القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
1- المراد بالأراضي.
2- مذاهب الفقهاء في حكم زكاة الأراضي.
3- شروط زكاة الأراضي.
4- الفرق بين الأرض المعدة للتجارة والمعدة للإيجار في الزكاة.
5- حكم زكاة الأراضي الكاسدة.
6- حكم زكاة الأرض التي اشتراها مالكها لحفظ المال فقط.
7- حكم زكاة الأرض الموروثة إذا عرضها الورثة للبيع.
مقدمات تأصيلية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن والاهم واتَّبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين..أمَّا بعد: فهذا بحث لمسائل ثلاث عهدت لي ببحثها أمانة الندوة، وأرجو أن يكون فيما كتب النفع والفائدة المرجوة.
المسألة الأولى: هل الأصلُ في المالِ الزكاةُ أو عدمها؟
المسألة الثانية: هل النماء علة لوجوب الزكاة في المال؟
المسألة الثالثة: إجراء القياس في تقرير مسائل الزكاة غير المنصوص على حكمها.
المسألة الأولى: هل الأصلُ في الأموالِ الزكاةُ أو عدمها؟
أولاً: المراد هل الأصلُ في الأموالِ وجوب تزكيتها، والاستثناء عدمه، أم العكس. وهذه مسألة لها أهميتها الكبيرة بل هي أصل في باب الزكاة؛ لما يترتب عليها من فروع كثيرة في باب الزكاة ستذكر آخر البحث.
ثانياً: ما كتب في هذه المسألة قليل، وأقل منه أن تجد أحداً يذكرها بهذا العنوان، ومن المراجع القيمة التي رجع إليها في هذه المسألة كتاب فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي في الجزء الأول تحت الباب الثالث في الأموال التي تجب فيها الزكاة، وورقة عمل بعنوان: مفهوم وعاء الزكاة وما جد فيه للدكتور عبدالله الزبير عبدالرحمن.
ثالثاً: للفقهاء في هذه المسألة قولان في الجملة، يفهم ذلك من خلال كلامهم على فروعها، أذكر القولين مع الاستدلال والترجيح، على النحو الآتي:
القول الأول: أنَّ الأصل في الأموال عدم الزكاةِ، وأن الزكاة واجبة فيما ورد فيه النص. وإلى هذا القول ذهبَ ابن حزم، وتبعه على ذلك الشوكاني، وصديق حسن خان([1][1])، ومحمد ناصر الدين الألباني([2][2])، -رحمهم الله تعالى- يقول ابن حزمٍ: “مسألة: ولا تجب الزكاة إلا في ثمانية أصناف من الأموال فقط، هي: الذهب، والفضة، والقمح، والشعير، والتمر، والإبل، والبقر، والغنم: ضأنها وماعزها، فقط”([3][3]). حتى أنه لمْ يقلْ بوجوبها في الزبيبِ؛ لأنه لم يثبتْ عنده فيه حديث صحيح.
وقال الشوكاني منكراً التوسع في إيجاب الزكاة: “وقد توسَّع كثير من أهل العلم في إيجاب الزكاة في أموال لم يوجب الله الزكاة فيها”([4][4]).
واستدلوا بما بم يأتي:
1- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نص على عدم وجوب الزكاة في بعض الأموال، سواء ما كان منها غير نامٍ، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه)([5][5]). أو كان نامياً، حيث كان للصحابة أموال وجواهر وتجارات وخضروات فلم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بتزكية ذلك ولا طلبها منهم، ولو كانت واجبة في شيء من ذلك لبيَّن للناس ما نزل إليهم.
ويمكن أن يناقش بالآتي:
أ-هذا لا ينفي أن الأصل في المال الزكاة بل يؤيده؛ لأنه لو كان الأصل عدمها لاكتفى به عن النص عليه، فكأن النص على عدمها في هذه الأموال خرج مخرج الاستثناء من الأصل وهو وجوب الزكاة.
ب-أن هذا محمول على المقتنى من العبيد والخيل، مما ليس نامياً ولا معداً للنماء وهذا ما لا تجب فيه الزكاة لكونه مستثنى منها بالنص، أما ما أعد للتجارة ففيه الزكاة، وهذا قول الصحابة رضي الله عنهم كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “نأخذ من أربعين شاةً شاة ولا نأخذ من الخيل شيئاً؟! خذ من كل فرس ديناراً”، فضرب على الخيل ديناراً ديناراً([6][6]). وكان عثمان يصدق الخيل([7][7]). ويؤيد هذا التأويل حديث أنواع الخيل، وفيه: (ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر)([8][8])، كما يؤيده القياس: وهو أنَّ الخيل السائمة حيوان مقصود به النماء والنسل فأشبه الإبل والبقر([9][9]).
2- أن الزكاة تكليف شرعي، والأصل براءة الذمم من التكاليف إلا ما جاء به نص، حتى لا نُشرِّع في الدين ما لم يأذن به الله([10][10]).
ونوقش بأن القول بأن الأصل وجوب الزكاة ثابت بأدلة، فليس من شرع ما لم يشرعه الله؛ فأصبح هذا الدليل استدلال بمحل النزاع فلا يتم دليلاً.
3- أن الزكاة عبادة، والعبادات الأصل فيها التوقيف والحظر ما لم يأتِ النص بالإذن والتشريع. والنص اقتصر على هذه الأموال التي ورد فيها ولم يأذن بغيرها.
ونوقش بأن هذا أيضاً استدلال بمحل النزاع؛ لأن من يقرر أن الأصل وجوب الزكاة يستدل بأدلة أطلقت وجوب الزكاة في كل مال إلا ما ورد النص باستثنائه.
4- أن مال المسلم حرام أخذه إلا بحقِّه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيبة من نفسه)([11][11]).
ونوقش بأن من يرى أن الأصل وجوب الزكاة مستند على الشرع في ذلك فيكون الأخذ حينئذ بطيب نفس المسلم؛ لوجوب أن يذعن المسلم للشارع، ويرضى بما شرع.
القول الثاني: أنَّ الأصل في الأموال الزكاةُ، وبالتالي يتوسَّع في أوعية الزكاة لتشمل جميع الأموال إلا ما ورد النص بعدم وجوب الزكاة فيه وما شاركها في العلة. وهذا القولُ هو ظاهر مذهب جماهير السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ورحمهم([12][12])، وهو ظاهر مذهب جمهور الفقهاء، فالحنفية يرون وجوب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض مما يُقصد بزراعته النماء([13][13])،ويرون وجوبها في الحليّ، وجعلوا في الخيل السائمة زكاة، أما المتخذة للاتِّجار فقد نقلوا الإجماع على وجوب الزكاة فيها ([14][14])، فهمْ أوسعُ المذاهبِ من حيث الأموال الواجبة فيها الزكاة، حتى إنهم لا يشترطونَ في ذلك نصابًا، وهو ظاهر قول المالكية([15][15])، والشافعية حيث اشترطوا لعدم وجوب الزكاة فيها عدم اتخاذها للاتِّجار، فإن كانت لها وجبت زكاتها([16][16])، وأوجب الشافعية الزكاة في كل ما عُمل منه خبز أو عصيدةٌ([17][17]).
وهو ظاهر قول داود وجمهور الظاهرية، حيث نصوا على وجوب الزكاة في كل ما أنبتت الأرض، وفي كل ثمرة، وفي كل الحشيش، وغير ذلك لا تحاش شيئاً([18][18]).
واستدلوا بالآتي:
1- أنَّ الأمر بإيتاء الزكاة وأخذها موجَّه إلى عموم المال، ومن النصوص في ذلك قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أموالهم صدقةً)([19][19])، وقوله (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)، وهذا عام في كل مال.
قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم تُؤخذ من أغنيائهم وتُرد على فقرائهم))([20][20]).
2- أن الشارع صرَّح بأنه ما من مال إلا وفيه الزكاة، وذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من آتاه الله مالاً فلم يُؤدِ زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوِّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه، يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك)) الحديث([21][21]). والحديث واضح في أنَّ كل مالٍ يجب أن تؤدَّى زكاته، وهذا عين المراد بأنَّ الأصلَ إيجابُ الزكاةِ في الأموالِ كلها، فقد وسَّع الشارع وجوبها وعممه في كل مال.
الترجيح:
الراجح القولُ بأنَّ الأصلَ في الأموالِ الزكاة، للآتي:
أولاً: ضعف أدلة القائلين بأن الأصل عدم وجوب الزكاة بما ورد عليها من المناقشة.
ثانياً: أن القول بهِ يوافق المقاصد الشرعية للزكاة، من تطهير مال المزكي، وتطهير نفسه من الشح والبخل، وسد حاجة جهات الاستحقاق للزكاة وهو الأصناف الثمانية، وتحيق الأخوة والمودة بين الفقراء والأغنياء.
ثالثاً: أن القول به يحقق المصالح الشرعية من شرع الزكاة، فإنه كلما توسَّعت دائرة الأموال الواجب تزكيتها كلما زادت حصيلة الزكاة، وبه يزول الفقر ويزداد الغنى، ويتمكن الناس من إقامة المصالح العامة، ودرء المفاسد العامة من رد العدوان على الأمة، وإعداد القوة اللازمة لحماية البيضة، وكل ذلك مصالح شرعية عظيمة تستحق التحصيل.
وعلى هذا فإن القاعدة أن الأصل في المال الزكاة، ويستثنى منها ما ورد النص بعدم وجوب الزكاة فيه ومنه المال غير الصالح للنمو، أو مال القنية، وعلى هذا فتكون القاعدة جارية في كل مال نام أو معد للنمو([22][22]).
ثمرة الخلاف في هذه المسألة:
1- ترجيح وجوب الزكاةِ في المال، عند التردد والتعارض؛ لأنه تمسك بالأصل.
2- أن المطالب بالدليل عند الاختلاف القائل بعدم وجوب الزكاة؛ لأنه ناقل عن الأصل.
3- عدم الحاجة إلى إجراء القياس لإيجاب الزكاة في مال لم ينص دليل خاص على وجوب الزكاة فيه، وإنما يجرى القياس عند القول بعدم وجوبها فيه متى تحققت فيه علة عدم الوجوب وهي كونه غير نامٍ ولا معد للنماء.
4- النظر في إيجاب الزكاة إلى المال دون النظر إلى صاحب المال، فإذا تحقق في المال ما يدخله في أوعية الزكاة كونه نامياً أو معداً للنماء وجبت فيه الزكاة، ولا اعتبار لرب المال، إلا ما ورد النص بعدم وجوب الزكاة فيه كمال الكافر لا زكاة عليه فيه حتى يسلم؛ لقوله جل وعلا: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله..) التوبة (54)، فيكون استثناءً من الأصل. وفي ضوء هذا يمكن الترجيح في المسائل الآتية:
أ- زكاة مال الصبي، فقد أوجبها الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، وهو قول جماعة من الصحابة: عمر، وعلي، وابن عمر، وجابر، والحسن بن علي، وعائشة، ومن التابعين طاووس، وعطاء، وجابر بن زيد، ومجاهد، وابن سيرين، وربيعة وغيرهم ([23][23]).
ب- زكاة مال المجنون، وهو مذهب جميع من سبق ([24][24]).
ج- زكاة مال العبد: وهو قول عطاء وأبي ثور، وقال به داود، وهو المروي عن عمر رضي الله عنه([25][25])، لكن يخرجه عنه سيده لأنه المالك الحقيقي لما بيد عبده، لحديث: (من باع عبداً له مال فماله لسيده إلا أن يشترطه المبتاع).
د- زكاة مال المكاتب: وهو مذهب داود وأبي ثور، وأوجب أبو حنيفة العشر في زرعه دون بقية ماله ([26][26]).
ه- زكاة المال المغصوب والمسروق والمجحود والضال (الضائع) والمدفون في محل، أوجب فيه الزكاة المالكية والشافعية في أصح الأقوال وأشهرها، والحنابلة في المشهور ([27][27]). لكن يبقى النظر هل الزكاة واجبة قبل القبض أو بعده؟ وهل تخرج زكاة سنة واحدة، أو زكاة ما مضى من السنوات.
5- الدَّين لا يسقط الزكاة بالكلية، وعلى القاعدة في الأموالِ التي تجبُ فيه الزكاة، يضيّق اعتبار الديون المانعة من الزكاة والمقللة لها:
فالدين الذي لا يستغرق النصاب ولا ينقصه، لا يمنع الزكاة بلا خلاف، فإن كان له ما يقابل به الدين -ولو مالاً لا زكاة فيه كعروض قنية إذا كان زائداً عن حوائجه الأصلية- يجعل الدين في مقابلة المال الذي لا زكاة فيه، وتجب الزكاة في غيره، كما قال مالك وأبو عبيد والحنابلة في قول، وهو مقتضى قول الشافعي، لأنه مالك لمال زائد عن مبلغ دينه، فوجبت عليه زكاته([28][28]).
وإن كان له نوعان من المال زكويان، كدراهم وإبل، بحيث لو جعل الدين في مقابلة أحدهما أنقص النصاب، ولو جُعل في مقابلة الآخر لم ينقص النصاب، جُعل في مقابل ما لا ينقص النصاب، لأن ذلك أحظ للفقراء والمساكين، وتوجب الزكاة ([29][29]).
وإن كان الدين على معترف به مأمول القبض؛ وجبت زكاته في الحال وإن لم يقبضه، باعتباره قادراً على أخذه في الغالب، على مذهب عثمان وابن عمر رضي الله عنهم، ومن التابعين: جابر وطاووس والنخعي والحسن والزهري وقتادة وحمَّاد، وهو قول الشافعي وإسحاق وأبي عبيد.
أو يزكيه عند قبضه على مذهب الآخرين([30][30]) .
ودين الحرث لا يسقط الزكاة عند أبي حنيفة ومالك والشافعي في الجديد، والأوزاعي وأحمد في رواية ([31][31]).
ودين الماشية لا يسقط الزكاة عند مالك، والشافعي في الجديد، وأحمد في رواية([32][32]).
6- الوقف لا يمنع الزكاة بالكلية إلا إذا كان على جهة عامة كالفقراء، أو اليتامى، أو المساجد، أو الجهاد والرباط في سبيل الله، أو القناطر، أو المدارس، ونحو ذلك، فهذه الأوقاف لا زكاة فيها.
أمَّا الأوقاف إذا كانت على جهة معيَّنة، سواء كان على واحد أو جماعة معينين؛ ففيه الزكاة، ونفى النووي الخلاف في ذلك ([33][33]).
المسألة الثانية: هل النماء علة وجوب الزكاة؟
أولاً: حقيقة المال النامي:
مصطلح “المال النامي” مركب من كلمتين، أما المال فمعروف، وأما النامي فهو في اللغة من النماء بمعنى الزيادة والكثرة([34][34]).
وفي الاصطلاح الفقهي: ما يزيد زيادة حقيقية كالتوالد والتناسل في بهيمة الأنعام، أو تقديرية وهي الزيادة في النقدين ومال التجارة. ويقابله غير النامي([35][35]).
وهذا التعريف مناسب لكونه جامعاً مانعاً.
ثانياً: تحليل النماء الذي جعله أكثر الفقهاء مناط وجوب الزكاة:
المال من حيث النمو وعدمه ثلاثة أنواع:
1 – مال غير نامٍ بنفسه، ولا مرصد للنماء، وهو كل مال معد للاستعمال، كالعبد والفرس ونحو ذلك، وهذا لا زكاة فيه بالإجماع([36][36]).
2 – مال نامٍ بنفسه وهو قسمان:
أ- قسم يتكامل نماؤه بوجوده كالزروع والثمار.
ب- قسم لا يتكامل نماؤه إلا بمضي مدة بعد وجوده كبهيمة الأنعام.
3 – مال مرصد للنماء، كالدراهم والدنانير وعروض التجارة ونحو ذلك([37][37]).
والنوع الثاني والثالث تدخل فيهما أجناس منها ما اتفق الفقهاء على وجوب الزكاة فيه، ومنها ما اختلفوا فيه، وليس المقصود عرض الخلاف، بل ذكر ما يتعلق بمسألتنا هذه.
وبين هذين النوعين عدة فروق، منها:
أ – أن النماء فيما هو نامٍ بنفسه تابع للملك لا للعمل، والنماء فيما كان مرصداً للنماء تابع للعمل والتقليب لا للملك، (لذا فالأول نام حقيقة، والثاني نام حكماً).
ب – أن الأموال النامية بنفسها لا يشترط لها الحول كالزروع والثمار، وأما المرصدة للنماء فيشترط لها الحول كبهيمة الأنعام، والنقدين وعروض التجارة، ولم يعتبر فيها حقيقة النماء لكثرة اختلافه، وعدم انضباطه، ولأن ما اعتبرت مظنته لم يلتفت إلى حقيقته([38][38]).
ثالثاً: تحرير كلام الفقهاء حول اعتبار النماء علة وجوب الزكاة:
الاتجاه الأول: ذهب عامة الفقهاء من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم إلى أن النماء معتبر في إيجاب الزكاة، فما كان من الأموال نامياً بنفسه، أو مرصداً للنماء وجبت فيه الزكاة، وما لا فلا زكاة فيه، كالمال المقتنى والمستعمل([39][39])، لكن يختلفون في التعبير عن صفة هذا الاعتبار، وسأذكر كلامهم على النحو الآتي:
أولاً: منهم من ينص على أن النماء علة، كالماوردي في الحاوي الكبير حيث يقول: “والحالة الثانية: أن ترجع إليه بدرها ونسلها فعند أبي العباس بن سريج أن عليه زكاتها قولاً واحداً؛ لأن علة القديم في سقوط الزكاة فقد النماء، فاقتضى أن يكون وجود النماء موجباً لها”([40][40]). وفي حاشية قليوبي: “لمعنى النماء أي أن الزكاة شرعت في المال لأجل النماء فيه” ([41][41]).
ثانياً: ومنهم من ينص على أنه سبب وجوب الزكاة، كابن الهمام في شرح فتح القدير حيث يقول: “لأن السبب هو المال النامي، تحقيقاً أو تقديراً بالاتفاق؛ للاتفاق على أن من ملك من الجواهر النفيسة ما تساوي آلافاً من الدنانير ولم ينو فيها التجارة لا تجب فيها الزكاة”([42][42]) وكذلك نص في البحر الرائق([43][43]).
ثالثاً: ومنهم من ينص على أنه شرط لوجوب الزكاة، كالكاساني حيث يقول: “ومنها – يعني الشروط – كون المال نامياً لأن معنى الزكاة وهو النماء لا يحصل إلا من المال النامي”([44][44]). والزيلعي بقوله: “يشترط لوجوب الزكاة أن يكون المال نامياً”([45][45]).
رابعاً: ومنهم من يحصر وجوب الزكاة في المال النامي دون وصف ذلك بأنه علة، أو شرط، كابن قدامة وابن رجب حيث يقولان: (.. الزكاة إنما تجب في المال النامي) ([46][46]) ،ويقول ابن عابدين: “ولم يوجب الزكاة إلا في المال النامي ولهذا شُرِط الحول لتحقق النماء”([47][47])، وقال أيضاً: “مال الزكاة هو المال النامي”([48][48]).
وإذا تأملنا هذه العبارات المعبر بها عن اعتبار النماء لإيجاب الزكاة في المال وجدنا الخلاف بينها لفظياً، إذ الثمرة واحدة وهي تلازم النماء والوجوب، فالعلة والسبب مترادفان، والشرط كثيراً ما يعبر به عن العلة أو السبب، كما جرى وصف دخول وقت الصلاة بأنه سبب لوجوبها وشرط لصحتها، وقد أوضح ابن عابدين تلازم العلة والشرط في مسألة النماء حيث قال: “وقوله (نامٍ ولو تقديراً) أي يشترط لوجوب الزكاة أن يكون نامياً، حقيقة بالتوالد والتناسل وبالتجارات، أو تقديراً بأن يتمكن من الاستنماء، بكون المال في يده أو يد نائبه؛ لما ذكرنا أن السبب هو المال النامي فلا بد منه تحقيقاً أو تقديراً فإن لم يتمكن من الاستنماء فلا زكاة عليه لفقده شرطه”([49][49])، فتأمل قوله (يشرط لوجوب الزكاة أن يكون نامياً)، ثم علل الاشتراط بأن السبب هو المال النامي، ثم قوله (لفقده شرطه) أي لفقد المال شرط وجوب الزكاة فيه وهو النماء. وأما من عبر بالحصر دون وصف ذلك بأنه علة أو شرط فإنه أراد بيان التلازم بين النماء والوجوب، بصرف النظر عن نوع هذا التلازم هل هو من باب العلة مع المعلول أو الشرط مع المشروط، مع أنه لا يمكنه الخروج عن قصد أحدهما؛ لأن القول بالتلازم يعني واحداً من ثلاثة أمور إما أن النماء ركن في الوجوب أو شرط أو علة، فكونه ركناً غير مراد قطعاً؛ لأن الركن جزء الحقيقة التي يتكون منها الشيء، والنماء خارج عن حقيقة الوجوب قطعاً، فلم يبق إلا أن يكون علة أو شرطاً، وقد سبق بيان عدم التعارض بين العلة والشرط حيث كثيراً ما يعبر بأحدهما في محل الآخر.
الاتجاه الثاني: أن العلة في وجوب الزكاة في الأموال مركبة من المال والنماء، فلا بد أن يكون المزكى مالاً، وأن يكون نامياً. نص على ذلك صدر الشريعة الأصغر الحنفي في التوضيح ([50][50])، وكذلك السرخسي في أصوله([51][51])، وهذا القول مآله إلى القول الأول؛ لأن الزكاة لا تجب إلا فيما هو مال، فأما ما ليس بمال فلا زكاة فيه ولو كان نامياً بالاتفاق.
الاتجاه الثالث: أن النماء علة في بعض الأموال الزكوية، دون بعض. قال الشربيني الشافعي: “أما الماشية فلأن علة الزكاة فيها النماء، ولا نماء فيها في الذمة، بخلاف النقد فإن العلة فيه كونه نقداً…” ([52][52]). وهذا الاتجاه لا يعارض الاتجاه الأول؛ لأنه أراد أن النقد غير نام بنفسه كالماشية وإنما هو معد للنماء بالتجارة التقليب فنموه حكمي غير حقيقي، وهذا ما يذكره أصحاب التوجه الأول كما سيأتي الآن في إيضاح معنى النماء وأنه يشمل الحقيقي والحكمي.
وبناء على ما تقدم يظهر صحة القول بأن النماء علة لوجوب الزكاة في المال؛ إذ لا معارض له من أقوال الفقهاء –حسب ما ظهر لي-.
إيضاح:
يجدر توضيح مسألتين متعلقتين بالنماء، وهما:
الأولى: مقصود الفقهاء بقولهم إن النماء علة لوجوب الزكاة النماء بنوعيه:
الحقيقي، وهو النامي بنفسه بقسميه: الذي يتكامل نماؤه بوجوده كالزروع والثمار، والذي لا يتكامل نماؤه إلا بمضي مدة بعد وجوده كبهيمة الأنعام.
1- الحكمي، وهو المرصد للنماء كالنقدين وعروض التجارة.
لذا نجد الكاساني ينفي إرادة قصر النماء على النماء الحقيقي الذي يتكامل نماؤه بوجوده، من خلال إيضاح أن النماء المقصود في الأموال التي نماؤها حقيقي لكنه لا يتكامل إلا بمضي مدة أو المرصدة للنماء إنما هو النماء الحكمي، لا الحقيقي، فيقول: “ولسنا نعني به (يعني النماء) حقيقة النماء؛ لأن ذلك غير معتبر (يعني في الأموال غير التي يتكامل نماؤها بوجودها)، وإنما نعني به كون المال معداً للاستنماء بالتجارة أو بالإسامة؛ لأن الإسامة سبب لحصول الدر والنسل والسمن، والتجارة سبب لحصول الربح فيقام السبب مقام المسبب، وتعلق الحكم به كالسفر مع المشقة، والنكاح مع الوطء، والنوم مع الحدث”([53][53]).
الثانية: علق وجوب الزكاة في الأموال النامية بنفسها التي يتكامل نماؤها بوجودها كالزروع والثمار بذات النماء، لكون النماء فيها منضبطاً مطرداً، فلو تخلف الثمر أو الزرع لم تجب الزكاة، ولو كثر الثمر وجبت الزكاة بقدره.
بينما لم يعلق وجوب الزكاة في النوعين الآخرين من أموال الزكاة بذات النماء؛ لأنه مما يتعذر اعتباره؛ لاحتمال عدمه، وإنما علق الوجوب بأشياء هي في الحقيقة سبب النماء أو مظنته، فمثلاً علق وجوب الزكاة في العروض بالتجارة وهي سبب نمائها، مع حولان الحول وهو مظنة النماء، وكما علق وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام بالإسامة مع حولان الحول وجعلوا ذلك دليلاً على النماء، ولم يعلقوا الحكم بذات النماء؛ لأن ذلك ليس بشرط، فتجب الزكاة ولو لم يتحقق النماء حقيقة، ما دام أن المال قد بلغ النصاب، وحال عليه الحول، قال في المغني: “ولأن ما اعتبرت مظنته لم يلتفت إلى حقيقته”([54][54]).
جاء في تحفة الفقهاء “إلا أن حقيقة النماء مما يتعذر اعتباره (يعني في غير المال الذي يتكامل نماؤه بوجوده) فأقيمت التجارة التي هي سبب النماء مع الحول الذي هو زمن النماء مقامه، فمتى حال الحول على مال التجارة يكون نامياً فاضلاً عن الحاجة تقديراً”([55][55]).
وهذا يفسر عدم اشتراط مضي الحول في المال الذي يتكامل نماؤه بوجوده إجماعاً، واشتراطه في المال الذي لا يتكامل نماؤه إلا بمضي مدة بعد وجوده (بهيمة الأنعام)، أو المال المرصد للنماء (النقدين وعروض التجارة) وهو قول أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء.
رابعاً: أدلة اعتبار النماء علة جوب الزكاة:
الدليل الأول: قوله جل وعلا: (وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) البقرة:219. وجه الدلالة: دلت الآية على أن النفقة ومنها الزكاة الواجبة إنما تشرع في العفو وهو الفضل والنمو، أي ما زاد على رأس المال، فما لم يوجد الفضل والنمو فلا زكاة، كالأموال المعدة للاستعمال لو شرعت فيها الزكاة لكانت على رأس المال وهذا مخالف للآية([56][56])، فتكون الآية مقررة لكون النماء علة وجوب الزكاة.
الدليل الثاني: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: “ليس على المسلم في فرسه ولا عبده صدقة”([57][57]) قال النووي: هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها([58][58]). والظاهر أن علة نفي النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة فيها كونها غير نامية، وهي علة ظاهرة لأنه لو وجبت فيها الزكاة لذهبت بها، فيقع الضرر على أهلها ولذلك قال عمر رضي الله عنه: “ابتغوا (اتجروا) في أموال اليتامى؛ لا تأكلها الصدقة”.
الدليل الثالث: ما رواه أنس أن أبا بكر كتب له: (هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله..) ثم قال: (وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاة شاة) ([59][59]). وجه الدلالة: أن منطوق الحديث وجوب الزكاة في السائمة، ومفهومه نفيها في المعلوفة، والسوم سبب النماء، بينما العلف مانع منه أو منقص له، والنتيجة أنه لولا اعتبار النماء في الغنم لوجبت الزكاة في المعلوفة أيضاً.
الدليل الرابع: ما رواه سمرة بن جندب قال: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرج الصدقة من الذي نعد للبيع”([60][60]). وجه الدلالة: أن منطوق الحديث وجوب الزكاة في ما يعده المرء من السلع للبيع، ومفهومه نفيها عن السلع غير المعدة للبيع وإنما للاستعمال، “حتى أن من ملك من الجواهر النفيسة ما تساوي آلافاً من الدنانير ولم ينو فيها التجارة لا تجب فيها الزكاة”([61][61])، وإذا نظرنا إلى الفرق المؤثر في الحكم بينهما وجدناه النماء فيما يعد للبيع، وعدمه فيما يعد للاستعمال، فيكون النماء علة إيجاب الزكاة في كل مال وجبت فيه الزكاة ومن ذلك عروض التجارة.
الدليل الخامس: أن الزكاة شرعت لحكم، منها مواساة المحتاجين كالفقراء والمساكين، والقيام بمصالح المسلمين كإعطاء المؤلفة قلوبهم وفي سبيل الله، والمواساة إنما تكون في الفضل من الأموال، والفضل يعني أنها أموال نامية، وإذاً فالنماء معتبر في إيجاب الزكاة، فالأموال النامية فيها فضل ففيها زكاة، وغير النامية لا فضل فيها فلا زكاة فيها.
خامساً: فروع هذا الأصل:
من فروع هذا الأصل:
1 – لا زكاة في المال المستعمل، كمسكن، أو سيارة، أو لبس بذلة، ونحو ذلك؛ لأنه مال غير نامٍ([62][62]).
2 – لا زكاة في بهيمة الأنعام إذا كانت معلوفة؛ لأنه يمنع النماء أو ينقصه([63][63]).
3 – لا زكاة في الحلي المستعمل على قول كثير من العلماء؛ والعلة عدم النماء، جاء في حاشية عميرة عند كلامه على زكاة الحلي: “فلا زكاة في الأصح، علل ذلك بأن الزكاة إنما تجب في المال النامي والنقد غير نامٍ بنفسه وإنما التحق بالناميات لكونه مهيأ للإخراج فيما يعود نفعه وبالصياغة بطل هذا التهيؤ”([64][64]).
4- هذا يسند قول طائفة من الفقهاء أن الدين يسقط الزكاة؛ لأنه لا نماء مع الدين([65][65]). وفيه نظر، لما تقدم في مسألة هل الأصل في المال وجوب الزكاة.
5- ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا زكاة في مال الضمان وهو المال الموقوف في الصحراء إذا نسي مكانه، ولا يرجى وجدانه؛ لأن النماء ممتنع، فإنه لا يحصل إلا بالقدرة على التصرف، ولا قدرة هاهنا([66][66]). وهذا أيضاً فيه نظر كما سبق في فروع مسألة هل الأصل في المال وجوب الزكاة.
المسألة الثالثة: إجراء القياس في تقرير مسائل الزكاة غير المنصوص عليها.
أولاً: التعريفات:
– القياس: إظهار المساواة بين معلومين في حكم لجامع بينهما([67][67]).
– العبادات: جمع عبادة، ولها في الاصطلاح إطلاقان:
الأول: عام، ومنه ما عرفها به ابن تيمية فقال: (العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة)([68][68]).
الثاني: خاص: وهي الشعائر التعبدية التي أمر الله عبادة بالقيام بها، وهي أركان الإسلام الأربعة الصلاة والزكاة والصوم والحج وما يلتحق بها من شعائر كالطهارة والآذان والجهاد([69][69]) .
والإطلاق الخاص هو المراد في هذه المسألة؛ لأنها بالإطلاق العام لا يمكن أن تكون محل خلاف بين من يرى القياس حجة شرعية؛ لكونها تشمل جميع أعمال المكلفين المقصود بها وجه الله، كالأكل والنوم والوطء([70][70]).
ثانياً: حكم إجراء القياس في تقرير مسائل الزكاة غير المنصوص عليها:
هذه المسألة فرع عن مسألة أكبر منها وأعم، وهي حكم القياس في العبادات، فإن كان جائزاً فيها فهو جائز في الزكاة ويمكن إجراؤه فيها لتقرير مسائلها غير المنصوص عليها، وإلا فلا، ونظراً لكون هذه المسألة قد بحثها د. محمد منظور إلهي بحثاً مستفيضاً، في أطروحته المقدمة لنيل درجة الدكتوراه والموسومة ب (القياس في العبادات.. حكمه وأثره) -وهي رسالة مطبوعة في كتاب من إصدارات دار الرشد- فقد اكتفيت بتلخيص ما ذكره في هذه المسألة لحصول المقصود ببحثه، ولا أظن أني سآتي في إعادة بحثها بجديد. ومن أراد الاستزادة فليرجع إل البحث المذكور فإنه نافع.
تحرير محل النزاع:
لا خلاف بين العلماء في أمرين:
الأول: عدم جواز إثبات عبادة جديدة زائدة على العبادات المعلومة بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة بالقياس، مثل إثبات صلاة سادسة أو صوم شوال ونحوهما بالقياس([71][71]).
الثاني: عدم جواز إجراء القياس فيما لا يعقل معناه من العبادات؛ لأن القياس فرع تعقل المعنى([72][72])، فما لا يهتدي العقل إلى تعقل معناه لا يمكن أن يجري القياس فيه كأعداد الصلوات وأعداد ركعاتها ونصب الزكوات وما يشبهها.
محل الخلاف بين العلماء في إجراء القياس في العبادات:
إذا نظرت إلى كلام الأصوليين وأمثلة الفقهاء الآتية للقياس في العبادات وجدت أنهم اختلفوا في إظهار أحكام العبادات – التي لم ينص على حكمها – بالقياس، لا في إثبات عباداتٍ مبتدأة بالقياس.
يعني هل يجوز إجراء القياس في أبواب العبادات ليظهر بعض أحكامها غير المنصوص عليها أو لا يجوز ذلك؟
كما أن هناك أموراً في العبادات تستجد من أحوال طارئة كأن لا يجد الرجل الماء والحجر للاستنجاء ويجد غيرهما مما هو قالع لعين النجاسة من الأشياء غير المحترمة، أو لا يستطيع المريض أن يصلي قاعداً ولا بالإيماء بالرأس ويستطيع بالإيماء بالطرف، أو يكره الصائم على الأكل في نهار رمضان، أو لا يجد الحاج هدي الإحصار ويستطيع أن يصوم وغير ذلك من الأمور الكثيرة.
أو يستجد من خطأ المكلف، مثل مواضع السهو في الصلاة التي لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يسجد لها.
فهذه الأمور هل يجوز إلحاقها بنظائرها من العبادات إذا كانت العبادة معقولة المعنى؟
مثال ذلك من باب الزكاة أن الشارع أوجب الزكاة في السائمة، فهل تجب الزكاة في نتاج السائمة التي ماتت أصولها قبل مضي الحول إذا بلغ النتاج نصاباً وتم عليه باقي الحول قياساً على وجوبها في أصلها؟([73][73]).
وقد اختلف العلماء في المسألة على قولين:
القول الأول: لا يجوز إجراء القياس في العبادات.
وهذا مذهب الحنفية كما تدل عليه عباراتهم في كتب الأصول.
فإن الحنفية لم ينصوا على منعهم للقياس في العبادات إلا ما نسب إلى الكرخي من أنه ذهب إلى عدم جواز إثبات أصول العبادات بالقياس([74][74])، وأنه حكاه عن أبي حنيفة رحمه الله([75][75]).
ولكن يمكن أن يتوصل إلى أن مذهبهم منع إجرائه في مسائل شبيهة بمسألة العبادات مثل التقديرات والحدود والكفارات([76][76])([77][77])([78][78])([79][79]).
القول الثاني: يجوز إجراء القياس في العبادات. وإليه ذهب أكثر الأصوليين([80][80]).
سبب الخلاف:
يرجع إلى الأمور الآتية:
الأول: هل العبادات معقولة المعنى فيجوز إجراء القياس فيها، أو هي غير معقولة المعنى فلا يجوز إجراء القياس فيها([81][81])، لأن القياس فرع تعقل المعنى([82][82]).
فالمانعون يرون أن العبادات غير معقولة المعنى فلا تعلل وحيث لا تعلل فلا يجوز إجراء القياس فيها([83][83]).
والمجوزون يرون أنها معقولة المعنى في كثير من أحكامها فيجوز تعليلها وإجراء القياس فيها([84][84]) حيث أمكن.
الثاني: هل دلالة النص قياسية فيقال إن الحكم الثابت بها ثابت بالقياس، أو هي لفظية فحينئذ يكون الثابت بها غير ثابت بالقياس؟
فالمانعون – وهم الحنفية – يرون أن دلالة النص لفظية([85][85])، وليست قياسية، فتثبت أحكام العبادات بها بخلاف القياس الأصولي الفقهي المبني على المناسبة أو الشبه، فإنه لا يجو إجراؤه فيها.
أما المجوزون فكثير منهم يرون أن دلالة النص قياسية([86][86]) ويطلقون عليها “القياس الجلي وقياس الأولى والقياس في معنى الأصل والقياس مع نفي الفارق”([87][87]). فهم يعممون في مفهوم القياس ويوسعون في دائرته، وعلى هذا فمتى ثبتت أحكام العبادات بدلالة النص يصح القول بأنها ثبتت بالقياس.
الأدلة:
أولاً: أدلة مانعي القياس في العبادات:
1 – أن العبادات مشتملة على تقديرات لا يعقل معناها بالرأي كأعداد الصلوات وأعداد ركعاتها ونصب الزكوات… والقياس فرع تعقل المعنى، فما لم تدرك علته لا يقاس عليه([88][88]).
ونوقش: بأن هذه دعوى لا دليل عليها، بل الدليل قام على خلافها، وذلك أنه من الممكن أن يشرع الشارعُ العبادة لمعنى مناسب ثم يوجد ذلك المعنى المناسب في شيء آخر فتكون معقولية تلك العبارة غير ممتنعة، وقد ثبت تعقل المعنى في بعض الصور ووقع القياس فيها.
ومن أمثلة ذلك:
جواز الجمع بين الصلاتين في الثلج والبرد قياساً على الجمع في المطر بجامع المشقة([89][89]).
2 – إننا لا نعلم ولا نردك المصلحة التي شرعت هذه العبادات من أجلها، فلا يعلمها إلا الله سبحانه، لذلك لا يتعدى بها عن مواردها، فلا يثبت بالقياس([90][90]).
ونوقش: بأن هذا لو كان طريقاً في نفي القياس في أحكام العبادات لوجب أن يجعل مثل هذا طريقاً في نفي القياس في جميع الأحكام، كما فعله نفاة القياس حيث قالوا: إن جميع الأحكام شرعت لمصلحة المكلفين والمصلحة لا يعلمها إلا الله تعالى، فيجب أن لا يعمل فيها بالقياس.
ولما بطل هذا في جميع الأحكام بطل في نفي القياس في أحكام العبادات، فينتج جواز إجراء القياس فيها.
3 – إن العبادات معدول بها عن القياس وإنما لا يقاس فيها لمكان تقدير، فإنه لو جرى فيها القياس كانت على وفقه وخرجت عن أن تكون معدولاً بها([91][91]).
ونوقش: بأن هذا الكلام صحيح في العبادات نفسها، أما كون أحكامها شرعية من الندب والكراهة والوجوب والتحريم وغيرها معدولاً بها عن القياس فدعوى لا تصح، لأن القياس جرى فيها، كما مر من بعض الأمثلة.
4 – لو جاز إثبات العبادات بالقياس لجاز إثبات صلاة سادسة، ولما لم يجز ذلك دل على أنه لا يجوز([92][92]).
ونوقش: بأن القياس في الصلاة السادسة منع منه الإجماع ونص السنة، ثم إننا لا نقول بجواز إثبات عبادة جديدة كالصلاة السادسة بالقياس، بل نقول بجواز تعدي أحكام العبادات إلى حالات غير منصوص عليها بالقياس([93][93]).
ثانياً: أدلة مجوزي القياس في العبادات:
1 – عموم الأدلة المثبتة لحجية القياس دل دلالة واضحة على أن القياس يجري في جميع الأحكام – إذا استكملت جميع شروط القياس – فلم تفرق بين حكم وحكم، ولو استقرينا جميع الأدلة المثبتة لحجية القياس لوجدناها عامة وشاملة لجميع الأحكام.
فيكون القول بأنه حجة في بعض الأحكام وليس بحجة في البعض الآخر إما تخصيصاً للعام أو تقييداً للمطلق، وقد اتفق العلماء على أن التخصيص والتقييد لا بد لهما من دليل، وحيث إنه لا دليل لكل منهما فتبقى أدلة حجية القياس على عمومها وعلى إطلاقها، فيجوز إجراء القياس في جميع الأحكام – المستكملة لجميع شروط القياس – فينتج من ذلك جواز إجراء القياس في أحكام العبادات، لأنها من ضمن الأحكام([94][94]).
2 – أن خبر الواحد تثبت به العبادات بالاتفاق([95][95]) وإن كان طريقه غلبة الظن، والقياس يفيد غلبة الظن كذلك، فتعدي أحكام العبادات إلى الحالات غير المنصوص عليها به يجوز كذلك([96][96]).
ويدل عليه أنه دليل يجري في أحكامٍ غير أحكام العبادات فجاز أن يجري في أحكام العبادات، أصله خبر الواحد، ويدل عليه أن المعنى الذي أوجب العملَ بالقياس في غير العبادات موجود هاهنا، وهو معرفة علة الأصل وقيام الدليل على صحتها وسلامتها، فيجوز إجراء القياس فيها كسائر المواضع([97][97]).
3 – أن المانعين من إجراء القياس في أحكام العبادات – وهم الحنفية – قد تناقضوا حيث استعملوا القياس في بعض مسائلها، منها:
أ – ثبت بالنص وجوب استعمال الماء لتطهير الثوب عن النجاسة، ثم قاسوا على الماء سائر المائعات في تطهير الثوب النجس بجامع كون كل منها مزيلاً للعين والأثر([98][98]).
ب – ثبت بالنص لزوم التكبير عند الشروع في الصلاة، ثم بالتعليل بالثناء وذكر الله على سبيل التعظيم قاسوا غير لفظ التكبير (مثل الله أجل، الله أعظم) على لفظ التكبير عند افتتاح الصلاة([99][99]).
ج – ثبت بالنص الاقتصار على الأحجار في الاستجمار ثم قاسوا غير الحجر في جواز الاستجمار به متى كان جامداً منقياً([100][100]).
د – ثبت بالنص الترخص بقصر الصلاة والجمع بين الصلوات والفطر في رمضان للمسافر، فقاسوا العاصي بسفره على المطيع مع أن القياس ينفي الرخصة ههنا، لأن الرخصة إعانة والمعصية لا تناسبها الإعانة([101][101]).
4 – إنهم بالإضافة إلى إجراء القياس في أحكام العبادات – كما تقدم – أثبتوا أحكامها بالاستحسان حيث قالوا: إن سؤر سباع الطير من الباز والصقر ونحوهما نجس، قياساً على سؤر سباع البهائم كالفهد والذئب لمخالطته باللعاب المتولد من لحم نجس، وقد قابله استحسان قوي الأثر يقتضي طهارة سؤرها، لأنها تشرب بالمنقار على سبيل الأخذ ثم الابتلاع، والمنقار عظم طاهر، لأنه جاف لا رطوبة فيه، فلا يتنجس الماء بملاقاته فيكون سؤرها طاهراً كسؤر الآدمي والمأكول لانعدام العلة الموجبة للنجاسة وهي الرطوبة النجسة في الآلة الشاربة([102][102]).
الترجيح وأسبابه:
الظاهر رجحان القول بجواز إجراء القياس في أحكام العبادات؛ لما يأتي:
1 – قوة ما استدل به لهذا القول، وضعف أدلة المخالفين من حيث ما ورد عليها من مناقشات.
2 – تناقض أدلة المخالفين، حيث إنهم قالوا بعدم جواز إجراء القياس في أحكام العبادات، لكن ظهر بعد التتبع أنهم استعملوا القياس فيها.
3 – أن القياس في العبادات – حسب المفهوم السابق – جائز عقلاً وواقع شرعاً كما مر المثال على ذلك.
5 – عدم ورود دليل يخص أحكام العبادات من عموم أدلة القياس الدالة على حجيته.
وبناء على رجحان القول بجواز إجراء القياس في أحكام العبادات فكذلك في أحكام الزكاة؛ لأنها من العبادات.
ثالثاً: أمثلة لفروع جواز القياس في أحكام الزكاة:
1-وجوب الزكاة في نتاج السائمة التي ماتت أمهاتها قبل مضي الحول إذا بلغ النتاج نصاباً وتم عليه باقي الحول قياساً على وجوبها في أمهاتها([103][103]).
2-وجوب الزكاة في سائمة الخيل قياساً على وجوبها في بهيمة الأنعام([104][104]).
3-وجوب الزكاة في العسل قياساً على وجوبها في الحب والتمر([105][105]).
4-وجوب الزكاة في ما يستخرج من المعدن غير الذهب والفضة قياساً عليهما([106][106]).
6-وجوب الزكاة على المضاربة في الأراضي والأسهم، قياساً على وجوبها فيما يعد للبيع المنصوص عليه في حديث حذيفة.
7- وجوب الزكاة في العملات والرواتب قياساً على وجوبها في النقدين.
8- وجوب الزكاة على من عليه أقساط شهرية قياساً على وجوبها في الدين.
9-عدم وجوب الزكاة في كل ملبوس أو مركوب أو مسكون مهما غلا ثمنه؛ قياساً على عدمها في قيمة العبيد