القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
الفرع الثاني: سلطة قاضي الإلغاء في تقدير أقوال الشهود.
رغم أن الدليل الكتابي يفوق الشهادة في قوته الإثباتية وأن هناك من الوقائع ما لا يجوز إثباتها إلا بالكتابة. غير أن الإثبات بشهادة الشهود يستعمل كثيرا؛ خاصة عندما يتعين إثبات وقائع مادّية.
لكن تبقى الشهادة طريقا ضعيفا في الإثبات؛ ومرجع ذلك ما قد يقع فيه الشهود من أخطاء بسبب ضعف الذاكرة، أو عدم دقة الملاحظة، فضلا عما يمكن أن يتعرضوا له من إغراء، أو ما يمكن أن يكون بينهم وبين أحد الخصوم من كراهية فيدفعهم إلى الشهادة زورا، كما قد يكون الشاهد غير دقيق في ملاحظته، أو يكون مشغول الذهن أثناء الواقعة، لذلك فإن قيمة الشهادة في الإثبات تخضع لتقدير القاضي ومدى اقتناعه؛ بصرف النظر عن عدد الشهود أو مراكزهم.
ويتحقق القاضي من صدق الشاهد عند الإدلاء بأقواله، ويأخذ في اعتباره سن الشاهد ووظيفته ومركزه الاجتماعي، وكذا علاقته بطرفي الخصومة، وهكذا أوجبت المادة 152 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري على الشاهد أن يعرف باسمه، لقبه ومهنته وسنه وموطنه وعلاقته ودرجة قرابته ومصاهرته أو تبعيته للخصوم. وإن كانت هذه العلاقة أو التبعية ليست سببا لرد الشاهد، إلا أن لها تأثير على قيمة الشهادة.
ولا يمكن للشاهد الإدلاء بشهادته حسب نص المادة 159 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري قبل حلفه اليمين بأن يقول الحقيقة وإلا كانت شهادته قابلة للإبطال. ويؤدي الشاهد شهادته شفاهة ودون الاستعانة بأي نص مكتوب.
ولقد أجاز المشرع الفرنسي في المادة 220 من قانون الإجراءات المدنية أن يدون القاضي ملاحظاته فيما يخص سلوك الشاهد عند الإدلاء بأقواله، من ارتباك وقلق وتخوف أو هدوء وثقة واطمئنان، فهو ينقل إلى تشكيلة الحكم صورة حية للشاهد أثناء إدلائه بشهادته. ولا شك أن تشكيلة الحكم تدخل كل هذه الأمور في الاعتبار عند تقديرها لقيمة الشهادة.
ورغم عدم وجود نص مماثل في قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري ولا في قانون القضاء الإداري الفرنسي؛ غير أنه لا يوجد ما يمنع من الأخذ به لما له من أهمية في تقدير أقوال الشهود.
إن القاضي في تقديره لأقوال الشاهد غير مقيد بعدد الشهود، فيمكن له أن يبني عقيدته على شهادة شاهد واحد فقط، ويطرح باقي أقوال الشهود إذا لمس يبني المصداقية والأمانة والموضوعية في شهادته، وهو غير ملزم بالأخذ بأقوال الشاهد كلها أو طرحها كلها، ولكن له أن يأخذ بما يرتاح إليه ويثق فيه ويطرح ما لا يطمئن إليه دون أن يكون ملزما بإبداء أسباب ذلك. بل إن اتفاق الطرفين على أن يشهد شخصا معينا للثقة فيه لا يشل سلطة القاضي في التقدير، فيمكن له أن يأخذ بشهادة غيره.
وعلى مستوى تقدير مضمون ومدلول أقوال الشهود فإن للقاضي أن يأخذ بمعنى أو مدلول معين للشهادة دون غيره من المدلولات طالما أنه لا يتجافى مع عباراتها، ويكفيه أن يقيم قضاءه على أسباب سائغة تؤدي إلى النتيجة التي انتهى إليها، كما يكفيه أن يبين هذه الحقيقة التي اقتنع بها دون أن يكون ملزما بتتبع الخصوم والرد استقلالا على ما يثيرونه.
وإعمالا لخاصية اختيارية وسائل وإجراءات الإثبات فإن للقاضي أن يأخذ في حكمه بما ورد في الشهادة أو أن يطرحه إذا لم يطمئن إلى صحته، وقد استقر مجلس الدولة المصري على تأكيد حق القاضي في تقدير قيمة الشهادة في الإثبات، مع حقه في الاعتماد أو عدم الاعتماد عليها في تكوين عقيدته.