام برقم 833.

[5]   انظر: الزاهر ص 231.

[6]   انظر: معجم مقاييس اللغة (5 \ 331).

[7]   انظر: المصباح المنير (2 \ 700) أساس البلاغة ص 432، تحرير ألفاظ التنبيه ص 101.

[8]   انظر: المفهم فيما أشكل على صحيح الإمام مسلم (4 \ 438).

[9]  فتح الباري (4 \ 466).

[10]   انظر: دليل الفالحين (4 \ 459)، قضايا فقهية معاصرة، د \ نزيه حماد، ص 322.

[11]   المنتقى شرح الموطأ للباجي (5 \ 66).

[12]   انظر: طرح التثريب (6 \ 261)، فتح الباري (4 \ 465).

[13]   انظر: لسان العرب (10 \ 49 وما بعدها).

[14]   انظر: القاموس المحيط (ص 1129) ولسان العرب (10 \ 50) والصحاح (4 \ 1460)

[15]   انظر: أساس البلاغة ص 187 والمصباح المنير (1 \ 174).

[16]   التعريفات للجرجاني ص 48.

[17]   كشف الأسرار (3 \ 134).

[18]   مصادر الحق في الفقه الإسلامي (1 \ 9).

[19]   المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي ص 11.

[20]   انظر: المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي (ص 11 وما بعدها).

[21]   انظر: مجلة الإسلام العدد (23) ص 22.

[22]   انظر: القوانين الفقهية لابن جزي ص: 360، والموسوعة الفقهية الكويتية 21 \ 110.

[23]   انظر: المغني (8 \ 103).

[24]   أخرجه الإمام أحمد (24 \ 241) والدارقطني في السنن (3 \ 26) والحديث حسن بشواهده راجع إرواء الغليل (5 \ 279).

[25]   صحيح البخاري الرقاق (6534)، مسند أحمد (2/506).

[26]   أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6534).

[27]   سورة المعارج الآية 11

[28]   سورة المعارج الآية 12

[29]   سورة المعارج الآية 13

[30]   سورة المعارج الآية 14

[31]   أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2387) وفتح الباري (5 \ 53)

[32]   انظر: فتح الباري (5 \ 54).

[33]   انظر: فتح الباري (5 \ 54)

[34]   انظر: فتح الباري (5 \ 54)

[35]   أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2289 و 2298) ومسلم في صحيحه (3 \ 1237).

[36]   انظر: فتح الباري (4 \ 468).

[37]   انظر: شرح الإمام مسلم للنووي (11 \ 60) وفتح الباري (4 \ 478).

[38]   انظر: فتح الباري (4 \ 478).

[39]   أخرجه الترمذي في جامعه (3 \ 389) وابن ماجه في سننه (2 \ 806) وأحمد في مسنده (15 \ 425) والحديث حسن الإسناد حسنه الترمذي. وصححه يحيى بن سعيد القطان انظر التمهيد لابن عبد البر (23 \ 236).

[40]   سنن الترمذي الجنائز (1079)، سنن ابن ماجه الأحكام (2413)، مسند أحمد (2/507)، سنن الدارمي البيوع (2591).

[41]   انظر: تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (4 \ 164) دار الكتب العلمية.

[42]   انظر: نيل الأوطار (4 \ 53) ط. دار الجيل. 1973.

[43]   انظر: شرح السنة للبغوي (8 \ 203)

[44]   صحيح مسلم الإمارة (1885)، سنن الترمذي الجهاد (1712)، سنن النسائي الجهاد (3157)، الجهاد (3158)، مسند أحمد (5/304)، موطأ مالك الجهاد (1003)، سنن الدارمي الجهاد (2412)

[45]   أخرجه مسلم في صحيحه (13 \ 1501).

[46]   انظر: شرح مسلم للنووي (13 \ 29) والتمهيد لابن عبد البر (23 \ 232).

[47]   أخرجه النسائي في المجتبى (7 \ 314).

[48]   انظر: كشف الأسرار (4 \ 134) والتلويح على التوضيح لمتن التنقيح (1 \ 150) وما بعدها.

[49]   أخرجه أبو داود في سننه (3 \ 637) وأحمد في المسند (32 \ 246) والحديث في إسناده أبو عبد الله القرشي، قال عنه الذهبي لا يعرف، وقال الحافظ مقبول، وفي الباب أحاديث تقويه راجع تخريج المسند (32 \ 247). فائدة: قال الطيبي – رحمه الله -: فإن قلت قد سبق أن حقوق الله مبناها على المساهلة، وليس كذلك حقوق الآدميين في قوله يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين وهاهنا جعله دون الكبائر فما وجه التوفيق قلت: قد وجهناه أنه على سبيل المبالغة تحذيرا وتوقيا عن الدين، وهذا مجرى على ظاهره ا. هـ وقال بعض العلماء: فعل الكبائر عصيان الله تعالى، وأخذ الدين ليس بعصيان، بل الاقتراض والتزام الدين جائز، وإنما شدد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على من مات وعليه دين ولم يترك ما يقضي دينه كيلا تضيع حقوق الناس. راجع عون المعبود في شرح سنن أبي داود (9 \ 137).

المماطلة مظاهرها وأضرارها وأنواعها وأسبابها في الفقه الإسلامي (2-2)

د. عبدالله بن ناصر السلمي

المماطلة مظاهرها وأضرارها وأنواعها وأسبابها في الفقه الإسلامي

المبحث الثاني: مظاهر المماطلة والتسويف وأنواع الضرر المترتب عليه وتحته مطلبان:

المطلب الأول: مظاهر المماطلة والتسويف:

للمماطلة مظاهر وأساليب يستخدمها ضعاف النفوس وربما يحصل تسويف عند الوفاء بسبب ظروف تطرأ على التعامل بين الطرفين. وعدم التسديد والوفاء يحصل إما بالامتناع كليا أو بالإهمال والتسويف أو بجحود بعض الحق.

أ‌-     الامتناع كليا عن الوفاء بالدين لصاحبه:

من صور المماطلة أن يمتنع من عليه الحق في الوفاء والتسديد لصاحب الحق كليا، وهذا الامتناع يحصل إذا لم يكن لصاحب الحق دليل وحجة يمكن أن يلزم بها المدين، فحينئذ ربما يمتنع المدين عن التسديد ويجحد هذا الدين وينكره لسوء نيته وقلة مراقبته، وضعف خشيته من الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، مع علمه بأن الدائن له حق بذلك. والجحود هو الإنكار مع العلم به[1].

قال الراغب الأصبهاني: الجحود نفي ما في القلب إثباته، أو إثبات ما في القلب نفيه[2].

وقال العلامة ابن القيم: لا يكون الجحد إلا بعد الاعتراف بالقلب أو اللسان. وعلى هذا لا يحسن استعمال لفظ الجحود في مطلق الإنكار في باب الدعاوى وغيرها؛ لأن المنكر قد يكون محقا فلا يسمى جاحدا[3].

ولهذا يقول النووي في معنى الجاحد من أنكر شيئا سبق اعترافه به[4].

فإذا أنكر المدين الدين وجحده فقد تعذر حصول الدائن على دينه ولا شك أن فعل المدين إثم وكبيرة يخشى عليه منها ولهذا قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}[5] قال ابن عباس رضي الله عنه: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه وهو يعلم أنه آثم آكل حرام[6].

ربما يكون امتناعه عن الوفاء بالدين ليس لأجل عدم وجود بينة عند الدائن؛ ولكن لأن المدين ربما يكون صاحب نفوذ، أو أن الدائن يكون له مصلحة عند المدين، فيخشى أن لو تقدم بالمطالبة بدينه الذي على المدين، لحصل له ضرر وترتب على ذلك ترك المدين التعامل معه، مثل أصحاب الوكالات مع الموزعين المعتمدين فلربما يكون لأصحاب الوكالات في المناطق مع الموزع المعتمد في الدوقة حقوق وديون متراكمة

ويمانع الموزع من تسديده، ولأصحاب الوكالات مصالح وعلاقة مع الموزع، فيضطرون لترك حقوقهم لما يحصل لم من مصالح وعلاقات مع الموزع المعتمد.

وربما يكون امتناعه عن الوفاء أيضا لعلمه أن مطالبة الدائن تحتاج إلى وقت وجهد ومال، خاصة في ظل غياب الإجراءات النظامية، والقوانين الحاسمة، فيلجأ ضعاف النفوس إلى الامتناع كليا عن أداء الحقوق المتراكبة عليهم.

ب – تأخير الوفاء به لوقت لاحق أو بعضه:

في أحيان كثيرة لا يمانع الدين بالدين وربما أعطى الدائن بعض حقه غير أنه ربما يسوف في التسديد، ويتأخر في الوفاء، إما طمعا في حصول إرادات مالية عند توظيفه لهذه الأموال بدلا من إعطائه الدائن، واستفادة من السيولة التي عنده، وربما يبقيها عنده تحسبا لمتغيرات الحياة الاقتصادية والعالمية. فيتأخر ويؤجل سداد الديون الحالة إلى تاريخ لاحق.

وربما يتعرض لنقص في السيولة أو لعدم تصريف بضاعته التي أخذها بالدين أو بالتصريف، فيضطر إلى تأخير الوفاء لبعض الأقساط الحالة لوقت لاحق. كما سوف يأتي تفصيله في الفصل الثاني.

ومما يدخل في هذا أيضا ما ذكره محمد العبدلي المعروف بابن الحاج المالكي في المدخل بقوله: “ومنهم من يكون قادرا على إعطاء الثمن كله في الوقت ثم إنه يقطعه على صاحبه مرارا كثيرة وهذا ملتحق بما تقدم لقوله

– صلى الله عليه وسلم -: «مطل الغني ظلم»[7] إذ لا فرق بين المطل بجميع الثمن أو بعض لأن البائع يتضرر بتأخير بعضه، كما يتضرر بتأخير كله غالبا ومنهم من يفرق الثمن على مرات عديدة كما تقدم وقصده بذلك أن يضجر البائع من كثرة التردد إليه لاسيما إن كان غريبا يقصد السفر فيفعل المشتري ذلك معه حتى يضطر إلى أن يترك له بعض الثمن الذي ترتب في ذمته، ليتخلص منه ويذهب لشأنه، وأما إن كان البيع وقع بينهما على التأجيل فإذا حل الأجل المعين بينهما صار الحكم في ذلك حكم الحال سواء بسواء”[8].

ج – جحود بعض الحق وإقرار بعضه:

بعض التعاملات التجارية تحصل بين التجار أخذا وإعطاء كما يسميه الفقهاء بيع المعاطاة ويكون سبب هذا كثرة التعاملات والمبادلات التجارية التي ربما تكون في اليوم الواحد أكثر من عشرين عملية تجارية تحصل بين الطرفين، وفي أحيان كثيرة يحصل اختلاف وجحود لدى بعض المتعاملين في بعض الصفقات التجارية، وليس عند الطرف الآخر ما يثبت حقه، فيؤدي ذلك إلى جحود بعض الحق، وإقرار بعضه، أو يكون ثمة اتفاق وعقد بين الطرفين، يحصل من جراء التعامل التجاري بينهما وفقا وطبقا لما أبرماه من اتفاق وعقود بعض التعاملات التجارية الثانوية، التي تكون غير داخلة في الاتفاق المبرم بينهما فيختلف المتعاقدان في السعر، هل هو على حسب سعر السوق أم هو على حسب سعر نفس الشركة (أحد المتعاقدين) التي تبرمه مع المتعاقدين الآخرين، فبسبب ذلك تحصل. مماطلات وتسويفات، لبعض تلك الحقوق والالتزامات.

المطلب الثاني: أنواع الضرر المترتب على المماطلة:

إن ضرر التخلف عن تسديد الديون، والمماطلة في مديونية من يتعامل بنظام الفائدة التراكمية الربوية، سواء سميت فائدة، أو عقوبة لأجل المماطلة، أو شرط جزائي، تعويض لدفع الضرر كما تتعامل به بعض الشركات أو المصارف التقليدية، لا تواجه بنفس الحدة والتخوف والريبة التي تواجه من لا يتعامل بنفس النظام كما يوجد لدى شرائح كثيرة من القطاعات والمشاريع الخاصة. ويعود سبب ذلك إلى أن إعمال الفائدة المركبة على المماطلين يحفظ للبنوك الربوية والشركات التي تتعامل بالفائدة، جريان العائد على ديونها طيلة فترة التأخير مما يجعل هذا حافزا لهم للسداد، بينا تواجه بعض المشاريع والقطاعات والأفراد بسبب التأخير في التسديد والمماطلة في ذلك أضرارا جسيمة مما يترتب عليه فوات فرصة إعادة استثمار هذه الأموال خلال مدة التأخير، وبالتالي حرمانهم من العوائد المتوقعة لهذا الاستثمار، ولسنا بصدد الحديث عن حكم إلزام

المدين المماطل بدفع مبلغ تناسبي أو مقطوع فهذا له مبحث خاص في ذلك.

ولكننا في هذا المطلب نشير إلى بعض الأضرار التي تترتب جراء تأخير المدين عن الوفاء بالالتزامات المالية، وهذه الأضرار تنقسم إلى قسمين، قد جعلناها في هذا المطلب في فرعين:

الفرع الأول: الضرر المادي:

تمثل الديون المتعثرة مشكلة خطيرة، ذات نتائج باهظة التكاليف، وآثار ومشكلات معقدة، وليس فقط على الدائن نفسه، سواء كان فردا أو شركة، بل على الدولة جميعها لتأثيرها الخطير والمتشابك على النشاط الاقتصادي بشكل عام، ليس فقط في الحاضر، ولكن وبشكل أكثر خطورة على المستقبل، ومن هنا كان لزاما على كل فرد يمارس العمل التجاري أن يحيط بهذه الأضرار المتشابكة حتى يمكنه أن يتفادى الكثير منها فمن تلك الأضرار المادية.

أولا: تجميد أموال الدائنين نتيجة عدم قدرة أو مماطلة المدينين على السداد، ومن ثم تعطيل استثمار أموال الدائنين، وحرمانه من عائد استثمارها، مما يترتب على ذلك إضاعة فرص، وتفويت مشاريع ناجحة تعود على الدائنين بالعائد المثمر الجيد، كان أعظم أسبابها قلة السيولة لدى

الدائنين بسبب مماطلة وتسويف المدينين.

ثانيا: تعريض الدائنين وأصحاب رؤوس الأموال إلى خسائر باهظة التكاليف بسبب تقليل الربحية، وانخفاض قدرة التجار على التوسع والانتشار، مما يسبب ترك المساهمين التعامل مع هذه الشركات والتجار بسبب قلة الربحية.

ثالثا: تحتاج القروض والديون المتعثرة إلى معالجات خاصة مع المدينين، مما يتطلب وجود كفاءات إدارية وإشرافية وتنفيذية مؤهلة ومدربة، ولديها الخبرة والمعرفة والدراية، والإلمام بمختلف نواحي العمل الذي يعمله المدين؛ لأنه ربما يكون سبب مماطلة المدين هو سوء الإدارة في تصريف الإنتاج والتسويق، أو خلل في إدارة المشروع الذي أبرمه مع صاحب المال (الدائن) فيتكلف الدائن جراء ذلك إلى إيجاد كوادر إدارية وإشرافية لمعالجة التعثر في التسديد من قبل المدين ومعالجة ذلك، وكل هذا يكلف أصحاب رؤوس الأموال أموالا باهظة لإيجاد هذه الكوادر الإدارية والإشرافية.

رابعا: وقد تستغرق معالجة الديون، وقتا وجهدا وتكلفة سواء من جانب المسؤولين (أصحاب رؤوس الأموال) أو من جانب الأفراد العاملين مع أصحاب رؤوس الأموال، مما يؤثر على قدرتهم على إنجاح مشاريع أخرى ومتابعتها، وبالتالي تتأثر درجات الجودة في الأداء الوظيفي لأعمال الشركة أو المؤسسة، وتزداد معها الخسائر وتنخفض الإيرادات، وبالتالي

تقل قدرة المؤسسات والشركات على النمو وعلى إنعاش الاقتصاد.

خامسا: أن بعض شركات المقاولة قد تتأثر تأثرا كبيرا بسبب تأخر أصحاب المشاريع عن إعطائهم الالتزامات المالية، المتفق عليه في العقد، مما يسبب تأخر رواتب الموظفين والعمال العاملين في شركات المقاولة، فيتبرم العمال وربما يضربون عن العمل، ناهيك عن أن هذه الشركات قد تكون ملتزمة بمشاريع أخرى، فربما تأخرت عن الإنجاز لما أبرم بينها وبين أصحاب المشاريع الأخرى مما يترتب عليه شرطا جزائيا يعود على كاهل هذه الشركات المقاولة بالالتزامات والأموال الباهظة، حتى إنه ربما تفلس كثير من تلك الشركات بسبب ذلك، وهذا ضرر محض بلا شك.

سادسا: وقد تؤدي المماطلة والتسويف في الديون أيضا إلى إثقال كاهل الدائنين؛ لأنهم قد يحتاجون إلى استفسارات اقتصادية، واستشارات شرعية وقانونية وقد يلجأ أصحاب الأموال إلى القضاء والمحاكم لاستيفاء ديونهم وهذا بلا شك يتطلب وجود محامين ومستشارين يقيمهم الدائن، وهو ما يعني تكاليف وأعباء إضافية من الأموال على الدائن بسبب مماطلة المدينين. وربما تقوم بعض الشركات والمؤسسات ذات النشاط الواسع إلى تعيين عدد من الخبراء والمستشارين داخل الشركات بصفة دائمة تسند إليهم مهمة التعامل مع الديون المتعثرة، وهو ما يمثل تكلفة مالية، خاصة بعد انتهاء أعمال هؤلاء الخبراء حيث تضطر تلك الشركات إلى تحويلهم إلى أعمال أخرى عادية دون الاستفادة من مهاراتهم وخبراتهم المتخصصة،

ولا تستطيع إلغاء عقودهم لوجود اتفاقية زمنية مسبقة.[9]

الفرع الثاني: الضرر الأدبي:

المؤسسات المالية كائن حي، تتأثر تأثرا مباشرا بظروف المتعاملين معها، وبظروف البيئة المحيطة بها، ويجب أن تأخذ بكل أسباب الحيطة والحذر تجاه كل ذلك كي تتجنب بقدر الإمكان مغبة التعثر والمماطلة المالية المتوقعة، وكذا المواقف الصعبة التي قد تصيب نشاطاتها، وأعمالها باعتبارها شخصا اعتباريا تتمتع بالشخصية الاعتبارية الحكمية، كما يتمتع بها الشخص الطبيعي، وأن هذا الوصف الشرعي مقدر ومفترض فيه، كما هو مقدر في الإنسان يدل على ذلك أحكام الفروع الفقهية كما هي عند أئمة المذاهب الإسلامية – رحمهم الله -.

وبالتالي فالتأثر والضرر ربما يصيب كيان المؤسسة المالية لا أعني به الضرر المادي فحسب – كما سبق بيانه وتوضيحه – بل أعني به الضرر الأدبي، مما قد يسبب خسائر فادحة بل وإفلاس هذه المؤسسات المالية بسبب الضرر الأدبي، فليس من السهولة تجاهل هذه الأضرار، بل إن بعض الشركات العملاقة لتدفع أموالا باهظة خيالية للتصدي حول الدعايات الكاذبة، والدعاوى الكيدية خشية الأضرار الأدبية في سمعتها وتعاملاتها، ولعلنا نشير إلى بعض الأضرار الأدبية التي تحصل من جراء

أولا: قد يؤثر التأخير في الوفاء بالحقوق والالتزامات المالية، على الجو النفسي للعمل، فيؤدي إلى إيجاد مناخ من التوتر وعدم الاستقرار، والعصبية والتشدد والمبالغة والمغالاة في الإجراءات وطلب البيانات والمعلومات، وإجراء البحوث والدراسات والتحريات عن جميع العملاء سواء الجدد منهم أو العملاء الذين يتعاملون معهم لفترة طويلة ولهم مراكز مالية متوازية، الأمر الذي يدفع العملاء إلى إنهاء التعامل معهم، واللجوء إلى مؤسسات أو شركات أكثر مرونة، واستعدادا للتعامل بلا مبالغة في الإجراءات والبيانات، مما يؤدي إلى تقليل الزبون وبالتالي تقليل الربحية، وقلة التوسع والنفوذ.

ثانيا: إن أي مؤسسة أو شركة لها تعامل تجاري مع عامة الناس، إذا ما رأت كثرة المماطلين والمسوفين في تسديد ديونهم فسوف تضطر إلى رفع الهامش الربحي لتغطية الخسائر جراء تأخير الديون، وهذا بلا شك يستدعي اهتمام رجال الصحافة والإعلام، واستخدام تحقيقاتهم الصحفية والإعلامية ومقابلة الجماهير في تعين أخطاء المؤسسات أو الشركات ذات التعامل المعين، ومن ثم مهاجمتهم والقائمين على إدارتها، مما يؤدي إلى خلق انطباع سلبي وغير إيجابي لدى جمهور عريض من الذي يتعاملون مع تلك المؤسسات أو الشركات، مما يؤثر على حجم أعمال تلك المؤسسات أو الشركات حاليا ومستقبلا.

ثالثا: وقد يسبب التأخير في الوفاء بالالتزامات والحقوق أيضا خلق مناخ مضطرب لدى المؤسسات أو الشركات التي تعمل في نطاق المقاولات المعمارية أو عقود المناقصات الحكومية أو الشركات الكبيرة، فإذا تؤخر بالتسديد لهذه المؤسسات التي تعمل في المقاولات فسوف تتأخر هي أيضا بالوفاء بالتزاماتها مع المحلات والمصانع والوكالات التجارية، مما يؤدي إلى عدم تعامل تلك المحلات أو المصانع أو الوكالات التجارية مع تلك المؤسسات والشركات، مما يؤدي أحيانا إلى إعلان إفلاسها وإعسارها، وفرض الوصاية عليها، وهذا ضرر أدبي يمنعها من مقاومته لفترة طويلة حتى بعد تسديدها الديون التي لها أو عليها.

رابعا: إن انتشار ظاهرة المماطلة والتسويف في الوفاء بالحقوق كما يظهر ذلك في الإحصاءات الرسمية عن الشيكات المرتجعة يجعل كثيرا من العملاء وأصحاب رؤوس الأموال لا يطمئنون بالشيكات كوسيلة وفاء، كما يؤدي إلى ضعف التعاملات التجارية وتأخير أكثرها، وعدم الاهتمام بالشيكات أو الأوراق التجارية بصفة عامة، مما يخلق جوا من الضعف والتراجع في المسيرة التجارية لدى تلك الدولة.

خامسا: التوجه نحو اجتذاب الاستثمارات الأجنبية وإعطائها دورا فاعلا في نقل التكنولوجيا، وتشغيل العمالة وإنشاء مشروعات منتجة، مطلب تسعى إليه الحكومات وفقها الله، ولذا فإن تحقيق الجذب الكامل لهذه الاستثمارات لا يمكن أن يتم دون وجود مناخ استثماري مناسب،

ومما لا شك فيه أن المماطلة والتسويف في الوفاء بالحقوق يكون لها أثر سلبي على سمعة السوق التجاري، مما يدفع المستثمر الأجنبي والوطني إلى وضع هذا العامل في حسبانه عند اتخاذ قراره بالاستثمار في المملكة.

سادسا: إن انتشار ظاهرة المماطلة في المملكة، باعتبارها دولة والتي تعد نموذجا للدول التي تطبق الشريعة الإسلامية في نواحي الحياة سيؤثر سلبا على سمعة المملكة، ومما لا شك أن هذه السمعة السيئة ستؤثر أيضا على أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب الحقوق مما يجعل كثيرا من التعاملات التجارية يعتريها نوع من التوجس والتخوف.

المبحث الثالث: أنواع المطل

سبق أن ذكرنا في التمهيد، في المبحث الثاني مظاهر التسويف، والأساليب التي يستخدمها المماطلون من الامتناع كليا عن التسديد والرفض التام، والإباء الشديد في ذلك، أو يظهر عجزه ويسوف، إلى وقت آخر طمعا في حصول إرادات مالية، أو لانتظار أرباح في مشاريع استثمارية، فيتأخر عن تسديد دينه لحين حصول أرباح من تلك المشاريع.

أو يجحد بعض الحق الذي عليه إما لظنه عدم مصداقية ذلك، أو لعلمه أن الدائن لا يستطيع أن يثبت ذلك عليه أو غير ذلك من الإرادات التي مرجعها قصد التسويف أو الامتناع أو الجحود عن أداء الحقوق والوفاء بها.

أما في هذا المبحث فسوف نبين أن المطل الذي يفعله بعض المدينين، ليسوا على وتيرة واحدة، ولا على ملاءة ثابتة، بل منهم الصادق في مطله

وتأخره، ومنهم المعذور في ذلك ومنهم الكاذب المخادع الذي يأكل أموال الناس بغير حق، فلنذكر ذلك على سبيل التفصيل، في هذه المطالب الثلاثة.

المطلب الأول: مطل المدين المعسر:

اتفق الفقهاء – رحمهم الله – على أن المعسر الذي لا يجد وفاء، ولا يقدر على أداء ما عليه من دين، يجب إنظاره، ولا تحل مطالبته إلى أن يوسر وذلك لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}[10].

2 – ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «مطل الغني ظلم»[11].

وجه الدلالة من الآية والحديث: هو أن الشارع جعل وقت وفاء المدين المعسر إلى الميسرة، فدل على أن امتناعه عن وفاء الدين مع حلوله ومطالبة دائنه لا تعد ظلما ولا جرما.

قال الشافعي – رحمه الله -: فلم يجعل على ذي دين سبيلا في العسرة حتى تكون الميسرة، ولم يجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مطله ظلما إلا بالغنى فإذا كان معسرا فهو ليس ممن عليه سبيل إلا أن يوسر”[12].

3 – ولأن النبي – صلى الله عليه وسلم – إنما حرم المطل إذا كان المماطل غنيا، والمعسر ليس غنيا.

قال أبو الوليد الباجي – رحمه الله -: ووصفه بالظلم إذا كان غنيا خاصة، ولم يصفه بذلك مع العسر”[13].

وقال ابن رشد – رحمه الله -: “لأن المطالبة بالدين إنما تجب مع القدرة على الأداء، فإذا ثبت الإعسار فلا سبيل إلى المطالبة، ولا إلى الحبس بالدين؛ لأن الخطاب مرتفع عنه إلى أن يوسر”[14].

وقال الإمام الشافعي – رحمه الله -: ” لو جازت مؤاخذاته لكان ظالما، والغرض أنه ليس بظالم لعجزه “[15].

وقال ابن حجر – رحمه الله -: واستدل به على أن العاجز عن الأداء لا يدخل في الظلم، وهو بطريق المفهوم؛ لأن تعليق الحكم

بصفة من صفات الذات يدل على نفي الحكم عن الذات عند انتفاء تلك الصفة، ومن لم يقل بالمفهوم أجاب بأن العاجز لا يسمى مماطلا”[16].

4 – ولأن في قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}[17].

فجملة فنظرة إلى ميسرة جواب الشرط، والخبر محذوف، والتقدير: فنظرة له وهذه جملة خبرية خرجت مخرج الأمر[18]، أي فإن كان معسرا، فانظروه إلى وقت الميسرة، وهو أبلغ من صريح الأمر لأن المتكلم لشدة طلبه نزل المطلوب بمنزلة الواقع لا محالة[19] فكانت مطالبة المعسر مع إثبات عسره مخالفة للأمر، ومخالفة المأمور محظور.

قال ابن العربي المالكي – رحمه الله -: إذا لم يكن المديان غنيا، فمطله عدل، وينقلب الحال على الغريم، فتكون مطالبته ظلما؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}[20].

5 – بل إن بعض أهل العلم يرى أن في تسمية المدين مماطلا نظرا؛ لأن المماطل إنما هو في حق من منع قضاء ما استحق أداؤه مع التمكن منه من غير عذر[21].

وعلى هذا فلا تجوز مطالبة المعسر، ولا يجوز حبسه ولا أذيته للآية الكريمة، ولما جاء من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: «أصيب رجل في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لغرمائه: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك»[22].

وجه الدلالة من الحديث: هو أن قوله: (وليس لكم إلا ذلك) يفيد أنه ليس لأصحاب الديون إذا أخذوا ما وجدوه أن يسجنوا المدين، أو يلازموه…

قال ابن القيم – رحمه الله -: والذي يدل عليه الكتاب والسنة وقواعد الشرع أنه لا يحبس في شيء من ذلك إلا أن يظهر بقرينة أنه قادر مماطل سواء كان دينه عن عوض أو عن غير عوض، وسواء لزمته باختياره أو بغير اختياره…”[23] وهل يجوز لصاحب الحق ملازمة المدين المعسر؟

اختلف في ذلك أهل العلم على قولين:

القول الأول: جواز ملازمة المدين المعسر، وإن وجب إنظاره.

وهذا مذهب أبي حنيفة واستدلوا بما رواه ابن عباس رضي الله عنه «أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ما عندي شيء أعطيكم، فقال: لا والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل، فجره إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: (كم تستنظره؟ فقال: شهرا، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: فأنا أحمل له فجاءه في الوقت الذي قال النبي – صلى الله عليه وسلم»[24] -…) الحديث.

وجه الدلالة من الحديث: أن المدين بين أنه ليس عنده شيء، ومع ذلك لازمه صاحب الحق، ولم يمنعه النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك، فدل على جواز ملازمة المدين سواء كان مليا أو معسرا[25].

وأجيب:

أ – بأن الحديث ضعيف؛ لأنه في سنده عمرو بن أبي عمرو فإن روايته عن عكرمة مولى ابن عباس ضعيفة قال الإمام أحمد: كل شيء

يرويه عن عكرمة مضطرب، وقال البخاري: روى عن عكرمة مناكير، ولم يذكر في شيء منها أنه سمع عكرمة[26].

ب – ولو صح فهو محمول على جواز ملازمة المدين المجهول الحال، الذي لم يعلم عسره، وما نحن بصدده إنما هو في المدين الذي ثبت إعساره إما بإقرار الدائن، أو بإثبات الإعسار.

القول الثاني: عدم جواز ملازمة المدين المعسر إلى حين يساره وهذا مذهب جماهير أهل العلم من المالكية[27] والشافعية[28] والحنابلة[29] وهو مذهب أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية[30].

أدلتهم:

أولا: قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}[31].

وجه الدلالة: قالوا: إن الله سبحانه أمر بإنظار المدين إذا أعسر إلى أن يغتني ويقدر على دفع الدين، وإذا كان ذلك كذلك فلا تجوز ملازمته؛ لأن هذا يتنافى مع الإنظار فيخالف ظاهر النص[32].

ثانيا: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «أصيب رجل في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال – صلى الله عليه وسلم -: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لغرمائه: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك»[33].

وجه الدلالة: هو أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر الغرماء أن يأخذوا ما وجدوه من مال للمدين، فإذا لم يبق له مال، فنهاهم عن التعرض له بأي طريق، فدل ذلك على عدم جواز ملازمته والتضييق عليه[34].

المناقشة:

ناقش الحنفية أدلة الجمهور، واعترضوا عليها ومن ذلك ما قاله أبو بكر الجصاص: فقوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}[35] لا يدل على نفي الملازمة وذلك لأنه ينصرف على أحد وجهين:

الأول: إما أن يكون وقوع الإنظار هو تخليته من السجن، وترك عقوبته إذ كان غير مستحق لها؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – إنما جعل مطل الغني ظلما، فإذا ثبت إعساره فهو غير ظالم بترك القضاء، فأمر الله ترك لزومه.

الثاني: أو أن يكون المراد الندب والإرشاد إلى إنظاره بترك لزومه

ومطالبته فلا يكون منظرا إلا بنظرة الطالب بدلالة الأخبار التي أوردناها.

وأما حديث أبي سعيد الخدري «خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك»[36] فلا يدل على نفي ملازمة المعسر؛ لأنه معلوم أنه لم يرد سقوط ديونهم؛ لأنه لا خلاف أنه متى وجد كان الغرماء أحق بما فضل عن قوته، وإذا لم ينف ذلك بقاء حقوقهم في ذمته فكذلك لا يمنع بقاء لزومهم له ليستوفوا ديونهم مما يكسبه فاضلا عن قوته وهذا هو معنى اللزوم..”[37].

والراجح – والله أعلم – هو قول جماهير أهل العلم في عدم جواز ملازمة المدين المعسر، وما أجاب به أبو بكر الجصاص على أدلة الجمهور، خروج عن ظاهر النص كما قال القرطبي في تفسيره، وذلك لأن معنى الإنظار: الإمهال والتأجيل بلا مطالبة، وإذا انتفت المطالبة، فلا معنى للملازمة إذن لأن الملازمة مطالبة وزيادة.

وكذا رده، رحمه الله – على حديث أبي سعيد ليس بجيد؛ لأن قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: (وليس لكم إلا ذلك) عام، فيشمل حتى الملازمة، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما قال الأصوليون[38]. بل إن ابن حجر الهيثمي – رحمه الله – عد ملازمة الدائن لمدينه المعسر، أو التسبب في حبسه بالدين مع علمه بإعساره من الكبائر وقال: ما ذكرته من أن فعل الدائن بمدينه ما ذكر – يعني من

الملازمة والحبس – كبيرة ظاهر جدا، وإن لم يصرحوا به إلا أنه داخل في إيذاء المسلم الشديد الذي لا يطاق عادة”[39].

ولا شك أن ملازمة الدائن لمدينه المعسر محرمة كما سبق بيان ذلك أما عده كبيرة فيحتاج إلى دليل، وقد استدل ابن حجر الهيثمي على ذلك بمفهوم المخالفة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أنظر معسرا، أو وضع له وقاه الله من فيح جهنم»[40] وقال: “ومفهوم الحديث أن من لم ينظر مدينة المعسر لا يوقى فيح جهنم، وذلك وعيد شديد، وبه يتأكد عد ذلك كبيرة”[41].

بيد أن ضابط الكبيرة على الصحيح هو كل ما وجب فيه حد أو ورد فيه توعد بالنار، أو جاءت فيه لعنة”[42] وليس كذلك في ملازمة المدين المعسر، فلم يوجب به حد ولا ورد فيه توعد بالنار ولا جاءت فيه لعنة تدل على تحريمه ولا جعله كبيرة والله أعلم.

وهل المدين المعسر الذي يجب إنظاره على حال واحدة؟

ذكر الفقهاء – رحمهم الله – أن للمدين المعسر حالين: الإعدام، والقلة.

أ – أما الإعدام: فهو المدين الذي نفذ ماله، وليس عنده ما يدفع

حاجته من العروض، فهذا يجب على الدائن إنظاره[43]؛ لأنه عاجز عن أداء الدين ومطالبته بالوفاء مع عجزه أذية له وتأنيب.

قال ابن رشد الجد: “وأما المعسر المعدم، فتأخيره إلى أن يوسر واجب والحكم بذلك لازم، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}[44].

وقال الطحاوي – رحمه الله -: “وأما المعسر العديم الذي لا شيء عنده، فلا ثواب له على إنظاره، إذ هو مغلوب على ذلك لا يقدر على سواه”[45].

ب – الإقلال: فالمدين المقل هو الذي لا يملك وفاء كل الدين، وإن كان يملك بعضه، مع ضيق وضرر يحصل له جراء نفقة نفسه وعياله،

مثل من يملك عقارا أو سكنا يتضرر ببيعها في الحال، ولا نقد عنده يؤدي منه الدين [46].

فهذه يشرع في حق الدائن أن ينظره، وهل يجب؟ فيه خلاف عند أهل العلم.

قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره “التحرير والتنوير” في قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}[47] قال: “… وإن أريد بالعسرة ضيق الحال، وإضرار المدين بتعجيل القضاء، فالطلب يحتمل الوجوب، وقد قال به بعض الفقهاء – ويحتمل الندب وهو قول مالك والجمهور، فمن لم يشأ لم ينظره، ولو ببيع جميع ماله؛ لأن هذا حق يمكن استيفاؤه، والإنظار من المعروف، والمعروف لا يجب، غير أن المتأخرين من الفقهاء بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع، ويؤجلونه بالاجتهاد، لئلا يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما به الخلاص”[48].

وقال ابن رشد الجد – رحمه الله -: وأما المعسر الذي ليس بمعدم، وهو الذي يخرجه تعجيل القضاء، ويضر به – فتأخيره إلى أن يؤسر، ويمكنه القضاء من غير مضرة تلحقه؛ مرغب فيه ومندوب إليه قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «من أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله»[49]، والآثار في ذلك كثيرة، والمطل بالأداء وهو جاهد فيه غير مقصر ولا متوان غير محظور عليه إن شاء الله.

وكان الشيوخ بقرطبة – رحمهم الله – يفتون بتأخيره بالاجتهاد على قدر المال وقلته، ولا يوكلون عليه في بيع عروضه وعقاره في الحال، وعلى ذلك تدل الروايات، خلاف ما كان يفتي به سائر فقهاء الأندلس من التوكيل عليه ببيع ماله، وتعجيل إنصافه.

والمدين المعسر سواء كان معدما[50] أو مقلا فقد بين النبي – صلى الله عليه وسلم – فضل إنظاره، وثوابه وما أعده الله له.

فمن تلك الأحاديث: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي اليسر صاحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «كان لي على فلان ابن فلان الحرامي مال فأتيت أهله فسلمت، فقلت ثم هو، قالوا: لا، فخرج علي ابن له صغير، فقلت: أين أبوك، قال، سمع صوتك، فدخل أريكة أمي، فقلت: أخرج إلي، فقد علمت أين أنت فخرج فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني، قال: أنا والله أحدثك ثم قال لا أكذبك: خشيت والله أن أحدثك فأكذبك، وأن أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: وكنت – والله – معسرا، قال: قلت: آلله قال:

الله، قلت: آلله، قال: الله، قلت: آلله، قال: الله، فأتى – يعني أبا اليسر – بصحيفته ثم محاها بيده، وقال: إن وجدت قضاء فاقضني وإلا فأنت في حل، فأشهد بصر عيني هاتين، ووضع أصبعيه على عينيه، وسمع أذني هاتين، ووعاه قلبي هذا: وأشار إلى نياط قلبه: رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يقول: (من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله في ظله)»[51].

2- ومنها أيضا ما رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «من أنظر معسرا أو وضع عنه، وقاه الله من فيح جهنم»[52].

3 – ومنها ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا جئت معسرا فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: فلقي الله، فتجاوز عنه»[53].

4 – ومنها أيضا ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر أو يضع عنه»[54].).[55].

المطلب الثاني: مطل المدين الغني المعذور:

والمقصود به تأخير المدين الغني التسديد والوفاء لعذر منعه عن ذلك كغيبة ماله، وعدم وجوده بين يديه وقت الوفاء؛ بغير تعمده[56]، وربما تعرض المدين الغني لنقص في السيولة مع غناه بالموجودات والأصول الثابتة أو لعدم تصريف بضاعته، أو إنهاء مساهمته، أو ربما حصلت له ظروف كالتي تحصل للتجار غالبا، فمطله حينئذ غير محرم، ولا إثم عليه في ذلك؛ لأن المطل المنهي عنه، هو تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر[57].

قال النووي – رحمه الله -: ولو كان غنيا، ولكنه ليس متمكنا من الأداء، لغيبة ماله، أو لغير ذلك، جاز له التأخير إلى الإمكان، وهذا مخصوص من مطل الغني، أو يقال: المراد بالغني المتمكن من الأداء، فلا يدخل هذا فيه… أ. هـ[58].

وقد عقب العراقي في طرح التثريب على كلام النووي هذا وقال:

(وقوة كلامه تقتضي ترجيح الأول، والظاهر الثاني – يعني أن المراد بالغني المتمكن من الأداء – لأن من هو بهذه الصفة، يجوز له الأخذ من الزكاة، ولو كان غنيا لم يأخذ منها؛ لأنها للفقراء، ومن ذكر معهم دون الأغنياء) أ. هـ[59].

وجاء في مرقاة المصابيح أيضا: (إن المطل منع أداء ما استحق أداؤه، وهو حرام من المتمكن، ولو كان غنيا، ولكنه ليس متمكنا، جاز له التأخير إلى الإمكان)[60].

المطلب الثالث: مطل المدين الموسر بلا عذر:

مطل المدين الموسر القادر على قضاء الدين بلا عذر، وذلك بعد مطالبة صاحب الحق، محرم شرعا، ومن الظلم الموجب للعقوبة الحاملة على الوفاء وقد عد السبكي والهيثمي في الزواجر والمناوي مطل الغني من غير عذر بعد مطالبته من الكبائر، حيث إن وصفه بالظلم وحل العرض والعقوبة من أكبر الوعيد[61].

والدليل على ذلك:

أ – ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «مطل الغني ظلم»[62].

قال الحافظ ابن حجر: (المعنى أنه من الظلم، وأطلق ذلك للمبالغة في التنفير من المطل)[63].

وقد جاء في بعض روايات الحديث «إن من الظلم مطل الغني»[64]…)[65].

وقال ابن حزم – رحمه الله -: “ومن المنكر مطل الغني، فمن صح غناه، ومنع خصمه، فقد أتى منكرا، وظلما، وكل ظلم منكر، فواجب على الحاكم تغييره باليد” ولأجل هذا الحديث استدل سحنون وأصبغ من المالكية على أن المماطل فاسق مردود الشهادة، ونازعهما غيرهما في ذلك، وقالوا لا يلزم من تسميته ظلما أن يكون كبيرة، فإن الظلم يطلق على كل معصية كبرت أو صغرت، فلا ترد شهادته حتى يتكرر ذلك منه ويصير عادة له.

وقال النووي: مقتضى مذهبنا اشتراط التكرار.

هذا ومما يدخل في مطل الأغنياء مع قدرتهم على الوفاء ما ذكره العز بن عبد السلام في قواعده بقوله: “فإن طولب بدين أو حق واجب على الفور لزمه أداؤه ولا يحل له أن يقول لخصمه لا أدفعه إلا بالحاكم؛ لأنه مطل، والمطل بالحقوق المقدور عليها محظور، لقوله عليه الصلاة والسلام «مطل الغني ظلم»[66]وكثيرا ما يصدر هذا من العامة مع الجهل بتحريمه، وإثمه أعظم من إثم المطال المجرد، لما فيه من تعطيل المدعي بانطلاقه إلى الحاكم ومثوله بين يديه وبما يغرمه لأعوان الحاكم على الإحضار”[67].

ومما يدخل في التأخير في أداء الحقوق مع قدرته على الوفاء ما ذكره محمد العبدري المعروف بابن الحاج المالكي في مدخله بقوله: “ومنهم من لا يسأل البائع أن ينقص عنه، ولكنه يسأله التأخير مع كون البيع وقع على الحلول، وذلك لا يجوز، وهو ملتحق بالقسم الأول أعني في نقصان الثمن بعد عقد البيع عليه كما تقدم، ومنهم من لا يسأله نقصان الثمن، ولا التأخير، ولكن يماطله بقوله: غدا وبعد غد، وغدوة وعشية إلى غير ذلك مما هو معلوم من عوائدهم مع وجود القدرة على أداء الثمن في الوقت، وهذا يدخل في ضمن قوله عليه الصلاة والسلام «مطل الغني ظلم»[68] نسأل الله السلامة بمنه”[69].

المبحث الرابع، أسباب المطل وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: أسباب تعود إلى من عليه الحق:

كثيرا ما يكون المدين هو السبب في تأخير الوفاء وتعثر الديون سواء كان عن عمد أو عن غير عمد، وتتنوع هذه الأسباب وتتعدد ولعلنا نذكر أهم هذه الأسباب:

أ – الإعسار: الإعسار كما يقول ابن فارس: “العين والسين والراء، أصل صحيح واحد يدل على صعوبة وشدة، فالعسر نقيض اليسر، والإقلال أيضا عسرة؛ لأن الأمر ضيق عليه شديد”[70].

وقد ذكرنا تعريف الإعسار في الاصطلاح بأنه عدم قدرة المرء على أداء ما عليه من مال.

فإذا أعسر المرء عجز عن تسديد الديون والوفاء بها، ووجب إنظاره كما سبق تفصيل ذلك، وربما كان من أسباب هذا الإعسار هو دخول المدين في أنشطة لا معرفة له بها دون علم الدائن (الممول) واستخدام تسهيلات الدائن في تمويل مشروعاته مع أن هذه المشروعات

تحتمل على قدر كبير من المخاطر، وربما تكون غير مشروعة تتم في الخفاء من غير علم الدائن فيقع المدين في خسارة باهظة تؤدي به إلى إعساره.

ومن ذلك أيضا عدم الفصل بين أموال المدين الخاصة، وبين أموال المشروع الذي يديره والذي استقرض من أجله، وبالتالي استخدام جانب من أموال المشروع في الإنفاق على احتياجاته الخاصة والأسرية والاجتماعية، مما يؤدي إلى استهلاك لجزء من رأس المال العامل للمشروع، وإصابته بإعسار، أو توسع المدين في الاقتراض باسم المشروع لتغطية نفقاته الشخصية[71].

ب – الإفلاس: الإفلاس مصدر أفلس، يفلس، إفلاسا بمعنى: صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم[72]، كما يقال: ألبن الرجل إذا صار ذا لبن.

ويقال أيضا: أفلس الرجل، كأنه صار إلى حال ليس له فلوس[73].

وفي الاصطلاح الفقهي هو أن يكون الدين الذي على الشخص أكثر من ماله، سواء أكان غير ذي مال أصلا، أم كان له مال، إلا أنه أقل من دينه

قال ابن قدامة – رحمه الله -: “وإنما سمي من غلب دينه ماله مفلسا، وإن كان له مال؛ لأن ماله مستحق الصرف في جهة دينه فكأنه معدوم[74]. وعلى هذا، فإذا زاد دين المدين على ماله، وخرجه أكثر من دخله، فهو المفلس عند الفقهاء.

أما التفليس فهو منع الحاكم الشخص من التصرفات المالية لتعلق الدين بها[75]، والتفليس والحجر بالدين بمعنى واحد، ومن الفقهاء من يعبر بالأول، ومنهم من يعبر بالثاني.

والمفلس والمعسر بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل معسر مفلس، وليس كل مفلس معسر.

فالمعسر المعدم الذي قد نفذ ماله كله، فلم يبق عنده ما ينفقه على نفسه وعياله، أو المعسر المقل الذي يملك بعض المال، ولكنه قليل لا يكاد يكفيه للإنفاق على نفسه وعياله بالمعروف وقضاء دينه إلا بضرر أو مشقة وضيق، فهذا معسر وهو في نفس الوقت مفلس – وينفرد المفلس عن المعسر حيث إن ماله أكثر مما استثنى له غير أنه لا يفي بالدين الذي عليه[76].

وهناك فروق فقهية بين الإفلاس والإعسار ومن أهمها:

1 – أن المفلس يحجر عليه أما المعسر فلا يجوز الحجر عليه لأنه عاجز ولا ينفع حبسه ولا الحجر عليه الوفاء ولو ببعض الدين الذي عليه.

2- أن الإفلاس لا بد أن يكون عن دين، أما الإعسار فقد يكون عن دين أو عن قلة ذات اليد[77].

3- أن مدعي العسر وحاله مجهولة يسجن حتى يثبت عدمه، أو يعطي ضامنا بوجهه[78] أما المفلس فإنه يسجن بهدف عقوبته، وإكراهه لتأدية حقوق الدائنين.

4- الديون المؤجلة لا تحل بالإعسار بل قد يوجب التأجيل، وفي حالة الإفلاس هل تبقى على تأجيلها أو تحل؟ موضع خلاف بين الفقهاء على قولين وإفلاس المدين قد يحصل بسبب ضعف التخطيط التمويلي، وعدم قدرة المدين في مشروعه التجاري على إحداث توافق بين احتياجات

المشروع الاستثماري وبين إيراداته، ومن أسباب الإفلاس أيضا ضعف تقدير المدين التاجر للسوق، ومبالغته في تسعير ثمن البضاعة وعدم تقديره للمنافسة بشكل صحيح، مما يؤدي إلى انخفاض صافي المبيعات، وازدياد تكاليف الإنتاج. واتساع نطاق نفقات التشغيل والصيانة بشكل لا يتناسب وحجم المبيعات.

ومن الأسباب الموجودة أيضا هو أن الشركة المدينة قد يخرج أحد كبار مساهميها ولا يوجد من يحل محله في تعويض الجزء المتخارج من رأس مال الشركة، مما يؤدي إلى أن تفقد الشركة المدينة جانبا هاما من مواردها خاصة رأس المال العامل الذي يؤدي إلى اختناق السيولة لديها، وعدم قدرتها على الوفاء باحتياجات المشروع من مستلزمات التشغيل وبالتالي عدم القدرة على تسديد الديون الحالة عليها.

ج – ومن أسباب المطل التي تعود إلى من عليه الحق أيضا.

هو علم المدين المماطل بأن مطالبته من قبل الدائن تحتاج إلى إجراءات إدارية أو قضائية طويلة الأمد، ولا يوجد إجراءات صارمة فربما أعطى شيكا غير مغطى، مع أن هذا يعد اعتداء ومسؤولية جنائية في حق النظام، غير أن ضعف التطبيق أو المحسوبية أو البيروقراطية الموجودة في المؤسسات ربما تساعد هؤلاء العابثين بأموال المسلمين. وقد سبق أن ذكرنا كلام العز بن عبد السلام الذي جعل أشد أنواع المطل هو تأخير المدين

بالوفاء إلى بعد التقاضي وهذا كثر في الآونة الأخيرة، ووجد بعض المحامين الذين ربما ساعدوا هذا المدين المماطل، وأوجدوا له بعض الثغرات في النظام أو الإجراءات الإدارية التي تساعده على تأخير الوفاء مما يجعل بعض أصحاب الحق يتركون حقوقهم والمطالبة بها بسبب هذا التعسف في المطل من قبل المدينين.

د – ومن الأسباب أيضا: جحد الدين وإنكاره أو إنكار بعضه، ويعمد بعض ضعفاء النفوس من المدينين لجحد الدين أو إنكاره أو إنكار بعضه إذا لم يكن للدائن دليل على دينه، وهذا محرم وكبيرة من كبائر الذنوب، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ}[79]

قال ابن عباس رضي الله عنه: (هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس فيه بينة، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل حرام)[80].

المطلب الثاني: أسباب تعود إلى صاحب الحق:

كثيرا ما يقع الدائنون ضحية أخطائهم أو تقصيرهم في عدم وفاء وتسديد الغير لحقوقهم، ولهذا فمشكلة تعثر الديون من أسبابها هو صاحب الحق نفسه. يظهر هذا بالأسباب الآتية:

1 – عدم حصول الدائن أيا كان موقعه على ضمانات ذات تأثير خاصة على المدين، تجعله لا يقدم على مثل هذه الديون إلا عندما تكون عنده جدية في التسديد والوفاء، فوجود الضمانات المعنوية والنفسية والعينية أمر يؤثر على جدية المدين والتزامه.

2 – عدم الأخذ بالأسباب الفنية، والوسائل العلمية المطلوبة من دراسة الجدوى الاقتصادية الجادة، ودراسة الشركات أو الأفراد الذين يطلبون التمويل عن طريق الالتزامات الآجلة، ولهذا فعدم مضاعفة الجهد عند دراسة عمليات التحويل قبل الموافقة عليها وتنفيذها ليتم التأكد من جدواها، والقدرة على الوفاء بالالتزامات المترتبة عليها، قد يكون سببا من أسباب تأخر تسديد الديون وربما جحودها وعدم الوفاء بها كليا.

3 – عدم إجراء الزيادات التفتيشية الدورية لبعض الشركات المدينة أو بعض المؤسسات التي ترغب في تحويل مشاريعها، للتأكد من وجود الضمانات المرهونة للدائن – من آلات ومعدات ومبان وعقارات ونحو ذلك – وأنها بحالة سليمة تسمح ببيعها، وعدم هلاكها أو تصرف المدين بها.

4 – ومن الأسباب أيضا: المجاملات والوسائط التي تحول دون الأخذ بتنفيذ الوسائل والإجراءات المطلوبة، وربما يعطى المدين الحق والموافقة بسحب جزء من الضمانات المأخوذة منه سلفا أو التصرف فيها، دون سداد القيمة المطلوبة التي كان يغطيها هذا الضمان، وبالتالي فربما يخسر المدين أو يعجز أو يتأخر عن التسديد فلا يجد الدائن إلا بعض ماله

المرهون أو ربما لا يجد شيئا.

5 – ومن الأسباب أيضا: توسع بعض الشركات والمؤسسات على التمويل بالبيوع الآجلة مثل بيع المرابحة للآمر بالشراء وبالأخص المرابحات الاستهلاكية التي لا يبقى محل العقد فترة طويلة وعدم التركيز على أساليب الاستثمار الأخرى مثل المشاركات المنتهية بالتمليك، أو المضاربات الشرعية أو الاستصناع.

المطلب الثالث: أسباب تعود إلى العلاقة بينهما:

قد تحدث بعض الممارسات اللاأخلاقية من قبل بعض المتعاملين في التجارة، فلربما يكون البائع مثلا بالبيع الآجل عنده بعض الممارسات التعسفية وليس عنده المرونة في التعامل مما يغضب بعض عامليه ومرتاديه وبعض زبائنه، فربما يطلب المدين أن يسهل الدائن له بعض المعاملات أو ينظره أو يخفف عنه مثلا بعض الدين فيمانع الدائن بذلك وربما هدده، فتحدث بعض الخلافات النفسية والمشاحنات الكلامية، فيمتنع المدين جراء ذلك من تسديد ديونه، وإرغام البائع بالتخفيف وإلا امتنع عن تسديد كامل الدين. قال ابن الحاج المالكي – رحمه الله -: ويتعين عليه إذا اشترى بثمن معلوم أن لا ينقص البائع منه شيئا، فإن نقصه فذلك من باب أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن الذمة قد تعمرت بالثمن كله، وغالب

أحوال الناس المشاحة في البيع والشراء، فإذا نقصه من ذلك وإن كان ظاهر البائع الرضا فالغالب عدم رضاه لما تقرر من العوائد ومن رغبة النفوس في أخذها جميع حقها، ولو لم يكن فيه إلا ذل السؤال في أن يحط عنه شيئا مما له عليه لكان كافيا في الذم، فكيف وقد جمع مع ذلك استشراف النفس والشره لاسيما إن كان غنيا والبائع فقيرا[81].

ولا شك أن سوء تصرف البائع وعدم مرونته وسوء خلقه، لا يمكن أن يخول المدين بالمماطلة والتسويف؛ لأن الخطأ لا يعالج بالخطأ، وربما تكون تصرفات البائع غير أخلاقية ودليلا على سوء الأدب، أما المدين بمماطلته الحقوق يكون آثما بذلك.

وأكثر التعاملات التجارية التي تكون في المحاكم من أسباب تأخير الوفاء منها هو سوء العلاقة بين الطرفين، وعدم المرونة في التعامل والتسامح فيه وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى»[82]، قال الحافظ ابن حجر في قوله – صلى الله عليه وسلم -: إذا اقتضى: أي طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف، في رواية حكاها ابن التين (وإذا اقتضى) أي أعطى الذي عليه بسهولة بغير مطل، وللترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا «إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء سمح القضاء»[83] وللنسائي من حديث عثمان رفعه

«أدخل الله الجنة رجلا كان سهلا مشتريا وبائعا وقاضيا ومقتضيا»[84] ولأحمد من حديث عبد الله بن عمرو نحوه، وفيه الحض على السماحة في المعاملة واستعمال معالي الأخلاق وترك المشاحة والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة وأخذ العفو منهم” ا هـ[85].

المطلب الرابع: أسباب تعود إلى غير ما سبق:

هناك أسباب تؤدي إلى تعثر الديون وتأخير الوفاء بها لا تعود إلى العلاقة بين الدائن والمدين ولا إلى أي منهما، بل تعود إلى أمور أخرى لا علاقة لواحد منهما بها.

وهذه الأسباب هي ما يسمى عند الفقهاء بالجوائح.

والجائحة كما يقول ابن قدامة – رحمه الله -: “كل آفة لا صنع للآدمي فيها”[86].

وعرفها أبو العباس ابن تيمية – رحمه الله – بقوله: “الجائحة هي الآفات السماوية التي لا يمكن معها تضمين أحد”[87].

غير أن المذهب المالكي له تفصيل في معنى الجائحة على ثلاثة أقوال:

الأول: منهم من يرى إلى أن الجائحة في الأمور السماوية وحدها، ولا خلاف بينهم أنها جائحة.

الثاني: ومنهم من يرى أن الجائحة تشمل أيضا أعمال الآدميين

التي لا يمكن التحرز عنها وكان غالبا مثل الجيش يمرون بالنخل، فيأخذون ثمرته هو جائحة.

الثالث: ومنهم من يرى أن الجائحة تشمل جميع أعمال الآدميين حتى تلك التي يمكن التحرز منها ما دامت من غير فعل المتعاقدين.

وهذه تسمى عند الفقهاء المعاصرين بنظرية الظروف الطارئة، وبعضهم يرى أن ثمة فرقا بين نظرية الجوائح وبين نظرية الظروف والحوادث الطارئة ومنهم الدكتور عبد الرزاق السنهوري الذي فرق بينهما بقوله: ” نظرية الحوادث الطارئة تفترض أن عقدا يتراضى تنفيذه إلى أجل، أو آجال كعقد التوريد، وعند حلول أجل التنفيذ تكون الظروف الاقتصادية قد تغيرت تغيرا فجائيا لحادث لم يكن في الحسبان بحيث يختل التوازن الاقتصادي للعقد اختلالا خطيرا… ولو أن هذا الحادث الطارئ قد جعل تنفيذ الالتزام مستحيلا لكان قوة قاهرة، ولا نقضي به الالتزام. ولو أنه لم يكن من شأنه إلا أن يجعل تنفيذ الالتزام يعود بخسارة على التاجر لا تخرج عن الحد المألوف لما كان له من أثر ولا التزام المدين بتنفيذ التزامه التزاما كاملا، ولكنا نفترض من جهة أن تنفيذ الالتزام لم يصبح مستحيلا، ونفرض من جهة أخرى أن تنفيذه يعود بخسارة على المدين تخرج عن الحد المألوف ثم نفرض أن هذا كله لم يكن قائما وقت نشوء العقد، بل وجد

عند تنفيذه. فماذا يكون الحكم في المثل الذي أسلفناه؟ تقول نظرية الحوادث الطارئة: لا ينقضي التزام المدين؛ لأن الحادث الطارئ ليس قوة قاهرة، ولا يبقى التزامه كما هو؛ لأنه مرهق، ولكن يرد القاضي الالتزام إلى الحد المعقول، حتى يطيق المدين تنفيذه، يطيقه بمشقة ولكن في غير إرهاق…”.

فالظروف الطارئة قد تكون سببا من أسباب تأخير الحقوق والالتزامات العقدية، فمثلا لو أن عقد مقاولة قد تم بين طرفين على إنشاء بناية كبيرة يحتاج إنشاؤها إلى مدة طويلة، وحدد فيه سعر المتر المكعب من البناء وكسوته بمبلغ 1000 ريال مثلا، وكانت كلفة المواد الأولية من حديد وأسمنت وأخشاب وسواها وأجور عمال تبلغ عند العقد للمتر الواحد (800) ريال، فوقعت حرب غير متوقعة، أو حادث آخر خلال التنفيذ قطعت الاتصالات والاستيراد وارتفعت بها الأسعار ارتفاعا كبيرا مما يجعل تنفيذ الالتزام مرهقا جدا في حق المقاول، مما يترتب على ذلك تأخير التزامه بالعقد ويماطل في الالتزام، وربما تأخر رب العمل أيضا بتسديد المبالغ المستحقة عليه لأن المقاول قد تأخر فيتأثر الالتزام بسبب هذه الظروف، وكذلك لو أن متعهدا في عقد توريد أرزاق عينية يوميا من لحم وجبن ولبن وبيض وخضروات وفواكه ومشروبات ونحوها إلى مستشفى أو إلى جامعة

فيها أقسام داخلية أو إلى دار ضيافة حكومية بأسعار اتفق عليها في كل صنف لمدى عام، فحدثت جائحة في البلاد أو طوفان أو زلزال أو جاء جراد جرد المحاصيل الزراعية فارتفعت الأسعار إلى أضعاف كثيرة عما كانت عليه عند العقد، فيترتب على ذلك تأخير التزام المورد، وبالتالي تأخير تسديد الأموال التي استحقت له.

ولا شك أن هذا يسبب التنازع بين الطرفين مما يكون سببا إلى الاتجاه إلى القضاء للفصل بين الطرفين، وقد عرض موضوع هذه الظروف الطارئة على مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من رابطة العالم الإسلامي وقرر ما يلي:

1 – في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلا غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييرا كبيرا، بأسباب طارئة عامة، لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي، يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة، من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحالة عند التنازع، وبناء على الطلب تعديل الحقوق والالتزامات العقدية، بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد، فيما لم يتم تنفيذه منه، إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانبا معقولا من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد، بحيث يتحقق عدل بينهما، دون إرهاق للملتزم، ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعا رأي أهل الخبرة الثقات.

2 – ويحق للقاضي أيضا أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيرا بهذا الإمهال”[88].

ونظرية الظروف الطارئة تناولها الفقهاء – رحمهم الله – عندما تحدثوا عن “الفسخ بالأعذار” وعن “الجوائح في بيع الثمار” وعن “تعديل العقد في حالة تقلب النقود” ووضعوا ضابطا للعذر الطارئ الذي يجيز فسخ عقد الإجارة وهو أن عجز العاقد عن المضي في موجب العقد إلا بتحمل ضرر زائد لم يلتزمه بموجب العقد يحق له بعد التقاضي التخفيف عنه أو الفسخ.

وقد ذكر ابن تيمية، رحمه الله، في مختصر الفتاوى المصرية: “أن من استأجر ما تكون منفعة إجارته لعامة الناس، مثل الحمام والفندق والقيسارية فنقصت المنفعة المعروفة، لقلة الزبون، أو لخوف، أو حرب، أو تحول سلطات ونحوه، فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة”[89].

وقال الكاساني: “إن الفسخ في الحقيقة امتناع من التزام الضرر، وأن إنكار الفسخ عند تحقق العذر، خروج عن العقل والشرع؛ لأنه يقتضي أن من اشتكى ضرسه فاستأجر رجلا لقلعها، فسكن الوجع يجبر على القلع، وهذا قبيح عقلا وشرعا”[90].

وقد ذكر بعض الباحثين صورا من جوائح القرض فقال: القروض قد تكون عرضة للجوائح فإنها إن كانت نقودا مثلا فقد تكسد، وقد ترخص وقد تغلو وقد يبطل التعامل بها إلى غير ذلك من جوائح النقود[91].

2 – ومن الأسباب أيضا تلك الأسباب التي تتعلق بالعوامل السياسية والاقتصادية والنظامية التي تؤثر على النشاط الائتماني، وكلما كانت هذه العوامل تتصف بعدم الاستقرار كلما زادت درجة المخاطر، وتزايدت ظروف عدم التأكد عما سيكون عليه الحال مستقبلا، وأثر ذلك بالسلب على الوفاء بالالتزامات المالية. وترجع هذه العوامل إلى اعتبارات محلية داخلية أو إلى اعتبارات عالمية دولية. من ذلك:

أ – سياسات التسعير بغير ضوابط شرعية وما لها من أثر مباشر أو غير مباشر على الأرباح، ومن ثم المقدرة المالية على الوفاء بالالتزامات المالية.

ب – السياسات المالية للدولة وبصفة خاصة السياسات الضريبية

المرهقة أو الباهظة والمغالى فيها وبغير ضوابط شرعية.

ج – السياسات النقدية وما تقوم عليه من سياسة ائتمانية وسياسة أسعار الصرف، وسياسة إدارة الدين العام وعدم قدرتها على تحقيق الاستقرار المنشود مما يؤثر سلبا على قدرة الأفراد والمؤسسات والمشروعات المدينة على سداد ديونها وبخاصة إذا كانت بالعملات الأجنبية.

error: