سلطة قاضي الإلغاء إزاء وسيلة شهادة الشهود

المطلب الثاني: سلطة قاضي الإلغاء إزاء وسيلة شهادة الشهود.

الشهادة هي إخبار الشخص أمام القضاء بواقعة حدثت من غيره ويترتب عليها حق لغيره. ويعرفها فقهاء الإسلام بأنها إخبار قاطع، وعرفها المالكية بأنها: “إعلام الشاهد الحاكم بشهادته بما يحصل له العلم بما شهد به”.

وتكتسي هذه الوسيلة طابعا استثنائيا نتيجة السيادة الصفة الكتابية على الإجراءات القضائية الإدارية، وبسبب تفضيل القاضي الإداري اللجوء إلى وسائل التحقيق الأخرى لكونها أقل تعقيدا وتتلاءم أكثر مع مقتضيات السرعة في التحقيق، كما أن الدور الكبير الذي يلعبه إجراء الخبرة في الإثبات جعل البعض يرى أن الخبرة ألغت وسيلة الشهادة عمليا.

ولا يهدف الإثبات بواسطة شهادة الشهود إلى تلافي نقائص القاضي من الناحية التقنية، بل إلى تلافي نقصه في العلم بوقائع معينة؛ ولهذا فإن المجال الخصب للأمر بهذه الوسيلة هو المنازعات التأديبية، والمنازعات الانتخابية، ومنازعات الخسائر الناجمة عن الأشغال العامة.

إلا أنها تلعب دورا هاما في استيضاح بعض المعلومات، وتكملة بعض عناصر ملف الدعوى في الكثير من الدعاوى إذا تعلق النزاع بوقائع لا تدونها الإدارة، كما لو تعلق النزاع بالاختلاف حول تشكيل الملف وتقديمه من عدمه، أو النزاع حول ما إذا احترمت حقوق الدفاع في الإجراءات التأديبية أم لا، أو حالة ضياع الوثائق أو تلفها، أو الوقائع التي من شأنها الدلالة على وجود انحراف بالسلطة، كما لو لم تقصد الإدارة بقرارها المصلحة العامة، وإنما قصدت التنكيل بمن صدر بشأنه القرار، حيث يثبت ذلك من شهادة شهود حضروا جلسة المداولات السابقة على صدور القرار والتي أثيرت فيها رغبة مصدره الانتقام من الشخص الصادر بشأنه.

إن أهم ميزة لشهادة الشهود أنها تخفف عبء الإثبات على المدعي؛ من حيث دخول أشخاص آخرين يساهمون في الإثبات، ويزودون القاضي من خلال سماعهم بالأقوال المؤيدة لادعاءات المدعي، مما يعني في الأخير مساهمة في تحسن وضعيته.

ويساهم قاضي الإلغاء بدور فعال في عبء الإثبات من خلال وسيلة الإثبات بشهادة الشهود، ويتجلى هذا الدور في كافة مراحل هذا الدليل، حيث يحظى قاضي الإلغاء بسلطة كبيرة في إعمال تقديره وقناعته لقبول الإثبات بها، وكذلك في كيفية إجرائها، وفي تقديره لأقوال الشهود.

الفرع الأول: سلطة قاضي الإلغاء في الأمر بالتحقيق بالشهادة والإشراف عليه.

إن وسيلة الشهادة شأنها شأن باقي وسائل تحقيق الدعوى الإدارية لها خاصية الاختيارية، حيث أن للقاضي الإداري وحده تقدير مدى ملاءمة اللجوء إليها، كما أن له رفض الاستعانة بالشهادة حتى ولو طلبها أحد أطراف النزاع شرط ذكر أسباب هذا الرفض في حكمه، كما تخضع لخاصية ومبدأ الوجاهية، إذ يسمح للأطراف الاتصال بكتابة ضبط المحكمة الإدارية للاطلاع على الحكم الآمر بالتحقيق عن طريق شهادة الشهود. كما أن للخصوم إذا لم يحضروا إجراء سماع الشهود أن يطلعوا على محضر سماع الشهود أمام كتابة الضبط في الأجل الذي يحدده القاضي.

فمتى طلب الخصم الذي يدعي أمرا أمام القضاء إثبات دعواه عن طريق شهادة الشهود لتكملة أدلة مقدمة في الدعوى، أو لتكوين دليل فيها، وكانت تلك الواقعة التي يريد إثباتها مما يجوز إثباته بشهادة الشهود، أو لا يجوز إثباتها بشهادة الشهود ولكن خصمه لم يعترض على الإثبات بمقتضاها-حيث يعد عدم الاعتراض تنازلا ضمنيا من الخصم للإثبات بشهادة الشهود لعدم تعلق قواعد إثبات الوقائع بالنظام العام- فإن تقدير هذا الطلب يرجع للقاضي حيث يقوم بفحص الواقعة محل الإثبات بشهادة الشهود من حيث كونها:

  • مما يجوز إثباته بشهادة الشهود.

  • متعلقة بالدعوى المتنازع فيها.

  • منتجة في النزاع.

فإذا رأى القاضي أن الواقعة محل طلب الإثبات بشهادة الشهود تتوافر فيها جميع الشروط السابقة، تعين عليه أن يحدد في حكمه الصادر بالتحقيق بشهادة الشهود الوقائع المراد إثباتها بهذه الطريقة تحديدا دقيقا، حتى يعلم كل طرف ما هو مكلف بإثباته أو نفيه. (المادة 151) من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري.

ويقرر القاضي اللجوء إلى وسيلة سماع شهادة الشهود من تلقاء نفسه أو بطلب من الخصوم إذا رأى أن الدعوى بما تحويه من أدلة وبراهين غير كافية لتكوين اقتناعه، ومن ثمة فإنه يملك العدول عن هذا الإجراء متى رأى أنه أصبح غير منتج وغير مجد، أو أن ما استجد في الدعوى بعد حكم الإحالة على التحقيق كاف لتكوين عقيدته.

وللقاضي الحرية في اختيار الوقائع التي يتم تحقيقها فهو غير مقيد بتحقيق كافة الوقائع التي أوردها الخصم في طلبه، إنما ينتقي منها الوقائع التي يرى أن تحقيقها مفيد ومنتج في حل النزاع، فضلا عن أنه لا يتقيد بالوقائع التي وردت في الحكم الآمر بالتحقيق؛ فللقاضي أن يسمع الشهود في جميع الوقائع الواردة في الدعوى والجائز إثباتها بشهادة الشهود، حتى ولو لم تكن واردة في الحكم الآمر بالتحقيق بشهادة الشهود وهذا ما يستفاد من صياغة وألفاظ المادة 158 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية التي تنص على أنه: “يجوز للقاضي من تلقاء نفسه… أن يطرح على الشاهد الأسئلة التي يراها مفيدة”.

ويحظى القاضي بحرية واسعة في استعمال هذه الوسيلة لتحقيق الدعوى، فلا يشترط في شهادة الشهود أن تتطابق بشأن الحقيقة المراد إثباتها بأكملها وبجميع تفاصيلها على وجه دقيق، بل يكفي أن يكون من شأن الشهادة أن تؤدي إلى تلك الحقيقة.

ويملك القاضي الحرية في ترتيب سماع الشهود، فهو يملك أن يسمع شهود المدعى عليه قبل شهود المدعي، كما له أن يعيد سماع الشهود عدة مرات ويواجه بعضهم ببعض، وهذا ما نصت عليه المادة 152/3 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري، فمواجهة الشهود بعضهم ببعض يمكنه من الوصول إلى الحقيقة من خلال إجراء مقابلة بينهم ومواجهتهم بأقوالهم التي سبق وأن أدلوا بها على انفراد، فيتمكن من التأكد من مدى مصداقية وتلقائية تلك الأقوال.

إن الخصم لا يستطيع أن يوجه أسئلة مباشرة إلى الشاهد، بل يكون ذلك بواسطة القاضي الذي يرجع له تقدير مدى صلة هذه الأسئلة بالواقعة محل الشهادة، لقد نصت على ذلك المادة 159 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية بقولها: ” لا يمكن لأي كان ما عدا القاضي أن يقاطع الشاهد أثناء الإدلاء بشهادته أو يسأله مباشرة”، لقد ذهبت المادة 152 من نفس القانون إلى أبعد من ذلك، فللقاضي إذا استشعر أن وجود الخصم أثناء الإدلاء بالشهادة يؤثر على مصداقية وتلقائية الشهادة أن يطلب من الخصم الخروج أثناء سماعها، فنصت على أنه:” يسمع كل شاهد على انفراد في حضور أو غياب الخصوم”.

ويتوجب على القاضي بمقتضى المادة 160 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية تدوين أقوال الشاهد في محضر يتضمن البيانات الآتية:

  • مكان ويوم وساعة سماع الشاهد.

  • حضور أو غياب الخصوم.

  • اسم ولقب ومهنة وموطن الشاهد.

  • أداء اليمين من طرف الشاهد، ودرجة قرابته أو مصاهرته مع الخصوم أو تبعيته لهم.

  • أوجه التجريح المقدمة ضد الشاهد عند الاقتضاء.

  • أقوال الشاهد والتنويه بتلاوتها عليه.

error: