القضاء التجاري / المكتبة القانونية تصفّح المكتبة
ثالثا- سلطة قاضي الإلغاء في مضاهاة الخطوط:
في الدعوى الإدارية غالبا ما تكون الوثائق المقدمة للإثبات أوراقا رسمية، غير أنه في أحيان نادرة تثور الإشكالية بشأن أوراق عرفية، خاصة فيما يخص التبليغ من عدمه في القضايا التأديبية.
وفي حالة جحد الوثائق العرفية المقدمة في الدعوى، وذلك بعدم الاعتراف بمحتواها، أو الخط أو الإمضاء أو الخاتم أو بصمة الأصبع، يأمر قاضي الإلغاء بتحقيق الخطوط من طرف مختصين وتحت إشرافه، ونظمت هذه العملية في فرنسا المادة R624/1 من تقنين القضاء الإداري الفرنسي.
ورغم عدم إشارة نصوص قانون مجلس الدولة المصري إلى هذه العملية فإن القاضي الإداري المصري يمارسها وفقا للمادة 30 وما بعدها من قانون الإثبات، مراعيا في ذلك طبيعة الدعوى الإدارية.
ولقد عرفت المحكمة الإدارية العليا في مصر عملية تحقيق الخطوط وكيفية حصولها بقولها: “عملية تحقيق الخطوط هي مجموع الإجراءات التي رسمها القانون الإثبات صحة الوثيقة العرفية التي ينكرها الشخص المنسوب إليه صدورها منه. ويحصل التحقيق بالبينة والمضاهاة بواسطة أهل الخبرة في الخطوط أو بإحدى الطريقتين، وتبين المحكمة في حكمها الصادر بإجراء التحقيق الطريقة التي يحصل بها وتعيين الخبراء الذين يستعان برأيهم في عملية المضاهاة”.
أما في الجزائر فقد حددت المادتين 165 و166 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري واللتين أحالت عليها المادة من 862 من نفس القانون الطرق الواجب إتباعها للتحقيق في الوثيقة المطعون عليها بالإنكار، إما بالمضاهاة مع مستندات أخرى أو بسماع الشهود، أو بواسطة خبير، في حين اكتفى المشرع المصري بطريقة المضاهاة أو سماع الشهود.
لقد فرق المشرع الفرنسي في هذه النقطة بين المنازعة العادية والمنازعة الإدارية ففي حين ترك للقاضي اختيار الإجراء الذي يراه مجديا للتوصل إلى الحقيقة في النزاع المدني. ألزم القاضي الإداري أن تكون المضاهاة بمعرفة خبير أو عدة خبراء، ولقد مارسها مجلس الدولة عن طريق خبير كما مارسها في حالات استثنائية بمعرفة موظف موثوق به ومشهود له بالنزاهة.
ووفقا لخاصية اختيارية وسائل وإجراءات الإثبات فإن تحقيق الخطوط خاضع لتقدير القاضي؛ فقد يأمر به من تلقاء نفسه، كما أنه غير ملزم باللجوء إليه ولو طلبه الأطراف، وفي هذا الصدد خول المشرع الجزائري للقاضي أن يرد على المنكر إنكاره، وأن يأخذ بالوثيقة من غير إجراء تحقيق متى رأى أن الدعوى بما تحويه من أوراق ومستندات كافية لاقتناعه بصحة التوقيع؛ حيث أن الغرض من هذا الإجراء اقتناع المحكمة برأي ترتاح إليه في حكمها؛ فإذا كان هذا الاقتناع موجودا بدونه فلا لزوم له.
وهذا ما نصت عليه المادة 165 بقولها: “إذا أنكر أحد الخصوم الخط أو التوقيع المنسوب إليه، أو صرح بعدم الاعتراف بخط أو توقيع الغير، يجوز للقاضي أن يصرف النظر عن ذلك إذا رأى أن هذه الوسيلة غير منتجة في الفصل في النزاع…”.
كما أنه وإعمالا لنفس الخاصية فإن القاضي ليس ملزما بتقرير الخبير، ولا بشهادة الشهود؛ لأنهما من عناصر الإثبات، وأدواته التي تهدف في النهاية إلى إقناع القاضي، فمتى لم يتحقق ذلك ووجد القاضي في ملف الدعوى ما يكفي لتكوين عقيدته، أو رأى أنه من اللازم اللجوء إلى إجراء تحقيق آخر لتحقيق هذا الاقتناع جاز له ذلك.
ويثور التساؤل في هذا الشأن عمن له سلطة تحديد الوثائق المطلوبة لإجراء المضاهاة؟
لقد حددت المادة 167 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية القاعدة في ذلك، أن القاضي يجري المضاهاة على أساس عناصر المقارنة التي في حوزته، كما له أن يأمر الخصوم بتقديم الوثائق التي تسمح له بإجراء المقارنة، وله أيضا أن يأمرهم بكتابة نماذج بإملاء منه، كما حددت له بعض العناصر التي يقبل الاعتماد عليها في المقارنة، وذلك لما تتمتع به من حجية ومصداقية، وهي:
التوقيعات التي تتضمنها العقود الرسمية.
الخطوط والتوقيعات التي سبق الاعتراف بها.
الجزء الذي لم يتم إنكاره من المستند موضوع المضاهاة.
وهكذا فإن المشرع الجزائري أوكل للقاضي مهمة تحديد المستندات والعناصر التي يعتمدها في المضاهاة، غير أنه قيد هذه الحرية بوجوب قبوله اعتماد بعض العناصر في المضاهاة وعدم جواز استبعادها، نظرا للاطمئنان إلى صحتها وبالتالي منطقية اعتمادها كمعيار لصحة العناصر المنكرة من عدمها.
على عكس المشرع المصري الذي أعطى الحق في تحديد الوثائق التي تتخذ أساسا للمضاهاة إلى الخصوم، بينما أعطى للقاضي حق استبعاد أي ورقة لأي سبب من الأسباب، استنادا إلى أن القاضي ليس ملزما بالأخذ بدليل لا يطمئن إليه، أو أن يسير في إجراءات غير مجدية، فأوراق المضاهاة ليست أدلة إثبات على الكتابة أو التوقيع، وإنما هي قرائن تستمد المحكمة منها اقتناعها بأنها هي أو التوقيع لمنكرها.
ولقد حددت المادة 37 من قانون الإثبات المصري الوثائق التي تتخذ أساسا للمضاهاة في حالة عدم اتفاق الخصوم عليها.
أما المشرع الفرنسي فقد كان يأخذ في قانون الإجراءات المدنية السابق بنفس مسلك المشرع المصري، غير أنه ترك في قانون الإجراءات المدنية الجديد اختيار وتحديد الوثائق التي تجري على أساسها المضاهاة لتقدير القاضي.
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع الجزائري في المادة 169 من قانون الإجراءات المدنية أعطى للقاضي سلطة توقيع الغرامة التهديدية على الخصم الذي لم يمتثل للأمر بإحضار المستندات والأصول اللازمة لإجراء عملية المضاهاة،
إن المشرع الجزائري إضافة إلى ذلك خول القاضي بموجب المواد 168، 169، 170، 171، 172، 173 اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لحفظ المستندات وأوراق المضاهاة، وتذليل العقبات والصعوبات التي تعرقل العملية سواء قبل الشروع فيها أو بعدها.
وأخيرا فإنه إذا أثبتت عملية تحقيق الخطوط صحة الوثيقة فإنها تصبح في قوة الوثيقة الرسمية، ولا يجوز بعد ذلك الطعن فيها إلا بالتزوير، أما إذا لم تثبت صحتها لم يجز بعد ذلك لمقدمها التمسك بها.
إن دور قاضي الإلغاء في هذه الوسيلة وإن لم يرق إلى إنتاجها، إذ هي مقدمة في الأصل من أحد الخصوم، إلا أن تدخله الإيجابي في التحقق من صحتها أو عدم صحتها وبالتالي استبعادها، يمثل بحق مساهمة فعالة في التكفل بجزء مهم من عبء الإثبات.