خصوصية الإجراءات القضائية الإدارية.

لم يخصص المشّرع قانونا مستقلاً لإجراءات التقاضي في المنازعات الإدارية؛ بل اكتفي بتخصيص الكتاب الرابع من القانون رقم: 08/09 المؤرخ في 25 فيفري 2008 والمتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية لأحكام الإجراءات المطبقة أمام الجهات القضائية الإدارية؛ إلاّ أن مجرد تفحّص بسيط لأحكام هذا الكتاب يعطينا فكرة عن مدى حرص المشرّع في هذا القانون على إبراز خصوصية الإجراءات المتبعة أمام المحاكم الإدارية ومجلس الدولة مراعاة لخصوصية النزاع الإداري.

لائحة اعتراضية 600 ريال

إنّ تفحّص مواد الكتاب الرابع من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري يبرز لنا أن إجراءات التقاضي الإدارية بالنسبة للقاضي الإداري وسيلة لتحقيق التوازن بين الطرفين، ومن ثمة فإنها وسيلة لتحقيق العدالة وليست أداة للمبارزة بين الخصوم.

ويتحقق ذلك من خلال سمتين أساسيتين تتسم بهما إجراءات التقاضي الإدارية:

– الصفة الإيجابية للإجراءات القضائية الإدارية

– الصفة الكتابية للإجراءات القضائية الإدارية

 الفرع الأول: الصفة الإيجابية للإجراءات القضائية الإدارية.

بينما يقوم القاضي العادي بالاختيار بين الأطراف على أساس الحجج التي يقدّمونها وإعلان المنتصر، يلعب القاضي الإداري دور مدير اللعبة، فبمجرّد تحريك الدعوى يلقى العبء عليه لتسيير الخصومة، فهو الذي يضمن إخطار المدّعى عليه بالعريضة والبدء في إجراءات تحقيق القضية دون انتظار طلب ذلك من طرف الخصوم. وهو لا يقوم بهذا الدور خدمة لمصالح أطراف النزاع؛ وإنما كموظف مكلف بتسيير قضية بأيسر وأبسط الطرق وأسرعها للوصول إلى الحل الضروري، وذلك في إطار حرية واسعة لا يحدها إلى احترام حقوق الأطراف من جهة، والالتزام بعدم الأمر بإجراءات تحقيق يكون القصد منها المغالطة أو المماطلة من جهة أخرى.

وفي فرنسا ابتداء من قانون 22 جويلية 1889 فإن إجراءات التقاضي الإدارية مسيرة من طرف القاضي، وتظهر ايجابيتها من خلال الدور الذي يقوم به القاضي في الدعوى منذ رفعها وإلى غاية الحكم فيها؛ فهو الذي يهيمن على إجراءاتها بشكل يقترب فيه من دور القاضي الجزائي، ومرجع ذلك في دعوى الإلغاء يعود إلى الطبيعة الموضوعية لهذه الدعوى واتصالها بالصالح العام من ناحية، ووضع أطرافها غير المتوازن من ناحية أخرى.

إن النقص الشديد في نصوص قانون الإجراءات الإدارية في بداية تطور القضاء الإداري، كان هو الآخر أحد مبررات الدور الإيجابي للقاضي الإداري، الذي يجد نفسه مطالبا بالقيام بدور فعال إذا ما تعارضت نصوص قانون الإجراءات المدنية التي يلجأ إليها في حالة عدم وجود نصوص خاصة بقانون الإجراءات الإدارية مع طبيعة الدعوى الإدارية.

إن المتفحص للكتاب الرابع من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري، تبدو له بجلاء مظاهر الدور الإيجابي للقاضي الإداري في الخصومة الإدارية منذ رفع الدعوى وإلى غاية الحكم فيها، حيث يضمن القاضي الإداري إخطار أطرافها بالدعوى وإجراءاتها، ويأمر بالاطلاع على المستندات، ويحدد المواعيد الخاصة بذلك، كما يحدد مواعيد إيداع الردود والمذكرات لضمان حضورية الإجراءات، ويحدد وسائل تحضير الدعوى وتحقيقها، كالأمر بتقديم المستندات وأمر الإدارة بتقديم القرار المطعون فيه في أول جلسة ويستخلص النتائج المترتبة عن امتناعها عن تقديمه. والأمر بمختلف وسائل الإثبات، كالخبرة والانتقال للمعاينة وسماع الشهود دون الإلتزام بالاستجابة لما يطلبه الأطراف في هذا الشأن، كما أن له أن يقرر في أي وقت، وفي حالة الضرورة جدولة أي قضية للجلسة للفصل فيها، حتى وإن لم يعلن الأطراف انتهاءهم من تبادل مذكرات الدفاع، كما يجوز له في حالة الضرورة أن يقرر إعادة السير في التحقيق بموجب أمر غير مسبب وغير قابل لأي طعن، و يحدد التاريخ الذي يختتم فيه التحقيق، ويمكن له أن يأمر بأن لا محل للتحقيق حينما يبدو له من الوهلة الأولى أن مضمون الحكم في الدعوى واضح، كما يقوم بإخطار الأطراف بكل ما يراه مفيدا في حل القضية، دون أن يكون ملزما بالتزام السكوت، بل إذا تبين له أن حل القضية يمكن أن يكون مؤسسا على وجه مثار تلقائيا، يعلم الخصوم قبل جلسة الحكم بهذا الوجه ويحدد لهم أجلا لتقديم ملاحظاتهم على الوجه المثار، وهذا منتهى الدور التدخلي فهو يعني أن القاضي يستطيع إثارة وجه تلقائيا لم يثره الأطراف، ولا يتعلق الأمر هنا-كما هو الحال في فرنسا- بدعوى الإلغاء ذات الطبيعة الموضوعية فقط، ولكن الأمر ينصرف لجميع الدعاوى الإدارية بما فيها دعاوى القضاء الكامل التي تقوم على حق شخصي.

ويمكن للقاضي الإداري أن يوجه إنذارا إلى الطرف المتقاعس، بحيث إذا التزم الصمت حتى فوات الميعاد المحدد يعتبر متنازلا عن دعواه إذا كان مدعيا، أو مسلّما بصحّة ادعاءات المدعي إذا كان مدعا عليه، أما في مصر فيمكن للقاضي بصفة عامة توقيع غرامة على الطرف المتراخي في تنفيذ المطلوب. وللقاضي اتخاذ ما يراه لازما أن القانون يلزمه بالفصل في القضية في آجال معقولة.

وتتم الاستيفاءات والإخطارات التي يباشرها القاضي بمعرفة كتابة ضبط الجهة القضائية المرفوعة أمامها الدعوى، بالطرق الإدارية والعادية التي تراها مناسبة، ولا تتم من طرف الأطراف أنفسهم عن طريق المحضرين القضائيين كما هو معروف في الإجراءات المدنية.

ولا توجد صيغة أو شكلية أو وسيلة محددة لها، فقد يأمر القاضي بالإجراء في محاضر الجلسات، أو بتأشيره على ورقة من أوراق الملف، أو على غلاف القضية، وقد يتم ذلك بالمراسلات الموجهة إلى الجهة الإدارية مباشرة، وقد تتم بالاتصال التلفوني مع إثبات ذلك في أوراق الملف.

وعلى العموم يمكن القول أن القاضي هو الذي يسيطر على سير إجراءات الدعوى التي تتطلب التدخل والعناية المستمرة من جانبه، ويوجه إلى الأطراف التعليمات والتوجيهات المناسبة التي لا تعني المساس باستقلال الإدارة.

إن الصفة الإيجابية للإجراءات لا تظهر في السلطات الممنوحة للمستشار المقرر فحسب، وإنما يساهم فيها كذلك محافظ الدولة من خلال دوره الإيجابي جدّا، خاصة في مجال إثبات أوجه الإلغاء في القرار الإداري.

إن دور محافظ الدولة يبدأ عندما يسلمه المستشار المقرر الملف الذي يحتوي عرائض ومذكرات الأطراف والوثائق المرفقة بها، وتقرير القاضي المقرر الذي يكون قد درس الملف، والذي يتولى دراسة الملف ثانية، ليقدم التماساته في شكل تقرير مكتوب وفي أجل شهر من استلام الملف من القاضي المقرر.

إن الدور الإيجابي لمحافظ الدولة في الإجراءات يتجسد في مضمون هذا التقرير، الذي حرص المشرع على تحديد عناصره ومواصفاته، بحيث لا يجوز له أن يختزل طلباته في عبارات موجزة كتفويض الرأي إلى المحكمة، أو طلب تطبيق القانون، بل ألزمه المشرع بأن يتضمن الوقائع والقانون والأوجه المثارة ورأيه حول كل مسألة مطروحة والحلول المقترحة، للفصل في النزاع مع اختتامه بطلبات محددة.

رغم كل هذا الدور التدخلي للقاضي الإداري فإن أستاذنا الدكتور مسعود شيهوب، يرى أنه مازال مقيدا، ولم يبلغ الحد المعروف في فرنسا بسبب انعكاسات النظام الإجرائي الذي يتّسم في عمومه بطابع موحد، ولا أدل على ذلك من سلسلة الإحالات التي طالت أغلب المواد المنظمة لوسائل التحقيق في الدعاوى المرفوعة أمام المحاكم الإدارية إلى أحكام المواد المتعلقة بنفس الموضوع أمام المحاكم العادية، وإن كانت هذه الأخيرة أيضا اتجهت أكثر نحو منح القاضي المدني دورا تدخليا له مبرراته؛ بل إن مفهوم دور القاضي المدني في لحاق بمفهوم دور القاضي الإداري، وإن كتب للنظامين الإجرائيين الاستمرار في التميز فإن ذلك لا يعود حسب الأستاذ René CHAPUS إلى روحهما ولكن إلى الكيفيات التي يمارس بها هذا الدور.

إن من شأن هذا الدور الذي يقوم به القاضي التخفيف من آثار عدم التوازن بين أطراف الدعوى الإدارية عموما، ودعوى الإلغاء خصوصا، كما أن من شأنه تبسيط الإجراءات، وتجنب تكبيد الأطراف تكاليف كبيرة، لعدم الحاجة للاستعانة بمحضرين قضائيين، أو لتقديم مذكرات لا جدوى منها على النحو الذي يقدره القاضي.

وأخيرا فإنه وكما يقول أستاذنا الدكتور مسعود شيهوب بحق، لا يتعين على القاضي الإداري فقط تكريس هذه السلطات التي منحها له المشرع، بل عليه أن يتوسع فيها ويضيف إليها حالات أخرى لضمان حد أدنى من التوازن بين أطراف الدعوى، فكما أن حماية المجتمع ليست مهمة الضحية في الدعوى الجزائية بل هي مهمة القاضي، فحماية مبدأ المشروعية أيضا ليست مهمة المدعي في دعوى الإلغاء وحده بل هي مهمة القاضي الإداري أيضا.

خلاصة القول أن حياد القاضي المدني يختلف عن حياد القاضي الإداري، ويعود في رأينا ذلك إلى سببين أساسيين يتعلق الأول بطبيعة دعوى الإلغاء الموضوعية، التي تستوجب البحث عن حقيقة مفادها مدى مشروعية القرار محل دعوى الإلغاء، وهو هدف موضوعي -لا يستهدف حماية حق شخصي للطاعن – فلا يكون إذا هو المتكفل الوحيد بالبحث عنه، ويعود السبب الثاني إلى خاصية عدم توازن القوة بين مراكز أطراف دعوى الإلغاء وما يتطلبه ذلك من دور إيجابي للقاضي من أجل كفالة هذا التوازن.

فسخ النكاح 300 ريال